عملية الاستشهادي أحمد
قصير
رضا وأحمد ساهران طوال
الليل على تركيب العبوة
الضخمة في السيارة التي
سوف يقودها احمد قصير
ويقتحم بها المقر الحاكم
العسكري في بناية عزمي..
وكان الخريف قد اشتدت
عزائمه عواصف مبكرة
وغيوماً تتلبد ولا تمطر.
كان العمل دقيقاً وخطيراً،
وعلى مشارف حقبة تاريخية
فاصلة في صراع أمتنا مع
عدو همجي كإسرائيل.. فقد
كان على وشك فتح مدرسة
الإستشهاد وتطبيق مفاهيم
كانت إلى تلك الساعة ما
تزال في عالم الذهن وفي
الكتب الأخلاقية وفي سيرة
الإمام الحسين عليه
السلام، كحب لقاء الله
وعشق الشهادة وسلوك
طريقها، وما سوف يتركه من
أثر في قلوب الآلاف من
شباب وفتيان هذه الأمة
وأطفالها فيصنع أفواجاً
من الرجال الذين يرون
الشهادة حلماً وأمنية
فيغيرون بدمائهم وأرواحهم
مستقبلها ومصيرها ويهزمون
بأوداجهم فلول إسرائيل
ومدافعها، بينما كانت
الأمة نائمة محبطة في
ظلام الاحتلال وعتمة
اليأس من أن تحقق عليه
نصراً..
كان أحمد يساعد رضا في
نقل العبوات وتوضيبها
وإيصال أسلاكها وخطر على
باله خاطر ضحك له..
فبادره رضا..
- ما بك؟ لماذا تضحك؟
- ثقل لي العبوة تحت
مقعدي…
جلس رضا وكان مستلقياً
على ظهره تحت السيارة..
- لماذا؟
- أريد أن لا أحس بألم
الإنتقال.. أريد أن تكون
شهادتي مريحة.. لطيفة..
بطرفة عين..
دمعت عينا رضا.. وضمه إلى
صدره.. إلا أنهما عادا
وبسرعة إكمال العمل الذي
سوف يكون أقوى ضربة نوعية
توجهها المقاومة
الإسلامية لإسرائيل
وفاتحة عصر الإستشهاد..
في الصباح، وبعد أن صمم
أحمد على أن يكون هو
البادىء وهو الفاتح لعصر
الإستشهاديين، وبعد أن
اكتمل جسم العبوة
وتركيبها في السيارة،
وكان رضا قد قدّر حجم
الأعمدة وقوتها ثم صمم
العبوة بحيث تدمّرها
وتحول بناءً ضخماً من
ثمانية أدوار إلى ركام..
في الصباح وقبل شروق
الشمس فرغ أحمد من صلاة
الصبح وجلس يسبّح تسبيحة
الزهراء ثم تناول القرآن
الكريم وفتحة ورضا ينظر
إليه.. وينتظر كلاماً منه..
- الظاهر أننا لن ننفذ
العملية هذا اليوم…
لم يسقط في يد رضا ولم
يفاجأ، بل سلّم أمره إلى
الله تعالى، وهو الذي
استشاره أحمد بالقرآن..
ومضى ذلك اليوم، ورضا
يتردد على السيارة
المختبئة يتفحصها ويتأكد
من التوصيلات ومن صحة
عمله..
وجاء اليوم الثاني،
والثالث.. وكل صباح بعد
الفجر، يسارع إلى لقاء
أحمد.. اذ ما زال يستخير
الله تعالى على الشروع
وفي كل مرة تكون الآية
غير مريحة فهي إما نهي أو
عذاب أو وعيد.. ولا يتردد
أحمد في تأجيل العمل إلى
الغد.. حتى داخل رضا
وقيادة المقاومة في جبل
عامل شيء في أنفسهم
وتخيلات وأوهام حول نية
أحمد وخشوا أن يكون
متردداً أو خائفاً.
إلى أن جاءت تلك الليلة
الخريفية، فما أن غربت
شمس جبل عامل باكراً بسبب
الغيوم التي تلبدت، وكان
البرق هو الذي يضيء سماءه
بين فينة وأخرى، حتى هطلت
الأمطار بغزارة، واجتاح
المنطقة برد قارص..
وعواصف هوائية عاتية..
وكما كل صباح، بعد الفجر،
وبعد صلاة الصبح، استخار
أحمد على التنفيذ في هذا
اليوم، وإذا بالقرآن
يفاتحه بآيه من آيات
الرحمة والرضوان..
وابتسم أحمد قصير وقبّل
الكتاب العزيز ووضعه على
رأسه ومسح به وجهه.. وكان
المبتسم الثاني هو رضا
حريري، ثم
ثم سرت الابتسامة إلى
بقية الرجال، في قيادة
المقاومة الإسلامية...
لم يتوقف المطر الغزير
حتى الصباح.. ولم يكن
أحمد قصير يعلم بتلك
العلاقة بين تلك الآية
المباركة وبين هذا اليوم
الماطر والعاصف، وسار رضا
أمامه في سيارته يستطلع
له الطريق وقبل مئات
الأمتار ورغم المطر
الغزير وعدم وضوح الرؤية
وكان رضا قد تجاوز مقر
الحاكم العسكري ووصل إلى
البص زاد أحمد قصير من
سرعة سيارته ثم ضغط على
كوابحها عندما وصل إلى
مدخل البناء وانعطف بأقصى
سرعة ممكنة له فصدم ثلاثة
جنود من الحرس وانطلق
بسيارته إلى أسفل البناء
وبين أعمدته المركزية...
ودوّى انفجار، كانت جذوره
في التاريخ، في كربلاء،
وما زال صداه إلى ساعة
كتابة هذه الكلمات، وسوف
يبقى إلى اليوم الذي يأتي
أحمد ربّه بقلبه السليم...
وانهار البناء بكامله على
مئات من الذئاب الصهيونية
المفترسة التي كانت قد
لجأت إليه خلال الليل،
فراراً من المطر والعواصف.
وسددت المقاومة الإسلامية
بأسدها أحمد قصير ضربة
للغول اليهودي وللهمجية
الصهيونية ترنحت لها
إسرائيل وما زالت إلى
اليوم إنذاراً لها بعدم
العودة إلى هذه الأرض
الطاهرة ومدرسة للأجيال..
غيبت قيادة المقاومة رضا
حريري عن أفق النظر بعد
تلك العملية، فغادر قريته
ثانية إلى بيروت حيث مكث
فيها إلى أواسط سنة 1983،
ثم عاد ليكمل المسيرة. |