في هذا الفصل تتعرّف
على المخاطب:
بالنظر إلى الخطاب.
بالنظر إلى الخطيب.
بالنظر إلى أسلوب الإلقاء.
الدرس الحادي عشر:
الجمهور
الجمهور هو المستمع
الأساسيّ الذي يتوجّه
إليه الخطيب بكلامه في كلّ
أنواع الخطب ليقنعه بما
يريد، وينقل إليه أفكاره
وتصوّراته. فهو المقصود
بالوعظ فيريده الخطيب أن
يتّعظ، وهو المراد
بالتحميس فيريده أن
يستبسل، وهو المعني في
إلقاء الخطب العلميّة
فيريده الخطيب أن يتعلّم
وتزداد معرفته وهكذا.
ويبحث في الجمهور من جهات
ثلاثة:
الجهة الأوّلى: الجمهور
بالنظر إلى الخطاب.
الجهة الثانية: الجمهور
بالنظر إلى الخطيب.
الجهة الثالثة: الجمهور
بالنظر إلى أسلوب الإلقاء.
الجهة الأوّلى:
الجمهور بالنظر إلى
الخطاب.
ينقسم الجمهور بالنسبة
لما يقوله الخطيب إلى
ثلاثة أنواع:
1 - عاميّ: ونريد منه من
لا حظَّ له من العلم إلّا
ما قلّ وندر.
2 - مثقّف أو متعلّم:
ونعني به من تعلّم إلى
مرحلة لا تجعل منه عالماً
كما هو شأن طلاب الجامعات
وطلبة الحوزات.
3 - عالم: وهو من استنار
بنور الهدى وعكف على
الكتب دراسة وفهماً حتى
صار له رأي صائب واطلاع
واسع.
الجمهور العامّي:
غالباً ما يكون الجمهور
العامّي غير منطقي، فلا
يقبل الأمور البرهانيّة
المعقّدة ولو كانت على حقّ
وصدق وأفادت اليقين.
فيرفضها لا لأنّها على حقّ
وإنّما لتعقيدها. ولذا
يحبّ هذا الجمهور الكلام
السهل، المبسّط الذي
يتناسب مع مستواه وقدرته
على الفهم.
يقول الشيخ المظفّر: "فالجمهور
لا يخضع للبرهان ولا يقنع
به كما لا يخضع للطرق
الجدليّة لأنّ الجمهور
تتحكّم به العاطفة أكثر
من التعقّل بل ليس له
الصبر على التأمّل
والتفكّر ومحاكمة الأدلّة
والبراهين. وإنّما هو
غالباً سطحيّ التفكير
فاقد للتمييز الدقيق،
تؤثّر فيه المغريات
وتبهره العبارات البرّاقة
وتقنعه الظواهر الخلّابة.
ولعدم صبره على التمييز
الدقيق نجده إذا عرضت له
فكرة لا يمكنه التفكيك
بين صحيحها وفاسدها
يقبلها كلّها بما فيها من
خطأ أو يرفضها كلّها بما
فيها من صواب"1.
وعلى هذا يحتاج من يريد
التأثير على العوام أن
يسلك مسلكاً
غير المسلك البرهانيّ
والجدليّ بأن يلجأ إلى
أسلوب الخطابة ويستفيد من
المشهورات الذائعات
والاستشهادات بالأقوال
المأثورة، والكلمات
العاطفيّة وقد مرّ كيفيّة
ذلك في محلّه.
الجمهور المتعلّم
ممّا لا شكّ فيه أن
المثقّف أميل إلى البرهان
من العامّي. وهو في بعض
الأحيان يحبّ الأفكار
المعقّدة والأرقام
الدقيقة ممّا يحتاج إلى
التركيز والتأمّل حتّى
إذا أعمل فيها فكره وركّز
تأمّله إلى فهمها شعر
بلذة غريبة ونشوة عارمة
وحسب نفسه نابغة عظيماً
وعالماً كبيراً، وكبر في
عينيه الخطيب الذي استطاع
أن يأتي بهذه الفكرة على
دقّتها فيتأثّر به ويقبل
كلامه في الحال.
والمتعلّم مع هذا لا
يختلف كثيراً عن العوام،
فإنّ الإثارات العاطفيّة
والأساليب الخطابيّة
تؤثّر فيه تماماً كما
تؤثّر في العامّي، إذ أنّ
المثقّفين أيضاً لا
يتخلّون عن عواطفهم في
كثير من آرائهم
واعتقاداتهم بالرغم من
قناعاتهم في بعض الأحيان
بأنّها غير صادقة ويجب
الاستغناء عنها واتباع
التعقّل والتروّي.
فمن أراد أن يخطب في
المثقّفين لا بدّ له أن
يدمج البرهان بالجدل
وكليهما مع الخطابة حتى
ينسج من الجميع نسيجاً
جديداً له كلّ القدرة على
التأثير على هذا المخاطب،
ويتكفّل بحمله على
الاقتناع والرضوخ
والإذعان. والخطاب مع
المثقّفين والمتعلّمين
يجب ألّا يكون بالأمور
التي يتعلّمونها في
مدارسهم وحوزاتهم و إلّا
صاروا
حينئذ علماء وتحوّل
الخطاب إلى خطبة علميّة.
نعم يمكن الاستفادة من
بعض ما تعلّموه كشواهد
وأمثلة شريطة أن يتقن
الخطيب الفكرة التي
سيعرضها أو الأمر الذي
يستشهد به بكلّ دقّة.
ويمكن أن يكون تأثير
الخطيب أكبر في حال عرض
فكرة معيّنة درسوها
واقتنعوا فيها فعارضها
وفنّدها وأثبت بطلانها ثمّ
أظهر لهم فكرة صحيحة أكثر
دقّة واستواء، فإنّ هكذا
مناورة كفيلة بأن تجعله
عندهم مقبولاً إلى أقصى
الدرجات.
الجمهور العالم
إذا كان الجمهور مكوّناً
من العلماء، كما يحصل
عادة في المؤتمرات
الفكريّة والعلميّة أو
المهرجانات الأدبيّة وما
شابه ذلك، فإنّه لا بدّ
للخطيب من أن يحكم أدلّته
ويزن براهينه ويعضد كلامه
بما يفيد القطع واليقين
ولا يستعمل معهم من
الأساليب ما يستعمله مع
العوام كالأقيسة الظنيّة
والمغالطات وأخذ النتائج
من المشهورات، والاعتماد
على ما يعرف العلماء ضعفه
ويدركون زيفه وعدم صدقه.
إلّا أنّه مع كلّ ذلك لا
يستغني الخطيب عن
الأساليب الخطابيّة في
إيصال المعاني إلى أذهان
العلماء بشكل مؤثّر
وخصوصاً جودة الألفاظ
والفصاحة والبلاغة
والاستشهادات بالمأثور.
وأحسن ما يرتاحون إليه
كعلماء، الإيجاز وحسن
الأداء، وأن يكون كلام
الخطيب معهم من موقع
مخاطبة العلماء، فإنّ ذلك
يشجّعهم
على إبداء مزيد اهتمام
ويقبلون على الاستماع بكلّ
عناية وبالتالي يصبحون في
حيِّز الاقتناع.
وأكثر ما يعجب العلماء في
الخطيب أمران: الجدة،
وحسن البيان فإنّ العالم
الواعي إذا عرضت عليه
فكرة جديدة، أو مطلب علميّ
حديث، أو ألفت نظره إلى
نكتة دقيقة لم يكن ملتفتاً
إليها من قبل ارتاح كثيراً
وازداد احترامه لمن جاء
بها فإنّه يعدّ ذلك من
الامتنان عليه. وهكذا إذا
أحسن المتكلّم البيان
وأظهر مكنونات صدره وبنات
أفكاره بكلام واضح وفصيح.
فكم من فكرة قديمة أعجبت
العلماء حين ألبسها
قائلها ثوباً من البيان
جديداً ولوّنها بلون من
الفصاحة والبلاغة.
فالألفاظ الجزلة والتنسيق
المحكم والاستغناء عن
الزوائد والحشو وترابط
الكلام وتزيينه ببعض
الاقتباسات والمقابلة
والطباق كلّ ذلك يجعل
أنواع الجمهور واقعين تحت
تأثير سحر لا يمكن
الإفلات منه وهو ما عناه
رسول الله صلى الله غليه
وآله وسلم بقوله كما مرّ:
"إنّ من البيان لسحراً".
ورد في مقدّمة كتاب "النصّ
والاجتهاد" أنّ السيّد
المرحوم العلّامة عبد
الحسين شرف الدين
قدس سره حينما
سافر إلى مصر للمرّة
الثانية متخفيّاً بكوفيّة
وعقال بدل العمامة خوفاً
من جور الفرنسيّين الذين
كانوا يلاحقونه باستمرار،
قادته الأقدار للمشاركة
في مهرجان أدبيّ حضره
كبار الأدباء أمثال
الشعراء
أحمد
شوقيّ والشاعر حافظ
إبراهيم ومي زيادة وغيرهم
من الأدباء. ووقف على
المنبر بزيّه الذي لم
يدعهم يتعرّفون عليه فبدأ
كلامه بقول الشاعر:
إن لم أقف حيث جيش الموت
يزدحم
فلا مشت بي في طرق
العلى قدم
فصفّق الجمهور عالياً
وظنّوا أنّه صاحب هذا
البيت، ولمّا هدأوا قال:
"رحم الله الشاعر السيّد
حيدر الحليّ حيث يقول:
إن لم أقف حيث جيش الموت
يزدحم
فلا مشت بي في طرق
العلى قدم
فدوّت القاعة بالتصفيق
مجدّداً أكثر من الأوّلى،
ثمّ أفاض عليهم من سجال
بيانه فرواهم بمعين
تبيانه، يزيّن الفكرة
بالألوان، ويعضد الدعوى
بالبرهان، وهو خلال ذلك
ينقل خاتمه من أصبع لآخر
حتى أتى على نهاية كلامه
وهم به مشغوفون ويتمنّون
إطالة الكلام واتساع
الوقت.
وعند نزوله عن المنبر
عبّر أحدهم عن مدى إعجابه،
والظاهر أنّها كانت
الأديبة اللبنانيّة مي
زيادة، فقالت: "لست أدري
هل البيان أطوع إلى لسانه
أم الخاتم إلى بنانه".
ويعود الفضل في ذلك كلّه
إلى قدرة الخطيب على دمج
المؤثّرات الخطابيّة
بالبراهين والأقيسة دون
أن يبخس البلاغة حقّها في
كلامه فيخرج بالنتيجة
المتوخّاة. ولقائل أن
يقول أنّه
وإن
كان المخاطب جمهوراً
خاصّاً إلّا أنّه في هذا
العصر الذي انتشرت فيه
آلات التسجيل لا بدّ أن
ينقل كلامه إلى مسمع
جمهور آخر غير الذي خاطبه
أوّلاً فيرى في الكلام ما
لا يقبله كما لو كان
الخطاب أوّلاً مع جمهور
عاميّ ثمّ سمعه العالم
فلا بدّ أن يرى فيه قضايا
ذائعة لا تقوم على
البراهين والأدلّة فيكون
ذلك عيباً فيه وضعفاً في
خطابته، وفي الجواب على
ذلك نقول: إنّ البلاغة هي
أن تراعي المخاطب الذي
تتوجّه إليه بخطابك دون
أن تلحظ من سيأتي بعده
ليسمع أو يقرأ خطابك، فإنّ
مراعاة مقتضى الحال حسبما
قرّرها علماء البلاغة لا
تشمل إلى حال المستمع
المباشر. ولا يعيب أحد
على البليغ إذا تكلّم
بحسب مستوى المخاطب، تارة
بأسلوب وطوراً بأسلوب آخر
أو تارة بسهولة وطوراً
بتعقيد وقد قال رسول الله
صلى الله غليه وآله وسلم:
"نحن معاشر الأنبياء
أمرنا أن نكلّم الناس على
قدر عقولهم".
وفي هذا المقام يذكر أنّه
قيل لبشار بن برد: "إنّك
لتجيء بالشيء الهجين
المتفاوت". قال: "وما ذاك"؟
قيل: بينما تثير النقع
وخلع القلوب بقولك:
إذا ما غضبنا غضبه مضريّة
هتكنا حجاب الشمس
أو تمطر الدما
إذا ما أعرنا سيّدا من
قبيلة
ذرى منبر صلّى
علينا وسلّما
نراك تقول:
ربابة ربّة البيت
نصبّ الخلّ
بالزيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن
الصوت
فقال بشار: لكلّ وجه
وموضع، فالقول الأوّل جدّ.
والثاني قلته في ربابة
جاريتي، وأنا لا آكل
البيض من السوق، وربابة
لها عشر دجاجات وديك فهي
تجمع لي البيض. فهذا
القول عندها أحسن من: "قفا
نبك من ذكرى حبيب ومنزل"
عندك2.
الدرس الثاني عشر:
الجمهور بالنظر إلى
الخطيب
الجهة الثانية:
الجمهور بالنظر إلى
الخطيب.
الجمهور بالنسبة للخطيب
متعدّد الآراء متنوّع
الأهواء. فلا بدّ للخطيب،
كي يؤثّر على الجمهور، من
أن يدرس بيئتهم وعاداتهم.
فمن السامعين من يحبّ أن
يكون الخطيب فصيحاً
مفوّهاً ومنهم من يحبّه
ذا أسلوب مبسّط إلى
العاميّة أقرب ومنهم من
يحترم الخطيب ويقدّره
غاية التقدير فيعطيه كامل
اهتمامه وخالص إصغائه،
ومنهم من لا يعطيه أدنى
اهتمام، فلا يتوجّه لما
يقوله ولا يتهيّأ لسماع
كلامه وكأنّ الخطاب ليس
موجّهاً إليه، وفي مثل
هكذا حالة لا بدّ من
مراعاة بعض الأساليب
الخطابيّة الخاصّة لجذب
اهتمامهم وإلزامهم
بالإصغاء والتوجّه.
فمن هذه الأساليب: أن
يبتدرهم الخطيب بفعل غريب
وغير مألوف عنهم، كأن
يقوم بعمل مخالف لما
اعتادوا عليه سابقاً.
فإذا كان المتعارف عليه
عندهم صعود المنبر إلى
أعلى درجة
صعد
هو إلى بعضه أو بالعكس.
أو يخطب فيهم واقفاً إن
جرت العادة أن يخطب فيهم
من جلوس. وربما لزم الأمر
أن يأت بكلمات غريبة في
مستهلّ الخطبة لإثارة
اهتمامهم كما يذكر بعض
المفسّرين أنّ ذلك قد حصل
مع رسول الله صلوات الله
عليه وعلى آله حينما:
﴿وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَا
تَسْمَعُوا لِهَذَا
الْقُرْآنِ وَالْغَوْا
فِيه﴾3.
فربما صفّقوا وربما
صفّروا وربما غلطوا فيه
ليغلطوا النبيّ في تلاوته
فأنزل الله تعالى في
مستهلّ بعض السور الحروف
المقطّعة التي كانت تثير
استغرابهم مثل:
﴿الم*
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ
رَيْبَ فِيهِ﴾ و﴿كهيعص*
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ
عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ و﴿عسق﴾
و﴿حم﴾ وما شابه
ذلك فإنّهم كانوا حينما
يلغون ويصفّقون كي لا
يسمعوا، يبدأ النبيّ صلى
الله غليه وآله وسلم
بتلاوة هذه الحروف
تدريجيّاً فيجدون أنفسهم
في وضع جديد وغريب فلا
يملكون أنفسهم عن الإنصات
وهم يحسبون أنّ محمّداً
قد فقد عقله فيأتيهم كلام
الله:
﴿ذَلِكَ
الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ
فِيهِ﴾4.
ومنها:
أن يثير الخطيب في
مستمعيه انفعالاً نفسيّاً
أوّل الأمر كالخوف أو
الغضب أو الفرح والسرور
أو الانزعاج والتذمّر أو
أن يخبرهم
خبراً مشوّقاً ومثيراً ثمّ
يعدهم بالتفاصيل و أنّه
سيوضح لهم الأمر خلال
الخطبة. فينتظرونه بشوق.
أو أن يروي لهم حادثة
طريفة تضحكهم فتقبل
أنفسهم على الاستماع إليه.
وقد يبدأ الخطيب بما يزعج
المستمعين وهذا قليل ولا
يحصل النفع منه إلّا إذا
كان الخطيب أمير القوم
وقائدهم ممّا لا بدّ
للجمهور من الاستماع إليه
والانصياع لأوامره، وذلك
كما كان يصنع الحجّاج بن
يوسف الثقفيّ حيث كان
يبدأ خطبته بقول الشاعر:
أنا ابن جلا وطلاع
الثنايا
متى أضع العمامة
تعرفوني5
والأسلوب الأكثر نفعاً في
مسألة الانفعالات
النفسيّة استعمال ما
يسمّى عند علماء الخطابة
بالأقاويل الخلقيّة وهي "الأقاويل
التي تحملهم على أن
يتخلّقوا بأخلاق ما وإن
لم تكن فيهم، وتتصوّر
أنفسهم بصورة أهل العلم
بالشيء، وتفعل أفعال من
له تلك الأخلاق وتلك
العلوم وإن لم يكن لهم شيء
من ذلك"6.
"وذلك يحصل بادعاء
المتكلّم أنّ قوله إنّما
يتضح لذوي الفكر الثاقب
والذهن السليم عن وساوس
المضلّين، مثل ما كان
يستعمله
جالينوس
الذي يتكلّم بالطب"7.
أو أن يقول لهم الخطيب
أوّل كلامه أنّه متعجّب
من نفسه فهذه أوّل مرّة
يخطب في قوم وترتاح نفسه
هكذا ارتياح، "ولا أظنّ
ذلك إلّا لأنّ الذين أقف
بين أيديهم خطيباً هم من
أهل العلم والوعي
والإيمان والتديّن وممن
يعرفون قيمة العلم
والمعرفة".
ومنها:
إظهار أنّ الأمر الذي
يتكلّم فيه أمر عظيم ومهمّ
وذلك بأن يقدّم في مستهلّ
كلامه مقدّمة تحتوي على
تعظيم الأمر الذي فيه
وتفخيمه وتصغير ضدّه
وتهوينه"8.
و أمّا الجمهور الذي يحبّ
المدح والإطراء فلا بأس
بأن يمدحهم الخطيب بما
يتناسب مع غرضه، كأن يثني
على علمهم وحبّهم للمعرفة
إذا كان يخطب فيهم يحثّهم
على العلم والتعلّم أو
يمدح شجاعتهم وأخلاصهم إن
كان يريد منهم التوجّه
إلى ساحة الحرب أو يمدح
وطنيّتهم وحبّهم للوطن
وتفانيهم من أجله إن كان
يريد أن يحملهم على موقف
سياسيّ معيّن وهكذا.
وليس أفسد على الخطيب من
ابتداء كلامه بذم ّالجمهور
والحطّ من قدره وتعنيفه
ولو كان ذلك حقّاً وصدقاً
فإنّ استقبالهم
بالذمّ يذهب من نفوسهم حبّ
التوجّه ورغبة الاستماع.
فإن كان لدى الخطيب حاجة
في تأنيبهم على أمر بدر
منهم يمكنه أن يستعمل في
مطاوي كلماته أسلوب
التعريض دون التصريح "وذلك
بأن ينسب الفعل إلى واحد
والمراد غيره"9 فيتكلّم عن
جماعة من الناس دون
تسميتهم ويصفهم بأنّ فيهم
الخصال التي يريد أن
يذمّها ويظهر قبحها. وأنّ
هؤلاء قد يكون بعضهم ضمن
الحاضرين، أو ربما لا
يوجد أحد منهم، و أنّهم
قلّة، و أنّهم لا قيمة
لهم ولا وزن عند الناس"10.
والخلاصة أنّ التجاوب
النفسيّ بين الخطيب
والجمهور أمر أساسيّ ولا
بدّ منه. فلو حصل من
الخطيب ما ينافي ذلك من
أذيّة أو تضجير فإنّه لن
يجني من خطبته إلّا الفشل
والخيبة والخسران.
ولمهارة وبراعة الخطيب
هنا مجال واسع حيث يمكنه
قبل الشروع بالخطبة
الاستعلام عن حال الجمهور
والاطلاع على خصائصه
وعاداته وما يحبّ وما لا
يحبّ وأن يرسم خطّته
للدخول إلى قلوب مستمعيه
قبل الوقوف على المنبر
حتى إذا وقف عليه أخذ
يطبّقها على أكمل وجه.
ولا أزال أذكر أن أحد
العلماء خطبنا بخطبة في
أيّام عاشوراء من إحدى
السنوات وكان لها الأثر
الكبير في نفوسنا ولا
أزال
أذكر
أنّه حينما اعتلى المنبر
كان الجوّ السائد غير
ملائم على الإطلاق،
وشوشات وضحكات، ذهاب
وإياب، وهمس ودندنة في كلّ
اتجاه ولكنّه وقف صامتاً
لا يأتي بأيّ حركة سوى
النظر في وجوهنا صامتاً
كأنّه ينتظر نزول الوحي
حتى أخذ منّا العجب من
هذا الخطيب مأخذه فأنصت
المجلس أيّما إنصات
وعلامات الفضول على
وجوهنا نسائل أنفسنا ماذا
دهى هذا الشيخ؟ حتى إذا
وجد الجوّ ملائماً بدأ
كلامه مفتتحاً بالحمد
والثناء ثمّ قدّم مقدّمة
عن أهميّة الذكرى وأهميّة
الحسين عليه السلام وكم
يجب أن نحترمه ونحترم
ذكراه ومجلسه وهكذا أكمل
مستمرّاً بأسلوب سلس
وعبارة واضحة حتى أخذ
بمجامع قلوبنا وأوصلنا
إلى الهدف الذي حدّده لنا.
ولا يظنّن خطيب أنّ
بإمكانه أن يصل إلى
مبتغاه في إقناع المخاطب
ما لم يراع هذه الجوانب
التي هي على قدر كبير من
الأهميّة.
الجهة الثالثة:
الجمهور بالنظر إلى
الإلقاء.
ليس للأسلوب الذي يتبنّاه
الخطيب درجة معيّنة من
القبول عند أنواع الجمهور
بل لكلّ جمهور ذوق خاصّ
وحالة مميّزة تجعله يقبل
أسلوباً ويرفض آخر.
فالأسلوب الحماسيّ يضحك
الشيوخ ويثير تهكّمهم
وسخريتهم، والأسلوب
الرصين يضجر الشباب
والناشئين.
فلا بدّ من معرفة أخلاق
وأهواء الجمهور وأذواقه
وما هو المقبول لديهم وما
هو المرفوض عندهم وما هو
المؤثّر عليهم دون سواه
كي يتمكّن الخطيب
على ضوء ذلك من تهيئة
وإعداد ثمّ إلقاء خطابه
بالشكل الذي يتناسب معهم
كي لا يكون كطاحن الماء
أو ناقل الهواء.
خلاصة الدرسين: (11،
12)
|