اليوم السادس

الإيثار

صلّى الله عليك يا مولاي وابن مولاي يا أبا عبد الله، يا غريب كربلاء وسليب العمامة والرداء، يا من دمه غسله والتراب كافور، يا ليتنا كنّا معكم سيّدي فنفوز فوزاً عظيماً.

القصيدة:

عَبَسَتْ وجوهُ القَومِ خَوفَ المَوتِ                 والعبّاسُ فِيهِم ضَاحِكٌ مُتَبَسِّمُ

قَلَبَ اليَمينَ عَلى الشِمَالِ وغَاصَ فِي              الأوسَاطِ يَحصُدُ في الرُؤوسِ وَيَحطِمُ

بَطَلٌ تَوَرَّثَ مِن أبيهِ شَجَاعَةً                       فِيها أُنُوفُ بَنِي الضَلالَةِ تُرغَمُ

صَبَغَ الخُيولَ بِرُمحِهِ حَتَى غَدَتْ                   سَيَّانَ أشقَرَ لَونُها والأدهَمُ

ما كَرَّ غَضبَانَاً على مَلومَةٍ                         لّا وَحَلَّ بِها البَلاءُ المُبرَمُ 

لولا القَضَا لَمَحَا الوجودَ بِسَيفِه                   واللهُ يَقضِي ما يَشاءُ ويَحكُمُ


41


قال تعالى: ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة1.

- معنى الإيثار: معنى الإيثار هو أن تقدّم الآخر على نفسك، فإيثار الشيء تفضيله على غيره. فأنا حينما أريد أن أشرب الماء وأخي المؤمن عطشان أسقيه ثمّ أشرب وهكذا.

مكانة الإيثار:

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الإيثار أعلى الإيمان". وعنه عليه السلام: "الإيثار أشرف الكرم". وقال عليه السلام: " الإيثار أفضل عبادة وأجمل سيادة".

وروي أنّ الله تعالى أوحى لنبيه موسى عليه السلام: "يا موسى، لا يأتيني أحد منهم قد عمل به ( أي بالإيثار) وقتاً من عمره إلّا استحييت من محاسبته وبوأته من جنّتي حيث يشاء".

صفات المؤثرين:

كاملون:
عن الإمام الصادق عليه السلام في وصف الكاملين من المؤمنين:
"هم البررة بالأخوة في حال العسر واليسر، المؤثرون على أنفسهم في


42


حال العسر".

أهل الأعراف: عن الإمام علي عليه السلام: "المؤثرون رجال من الأعراف".

نماذج أهل الإيثار:

أ- الإمام علي عليه السلام: من منّا ينسى أمير المؤمنين الذي آثر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حياته، حينما بات في فراشه دون خوف وتردد، فباهى الله تعالى به الملائكة وأنزل فيه:
﴿ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد 2.

ب- أبو الفضل العباس عليه السلام: حيث آثر الإمام الحسين عليه السلام في شرب الماء.

المجلس:

لمّا وصل إلى الفرات، بعد جهد ومشقّة حيث اعترضه الأعداء بقيادة عمر بن الحجاج الزبيدي(لعنه الله) كانوا على مشرعة الفرات، ليمنعوا وصول الحسين وأصحابه إلى الماء، ولكن العبّاس عليه السلام شقّ الصفوف وأبعدهم عن المشرعة، بعد أن قتل منهم ثمانين رجلاً.


43


وصل العبّاس إلى الماء، فمدّ يده وأخذ غرفةً من الماء وقلبه يلتهب من شدّة العطش، فأدنى الماء من شفتيه، وبمجرد أن أحسّ ببرودة الماء تذكّر عطش الحسين عليه السلام ، والطفل الرضيع، وسكينة الواقفة بانتظاره، والأكباد الحرّة، فرمى الماء من يده، وقال عليه السلام: لا والله لا أذوق بارد الماء وأخي الحسين عطشان، ثمّ ملأ قربته ودموعه تجري، وهو يردّد هذه الأبيات:

يا نفسُ مِن بَعدِ الحُسينِ هُونِي          وَبَعدَهُ لا كُنتِ أنْ تَكونِي

هَذا الحُسينُ وُاردُ المَنونِ                وَتَشرَبينَ بَارِدَ المَعينِ

تاللهِ مَا هَذا شِعارُ دِينِي                   وَلا شِعارُ صَادِقِ اليَقينِ


ثمّ حمل القربة على كتفه وخرج من المشرعة متوجهاً نحو الخيام، وسلك طريق النخيل، حتى يحتمي بها من السهام، لكن عمر ابن سعد انتدب الجيش، وقال لئن وصل الماء إلى الحسين وشرب منه الحسين والعبّاس لا يدعان منكم أحداً، حُولوا بين العبّاس والخيام، فحال الجيش كلّه بين العبّاس و بين الخيام، فصار العبّاس يقاتلهم ويدفعهم عن طريقه، ويشقّ طريقه بصعوبة، ولكن في أثناء الطريق كمن له لعين من وراء نخلة، فلمّا مرّ به العبّاس ضربه بالسيف على يده اليمنى فقطعها، أخذ العبّاس


44


سيفه بشماله وهو يقول:

واللهِ إنْ قَطَعتُمُ يَمينِي        إنّي أُحَامِي أبَداً عن دِينِي

وعن إمامٍ صَادِقِ اليَقينِ      نَجلِ النَبِيّ الطَاهِرِ الأمِينِ


وصار يهرول نحو الخيام، ويسرع في سيره، فكمن له لعين آخر وراء نخلةٍ فضربه على يده اليسرى فقطعها، فسقط السيف من يده، فضمّ القربة إلى صدره وأسرع نحو الخيام، فجاءته السهام من كلّ صوب، حتى صار بدن العبّاس كالقنفذ من كثرة السهام، جاءه سهم وقع في عينه اليمنى، وجاءه سهم نبت في صدره، وكلّ ذلك لا يهمّه ما دامت القربة سالمة، ما دام الماء موجوداً، ولكن لمّا جاء سهم وأصاب القربة فأريق الماء على الأرض، عند ذلك وقف العبّاس متحيّراً لا يدري ما يصنع، كيف يصل إلى المخيّم، بأيّ شيء يصل إلى الخيام والقربة قد أريق ماؤها؟!

بينما هو واقف في حيرته، حيث لا يدين ليقاتل بهما، ولا ماء فيأتي به إلى المخيّم، جاءه لعين وضربه بعامود من حديد على أمّ رأسه، فسقط العبّاس من على ظهر جواده، منادياً: أخي أبا عبد الله أدركني.

وما كانت إلّا ساعة، وإذا بالحسين قد رجع ماشياً على قدميه يقود فرسه


45


وراءه، يكفكف دموعه بطرف كمّه، استقبلته ابنته سكينة: أبا يا حسين، أين عمي العباس؟، فانتحب الحسين باكياً، وقال: بنيّة عظّم الله لك الأجر بعمّك العبّاس، فلقد خلّفته على شاطىء العلقمي مقطوع اليدين مرضوض الجبين، لمّا سمعت زينب صاحت:

 وا أخاه وا عباساه.

عباسُ تَسمَعُ زَينَبَاً تَدعوكَ مَن لِي          يَا حِمَايَ إذَا العِدَى نَهرُونِي

إنّا لله وإنّا إليه راجعون

وسيعلم الذين ظلموا آل محمّد أيّ منقلب ينقلبون

والعاقبة للمتّقين.


46


هوامش

1- الحشر:9
2- البقرة: 207