تقديم

لقد أخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله أبناء أمّته بالكثير من الأحداث التي ستجري عليهم من بعده، وحدَّثهم بالعديد من القضايا الغائبة عنهم والتي كان يعلمها بتعليم من الله تعالى، وهي أمور لها أهميّتها الكبيرة والخطيرة، حيث تتعلّق بمصير هذه الأمة وما ستؤول إليه أحداثها.

ومن بين هذه الاخبارات، ما أطلع الله رسوله صلّى الله عليه وآله في أهل بيته وذريّته من بعده، وما يجري عليهم من أحداث مؤسفة، بالرّغم من الوصيّة بهم في الكتاب الكريم:
﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، وجَعل النبيّ صلّى الله عليه وآله إيّاهم عِدلَ الكتاب والثقلَ الآخر اللذين لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض.

وقد خصَّ صلّى الله عليه وآله أهل بيته عليهم السلام بإخبارهم - بشيءٍ من التفصيل - عما يجري عليهم من بعده من ظلمٍ واضطهادٍ وقتلٍ وتشريد، حتىّ أنّه كان يبكي لهم أحيان، ويحزن لما يحلّ بهم ويجري عليهم، ويدعو على قاتليهم وظالميهم وسالبي حقوقهم.


5


النبيّ يخبر علياً بشهادته:

وأحد هؤلاء الصفوة من أهل بيته هو أمير المؤمنين عليه السلام، فقد جاء عنه صلّى الله عليه وآله أنّه قال لعلي عليه السلام: يا عليّ مَن أشقى الأولين والآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أشقى الأولين عاقر النّاقة، وأشقى الآخرين الذي يطعُنُك يا عليّ، وأشار إلى حيثُ يُطعن1.

وفي آخر خطبته صلّى الله عليه وآله في فضل شهر رمضان، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قام فقال: يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّ وجلّ، ثمّ بكى، فقلت: يا رسول الله ما يُبكيك؟ فقال: يا عليّ أبكي لما يُستحلّ منك في هذا الشهر، كأنّي بك وأنت تصلي لربِّك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك فخضَّب منها لحيتك، قال أمير المؤمنين عليه السلام: فقلت: يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: صلّى الله عليه وآله: في سلامة من دينك2.


6


ما يمنع أشقاها أن يخضبها!:

وقد كان عليه السلام أيضاً كثيراً ما يخطب ويحدّث الناس بما يجري عليه، وسمعه الكثيرون على المنبر وهو يقول: ما يمنع أشقاها أن يخضبها من فوقها بدمٍ، ويضع يده على لحيته3.

ففي بعض خطبه عليه السلام قال: "أمَاَ والله لوددت أنّ ربّي قد أخرجني من بين أظهركم إلى رضوانه، وإنّ المنيّة لترصدني، فما يمنع أشقاها أن يخضبها؟ - وترك يده على رأسه ولحيته - عهد عهده إليَّ النبيّ الأمّي، وقد خاب من افترى، ونجا من اتقى وصدَّق بالحسنى"4.


يعرف قاتله!:

ونقل الرواة والمؤرِّخون عنه أنّه كان يعرف قاتله ابن ملجم، ويحذِّره من عاقبة أمره.

فقد روى الشيخ المفيد أنّ ابن ملجم أتى أمير المؤمنين عليه السلام فبايعه فيمن بايع، ثمّ أدبر عنه، فدعاه أمير


7


المؤمنين عليه السلام فتوثّق منه وتوكّد عليه أن لا يغدر ولا ينكث، ففعل، ثمّ أدبر عنه، فدعاه الثانية فتوثّق منه وتوكّد عليه ألّا يغدر ولا ينكث، ففعل، ثمّ أدبر عنه، فدعاه أمير المؤمنين الثالثة فتوثّق منه وتوكّد عليه أن لا يغدر ولا ينكث، فقال ابن ملجم لعنه الله: والله يا أمير المؤمنين ما رأيتك فعلت هذا بأحدٍ غيري، فقال أمير المؤمنين عليه السلام:

أريد حباءَه ويريد قتلي                عذيرك من خليلك من مراد

امض يا ابن ملجم فَوَالله ما أرى أن تفي بما قلت5.

ولتمضي مقادير الله عزّ وجلّ:

عن الحسن بن الجهم قال: قلت للرضا عليه السلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله، والليلة التي يقتل فيه، والموضع الذي يقتل فيه، وقوله لمّا سمع صياح الإوز في الدار: صوائح تتبعها نوائح، وقول أمّ كلثوم: لو صلّيت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلِّي بالناس، فأبى عليه، وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح، وقد عَرف عليه السلام أنّ ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف، كان هذا مما لم يجز تعرّضه! فقال: ذلك كان، ولكنّه خُيِّرَ في تلك الليلة لتمضي مقادير الله عزّ وجلّ6.

وهكذا... مضت مقادير الله تعالى في وصيّ رسوله صلّى الله عليه وآله، ومضى شهيداً صابراً محتسب، في شهر رمضان، في إحدى ليالي القدر المباركة...


8


وإنَّ من علامة المحبّ لهم عليهم السلام أن يحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم، ويحيي مناسباتهم وأمرَهم فلا يموت قلبه يوم تموت القلوب...


هذا الكتاب:

وحيث احتوى هذا الشهر الكريم على هذه المناسبة الأليمة والفاجعة المحزنة، وكان على المحبّ أن يحييها بإقامة العزاء على سيّد الأوصياء، رأينا من اللازم أن نضع بين يدي الأخوة القرَّاء وخدَّام منبر أهل البيت عليهم السلام، كتاباً يكون معيناً لهم على هذا الأمر، لعلَّنا نكون شركاء لهم في عملهم، ويصلنا بعضٌ من أجرهم...

وقد قمنا بتبويب هذه المجالس بحسب الليالي الثلاث التي جرت العادة على إقامة المجالس فيه، وهي الليلة التاسعة عشر، والليلة العشرون، والليلة الواحدة والعشرون، وخاتمة في بعض المراثي والقصائد التي رثي بها أمير المؤمنين عليه السلام.

وحيث كانت هذه المجالس متزامنة مع ليالي القدر المباركة، فقد ارتأينا وضعها بين يدي الأخوة القراء والخطباء كمتن جاهز صالح لاعتماده في القراءة على نهج قراءة المقتل الحسيني يوم العاشر من المحرّم، ومن هنا لم ندرج ضمن المجلس موضوعاً أو محاضرة معيّنة، وذلك إفساحاً في المجال أمام الأعمال العباديّة الكثيرة الواردة في هذه الليالي.


9


والمرجو من الأخوة القرّاء والخطباء أن يزوّدونا بملاحظاتهم وإرشاداتهم البنّاءة لنصل بهذا العمل إلى مستواه الّلائق به.

هذا.. ونسأله تعالى أن يجعل عملنا نافعاً ومقبول، وأن يجعله خالصاً لوجهه، إنّه سميع مجيب..

معهد سيّد الشهداء عليه السلام

للمنبر الحسيني


10


هوامش

1- ابن سعد: الطبقات الكبرى ج 3 ص 35.
2- الصدوق: الأمالي ص 155.
3- المفيد: الارشاد ج1 ص 13.
4- المصدر السابق ج 1 ص 280.
5- المصدر السابق ج 1 ص 12.
6- الكليني: الكافي ج 1 ص 259.