الفصل الثاني: مآتم العزاء عبر التاريخ

تنقسم المآتم الجماعيّة إلى قسمين: المآتم التلقائيّة العفويّة والمآتم المعدّ لها المنصوبة.

المآتم المنصوبة:

ولهذه المآتم شواهد كثيرة في التاريخ نذكر منها عدّة أمثلة:

1- إذا استقرأنا التاريخ نجد أن كربلا قد شهدت المأتم الأوّل للإمام الحسين بعد استشهاده عليه السلام أقامته الحوراء زينب عليها السلام وبنات الرسالة من العلويات ونساء الأصحاب، وبحسب التقدير أنّ هذا المأتم المهيب نُصب حول جسد الإمام الحسين عليه السلام ، وكان مأتماً جماعيّاً بامتياز، ولم يكن تلقائيّاً أو عفويّاً وإنّما كان مأتماً منصوباً معدّاً له.

2- المأتم الثاني الجماعيّ شهدته قاعات قصر الخضراء في الشام، لمّا رأت هند زوجة يزيد (لع) الرأس الشريف مصلوباً على باب دارها، والأنوار العلويّة تتصاعد إلى عنان السماء، وشاهدت الدم يتقاطر، ويُشم منه رائحة طيبة، (كما يقول


23


 المقريزيّ في الخطط) عند ذلك عظم مصابه في قلبها، فلم تتماسك دون أن دخلت على يزيد مجلسه مهتوكة الحجاب وهي تصيح: رأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وإله وسلم مصلوب على دارنا، (وكما يقول الطبري ) قام إليها وغطّاها، وقال لها: اعولي على الحسين، فإنّه صريخة بني هاشم، عجّل عليه ابن زياد1. فنصب المجلس.

ويذكر بعض المؤرّخين أنّ النساء الأمويّات شاركن فيه. وبعبارة أخرى تداعين إلى القصر الأمويّ فأقمن مجلساً للبكاء على أبي عبد الله عليه السلام ، وجليّ أنّ هذا المأتم لم يكن عفويّاً وتلقائيّاً بل أُعدّ له إعداداً.

3- في مدينة رسول الله صلى الله عليه وإله وسلم.

وذلك لمّا أنفذ يزيد بن معاوية عبد الملك بن أبي الحارث السلميّ إلى المدينة، يحمل إلى عامله عليها عمرو بن سعيد بن العاص نبأ قتل الحسين عليه السلام ، قال عبد الملك: "لمّا دخلت على عمرو بن سعيد قال: ما وراءك؟ قلت: ما يسرّ الأمير، قتل الحسين بن عليّ؛ فقال: أخرج فناد بقتله.


24



فناديت، فلم أسمع قطّ واعية مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن علي عليه السلام ، حين سمعوا النداء بقتله".

وبهذا أقيمت مآتم جماعيّة في منازل الهاشميّين، وفي الشوارع، والساحات العامّة كما توحي بذلك بعض الروايات.

وبلغت ذروة هذه المآتم عندما وصل الركب الحسيني إلى المدينة. وقد حفظ لنا التاريخ مأتم عبد الله بن جعفر كما ينصّ الطبريّ، وكذلك مجالس السيّدة أمّ البنين عليها السلام في البقيع، ولكن أهمّ المآتم الجماعيّة التي نصبت في المدينة، هي التي نصبتها السيّدة زينب عليها السلام فأعدّت لذلك العدّة ومنعت أحداً أن يدخل عليها الدار للمشاركة بهذا المأتم إلّا من فقدت عزيزاً، وقيل: إنّ أمّ البنين دخلت عليها وشاركتها في المأتم.

وقد أدّى هذا المأتم وما ولّده من ردود فعلٍ ضدّ الأمويّين في المدينة، حافزاً لعامل المدينة عمرو بن سعيد الأشدق إلى أن يكتب إلى يزيد بن معاوية ما هذا نصّه:

"إنّ وجود زينب بين أهل المدينة، مهيّج للخواطر، وإنّها فصيحة، عاقلة، لبيبة، وقد عزمت هي ومن معها على القيام للأخذ بثأر الحسين".


25


المآتم التلقائيّة:

هذه المآتم عفويّة ولم يكن مُعدّاً لها مسبقاً وهي كانت تحصل عند مرور قافلة السبايا والرؤوس في المدن والتجمّعات السكانيّة في طريقها، وأهمّها مأتمان:

1- في الكوفة حين وصلت قافلة السبايا خرجت الجماهير لاستقبالها, وتوالى على الخطابة كلّ من الإمام زين العابدين عليه السلام والسيّدة زينب والسيّدة أمّ كلثوم والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام ، ويصف لنا التاريخ حالة الكوفيّين بقوله: "وضجّ الناس بالبكاء والعويل ونشر النساء شعورهنّ ووضعن التراب على رؤوسهنّ وخمشن الوجوه ولطمن الخدود ودعون بالويل والثبور وبكى الرجال فلم يُر باكٍ وباكية أكثر من ذلك اليوم"2.

2- في المدينة لمّا أمر الإمام زين العابدين عليه السلام بشير [بشر] بن حذلم أن يدخل المدينة وينعى الحسين عليه السلام وبعد أن أنشد فيهم:


26


يَا أَهْلَ يَثْربَ لَا مُقامَ لَكُمْ بهَا          قُتلَ الحُسَيْنُ فَأَدْمُعي مدْرَارُ
أَلْجسْمُ منْهُ بكَرْبَلَاءَ مُضَرَّجٌ          وَالرَّأْسُ منْهُ عَلَى القَنَاة يُدَارُ

قال بشير [بشر] بن حذلم: فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلّا برزن من خدورهنّ وهنّ يدعين بالويل والثبور ولم يبق في المدينة أحد إلّا خرج وهم يضجّون بالبكاء. وهكذا تحوّلت المدينة كلّها بعد وصول موكب السبايا عليهم السلام إليها من كربلاء إلى مأتم كبير.

إنّ هذه المآتم الجماعيّة سواء المنصوب منها أو التلقائيّ حيث التجمّعات التي أدّى إليها الانفعال العفويّ بالمأساة ممّا لا شكّ فيه شكّلت النواة التي بزغ منها المأتم الحسيني ، وفيما بعد، فإنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام هم الذين دفعوا بهذه التجمّعات إلى أن تأخذ هذا الاتّجاه المنظّم، بحيث تحوّل المأتم الحسيني إلى مؤسّسة ثقافيّة كبرى لها أعرافها وتقاليدها، وأوّل من أطلق هذا التوجيه بعد واقعة الطفّ هو الإمام السجّاد عليه السلام ، كما ورد في كامل الزيارات قوله عليه السلام : "أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين دمعةً حتى تسيل على خدّه بوّأه الله بها في الجنّة غرفاً يسكنها


27


 أحقاباً، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خدّه فينا لأذىً مسّنا من عدونا في الدنيا بوّأه الله بها في الجنّة مُبَوَّأ صدق"3.

فالإمام عليه السلام أوجد بهذا التوجيه الأرضيّة المتماسكة لانطلاق المآتم، واستمرارها في التحفيز على الاجتماع الدائم لأجل البكاء، وقد ورد عن حفيده الإمام الباقر عليه السلام توجيهاً عامّاً يكرّس فيه التجمّع العامّ، والتذاكر في أمر أهل البيت عليهم السلام بدون تحديد زمان أو مكان حيث قال عليه السلام : "رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكروا في أمرنا فإنّ ثالثهما ملك يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلّا باهى الله بهما الملائكة. فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذّكر فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا"4.

وهذا النصّ يدلّ أنّ المأتم الحسيني في عهد الإمام الباقر عليه السلام بدأ يأخذ شكل المجلس الهادف، الذي لا يخضع نشاطه لتحديد زمنيّ معين وإنّما ينتشر في الزمان والمكان بحيث لم يأت عهد الإمام الصادق عليه السلام إلّا وقد غدا التجمّع المخصّص لذكر أهل


28


 البيت عليهم السلام وخصوصاً الإمام الحسين عليه السلام أمراً مألوفاً في أوساط الشيعة.

ومن هنا رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله للفضيل بن يسار:

"يا فضيل! تجلسون وتتحدّثون؟ قال: نعم، جعلت فداك.

قال عليه السلام :"يا فضيل هذه المجالس أحبّها. فأحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا"5.

ولا يخفى أنّ عصر الإمام الصادق عليه السلام ، خصوصاً نهاية الدولة الأمويّة، وبداية الدولة العباسي ة، شهد فترة غنيّة بالنشاط والحريّة وكثرة التجمّعات للشيعة ممّا ساعدهم على تطوير نشاطاتهم الثقافيّة وفي مقدّمتها المأتم الحسيني.

وإن شهد هذا التطوّر خمولاً في فترات لاحقة بحسب الظروف السياسيّة، ثمّ شهد المأتم الحسيني تطوّراً شكليّاً آخر عندما غدا له وقت ثابت، فبعد أن كان يوم العاشر (يوم الواقعة) هو الموعد الزمنيّ غدت في تلك الفترة أيام محرّم الحرام من اليوم الأوّل إلى اليوم العاشر هي الموعد الزمنيّ، وهذا يعني أنّ المساحة الزمنيّة لأعمال المأتم ومظاهر الحزن قد اتسعت عمّا كانت عليه


29


 لتصل إلى الأيّام الأخرى التي وردت النصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بزيارة الإمام الحسين عليه السلام فيها، مثلاً: يوم عرفة، ليلة الفطر، أوّل يوم من شهر رجب ومناسبات أخرى، فإنّ هذه الأيّام كانت مناسبات جامعة للمآتم الحسيني ة إلى جانب كونها مواسم للزيارة، ولم يكن هذا الأمر محصوراً عند مرقد أبي عبد الله الحسين عليه السلام بل كان يتعدّى ذلك إلى دُور الشيعة القريبة والبعيدة عن المشهد المقدّس وفي أصقاع الأرض.

إلّا أنّ النياحة بما فيها المآتم الحسينية تطوّرت أيضاً في أيّام الدولة العباسية، وخصوصاً في زمن البويهيّين الذين دامت دولتهم 133 سنة في أواسط الحكم العباسيّ في العراق، إذ أنّ السلطة الفعليّة سقطت من يد العباسيّين إلى يد البويهيّين. والبويهيّون هم أوّل من أخرج هذه المآتم إلى الأسواق والمتاجر ووسّعوها. وأوّل من أحدث المواكب العزائيّة في ذلك العصر معزّ الدولة البويهيّ، واستمرّ إلى عهد السلاجقة، وكان أوّل مأتمٍ مركزيّ أقيم في بغداد بأمر معزّ الدولة.

كلّ هذا كان على مستوى شكل المأتم الحسيني وتطوّره.


30


مراحل تطوّر مضمون المآتم الحسينيّة:

فقد مرّت المآتم الحسيني ة بعدّة مراحل نذكر أهمّها:

المرحلة الأولى:

فنقول: كانت المآتم في البداية عبارة عن شعر رثائيّ يقوم بإنشائه وإنشاده أحد الشعراء.

وقد لخّص لنا الإمام الصادق عليه السلام طرق إحياء الذكرى والمضمون الذي يحمله المأتم الحسيني كما ورد في كامل الزيارات عن عبد الله بن حمّاد البصريّ متحدّثاً عن قبر سيّد الشهداء الحسين عليه السلام ، حيث قال له الإمام الصادق عليه السلام : "بلغني أنّ قوماً يأتونه (أي قبر الإمام الحسين عليه السلام ) من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ونساء يندبنه وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قارئ يقرأ وقاصٍّ يقصّ ونادب يندب، وقائل يقول (المراثي)"6.؟!

إذاً هناك من يقرأ الشعر الرثائيّ وهناك من يندب، ولا يخفى أنّ معنى الندب هو البكاء على الميت مع تعداد محاسنه كما في أقرب


31


الموارد، بالإضافة إلى هؤلاء المنشدين للشعر، وجد فريق آخر من رجال المآتم الحسيني ة في ذلك العصر، وهم القصّاصون الذين يقصّون سيرة أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، ويذكرون ما جرى عليه و على أهل بيته عليهم السلام من البداية إلى النهاية، وما يتعارف عليه اليوم بـ "المقتل".

واللّافت أنّ كلّ فئة من هؤلاء الذين ذكرهم النصّ كان يختصّ بعمله، بحيث أنّ الشاعر كان يقتصر على الشعر، والنادب على الندب، والقاصّ على ذكر السيرة والمقتل، والراثي يردّد المرثيّات الشعريّة، وفيما بعد، اجتمعت هذه الأدوار كلّها في شخص واحد وهو الخطيب الحسيني ، ولدينا هناك نصّان وردا عن الأئمة عليهم السلام يظهران لنا بوضوح كيفيّة تتطوّر قراءة العزاء في المآتم الحسينية.

الأوّل: ما جرى مع أبي هارون المكفوف الذي كان شاعراً بارعاً رقيق الشعر مختصّاً بأبي عبد الله عليه السلام ، يدخل عليه فيقرأ عليه شعره فيبكي ويبكي من خلف الستر أهلُ بيته الأطهار عليهم السلام.

روى ابن بابويه في ثواب الأعمال بسنده عن صالح بن عقبة، عن أبي هارون المكفوف، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام : "يا أبا


32


 هارون أنشدني في الحسين عليه السلام "، قال: فأنشدته فبكى، فقال: "أنشدني كما تنشدون" يعني بالرقّة قال: فأنشدته:

أُمْرُرْ عَلَى جَدَث الحُسَيْـ            ـن وَقُلْ لأَعْظُمه الزَّكيَّهْ

قال: فبكى، ثمّ قال: "زدني"، قال: فأنشدته القصيدة الأُخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر، قال: فلمّا فرغت قال لي: "يا أبا هارون، مَن أنشد في الحسين عليه السلام شعراً فبكى وأبكى عشرة كُتبت لهم الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خمسة كتبت لهم الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كتبت لهما الجنّة، ومن ذُكر الحسين عنده فخرج من عينيه من الدموع مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله عزَّ وجلَّ، ولم يرض له بدون الجنّة"7.

الثاني: وروى ابن قولويه في كامل الزيارات بسنده عن صالح بن عقبة عن أبي هارون المكفوف، قال: "دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال لي: أنشدني "أي في الحسين عليه السلام "، فأنشدته، فقال: "لا، كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره"، -أي وبالرقّة-، قال: فأنشدته:


33


أُمْرُرْ عَلَى جَدَث الحُسَيْـ              ـن وَقُلْ لأَعْظُمه الزَّكيَّهْ

قال: فلمّا بكى أمسكت أنا، فقال: مُر، فمررت، قال أبو هارون: ثمّ قال عليه السلام : "زدني زدني"، قال: فأنشدته:

يا مَرْيَمٌ قُومي انْدُبي مَوْلاك        وَعَلَى الحُسَيْن فَأَسْعدي ببُكَاك

قال: فبكى وتهايج النساء، قال: فلمّا أن سكتن قال لي: "يا أبا هارون، مَن أنشد في الحسين عليه السلام فأبكى عشرة فله الجنّة"، ثمّ جعل ينقص واحداً واحداً حتّى بلغ الواحد، فقال: "مَن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنّة"، ثمّ قال: "من ذكره فبكى فله الجنّة".

أقول: نفس تأكيد الإمام عليه السلام على أبي هارون وحثّه على ترقيق الصوت عند إنشاد الشعر الحسيني وقراءته باللّحن المؤثّر لا بالتلاوة؛ فهذا يعتبر تطوّراً.

كما نلحظ هذا التطوّر النوعيّ في زمن الإمام الصادق عليه السلام للقراءة في المآتم الحسينيّ ة، بحيث صار الشعر يُنشد بطريقة خاصّة فيها مؤثّرات صوتيّة تخدم هدف البكاء الذي هو من أهداف المأتم الحسينيّ ، وكذلك في زمن الإمام الرضا عليه السلام حيثُ القصيدة


34


 المعروفة لدعبل الخزاعيّ، وهذان الزمانان من أفضل الفترات التي أنعشت المآتم الحسينية.

ويمكننا أن نعتبر هذه المرحلة من يوم سقوط شهيد الطفّ عليه السلام إلى عصر الغيبة الصغرى هي المرحلة الأولى من عمر المأتم الحسيني وتطوّره.

المرحلة الثانية

بدأت مع ظهور الدول الشيعي ة حيث سيطر آل بويه على مقاليد الأمور في بغداد سنة (334 هجريّة)، وسيطر الفاطميّون على القاهرة سنة (362 هجريّة)، فيما سيطر الحمدانيّون على حلب وأماكن أخرى سنة (333 هجريّة).
لذا فإنّ بروز هذه الدول الشيعية الثلاث قد أسهم في توسيع دائرة المأتم الحسيني ، إن على مستوى الشكل، أو المضمون كما ألمحنا إلى ذلك، ولكن بعد نهاية الحكم الفاطميّ بمصر (567 هجريّة)، لم نجد أثراً لهذه المآتم التي كانت منتشرة في البلاد المصريّة آنذاك إلى حدّ أنّ المرأة العجوز تقف على باب المسجد العتيق وتنشد على الإمام الحسين عليه السلام قصائد رثائيّة، ويبدو أنّ الأيوبيّين الذين حكموا مصر بعد ذلك واجهوا تلك المآتم وقمعوها.


35


بينما في بغداد استمرّت إقامة المآتم حتّى مع زوال حكم البويهيّين (447 هجريّة) الذين تركوا بصماتهم على المأتم الحسيني ، وأمّا الحمدانيّون الذين لم يتسنّ لهم الحكم طويلاً (333 إلى 394 هجريّة) ظلّت المآتم مستمرّة بعد زوال ملكهم لا أقلّ في أطراف مدينة حلب الحاليّة.

المرحلة الثالثة:

من أبرز مظاهر هذه المرحلة بروز دولة شيعيّة وهي الدولة الصفويّة في إيران، والتي امتدّ نفوذها ليشمل العراق، بالخصوص المراقد المقدّسة فيه، والتي تجلّت فيها المآتم أكثر من غيرها في زمن الصفويّين الذين أعلنوا المذهب الشيعيّ مذهباً رسميّاً للبلاد، وكان اهتمامهم بالتشيّع بالغاً بحيث أنفقوا أموالاً ضخمة على عمارة المراقد المقدّسة للأئمّة عليهم السلام ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد شجّعوا إحياء المراسم الدينيّة بالأخصّ الحسينيّ ة، واستمرّت تلك الفترة (914 إلى 1114 هجريّة) وفي هذه المرحلة ألّف المولى حسين بن علي الكاشفيّ المتوفّى سنة (910 هجريّة) كتاب روضة الشهداء، وهو يحتوي على عشرة أبواب وخاتمة يذكر فيه المؤلّف فضائل أهل البيت عليهم السلام وأموراً أخلاقيّة مطعّمة بشواهد أدبيّة، ثم


36


 يعرّج فيها على المصيبة الحسينيّ ة، وهو أوّل مقتل فارسي شاعت قراءته بين الفرس حتّى عُرف قاريه بـ"روضه خوان" - أي قارئ الروضة- فكان الكتاب مادّة معتمدة للخطباء الإيرانيّين.

المرحلة الرابعة:

هذه المرحلة واكبت بدايات القرن العشرين، وفيها لمع خطباء مبرّزون، أعطوا المأتم الحسيني حقّه، وكان ذلك في خضمّ الهجمة الشرسة التي واجهت المسلمين، من أفكار مسمومة، تتحدّى العقيدة، وكان المأتم الحسيني من أبرز وسائل الدفاع والذود عن الدّين، فلم يعد المأتم الحسيني عبارة عن سرد قصّة كربلاء مع ذكر الرثاء فقط، ولم يعد المأتم يعقد لذكر الفضائل والأخلاق فقط، بل قفز قفزات نوعيّة حينها، ومن أبرزها اعتناء بعض خطباء تلك الحقبة بمناقشة الأفكار الوافدة، وردّ الشبهات التي كانوا يلصقونها بالإسلام.

فالمآتم شهدت تطوّراً على صعيد المضمون في نوعيّة الموضوعات، والأبحاث التي يطرحها الخطيب وتطوّراً على صعيد الأطوار والمصيبة، بحيث في هذه المرحلة تكرّست فكرة


37


"الگوريز"8 والربط بين الموضوع والمصيبة، بحيث يقوم الخطيب في آخر المحاضرة بإعداد نفوس المستمعين للانتقال بهم إلى مصيبة الإمام الحسين عليه السلام بطريقة انسيابيّة وبدون قفزة، أو طفرة مفاجئة في تسلسل الحديث وله عدّة تسميات الربط التخلّص النقلة التعريج "الگوريز" وهي كلمة فارسيّة (گريز زدن) معناها الخروج عن الموضوع.

وينقل الخطيب جواد شبّر في "أدب الطفّ" كلمة للإمام المصلح الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، يترجم فيها للخطيب كاظم سبتيّ، يقول فيها: وكان المنبريّون قبله لا يحسنون أكثر من أن يتناول الواحد منهم كتاب روضة الشهداء ويقرأه نصّاً، ثمّ تطورت إلى حفظ ذلك الكتاب، ورواية ما فيه فقط.

وُيشهَد للخطيب كاظم سبتيّ ليس فقط بالگوريز، بل بالأبحاث والموضوعات، فيقول عنه كاشف الغطاء في نفس


38


 المصدر: فساعدته لياقته، وحسن نبراته، على تعاهد الخطابة، وارتقاء الأعواد، وكان المنبريّ ذلك اليوم لا يتعدّى غير رواية قصّة الإمام الحسين عليه السلام ومقتله يوم عاشوراء، وإذا بهذا المتكلّم، يروي خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن ظهر غيب، فعجب الناس واعتبروه فتحاً كبيراً في عالم الخطابة. وكانت وفاته سنة (1340هجريّة).

وهكذا تألّق في هذه المرحلة مجموعة من الخطباء وكانوا علماء بحقّ، أمثال السيّد صالح الحليّ، الذي كان من المجتهدين، فأثرى المأتم الحسيني بسعة اطلاعه، وإحاطته بفنون الأدب، والثقافة، فكان قبلة الجماهير، ومقصد رواد المآتم الحسينية، حتّى قال عنه السيّد محسن الأمين: هو أحسن خطيب عرفته المنابر الحسيني ة. وكانت وفاته (1359 هجريّة).

وكذلك حظيت المآتم الحسيني ة بخطيب مفوّه، وشاعر رفيع، وعالم نحرير، فكان شيخ الخطباء، وأحد أمراء الكلام، والشعر، والخطابة، والتحقيق، فكان مجلسه معهداً علميّاً متنقلاً، وهو الشيخ محمّد علي اليعقوبيّ, وكانت وفاته سنة (1385 هجريّة).

وأبرز خطيب في عصرنا، نختم به هذه المرحلة هو الشيخ الدكتور


39


 أحمد الوائلي رحمه الله وهو غني عن التعريف، فإنّ مؤسسة المأتم الحسيني تشهد له بأنّه أمير المنابر وكانت ولادته (1346هـ ووفاته 1424هـ).

ولا يخفى أنّ تطوير المأتم الحسيني لم يحدث طفرة، إنّما نتيجة تراكمات كلّ من أضاف شيئاً خلاقاً، حتّى وصل اليوم إلى ما وصلنا إليه.


40


هوامش

1- المقتل للخوارزميّ، ج2، ص74.
2- لواعج الأشجان ص205.
3- وسائل الشيعة، ج10، ص393، حديث (3).
4- أمالي الطوسي 1:228، وبشارة المصطفى: 110.
5- قرب الإسناد: 36.
6- كامل الزيارات، 539، الباب 108، الحديث 1.
7- ثواب الأعمال للصدوق: 111، وكامل الزيارات: 208، الباب 33، الحديث 1.
8- يمكن أن يقال: إنّ أوّل من وضع أساسها الشيخ جعفر التستريّ(ره) توفّي عام (1303 هـ) والذي كان من أعاظم العلماء في عصره، وكتبه تشهد على ذلك، فمنها كتابه مجالس الوعظ والبكاء في أيّام عاشوراء وهو عبارة عن مجالس ألقاها الشيخ في أيّام محرّم عام(1298هـ) في العراق، حيث استخدم فيها النقلة والربط بشكل مكثّف. وكذلك كتابه الخصائص الحسينيّة الذي ذاع صيته بحيث لا يستغني عنه خطيب حسينيّ إلى يومنا هذا.