المصيبة:
قال: ولم يزل تلك اللّيلة
قائماً وقاعداً، وراكعاً
وساجداً، يخرج ساعة بعد
ساعة، وينظر في السّماء،
ويقلّب طرفه إلى الكواكب،
ثمّ يعود إلى صلاته،
ويقول: اللّهم بارك لي في
الموت؛ ويكثر من قول لا
حول ولا قوة إلّا بالله
العليّ العظيم, ويستغفر
الله كثيراً، ثمّ نعس
ونام ساعة, ثمّ استيقظ
وأسبغ الوضوء، ونزل إلى
الدّار، وفي الدّار وزٌّ
أهدي إلى الحسن عليه
السلام، فلمّا نزل، خرجن
وراءَه يرفرفن، وصرخن في
وجهه، فقال: لا إله إلّا
الله، محمّد رسول الله،
صوائح تتبعها نوائح، ثمّ
قال: يا بنيّة,لم لا
تطلقين من ليس له لسان؟
دعيهن يأكلن من حشائش
الأرض، فوصل إلى الباب
فرآه مغلقاً، فعالج في
فتحه فانحلّ مئزره،..
فجعل يشدّه بيده، ويقول:
أُشْــدُدْ حَيازِيمَـكَ
لِلْـمَوْتِ
ولا تَجـْزَعْ
مِـنَ الـمَوْت
فـَإِنَّ المـَوْتَ
لاقـِيكا
إِذَا حـَلَّ
بــِنـادِيـا
ثمّ قال: اللّهم بارك لي
في الموت.
قالت أمّ كلثوم: كنت أمشي
خلفه، فلمّا سمعته يقول
ذلك، قلت: واغوثاه بك يا
أبتاه، أراك تنعى نفسك
منذ اللّيلة. قال: يا
بنيّة, إنّ للموت دلالات
وعلامات يتبع بعضها
بعضاً، ثمّ فتح الباب
وخرج، قالت أمّ كلثوم:
وجئت إلى أخي الحسن، وقلت
له: قد كان من أمر أبيك
اللّيلة كذا وكذا، وقد
خرج في هذه اللّيلة.
فلحقه الحسن عليه السلام
قبل أن يدخل المسجد،
وقال: يا أبه, من ذا
الّذي أخرجك في هذه
السّاعة إلى المسجد؟ قال:
يا بنيَّ, لأجل رؤيا
أهالتني.
وذُكِر أنّ الحسن عليه
السلام أراد الذّهاب معه
فلم يرض، ودخل أمير
المؤمنين عليه السلام
المسجد، وصلّى في المسجد
باقي ليلته..
ثمّ إنَّه عليه السلام
علا المِئْذَنة، وأذّن:
الله أكبر, الله أكبر,
(كأنّما يقول للنّاس:
الوداع الوداع.. هذا آخر
أذانٍ لأمير المؤمنين),
فلمّا نزل عن المِئْذَنة
جعل يسبّح الله تعالى
ويقدّسه، ثمّ نادى:
الصّلاة الصّلاة، ثمّ
تقدّم إلى المحراب، حتّى
صلّى، وركع وسجد السّجدة
الأولى، ورفع رأسه، فضربه
اللّعين ابن ملجم، وتعمّد
بالضّربة رأسه, فوقعت
فيه, فشقّته إلى موضع
السّجود، فوقع أمير
المؤمنين عليه السلام في
محرابه يخور بدمه على
وجهه، ولزم رأسه..
ونادى: فُزت وربِّ
الكعبة!
وقال: بسم الله وبالله,
وعلى ملّة رسول الله،
أخبرني بذلك حبيبي رسول
الله.
أمّا
النّاس، فأحاطوا بالمسجد،
ودخلوا على أمير
المؤمنين، وهو يشدّ رأسه
بمئزره، والدّم يجري على
رأسه ولحيته، وهو يقول:
هذا ما وعد الله ورسوله،
وصدق الله ورسوله..
قال الرّاوي: فاصطكّت
أبواب المسجد بالنّاس،
وضجّت الملائكة بالبكاء،
وهبّت ريح سوداء مظلمة،
ونادى جبرئيل في السّماء،
بصوت يسمعه كلّ قائم
ومستيقظ، وهو يقول:
(تهدّمت والله أركان
الهدى، وانطمست أعلام
التّقى، قتل ابن عمّ
المصطفى، قتله أشقى
الأشقياء). قال: فسمعت
أمّ كلثوم نعي جبرئيل،
فلطمت خدّها، وشقّت
جيبها، وصاحت: وا أبتاه،
وا عليّاه، وا محمّداه..
من سمعت الصّيحة العجيبة
ظلّت عليه زينب
مريبه
والقلب ما يخمد لهيبه
والدّمع ما يبطل
سكيبه
ما تشوف لي ضجّه وجليبه
ولن جايبينه اشلون
جيبه
صاحت يبويه اشهالمصيبه
مطـــبور والهامه
خضيبه
ثمّ انتبه كلّ من كان في
الدّار، وخرج الحسن
والحسين عليهما السلام،
وهما يبكيان، ويقولان:
واجدّاه، فسمعا النّاس
ينادون وا إماماه، وا
أمير المؤمنيناه, فدخلا
إلى المسجد، فوجدا أباهما
مطروحاً في المحراب،
والدّماء قد صبغت
ثيابه
وشيبته، وقد شدّ رأسه
بمئزره، ووجهه قد علتـه
الصّفرة، فأخذ
الحسن برأس أبيه، ووضعه
في حجره، وهو مغمىً عليه،
فبكى الحسن بكاءً شديداً،
ودموعه تتناثر على وجه
أبيه، فأفاق أمير
المؤمنين عليه السلام
فنظر إليه، وقال: يا
ولدي، أتبكي عليّ، وأنت
تقتل مسموماً، ويقتل هكذا
أخوك الحسين بالسّيف
ظلماً وعدواناً؟ ثمّ قال:
يا أبتاه من قتلك؟ قال:
قتلني اللّعين ابن ملجم.
إلى أن قال: قال محمّد بن
الحنفيّة: ثمّ قال أبي:
احملوني إلى مصلّاي.
فحملناه إليه، والنّاس من
حوله قد أشرفوا على
الهلاك، ما بين نادب
ونادبة، وباك وباكية،
قال: وأقبلت زينب وأمّ
كلثوم، وجعلتا تندبان
وتقولان: يا أبتاه، من
للصّغير حتّى يكبر؟ يا
أبتاه حزننا عليك لا
يفنى، وعبرتنا عليك لا
ترقأ، قال: فضجّ النّاس
بالبكاء من وراء الحجرة،
ففاضت
دموع أمير المؤمنين عند
ذلك
3،
وجعل ينظر بعينه إلى أهل
بيته.
ألف
وسفه على حامي الجار
ينصاب
ودم الــرّاس
بالمحــراب ينصاب
المأتـم إلــه بيــوم
العيـد ينصــاب
الإنس والجان نصبت
له عزيّه
قال: محمّد بن الحنفيّة:
بتنا ليلة العشرين من شهر
رمضان عند أبي، وقد نزل
السّمّ في بدنه, وكان
يصلّي تلك اللّيلة من
جلوس، فلم يزل يوصينا
بوصاياه، ويعزّينا بنفسه،
فلمّا أصبحنا، استأذن
النّاس عليه، فأذن لهم
-إذناً عامّاً- فدخلوا
عليه، وجعلوا يسلّمون
عليه وهو يردّ عليه
السلام، وهو يقول:
اسألوني قبل أن تفقدوني،
وخفّفوا سؤالكم، قال:
فبكى النّاس عند ذلك،
وأشفقوا أن يسألوه4.
قال: وجمع أبي أهل بيته
وأولاده، ونحن ننظر إليه،
وإلى بدنه، ورجليه وقد
احمرّتا، فكبر ذلك علينا،
ثمّ عرضنا عليه الأكل،
فأبى أن يأكل، وجبينه
يرشح عرقاً، وهو يمسح
جبينه، فقلت: يا أبتاه،
أراك تمسح جبينك؟! فقال:
يا بنيّ, إنّ المؤمن إذا
نزل به الموت، عرق جبينه،
وسكن أنينه، ثمّ جمع
عياله، وهو يقول:
أستودعكم الله، الله
خليفتي عليكم. ثمّ أوصى
الحسن والحسين، فقال: يا
أبا محمّد، ويا أبا عبد
الله، كأنّي
بكما
وقد خرجت عليكم الفتن،
كقطع اللّيل المظلم من ها
هنا وها هنا، فاصبرا حتّى
يحكم الله، وهو خير
الحاكمين، ثمّ قال: يا
أبا عبد الله، أنت شهيد
هذه الأمّة، فعليك بتقوى
الله، والصّبر على
البليّة. ودار عينه في
أهل بيته كلّهم، فقال:
أستودعكم الله، الله
خليفتي عليكم، وكفى بالله
خليفة، ثمّ قال:
﴿