عاصر الإمام الباقر
عليه
السلام العديد من الحكّام
الطغاة من بني أميّة,
فبعد هلاك يزيد بن
معاوية, وتنحّي معاوية
ولده عن الخلافة وموته في
ظروف مريبة, آلت خلافة
بني سفيان إلى مروان بن
الحكم وبنيه.
فكان من عاصرهم
الإمام
عليه السلام فترة
إمامته على الشكل التالي:
1-
مروان بن الحكم.
2-
عبد الملك بن مروان.
3-
الوليد بن عبد الملك.
4-
سليمان بن عبد الملك أخو
الوليد.
5-
عمر بن عبد العزيز.
6-
يزيد بن عبد الملك.
7-
هشام بن عبد الملك.
وينقل ابن أبي الحديد
المعتزليّ رواية عن
الإمام الباقر
عليه السلام
يصف فيها المحن
والابتلاءات التي حلّت
بأهل البيت
عليهم السلام
وشيعتهم, منذ التحاق
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم بالرفيق الأعلى
إلى حين عصر الإمام
عليه
السلام وزمانه, حيث يقول
لبعض أصحابه: "يا فلان ما
لقينا من ظلم قريش إيّانا
وتظاهرهم علينا, وما لقى
شيعتنا ومحبّونا من
الناس! إنّ رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم
قُبِض وقد أخبر أنّا أولى
الناس بالناس, فتمالأت
علينا قريش حتّى أخرجت
الأمر عن معدنه, واحتجّت
على الأنصار بحقّنا
وحجّتنا, ثمّ تداولتها
قريش, واحد بعد واحد,
حتّى رجعت إلينا, فنكثت
بيعتنا, ونصبت الحرب لنا,
ولم يزل صاحب الأمر في
صعود كؤود, حتّى قتل,
فبويع الحسن ابنه وعُوهد,
ثمّ غُدِر به, وأسلم,
ووثب عليه أهل العراق
حتّى طعن بخنجر في جنبه,
ونهبت عسكره, وعولجت
خلاليل أمّهات أولاده,
فوادع معاوية وحقن دمه
ودماء أهل بيته, وهم
قليلُ حقٍّ قليل.
ثمّ بايع الحسين
عليه
السلام من أهل العراق
عشرون ألفاً, ثمّ غدروا
به, وخرجوا عليه, وبيعته
في أعناقهم وقتلوه, ثمّ
لم نزل- أهل البيت-
نُستَذَلّ ونُستضام,
ونُقصى ونُمتهن, ونحرم
ونقتل, ونخاف ولا نأمن
على دمائنا ودماء
أوليائنا, ووجد الكاذبون
الجاحدون لكذبهم وجحودهم
موضعاً يتقرّبون به إلى
أوليائهم وقضاة السوء
وعمّال السوء في كلّ
بلدة, فحدّثوهم بالأحاديث
الموضوعة المكذوبة, ورووا
عنّا ما لم نقله وما لم
نفعله, ليبغّضونا إلى
الناس, وكان عُظم ذلك
وكُبره زمن معاوية بعد
موت الحسن
عليه السلام,
فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة,
وقطعت الأيدي والأرجل على
الظِّنّة, وكان من يذكر
بحبّنا والانقطاع إلينا
سُجن أو نُهب ماله, أو
هُدِمت داره, ثمّ لم يزل
البلاء يشتدّ ويزداد, إلى
زمان عبيد الله بن زياد
قاتل الحسين
عليه السلام,
ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم
كلّ قتلة, وأخذهم بكلّ
ظنّة وتهمة, حتّى أنّ
الرجل ليقال له: زنديق أو
كافر, أحبّ إليه من أن
يقال: شيعة عليّ, وحتّى
صار الرجل الذي يذكر
بالخير- ولعلّه يكون
ورعاً
صدوقاً- يحدّث
بأحاديث عظيمة عجيبة, من
تفضيل بعض من قد سَلَف من
الولاة, ولم يخلق الله
تعالى شيئاً منها, ولا
كانت ولا وقعت وهو يحسب
أنّها حقّ لكثرة من قد
رواها ممّن لم يعرف بكذبٍ
ولا بقلّةِ ورع"1.
ونحن نشير إلى أبرز ما
روي من أحداث وقعت بين
الإمام
عليه السلام وحكّام
عصره:
مع عبد الملك بن مروان:
أبرز ما يمكن الحديث عنه
في هذه المرحلة ما روي من
تدخّل الإمام الباقر
عليه
السلام وتحريره للنقد
الإسلاميّ من أيدي
الأجانب, حيث قدّم
الإمامعليه السلام هذه
الخدمة الجليلة للأمّة
الإسلاميّة وخلّصه من
التبعيّة للإمبراطوريّة
الروميّة آنذاك.
تحرير النقد الإسلاميّ:
روي أنّ القراطيس كانت
للروم وكانت تطرز بمصر,
وكان طرازها الشعار
المسيحيّ: الأب والابن
والروح القدس, فتنبّه عبد
الملك بن مروان لذلك
حينما أمر بترجمة ما في
بعضها إلى العربيّة,
فأنكره وأمر عامله على
مصر عبد العزيز بن مروان
بإبطال ذلك الطراز على ما
كان يطرز به من ثوب
وقرطاس وستر وغير ذلك,
واستبداله بآخر يطرز عليه
سورة التوحيد وشهد الله
أنه لا إله إلّا هو, وكتب
إلى الآفاق جميعاً بإبطال
ما في أعمالهم من
القراطيس المطرّزة بطراز
الروم ومعاقبة من وجد
عنده من بعد هذا النهي
شيء منها.
ولمّا اطلع ملك الروم على
عمل عبد الملك أنكره وغلظ
عليه واستشاط غضباً, وكتب
إلى عبد الملك يعاتبه
وأرسل مع الكتاب هديّة
يستميله بها طالباً منه
إعادة الطراز إلى ما كان
عليه.
فلمّا قرأ عبد الملك
الكتاب ردّ الرسول وأعلمه
أن لا جواب له ولم يقبل
الهديّة.
فأعاد ملك الروم الكرّة
وقام بإرسال الهديّة
مضاعفة مع الكتاب, فأعاد
عبد الملك ردّ الهديّة
ولم يجبه.
فكتب ملك الروم يتهدّده
ويتوعدّه إن لم يردّ
القراطيس إلى حالها
الأوّل, وجاء في كتابه:
".. لتأمرنّ برد الطراز
إلى ما كان عليه أو لآمرنّ بنقش الدنانير
والدراهم فإنّك تعلم أنّه
لا ينقش شيء منها إلّا ما
ينقش في بلادي ولم تكن
الدراهم والدنانير نقشت
في الإسلام فينقش عليها
من شتم نبيّك ما إذا
قرأته ارفضّ جبينك له
عرقاً فأحبّ أن تقبل
هديّتي وتردّ الطراز إلى
ما كان عليه وتجعل ذلك
هديّة برّرتني بها وتبقى
على الحال بيني وبينك,
فلمّا قرأ عبد الملك
الكتاب غلظ عليه وضاقت به
الأرض وقال: احسبني أشأم
مولود ولد في الإسلام
لأنّي جنيت على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
من شتم هذا الكافر ما
يبقى غابر الدهر ولا يمكن
محوه من جميع مملكة
العرب, إذ كانت المعاملات
تدور بين الناس بدنانير
الروم ودراهمهم، فجمع أهل
الإسلام واستشارهم فلم
يجد عند أحد منهم رأياً
يعمل به, فقال له (شخص
يقال له) روح بن زنباع:
إنّك لتعلم الرأي والمخرج
من هذا الأمر ولكنّك
تتعمّد
تركه, قال: ويحك
من؟ قال الباقر من أهل
بيت النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم, قال: صدقت
ولكنّه ارتجّ عليّ الرأي
فيه, فكتب إلى عامله
بالمدينة أن أشخص إليّ
محمّد بن عليّ بن الحسين
مكرّماً ومتّعه بمائتي
ألف درهم لجهازه
وبثلاثمائة ألف درهم
لنفقته وأزح علّته في
جهازه وجهاز من يخرج معه
من أصحابه واحتبس الرسول
قبله إلى موافاته عليه,
فلمّا وافى أخبره الخبر
فقال له الباقر:"لا
يعظمنّ هذا عليك فإنّه
ليس شيء من جهتين
إحداهما: أنّ الله عزَّ
وجلَّ لم يكن ليطلق ما
تهدّدك به صاحب الروم في
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم, والأخرى: وجود
الحيلة فيه", قال: وما
هي؟ قال:"تدعو في هذه
الساعة بصنّاع فيضربون
بين يديك سككاً للدراهم
والدنانير وتجعل النقش
عليها سورة التوحيد وذكر
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أحدهما في وجه
الدرهم والدينار والآخر
في الوجه الثاني وتجعل في
مدار الدرهم والدينار ذكر
البلد الذي يضرب فيه
والسنة التي تضرب فيه تلك
الدراهم والدنانير...".
ثمّ شرح له الإمام كيفيّة
أوزانها, ففعل عبد الملك
ذلك وأمره محمّد بن عليّ
بن الحسين
عليهم السلام أن
يكتب السكك في جميع بلدان
الإسلام وأن يتقدّم إلى
الناس في التعامل بها وأن
يتهدّد بقتل من يتعامل
بغير هذه السكك من
الدراهم والدنانير وغيرها
وأن تبطل وتردّ إلى مواضع
العمل حتّى تعاد إلى
السكك الإسلاميّة, ففعل
عبد الملك ذلك وردّ رسول
ملك الروم إليه يعلمه
بذلك ويقول: إنّ الله
جلَّ وعزَّ مانعك ممّا
قدرت أن تفعله وقد تقدّمت
إلى عمّالي في أقطار
البلاد بكذا وكذا
وبإبطال
السكك والطراز الروميّة
فقيل لملك الروم: افعل ما
كنت تهدّدت به ملك العرب,
فقال: إنّما أردت أن
أغيظه بما كتبت إليه
لأنّي كنت قادراً عليه,
والمال وغيره برسوم الروم
فأمّا الآن فلا أفعل لأنّ
ذلك لا يتعامل به أهل
الإسلام وامتنع من الذي
قال. وثبّت ما أشار به
محمّد بن عليّ بن
الحسين2...
مع عمر بن عبد العزيز:
يعدّ عمر بن عبد العزيز
مفخرة البيت الأمويّ
وسيّد ملوكهم ونجيب البيت
الأمويّ
3, وذلك لما صدر
عنه من مواقف خالفت مواقف
سواه من الأمويّين.
إلّا أنّ ذلك وإن بيّض له
في التاريخ صفحته وميّزه
عن غيره من الجائرين,
لكنّه لم يكن ليشفع له
بعد أن أبقى منصب الإمامة
تحت يديه وسلطانه ولم
يسلّمه إلى أهله.
فعن أبي بصير قال: كنت مع
الباقر
عليه السلام في
المسجد, إذ دخل عليه عمر
بن عبد العزيز عليه ثوبان
ممصّران4 , متّكئاً على
مولى له،
فقال
عليه
السلام: "ليلينّ هذا
الغلام فيظهر العدل ويعيش
أربع سنين ثمّ يموت فيبكي
عليه أهل الأرض ويلعنه
أهل السماء"، فقلنا: يا
بن رسول الله, أليس ذكرت
عدله وإنصافه؟ قال: "يجلس
في مجلسنا ولا حقّ له
فيه"، ثمّ ملك وأظهر
العدل جهده!.5
وعلى أيّ حال فإنّ أهمّ
ما يمكن تسجيله من مواقف
لعمر بن عبد العزيز
أمران:
الأوّل: رفعه السبّ عن
الإمام عليّ
عليه السلام,
والذي كان معاوية قد سنّه
وسار عليه بقيّة الخلفاء
من بعده, فلمّا ولي عمر
الخلافة كتب إلى العمّال
في الآفاق بتركه.
وينقل أنّه قال: كان أبي
إذا خطب فنال من عليّ رضي
الله عنه تلجلج فقلت: يا
أبت إنّك تمضي في خطبتك
فإذا أتيت على ذكر عليّ
عرفتُ منك تقصيراً؟ قال:
أَوَفطنت لذلك؟ قلت: نعم.
فقال: يا بنيّ إنّ الذين
حولنا لو يعلمون من عليّ
ما نعلم تفرّقوا عنّا إلى
أولاده!
فلمّا ولي الخلافة لم يكن
عنده من الرغبة في الدنيا
ما يرتكب هذا الأمر
العظيم لأجله فترك ذلك
وكتب بتركه وقرأ عوضه:
﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء
ذِي الْقُرْبَى﴾ الآية,
فحلَّ هذا الفعل عند
الناس محلّاً حسناً
وأكثروا مدحه بسببه6.
الثاني: ردّ فدك:
فقد روي أنّ عمر بن عبد
العزيز لمّا استُخلف قال:
يا أيّها الناس
إنّي قد
رددت عليكم مظالمكم,
وأوّل ما أردّ منها ما
كان في يدي, قد رددت
"فدك" على ولد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
وولد عليّ بن أبي طالب,
فكان أوّل من ردّها. وروي
أنّه ردّها بغلّاتها منذ
ولي..
وعندما اعترضوا عليه, قال
عمر بن عبد العزيز: قد
صحّ عندي وعندكم أنّ
فاطمة بنت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم
ادّعت "فدك", وكانت في
يدها, وما كانت لتكذب على
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم مع شهادة عليّ
وأمّ أيمن وأمّ سلمة,
وفاطمة عندي صادقة فيما
تدّعي وإن لم تقم
البيّنة, وهي سيّدة نساء
أهل الجنّة, فأنا اليوم
أردّها على ورثتها,
أتقرّب بذلك إلى رسول
الله وأرجو أن تكون فاطمة
والحسن والحسين يشفعون لي
في يوم القيامة.. فسلّمها
إلى محمّد بن عليّ
الباقرعليه السلام وعبد
الله بن الحسن, فلم تزل
في أيديهم إلى أن مات عمر
بن عبد العزيز.
وروي أنّه لمّا صارت
الخلافة إلى عمر بن عبد
العزيز ردّ عليهم سهام
الخمس, سهم رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ,
وسهم ذي القربى, وهما من
أربعة أسهم, ردّ على جميع
بني هاشم وسلّم ذلك إلى
محمّد بن عليّ الباقرعليه
السلام وعبد الله بن
الحسن7.
وعن هشام بن معاذ، قال:
كنت جليساً لعمر بن عبد
العزيز حيث دخل المدينة,
فأمر مناديه فنادى: من
كانت له مظلمة أو ظلامة8
فليأت الباب، فأتى محمّد
بن عليّ- يعنى الباقر عليه
السلام- فدخل إليه مولاه
مزاحم فقال: إنّ محمّد بن
عليّ بالباب, فقال له:
أدخله يا مزاحم, قال:
فدخل وعمر يمسح عينيه من
الدموع, فقال له محمّد بن
عليّ عليه السلام: "ما أبكاك يا
عمر"؟ فقال هشام: أبكاه
كذا وكذا يا ابن رسول
الله، فقال محمّد بن عليّ
عليه السلام: "يا عمر إنّما الدنيا
سوق من الأسواق منها خرج
قوم بما ينفعهم، ومنها
خرجوا بما يضرّهم، وكم من
قوم ضرَّهم بمثل الذي
أصبحنا فيه، حتّى أتاهم
الموت فاستوعبوا، فخرجوا
من الدنيا ملومين لمّا لم
يأخذوا لما أحبّوا من
الآخرة عدّة، ولا ممّا
كرهوا جنّة، قسم ما جمعوا
من لا يحمدهم، وصاروا إلى
من لا يعذرهم، فنحن والله
محقوقون
9، أن ننظر إلى
تلك الأعمال التي كنّا
نغبطهم بها، فنوافقهم
فيها، وننظر إلى تلك
الأعمال التي كنّا نتخوّف
عليهم منها، فنكفّ عنها.
فاتق الله واجعل في قلبك
اثنتين، تنظر الذي تحبّ
أن يكون معك إذا قدمت على
ربّك فقدّمه بين يديك،
وتنظر الذي تكرهه أن يكون
معك إذا قدمت على ربّك
فابتغ فيه البدل، ولا
تذهبنّ إلى سلعة قد بارت
على من كان قبلك، ترجو أن
تجوز عنك, واتق الله يا
عمر وافتح الأبواب وسهّل
الحجّاب، وانصر المظلوم
وردّ الظالم"، ثمّ قال:
"ثلاث من كنّ فيه استكمل
الإيمان بالله"، فجثا عمر
على ركبتيه وقال: إيه يا
أهل بيت النبوّة, فقال:
"نعم يا عمر, من إذا رضي
لم يدخله رضاه في الباطل،
وإذا غضب لم يخرجه غضبه
من الحقّ، ومن إذا قدر لم
يتناول ما ليس له", فدعا
عمر بدواة وقرطاس وكتب:
"بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما ردَّ عمر بن عبد
العزيز ظلامةَ
محمّد بن
عليّ عليه السلام فدك"10.
وممّا يروى عن الإمام
الباقر عليه السلام في ما
وعظ به عمر بن عبد
العزيز, أنّه قال له:
"أوصيك بتقوى الله,
واتّخذ الكبير أباً,
والصغير ولداً, والرجل
أخاً", فقال: رحمك الله
جمعت لنا والله ما إن
أخذنا به وأماتنا الله
عليه استقام لنا الخير إن
شاء الله..11.
مع هشام بن عبد الملك:
وكان شديد البغض
للعلويّين, وهو الذي قتل
زيد بن عليّ رضوان الله
عليه. وقد تعرّض الإمام
أبو جعفرعليه السلام في
عهده إلى ضروب من المحن
والآلام12 كان من بينها:
إشخاص الإمام عليه السلام
إلى دمشق:
فعن الصادق عليه السلام
أنّه قال: "لمّا أشخص أبي
محمّد بن عليّ إلى دمشق
سمع الناس يقولون: هذا
ابن أبي تراب؟ قال: فأسند
ظهره إلى جدار القبلة,
ثمّ حمد الله وأثنى عليه,
وصلّى على النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم, ثمّ
قال: اجتنبوا أهل الشقاق،
وذريّة النفاق, وحشو
النّار, وحصب جهنّم, عن
البدر الزاهر، والبحر
الزاخر, والشهاب الثاقب،
وشهاب المؤمنين، والصراط
المستقيم، من قبل أن نطمس
وجوهاً فنردّها على
أدبارها, أو يلعنوا كما
لعن أصحاب السبت, وكان
أمر الله مفعولاً.
ثمّ قال بعد كلام:"أبصنو
رسول الله تستهزؤون؟ أم
بيعسوب الدين تلمزون؟
وأيّ سبيل بعده تسلكون؟
وأيّ حزن بعده تدفعون؟
هيهات هيهات, برز والله
بالسبق, وفاز بالخصل,
واستوى على الغاية, وأحرز
الخطار, (وأحرز على
الختار), فانحسرت عنه
الأبصار، وخضعت دونه
الرقاب، وفرع الذروة
العليا، فكذَّب من رام من
نفسه السعي, وأعياه
الطلب, فأنّى لهم التناوش
من مكان بعيد, وقال:
أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ لا
أَباً لِأَبِيكُمُ
مِنَ الَّلوْمِ أَوْ
سُدُّوا (ال)مَكَانَ
الَّذِي سَدُّوا
أُولَئِكَ قَوْمٌ إِنْ
بَنُوا أَحْسَنُوا
البِنَا
وَإِنْ عَاهَدُوا
أَوْفُوا وَإِنْ عَقَدُوا
شَدُّوا
"فأنّى يسدّ ثلمة أخي
رسول الله إذ شفعوا,
وشقيقه إذ نسبوا, ونديده
إذ قتلوا (نثلوا), وذي
قرني كنزها إذ فتحوا,
ومصلّي القبلتين إذ
تحرّفوا, والمشهود له
بالإيمان إذ كفروا,
والمدّعي لنبذ عهد
المشركين إذ نكلوا,
والخليفة على المهاد ليلة
الحصار إذ جزعوا,
والمستودع الأسرار ساعة
الوداع"، إلى آخر كلامه13.
وعن أبي بكر الحضرميّ
قال: لمّا حمل أبو
جعفرعليه السلام إلى
الشام, إلى هشام بن عبد
الملك, وصار ببابه قال
لأصحابه ومن كان بحضرته
من بني أميّة: إذا
رأيتموني قد وبّخت محمّد
بن عليّ ثمّ رأيتموني قد
سكتّ فليقبل عليه كلّ رجل
منكم فليوبّخه, ثمّ أمر
أن يؤذن له، فلمّا دخل
عليه أبو جعفرعليه السلام
قال بيده: "السلام عليكم"
فعمّهم جميعاً بالسلام
ثمّ جلس, فازداد هشام
عليه حنقاً بتركه السلام
عليه بالخلافة, وجلوسه
بغير إذن، فأقبل يوبّخه
ويقول فيما يقول له: يا
محمّد بن عليّ لا يزال
الرجل منكم قد شقّ عصا
المسلمين, ودعا إلى نفسه,
وزعم أنّه الإمام سفهاً
وقلّة علم، ووبّخه بما
أراد أن يوبّخه, فلمّا
سكت أقبل عليه القوم رجل
بعد رجل يوبّخه, حتّى
انقضى آخرهم، فلمّا سكت
القوم نهض عليه السلام
قائماً ثمّ قال: "أيّها
الناس أين تذهبون؟ وأين
يراد بكم؟ بنا هدى الله
أوّلكم, وبنا يختم آخركم،
فإن يكن لكم ملك معجّل
فإنّ لنا ملكاً مؤجّلاً,
وليس بعد ملكنا ملك,
لأنّا أهل العاقبة, يقول
الله عزَّ وجلَّ:
﴿وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ﴾", فأمر
به إلى الحبس, فلمّا صار
إلى الحبس تكلّم فلم يبق
في الحبس رجل إلّا ترشّفه14
وحنّ إليه، فجاء صاحب
الحبس إلى هشام فقال: يا
أمير المؤمنين إنّي خائف
عليك من أهل الشام أن
يحولوا بينك وبين مجلسك
هذا، ثمّ أخبره بخبره،
فأمر به فحمل على البريد
هو وأصحابه ليردّوا إلى
المدينة, وأمر أن لا يخرج
لهم الأسواق, وحال بينهم
وبين الطعام والشراب,
فساروا ثلاثاً لا يجدون
طعاماً ولا شراباً حتّى
انتهوا إلى مدين، فأغلق
باب المدينة دونهم, فشكا
أصحابه الجوع والعطش قال:
فصعد جبلاً ليشرف عليهم
فقال بأعلى صوته:"يا أهل
المدينة الظالم أهلها,
أنا بقيّة الله، يقول
الله:
﴿بَقِيَّةُ اللهِ
خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وما
أنا عليكم بحفيظ﴾", قال:
وكان فيهم شيخ كبير
فأتاهم فقال لهم: يا قوم
هذه والله دعوة شعيب
النبيّ, والله لئن لم
تخرجوا إلى هذا الرجل
بالأسواق لتؤخذنّ من
فوقكم ومن تحت أرجلكم,
فصدّقوني في هذه المرّة
وأطيعوني,
وكذّبوني
فيما تستأنفون, فإنّي لكم
ناصح، قال: فبادروا
فأخرجوا إلى محمّد بن
عليّ وأصحابه بالأسواق،
فبلغ هشام بن عبد الملك
خبر الشيخ فبعث إليه
فحمله, فلم يدر ما صنع به15.
ورواية أخرى:
وهناك رواية أخرى تذكر ما
جرى من اعتقال على
الإمام عليه السلام وأخذه
إلى الشام وما جرى معه,
فعن عمارة بن زيد
الواقديّ، قال: حجّ هشام
بن عبد الملك بن مروان
سنة من السنين، وكان قد
حجّ في تلك السنة محمّد
بن عليّ الباقر وابنه
جعفرعليهم السلام، فقال
جعفر في بعض كلامه:
"الحمد لله الذي بعث
محمّداً بالحقّ نبيّاً،
وأكرمنا به، فنحن صفوة
الله على خلقه، وخيرته من
عباده، فالسعيد من
اتبعنا، والشقيّ من
عادانا وخالفنا، ومن
الناس من يقول: إنّه
يتولّانا وهو يوالي
أعداءنا ومن يليهم من
جلسائهم وأصحابهم، فهو لم
يسمع كلام ربّنا ولم يعمل
به".
قال أبو عبد الله جعفر بن
محمّد عليه السلام: "فأخبر
مسيلمة أخاه بما سمع، فلم
يعرض لنا حتّى انصرف إلى
دمشق، وانصرفنا إلى
المدينة، فأنفذ بريداً
إلى عامل المدينة بإشخاص
أبي وإشخاصي معه، فأشخصنا،
فلمّا وردنا دمشق حجبنا
ثلاثة أيّام، ثمّ أذن لنا
في اليوم الرابع، فدخلنا
وإذا هو قد قعد على سرير
الملك، وجنده وخاصّته
وقوف على أرجلهم سماطين
متسلّحين، وقد نصب
البرجاس16 حذاءه، وأشياخ
قومه يرمون.
"فلمّا دخل أبي وأنا خلفه
ما زال يستدنينا منه حتّى
حاذيناه وجلسنا قليلاً،
فقال لأبي: يا أبا جعفر،
لو رميت مع أشياخ قومك
الغرض.
"وإنّما أراد أن يهتك
بأبي ظنّاً منه أنّه يقصر
ويخطئ ولا يصيب إذا رمى،
فيشتفي منه بذلك، فقال
له: إنّي قد كبرت عن
الرمي، فإن رأيت أن
تعفيني.
"فقال: وحقّ من أعزّنا
بدينه ونبيّه محمّد صلى
الله عليه وآله وسلم لا
أعفيك.
"ثمّ أومأ إلى شيخ من بني
أميّة أن أعطه قوسك.
"فتناول أبي عند ذلك قوس
الشيخ، ثمّ تناول منه
سهماً فوضعه في كبد القوس
ثمّ انتزع ورمى وسط الغرض
فنصبه فيه، ثمّ رمى فيه
الثانية فشقّ فوق سهمه
إلى نصله، ثمّ تابع الرمي
حتّى شقّ تسعة أسهم بعضها
في جوف بعض، وهشام يضطرب
في مجلسه، فلم يتمالك أن
قال: أجدت يا أبا جعفر،
وأنت أرمى العرب والعجم،
كلّا زعمت أنّك قد كبرت
عن الرمي. ثمّ أدركته
ندامة على ما قال".
"وكان هشام لا يكنّي
أحداً قبل أبي ولا بعده
في خلافته، فهمّ به وأطرق
إطراقة يرتأي فيه رأياً،
وأبي واقف بحذائه مواجهاً
له، وأنا وراء أبي.
"فلمّا طال وقوفنا بين
يديه غضب أبي فهمّ به،
وكان أبي إذا غضب
نظر إلى
السماء نظر غضبان يتبيّن
للناظر الغضب في وجهه،
فلمّا نظر هشام ذلك من
أبي قال له: يا محمّد،
اصعد، فصعد أبي إلى سريره
وأنا أتبعه، فلمّا دنا من
هشام قام إليه فاعتنقه
وأقعده عن يمينه، ثمّ اعتنقني وأقعدني عن يمين
أبي، ثمّ أقبل على أبي
بوجهه فقال له: يا محمّد،
لا تزال العرب والعجم
تسودها قريش ما دام فيهم
مثلك، ولله درّك، من
علّمك هذا الرمي؟ وفي كم
تعلّمته؟ فقال له أبي: قد
علمت أنّ أهل المدينة
يتعاطونه، فتعاطيته أيّام
حداثتي، ثمّ تركته، فلمّا
أراد أمير المؤمنين منّي
ذلك عدت إليه.
"فقال له: ما رأيت مثل
هذا الرمي قطّ مذ عقلت،
وما ظننّت أنّ في الأرض
أحداً يرمي مثل هذا
الرمي، أين رمي جعفر من
رميك؟ فقال: إنّا نحن
نتوارث الكمال والتمام
اللذين أنزلهما الله على
نبيّه عليه السلام في
قوله:
﴿الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلاَمَ دِينًا﴾
والأرض لا تخلو ممّن يكمل
هذه الأمور التي يقصر
عنها غيرنا.
"قال: فلمّا سمع ذلك من
أبي انقلبت عينه اليمنى
فاحولّت واحمرّ وجهه،
وكان ذلك علامة غضبه إذا
غضب، ثمّ أطرق هنيئة، ثمّ
رفع رأسه فقال لأبي:
ألسنا بنو عبد مناف نسبنا
ونسبكم واحد؟ فقال أبي:
نحن كذلك، ولكنّ الله جلّ
ثناؤه اختصّنا من مكنون
سرّه وخالص علمه، بما لم
يختصّ أحداً به غيرنا.
"فقال: أليس الله جلَّ
ثناؤه بعث محمّداً صلى
الله عليه وآله وسلم من
شجرة عبد مناف إلى الناس
كافّة، أبيضها وأسودها
وأحمرها، من أين ورثتم
ما
ليس لغيركم؟ ورسول الله
مبعوث إلى الناس كافّة،
وذلك قول الله تبارك
وتعالى:
﴿وَلِلّهِ
مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ﴾ إلى آخر
الآية، فمن أين ورثتم هذا
العلم وليس بعد محمّد
نبيّ ولا أنتم أنبياء؟
فقال: من قوله تعالى لنبيّه عليه السلام:
﴿لَا
تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ فالذي
أبداه فهو للناس كافّة،
والذي لم يحرّك به لسانه،
أمر الله تعالى أن يخصّنا
به من دون غيرنا.
"فلذلك كان يناجي أخاه
عليّاً من دون أصحابه،
وأنزل الله بذلك قرآناً
في قوله تعالى:
﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ
وَاعِيَةٌ﴾ فقال رسول
الله لأصحابه: سألت الله
تعالى أن يجعلها أذنك يا
عليّ، فلذلك قال عليّ بن
أبي طالب صلوات الله عليه
بالكوفة: علّمني رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم ألف باب من العلم
يفتح من كلّ باب ألف باب،
خصّه به رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم من
مكنون علمه ما خصّه الله
به، فصار إلينا وتوارثناه
من دون قومنا.
"فقال له هشام: إنّ
عليّاً كان يدّعي علم
الغيب، والله لم يطلع على
غيبه أحداً فمن أين ادعى
ذلك؟ فقال أبي: إنّ الله
جلَّ ذكره أنزل على نبيّه
كتاباً بيّن فيه ما كان
وما يكون إلى يوم
القيامة، في قوله:
﴿وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَانًا لِّكُلِّ
شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ﴾. وفي
قوله:
﴿كُلَّ شَيْءٍ
أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ
مُبِينٍ﴾. وفي قوله:
﴿
مَّا فَرَّطْنَا فِي
الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾.
وفي قوله:
﴿وَمَا مِنْ
غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء
وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾. وأوحى
الله تعالى إلى نبيّه عليه
السلام أن لا يبقي في
غيبه وسرّه ومكنون علمه
شيئاً إلّا يناجي به
عليّاً، فأمره أن يؤلّف
القرآن من بعده، ويتولّى
غسله وتكفينه وتحنيطه من
دون
قومه، وقال لأصحابه:
حرام على أصحابي وأهلي أن
ينظروا إلى عورتي غير أخي
عليّ، فإنّه منّي وأنا
منه، له ما لي وعليه ما
عليّ، وهو قاضي ديني
ومنجز موعدي. ثمّ قال
لأصحابه: عليّ بن أبي
طالب يقاتل على تأويل
القرآن كما قاتلت على
تنزيله. ولم يكن عند أحد
تأويل القرآن بكماله
وتمامه إلّا عند عليّ عليه
السلام، ولذلك قال رسول
الله لأصحابه: أقضاكم
عليّ، أي هو قاضيكم. وقال
عمر بن الخطاب: لولا عليّ
لهلك عمر. أفيشهد له عمر
ويجحد غيره؟!
"فأطرق هشام طويلاً ثمّ
رفع رأسه فقال: سل حاجتك.
فقال: خلفت أهلي وعيالي
مستوحشين لخروجي. فقال:
قد آمن الله وحشتهم
برجوعك إليهم ولا تقم
أكثر من يومك. فاعتنقه
أبي ودعا له وودعه، وفعلت
أنا كفعل أبي، ثمّ نهض
ونهضت معه".
مع عالم النصارى:
"وخرجنا إلى بابه وإذا
ميدان ببابه، وفي آخر
الميدان أناس قعود عدد
كثير، قال أبي: من هؤلاء؟
قال الحجّاب: هؤلاء
القسّيسون والرهبان، وهذا
عالم لهم، يقعد لهم في
كلّ سنة يوماً واحداً
يستفتونه فيفتيهم. فلفّ
أبي عند ذلك رأسه بفاضل
ردائه، وفعلت أنا مثل فعل
أبي، فأقبل نحوهم حتّى
قعد عندهم، وقعدت وراء
أبي، ورفع ذلك الخبر إلى
هشام، فأمر بعض غلمانه أن
يحضر الموضع فينظر ما
يصنع أبي، فأقبل وأقبل
عدد من المسلمين فأحاطوا
بنا، وأقبل عالم النصارى
وقد شدّ حاجبيه بحريرة
صفراء حتّى توسّطنا، فقام
إليه جميع القسّيسين
والرهبان مسلّمين عليه،
فجاء
إلى صدر المجلس فقعد
فيه، وأحاط به أصحابه،
وأبي وأنا بينهم، فأدار
نظره ثمّ قال لأبي: أمنّا
أم من هذه الأمّة
المرحومة؟ فقال أبي: بل
من هذه الأمّة المرحومة.
"فقال: أمن علمائها أم من
جهّالها؟ فقال له أبي:
لست من جهّالها؟ فاضطرب
اضطراباً شديداً، ثمّ قال
له: أسألك؟ فقال له أبي:
سل. فقال: من أين ادعيتم
أنّ أهل الجنّة يأكلون
ويشربون ولا يُحدثون ولا
يبولون؟ وما الدليل فيما
تدّعونه من شاهد لا
يُجهل؟ فقال له أبي: دليل
ما ندّعي من شاهد لا
يُجهل الجنين في بطن أمّه
يطعم ولا يُحدث. قال:
فاضطرب النصرانيّ
اضطراباً شديداً ثمّ قال:
كلّا، زعمت أنّك لست من
علمائها! فقال له أبي:
ولا من جهّالها، وأصحاب
هشام يسمعون ذلك.
"فقال لأبي: أسألك عن
مسألة أخرى. فقال له أبي:
سل. فقال: من أين ادّعيتم
أنّ فاكهة الجنّة أبداً
غضّة طريّة موجودة غير
معدومة عند جميع أهل
الجنّة، لا تنقطع، وما
الدليل فيما تدّعونه من
شاهد لا يجهل؟ فقال له
أبي: دليل ما ندّعي أنّ
ترابنا أبداً غضّ طريّ
موجود غير معدوم عند جميع
أهل الدنيا لا ينقطع.
"فاضطرب النصرانيّ
اضطراباً شديداً، ثمّ
قال: كلّا، زعمت أنّك لست
من علمائها! فقال له أبي:
ولا من جهّالها. فقال:
أسألك عن مسألة. فقال له:
سل. قال: أخبرني عن ساعة
من ساعات الدنيا ليست من
ساعات الليل ولا من ساعات
النهار. فقال له أبي: هي
الساعة التي بين طلوع
الفجر إلى طلوع الشمس،
يهدأ فيها المبتلى،
ويرقد
فيها الساهر، ويفيق
المغمى عليه، جعلها الله
في الدنيا رغبة للراغبين،
وفي الآخرة للعاملين لها،
ودليلاً واضحاً وحجاباً
بالغاً على الجاحدين
المنكرين التاركين لها.
قال: فصاح النصرانيّ
صيحة، ثمّ قال: بقيت
مسألة واحدة، والله لأسألنّك عنها، ولا تهتدي
إلى الجواب عنها أبداً.
فأسألك؟ فقال له أبي: سل
فإنّك حانث في يمينك.
فقال: أخبرني عن مولودين
ولدا في يوم واحد، وماتا
في يوم واحد، عمر أحدهما
خمسون ومائة سنة، والآخر
خمسون سنة في دار الدنيا.
"فقال له أبي: ذلك عزير
وعزرة، ولدا في يوم واحد،
فلمّا بلغا مبلغ الرجال
خمسة وعشرين عاماً، مرّ
عزير وهو راكب على حماره
بقرية بأنطاكية وهي خاوية
على عروشها، فقال: أنّى
يحيي هذه الله بعد
موتها؟! وقد كان الله
اصطفاه وهداه، فلمّا قال
ذلك القول غضب الله عليه
فأماته مائة عام سخطاً
عليه بما قال.
"ثمّ بعثه على حماره
بعينه وطعامه وشرابه،
فعاد إلى داره وعزرة أخوه
لا يعرفه، فاستضافه
فأضافه، وبعث إلى ولد
عزرة وولد ولده وقد
شاخوا، وعزير شاب في سنّ
ابن خمس وعشرين سنة، فلم
يزل عزير يذكّر أخاه
وولده وقد شاخوا، وهم
يذكرون ما يذكّرهم،
ويقولون: ما أعلمك بأمر
قد مضت عليه السنون
والشهور؟! ويقول له عزرة
وهو شيخ ابن مائة وخمس
وعشرين سنة: ما رأيت
شاباً في سنّ خمس وعشرين
سنة أعلم بما كان بيني
وبين أخي عزير أيّام
شبابي منك، فمن أهل
السماء أنت أم من أهل
الأرض؟
"فقال عزير لأخيه عزرة:
أنا عزير، سخط الله عليّ
بقول قلته بعد أن اصطفاني
وهداني، فأماتني مائة
سنة، ثمّ بعثني لتزدادوا
بذلك يقيناً أنّ الله على
كلّ شيء قدير، وها هو
حماري وطعامي وشرابي الذي
خرجت به من عندكم، أعاده
الله لي كما كان، فعندها
أيقنوا، فأعاشه الله
بينهم خمساً وعشرين سنة
ثمّ قبضه الله وأخاه في
يوم واحد. فنهض عالم
النصارى عند ذلك قائماً،
وقام النصارى على أرجلهم
فقال لهم عالمهم:
"جئتموني بأعلم منّي
وأقعدتموه معكم حتّى
يهتكني ويفضحني، وأعلم
المسلمين أنّ لهم من أحاط
بعلومنا وعنده ما ليس
عندنا، لا والله لا
أكلمكم من رأسي كلمة، ولا
قعدت لكم إن عشت سنة.
فتفرّقوا وأبي قاعد مكانه
وأنا معه، ورفع ذلك في
الخبر إلى هشام بن عبد
الملك، فلمّا تفرّق الناس
نهض أبي وانصرف إلى
المنزل الذي كنّا فيه،
فوافانا رسول هشام
بالجائزة، وأمرنا أن
ننصرف إلى المدينة من
ساعتنا ولا نحتبس، لأنّ
الناس ماجوا وخاضوا فيما
جرى بين أبي وبين عالم
النصارى".
في الطريق إلى المدينة:
"فركبنا دوابنا منصرفين،
وقد سبقنا بريد من عند
هشام إلى عامل مدين على
طريقنا إلى المدينة: "إنّ
ابني أبي تراب الساحرين
محمّد بن عليّ وجعفر بن
محمّد الكذّابين- بل هو
الكذّاب (لعنه الله)-
فيما يظهران من الإسلام
وردا عليّ، فلمّا صرفتهما
إلى المدينة مالا إلى
القسّيسين والرهبان من
كفّار النصارى، وتقرّبا
إليهم بالنصرانيّة، فكرهت
أن أنكّل بهما لقرابتهما،
فإذا قرأت كتابي
هذا فناد
في الناس: برئت الذمّة
ممّن يشاريهما، أو
يبايعهما، أو يصافحهما،
أو يسلّم عليهما، فإنّهما
قد ارتدّا عن الإسلام،
ورأى أمير المؤمنين أن
تقتلهما ودوابهما
وغلمانهما ومن معهما شرّ
قتلة".
"قال: فورد البريد إلى
مدين، فلمّا شارفنا مدينة
مدين قدّم أبي غلمانه
ليرتادوا له منزلاً
ويشتروا لدوابنا علفاً،
ولنا طعاماً.
"فلمّا قرب غلماننا من
باب المدينة أغلقوا الباب
في وجوهنا وشتمونا،
وذكروا أمير المؤمنين
عليّ بن أبي طالب (صلوات
الله عليه)، وقالوا: لا
نزول لكم عندنا، ولا شراء
ولا بيع، يا كفّار، يا
مشركين، يا مرتدّين، يا
كذّابين، يا شرّ الخلائق
أجمعين. فوقف غلماننا على
الباب حتّى انتهينا
إليهم، فكلّمهم أبي وليّن
لهم القول، وقال لهم:
اتقوا الله ولا تغلطوا،
فلسنا كما بلغكم ولا نحن
كما تقولون، فاسمعونا،
فأجابوه بمثل ما أجابوا
الغلمان، فقال لهم أبي:
فهبنا كما تقولون، افتحوا
لنا الباب، وشارونا
وبايعونا كما تشارون
وتبايعون اليهود والنصارى
والمجوس.
"فقالوا: أنتم أشرّ من
اليهود والنصارى والمجوس،
لأنّ هؤلاء يؤدّون الجزية
وأنتم ما تؤدّون. فقال
لهم أبي: افتحوا لنا
الباب وأنزلونا، وخذوا
منّا الجزية كما تأخذون
منهم. فقالوا: لا نفتح،
ولا كرامة لكم حتّى
تموتوا على ظهور دوابكم
جياعاً نياعاً
17وتموت
دوابكم تحتكم. فوعظهم أبي
فازدادوا عتوّاً ونشوزاً.
قال: فثنى أبي رجله عن
سرجه ثمّ قال لي: مكانك-
يا جعفر- لا تبرح. ثمّ
صعد
الجبل المطلّ على
مدينة مدين، وأهل مدين
ينظرون إليه ما يصنع،
فلمّا صار في أعلاه
استقبل بوجهه المدينة
وحده، ثمّ وضع إصبعيه في
أذنيه ثمّ نادى بأعلى
صوته: وإلى مدين أخاهم
شعيباً- إلى قوله (عزَّ
وجلَّ)-
﴿بَقِيَّةُ اللهِ
خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ نحن
والله: بقيّة الله في
أرضه. فأمر الله (تعالى)
ريحاً سوداء مظلمة، فهبّت
واحتملت صوت أبي فطرحته
في أسماع الرجال والنساء
والصبيان، فما بقي أحد من
الرجال والنساء والصبيان
إلّا صعد السطوح وأبي
مشرف عليهم. وصعد فيمن
صعد شيخ من أهل مدين كبير
السن، فنظر إلى أبي على
الجبل، فنادى بأعلى صوته:
اتقوا الله يا أهل مدين،
فإنّه قد وقف الموقف الذي
وقف فيه شعيبعليه السلام
حين دعا على قومه، فإن
أنتم لم تفتحوا له الباب
ولم تنزلوه، جاءكم من
الله العذاب وأتى عليكم،
وقد أعذر من أنذر. ففزعوا
وفتحوا الباب وأنزلونا.
وكتب العامل بجميع ذلك
إلى هشام فارتحلنا في
اليوم الثاني، فكتب هشام
إلى عامل مدين يأمره بأن
يأخذ الشيخ فيطمره18 ،
فأخذوه فطمروه (رحمة الله
عليه).
"وكتب إلى عامل مدينة
الرسول أن يحتال في سمّ
أبي في طعام أو شراب.. "19.
|