إنّ لبلدة قمّ تاريخاً
عريقاً، ومفاخر كبيرة،
وخدمات جليلة في مجال
العلم والفقه، فقد خرج
منها علماء عظماء،
ومحدّثون كبار، قاموا
بحفظ معالم الدّين،
وأسّسوا مسيرته العلميّة
والفقهيّة وأحكموها.
وتعتبر مدينة قمّ
المقدّسة مركزاً لتحصيل
العلوم الدينيّة منذ
القرن الهجريّ الأوّل
حينما دخلها الأشعريّون
وأقاموا بها. ويبرز بين
الفترة والأخرى منها
علماء عظام وتأسّست فيها
مدارس. ومن هؤلاء
المحدّثين والفقهاء: أبو
جرير، وزكريا بن إدريس،
وزكريا بن آدم، وعيسى بن
عبد الله، وإبراهيم بن
هاشم، وابنه عليّ بن
إبراهيم المحدّث والمفسّر
الكبير، ومحمّد بن الحسن
الصفّار، وعليّ بن
إبراهيم القمّي، والشيخ
الصدوق، والقطب الراونديّ،
والميرزا القمّي. وكان
لإبراهيم بن هاشم الدور
الكبير في نقل العلوم إلى
قمّ، فقد قيل: إنّه أوّل
من نشر أحاديث الكوفيّين
بقمّ، وكان شيخ القمّيين
ووجههم، وقيل:
إنّه لقي الرضا عليه
السلام. وكذا ابنه عليّ
بن إبراهيم القمّي صاحب
التفسير، فإنّه من أجلّ
رواة أصحابنا، ونقل
المشايخ الثلاثة- الصدوق
والكلينيّ والطوسيّ-أكثر
رواياتهم عنه، ونقل هو
الكثير من رواياته عن
أبيه، وكان في عصر الإمام
العسكريّ عليه السلام عليّ
بن بابويه القمّي شيخ
القمّيين في عصره،
وفقيههم ومتقدّمهم وثقتهم،
وبيته في قمّ من أعظم
بيوت الشيعة، قد نبغ منه
جماعة كثيرة من أساطين
العلم، وخرج منه عدّة من
روّاد الفضيلة وحملة
الحديث والفقه، ومنهم
ولده الشيخ
الصدوق، وابنه الآخر
الحسين. ويكفي في تعريفه
ما كتب إليه الإمام
العسكريّ عليه السلام ما
نصّه: "يا شيخي
ومعتمدي وفقيهي"1.
وفي العهد الصفويّ بنيت
فيها مدراس علميّة
متعدّدة وكذلك في زمان
القاجاريّين حيث كان
العالم الكبير الميرزا
القمّي أعلى الله مقامه
أبرز علماء ذلك الزمان.
إلى أن قدم المرحوم الحاج
الشيخ عبد الكريم الحائريّ
في سنة 1340 هجريّة من
مدينة أراك في إيران إلى
مدينة قمّ وأسّس الحوزة
العلميّة وعرف بأنّه
المؤسّس لها في العصر
الأخير2.
ثمّ استمرّ تدفّق العلماء
إليها خصوصاً بعد ضعف
الحوزة العلميّة في النجف
الأشرف بسبب ما طرأ عليها
في العقود المتأخّرة من
أحداث مؤسفة.
يقول الإمام السيّد
عليّ الخامنئيّ دام ظلّه:
"واليوم إنّ مركز المعرفة
للعالم الإسلاميّ هو
مدينة قمّ فقد أضحت قمّ
كما كانت في ذلك العصر
قلباً فعّالاً ونشطاً
يمكنها أن تضخّ المعرفة
والبصيرة واليقظة في كلّ
أرجاء جسد الأمّة
الإسلاميّة. في ذلك
الزمان أصدرت قمّ أوّل
الكتب الفقهيّة وكتب
معارف الشيعة وأتباع أهل
البيت عليهم السلام.
وبواسطة حوزة قمّ أُلّفت
الكتب الأساسيّة التي
يعتمد عليها الفقهاء
والعلماء والمحدّثون مثل
كتاب "نوادر الحكمة"
لمحمّد بن أحمد بن يحيى
وكتاب "بصائر الدرجات"
للصفّار وكتاب "الشرائع"
لعليّ بن
بابويه القمّي وكتاب "المحاسن"
للبرقيّ وكتب أحمد بن
محمّد بن عيسى وعشرات بل
ومئات الكتب الأخرى كلّ
هذه الكتب أُعدّت وأُنتجت
في هذا المركز المعرفيّ.
هنا تربّت وترعرت شخصيّات
كانت عندما تسافر إلى
أقطار العالم الإسلاميّ
تحوّل محافلها إلى محافل
تفيض بالعلم والمعرفة.
كان الشيخ الصدوق رضوان
الله عليه من الجيل
الثالث والرابع لهذه
الحركة العظيمة عندما
سافر إلى بغداد- التي
كانت مركز الشيعة ومركز
الحديث- جلس تحت منبره
العلماء والفضلاء ونهلوا
منه. لهذا كما تلاحظون إنّ
الشيخ الصدوق هو أستاذ
المفيد وشيخه رضوان الله
عليهما.
لهذا أضحت قمّ مركزاً وهي
كذلك اليوم وعلى مرّ
الأزمنة هاجر إلى قمّ
عشرات الآلاف من طلاب
وعاشقي معارف أهل البيت
عليهم السلام تعلّموا
وتلقّوا المعرفة وواجهوا
الكثير من المشاكل بإرادة
صلبة وهم يتطلّعون إلى
الأهداف العليا
والمعنويّة, وتقدّموا على
الطريق غير عابئين
بالصعاب.
لعلّه لا نجد إلّا القليل
من المدن في العالم بل
ربما لا نجد مدينة فيها
هذا العدد الكبير من
الذين يسعون لتحصيل
المعارف الدينيّة
والعرفان والمعنويّات
والسلوك الجماعيّ من
النساء والرجال المشغولين
في السعي والعمل
والمجاهدة المعنويّة
والعلميّة والثقافيّة في
آناء الليل وأطراف النهار.
هذه هي حوزة قمّ اليوم مع
ما تتمتّع به من موقعيّة
عالميّة ممتازة وهذه أيضاً
من سوابق هذه المدينة
التي تأسّست فيها أوّل
حوزة أساسيّة ومهمّة
للتشيّع نهل من نبع فيضها
أعاظم العلماء كالشيخ
الكلينيّ والشيخ الصدوق
وآخرون
حيث كانت آثارهم حافظة
لمعارف أهل البيت عليهم
السلام على امتداد
القرون"3.
ويوجد في الروايات ما
يشير إلى الدور العلميّ
لمدينة قمّ في زمان
الغيبة, وصيرورتها حجّة
على سائر البلاد, فقد روي
عن الصادق عليه السلام
أنّه ذكر الكوفة وقال: "ستخلو
كوفة من المؤمنين ويأزر
عنها العلم كما تأزر
الحيّة في جحرها، ثمّ
يظهر العلم ببلدة يقال
لها قمّ، وتصير معدناً
للعلم والفضل حتّى لا
يبقى في الأرض مستضعف في
الدّين حتّى المخدّرات في
الحجال، وذلك عند قرب
ظهور قائمنا، فيجعل الله
قمّ وأهله قائمين مقام
الحجّة، ولولا ذلك لساخت
الأرض بأهلها ولم يبق في
الأرض حجّة، فيفيض العلم
منه إلى سائر البلاد في
المشرق والمغرب، فيتمّ
حجّة الله على الخلق حتّى
لا يبقى أحد على الأرض لم
يبلغ إليه الدّين والعلم،
ثمّ يظهر القائم عليه
السلام ويصير سبباً لنقمة
الله وسخطه على العباد،
لأنّ الله لا ينتقمّ من
العباد إلّا بعد إنكارهم
حجّة"4.
وعن أبي عبد الله عليه
السلام قال: "إنّ الله
احتجّ بالكوفة على سائر
البلاد وبالمؤمنين من
أهلها على غيرهم من أهل
البلاد واحتجّ ببلدة قمّ
على سائر البلاد، وبأهلها
على جميع أهل المشرق
والمغرب من الجنّ والإنس،
ولم يدع الله قمّ وأهله
مستضعفاً بل وفّقهم
وأيّدهم إلى أن قال:
"..إنّ البلايا مدفوعة عن
قمّ وأهله، وسيأتي زمان
تكون بلدة قمّ وأهلها
حجّة على الخلائق، وذلك
في زمان غيبة قائمنا
عليه السلام إلى ظهوره
ولولا ذلك لساخت الأرض
بأهلها، وإنّ الملائكة
لتدفع البلايا عن قمّ
وأهله، وما قصده جبّار
بسوء إلّا قصمه قاصم
الجبّارين وشغله عنهم
بداهية أو مصيبة أو عدوّ،
وينسي الله الجبّارين في
دولتهم ذكر قمّ وأهله كما
نسوا ذكر الله"5.
|