الفصل الأوّلّ: المنبر الحسيني ومزاياه
المنبر الحسيني ومزاياه

يحتلّ المنبر الحسيني أعلى مراتب التأثير والتوعية في الناس قياساً إلى بقيّة الوسائل المتاحة وذلك لتميّزه عن غيره من وسائل التوعية بمزايا كثيرة أهمّها:

1- يستخدم المنبر الحسيني الأُسلوب الخطابيّ في عرض العقائد والأفكار والآراء، وهذا الأُسلوب يمتاز باستعمال سلاح البيان وأداة الكلام.

ويعتبر حُسن البيان أقوى وسيلة وأمضى سلاح للتأثير في النفوس، وإقناع الجمهور وتثقيف وتوعية المجتمع ورفع مستواهم الفكريّ والثقافيّ، ومن هنا كان الأنبياء والمرسلون عليهم السلام يستخدمون سلاح البيان كوسيلة فعّالة في التبليغ والدعوة إلى الله عزّ وجلّ. قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام :
﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (طه: 43-44)، كما قال تعالى لموسى عليه السلام : ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى


13


* قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي(طه: 24-28).

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إعلم أنّ الله عزّ وجلّ لم يبعث رُسُله حيثُ (حين) بعثها ومعها ذهب ولا فضّة، ولكن بعثها بالكلام، وإنّما عرَّف اللهُ نفسه إلى خلقه بالكلام والدلالات عليه والأَعلام"1.

وعن الإمام الكاظم عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحُججَ بالعقول، ونصر النبي ين بالبيان"2.

فالأنبياء والرُسُل استخدموا وسيلة الكلام والبيان في دعوتهم الناس إلى الله تعالى، وكانوا أعظم الخطباء وأبلغهم، وكان نبيّنا الكريم صلى الله عليه وإله وسلم أخطب الخطباء وأبلغ البلغاء على الإطلاق، فقد أُوتي الحكمة وفصل الخطاب، ولا تزال خطبه العظيمة في شتّى نواحي الحياة والدعوة إلى الله منهلاً يستقي منه الخطباء والبلغاء، ونوراً يهدي السائرين في درب الحقّ، وبعد رسول الله صلى الله عليه وإله وسلم يأتي أهل بيته الأطهار عليهم السلام أئمة الخطباء وأساتذة البلغاء، وفي مقدّمتهم


14


 الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أمير الفصاحة والبيان، وهو القائل: "وإنّا لأُمراء الكلام وفينا تنشَّبت عروقه وعلينا تَهدّلت غصونه"3.

2- إنّ المنبر الحسيني هو اللسان المعبّر عن مبادئ الإمام الحسين عليه السلام والمُدافع عن مواقفه وأهدافه.

فهو يستعرض خلفيّات الثورة الحسينيّ ة ودوافعها وأهدافها، كما يستقرئ معطياتها ونتائجها وتداعياتها، ويستجلي المواقف البطوليّة الواعية التي قام بها سيّد الشهداء عليه السلام وأهل بيته وأنصاره في الدفاع عن الحقّ والوقوف في وجه الباطل.

3- يُكلّم خطيبُ المنبر الحسيني الجماهيرَ بصورة حيّة، ويخاطبها بشكل مباشر وجهاً لوجه، وهما يتفاعلان معاً. والكلام المباشر له تأثير عظيم في نفوس المستمعين؛ إذ تتلاقى بين الخطيب والمستمعين الأنفاس والنظرات والقلوب. وقد ثبت بالتجربة أنّ المستمعين يفضّلون الاستماع إلى الخطيب مباشرة مع النظر إلى وجهه وحركاته.

فهو بذلك يليّن القلوب ويرقّقها عند الموعظة، ويثير حميّة الجماهير عند الحاجة.


15


فكم من عاصٍ تراجع عن غيّه من ذنبه ورجع إلى طاعة ربّه عند سماعه موعظة من خطيب حسيني ! وكم من شخص جاد بالمال عندما استعرض الخطيب مضرّات وعقاب البخل، وفوائد وثواب السخاء والإنفاق! وكم من إنسانٍ اعترته الشبهات حول قضايا الدّين، فتبدّدت شبهاته بفضل استماعه إلى حديث من خطيب حسينيّ! وكم من جاهل لم يرجع في معرفة أحكام دينه إلى مرجع دينيّ ولكنّه بفضل حضوره في مجلس الحسين عليه السلام واستماعه إلى محاضرة عن ضرورة تقليد العاميّ للمجتهد، قام بتقليد فقيه جامعٍ للشرائط وسار وفق فتاواه، فنجا من الهلكة! وكم من شابّ خامل، دفعته كلمات خطيب حسينيّ إلى ساحات الجهاد!.

4- يمتاز المنبر الحسيني بأُسلوب خاصّ، فالخطبة الحسيني ة تحتوي على مزيج من العلوم والمعارف المتنوّعة: التفسير، الحديث، الفقه، الكلام، الأخلاق، التاريخ، الأدب، القصّة، النادرة، النكتة، كما تشتمل على فكرة وعاطفة وعظة وعبرة.

كما ويعتمد المنبرُ الحسيني بالدرجة الأُولى على علم وفكر أهل البيت عليهم السلام في فهم المصدرين الرئيسيّين للمعارف الدّينيّة الإسلامي ة، وهما القرآن الكريم وسنّة الرسول صلى الله عليه وإله وسلم ، وذلك لأسباب أبرزها:


16


أ- لأنّ أهل البيت عليهم السلام أعلم الناس بكتاب الله تعالى: تنزيله وتأويله، محكمه ومتشابهه، مطلقه ومقيّده، عامّه وخاصّه، ناسخه ومنسوخه، وكذلك بالنسبة إلى سنّة الرسول صلى الله عليه وإله وسلم. روى الشيخ الكلينيّ بإسناده عن الصيرفيّ، قال: سمعتُ أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: "إنَّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتاباً إملاء رسول الله وخطّ عليّ، صحيفة فيها كلّ حلال وحرام"4.

لهذا لا يمكن للمنبر أن يكون متنوّعاً إلّا إذا اعتمد على أحاديثهم، فإنّك تجد ضالّتك في كلامهم عليهم السلام إن في السياسة، أو الفقه، أو العقائد، أو الأخلاق، أو الاقتصاد، أو التاريخ....

قال الشيخ كاظم الأُزريّ في حقّهم:

كَمْ لَهُمْ أَلسُنٌ عَن الله تُنْبي              هيَ أَقْلامُ حكْمَةٍ قَدْ بَرَاهَا
وَهُمُ الأَعْيُنُ الصَّحيحَاتُ تَهْدي         كُلَّ نَفْسٍ مَكْفُوفَةٍ عَيْناهَا
عُلَمَاءٌ أَئمَّةٌ حُكَمَاءٌ                     يَهتَدي النَّجْمُ باتّباع هُدَاهَا
قَادَةٌ علْمُهُمْ وَرَأْيُ حجَاهُمْ             مَسْمَعا كُلّ حكْمَةٍ مَنْظَرَاهَا


17


وَرِثُوا منْ مُحَمَّدٍ سَبْقَ أُولَا            ها وَحَازُوا مَا لَمْ تَحُزْ أُخْرَاهَا
مَنْ يُبَاريهمُ وَفي الشَّمْس مَعْنىً        مُجْهدٌ مُتْعبٌ لمَنْ بَارَاهَا5


ب ولأنّ الرسول صلى الله عليه وإله وسلم قال فيهم كما في رواية ابن حجر الهيثميّ عن أحمد بسنده عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وإله وسلم : "إنّي أوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله عزّ وجلّ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا ب مَ تخلفوني فيهما؟"6. وأضاف ابن حجر: وفي رواية صحيحة: "إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن تبعتموهما وهُما: كتاب الله وأهل بيتي عترتي". ثمّ قال: زاد الطبرانيّ: "إنّي سألتُ ذلك لهما، فلا تَقَدَّموهما فتهلكوا، ولا تُقَصّروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم"7.

لذا يتحدّث المنبر الحسيني عن فضائل ومناقب النبيّ الكريم صلى الله عليه وإله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ، ومكانتهم في الدّين، وما ورد في حقّهم،


18


 ووجوب مودّتهم وطاعتهم والتمسّك بهم؛ وذلك لتعريف المسلمين بمقامهم ومنزلتهم، ولتثبيت نهجهم في المجتمع الإسلاميّ.

ويعرج بعد ذلك على ذكر المآسي والمصائب التي وردت على آل الرسول صلى الله عليه وإله وسلم في يوم عاشوراء وفي أيام السبي والأسر، ويعمّق ذلك في النفوس بالشعر الرثائي الحزين المهيّج للعواطف والمثير للمشاعر مستخدماً فنّ الخطابة، ومستعيناً بالألحان المشجية، والكلمات المحزنة، والإيقاعات المؤثّرة، فيرقّق القلوب ويستدرّ الدموع جمعاً بين الفكر والعاطفة.

ولم يحصر المنبرُ الحسيني حديثَه في الإمام الحسين عليه السلام وثورته المباركة، بل استوعب حياة جميع أهل البيت عليهم السلام ، فهو يعكس موقفهم من القضايا المختلفة، ويسلّط الأضواء عليها، ويبيّن مذهبهم عليهم السلام في المواقف السياسيّة والاجتماعيّة والعقائديّة، ويقوم بتوعية الجماهير في هذه المجالات وغيرها.


19


هوامش

1- روضة الكافي، 130.
2- أصول الكافي، 1:10، الحديث 12.
3- نهج البلاغة، الخطبة 233.
4- الفصول المهمّة في أصول الأئمّة ج1 ص480.
5- الأزريّة ص34.
6- مسند أحمد، مجلّد 4:48، الحديث 11148.
7- الصواعق المحرقة: 148.