الهجرة النبويّة
المشرّفة
• في لحظة من لحظات
التأريخ الخالدة، تلفّت
الزمن إلى الأمام ليرى
كيف يمكن للقلّة المؤمنة
أن تغيّر مجرى التأريخ،
وأن تغيّر مجرى الحياة،
وتفتح في سجلّ الخلود باب
الأمل في الحياة بعد
اليأس، والحركة الهادفة
إلى الغاية بعد طول
الركود.
• تلك معانٍ قد تمثّلت في
تأريخ الهجرة النبويّة،
التي كانت فصلاً بين
حياتين: حياة كان الإسلام
فيها من جهة بأهله
غريباً، وحياة أقام
المسلمون في ظلّها دولة
وطيدة الأركان، شامخة
البنيان..
• لقد أراد الله أن تكون
الهجرة بداية الطريق
لإقامة المجتمع المسلم،
حيث الأرض الهادئة،
والقلوب الوادعة،
والأخلاق الرحيمة، التي
فتحت ذراعيها لإستقبال
الدعوة.
• إنّ الهجرة النبويّة
تعتبر بحقّ، من أروع
الأحداث التي سجّلها
التأريخ
الإسلاميّ، وهي أوّل لبنة
في بناء صرح الدعوة
الإسلاميّة؛ لأنّ الدعوة
في مكّة لم تظفر إلاّ
بتركيز جهودها على تحرير
العقيدة، وتوجيه الناس
إلى عبادة الله. أمّا بعد
الهجرة، فقد انتقلت إلى
مرحلة التشريع والتنظيم،
بوضع المنهاج لسلوك الفرد
والجماعة، بما يتقوّم به
صلاح المجتمع، من جميع
جوانبه الدينيّة،
والسياسيّة،
والاجتماعيّة،
والإقتصاديّة.
فالهجرة حركة فاصلة بين
مرحلة من الزمان انتهت،
ومرحلة جديدة من الزمان
أقبلت، وهي تحمل في
طيّاتها ذكرى المرحلة
المظلمة التي انتهت،
والمرحلة المشرقة التي
أقبلت، حيث انتقل
المسلمون فيها من الذلّ
إلى العزّ، ومن الفقر إلى
الغنى، ومن رعي الغنم إلى
قيادة الأمم.
• لم يكن المقصود من
الحديث عن هذه الهجرة
المباركة حديثاً يُنشر أو
يُذاع، لمجرّد العلم به
أو التندّر فيه، وإنّما
أن يكون درساً نستمدّه من
واقع تاريخنا المجيد،
نتعلّم منه كيف يكون
التخطيط للجهاد في سبيل
الحقّ والحريّة، والعزّة
والكرامة.
• فإن الرجوع إلى ذكرى
الهجرة، وما صاحبها
وسبقها من التخطيط يجعلنا
في مستوى المسؤوليّة،
لمواجهة سفينة الحياة
الإنسانيّة, خلال الأمواج
العاتية، وتوجيهها نحو
شاطئ السلامة، ومرفأ
الأمان، إلى حيث النصر
والتحرير.
• أصحاب الهجرة، لم
يعرفوا لأنفسهم إلاّ
النصر أو الإستشهاد في
سبيل عقيدتهم. وقد
اجتمعوا بحكمة القائد
والمعلّم، للإسهام في نشر
الدين الجديد، وإقامة صرح
الإسلام قويّاً، وثيق
البناء..
• ولأجل ما اشتملت عليه
الهجرة من الأحداث، وما
ترتّب عليها من الإنطلاق
والتغيير في حياة
المسلمين، ناسب أن تكون
الهجرة بداية التاريخ في
حساب الزمن، وإن كانت في
أبعادها، تستقلّ عن مدار
الزمن، لأنها بداية
الشريعة الخالدة،
والمعاني الخالدة لا تخضع
لعوامل الزمن؛ لأنّ الزمن
محدود ببداية ونهاية، وهي
لا تنتهي إلى نهاية؛
لأنّها ليست من الزمن..
• وكل تلك الأحداث،
تطالعنا مشرقةً بالإيمان
المخلص، والتضحية
الغالية، تلك التضحية
التي تألّقت في حادثة
الهجرة، لنأخذ منها
العبرة والعظة، لنجعل
منها القدوة الطيّبة،
والأسوة الحسنة.
• وهنا تتجلّى فدائيّة
عليّ، فيمتثل أمر رسول
الله صلى الله عليه واله
طائعاً مختاراً، بقوله:
فداك أبي وأمّي ونفسي يا
رسول الله، أوتسلم أنت؟
قال نعم.لقد فدى رسول
الله بنفسه، وقدّم روحه
فداءً لدين الله، عن رضا
وإطمئنان. ولولا تلك
التضحية، لما تسنّى
للنبيّ صلى الله عليه
واله أن يترك داره في تلك
الليلة، ولما تيسّرت
له الهجرة التي كانت
مفتاحاً لإنتشار دين الله
في الأرض. وللتدليل على
عظمة هذا الموقف الذي
يستحقّ التقدير والتكريم
من العزيز الحكيم، أنزل
الله في حقّه قرآناً
يتلى:
﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَشْرِي
نَفْسَهُ ابْتِغَاء
مَرْضَاتِ اللّهِ
وَاللّهُ رَؤُوفٌ
بِالْعِبَاد﴾1.
• وحادثة الهجرة تطلّ
علينا بعد أربعة عشر
قرناً من الزمان وهي لا
تزال تتألّق في جبين
الحياة، وتهزّ ضمير
الوجود؛ لأنّها هجرة
تحمّلت مسؤوليّة الأمانة،
وهي لم تبتغ بما حملت
وتحمّلت، غير وجه الله،
فهي لذلك هجرة قلوب
وأرواح، لا هجرة قد نزعت
راضية عن الأهل والمال
والولد، إلى قمم من
المعاني يتضاءل بجانبها
كلّ متاع الدنيا. وهي لم
تكن مجرّد رحلة من أرضٍ
إلى أرض، تخللتها معجزة
الغار والحمام والعنكبوت،
أو فراراً من أرض
المعركة، كما حلا لأعداء
الإسلام أن يلقّبوا
صاحبها بالنبيّ الفارّ،
وإنّما كانت منطلقاً
للفداء والتضحية من أجل
المعذّبين في الأرض،
الذين قد أصبح لهم
بالهجرة وجودهم الواسع،
وعلاقاتهم القائمة على
الحبّ والإخاء.
• فهجرة كلّ إنسان إلى ما
هاجر إليه. من هاجر إلى
الله ورسوله، فهجرته إلى
الله ورسوله، ومن هاجر
إلى الشيطان، فهجرته إلى
الشيطان، وقلب الإنسان هو
سفينة الإنسان إلى
مهجره،
والعقل هو ربّان تلك
السفينة إلى شاطئ النور
أو الظلام.
• أيّ فائدة لذكرى
الهجرة، إذا لم تفجّر في
النفوس مكامن الخير،
ومطاوي العزّة والرجولة؟
فالذكرى إذا لم تكن
حافزاً للإيمان بمعانيها
وقيمها خرجت عن مغزاها
وحقيقتها.
• يقول إنّ ذلك الصوت
الذي دوّت به شعاب مكّة،
يعيده الحسين ابن عليّ
عليه السلام بعد سبعين
عاماً في كربلا، بل في
مكّة، لأنّ هذين الصوتين،
إنّما ارتفعا، وعمَّا،
وشملا العالم في مكّة:
صوت محمّد في مكّة يدعو
الناس إلى الله فيقول:
أيّها الناس، قولوا لا
إله إلاّ الله تفلحوا.
• وليس من باب الاتفاق،
أن تقترن ذكرى هجرة
النبيّ، من مكّة إلى
المدينة، بذكرى هجرة
الحسين عليه السلام، من
المدينة إلى مكّة. ولئن
اختلف مكان الهجرتين، فلن
تختلف الغاية والهدف من
وراء الهجرتين.
- المؤاخاة بين المسلمين
الأوائل:
• وكان أوّل عمل باشره
النبيّ صلى الله عليه
واله في أرض الهجرة أن
أزال ما في نفوس الأوس
والخزرج من عداء متأصّل،
نتيجة الصراع الدامي الذي
كان يقع بينهم في
الجاهلية. وثنّى بعملٍ
رفيع له أهميّة في إيجاد
المجتمع المتماسك، وهو
مؤاخاته بين
المهاجرين
والأنصار، تلك المؤاخاة
التي انتهت في عمقها
وأصالتها إلى مرتبة
الإيثار، تحوّلت إلى نقطة
إنطلاق للدعوة
الإسلاميّة، تشقّ طريقها
في الأرض بعدما وجدت
سبيلها في النفوس التي
صاغها الدين وفق إرادة
السماء وأعدّها لحمل
الأمانة.
- كلامه في أمير المؤمنين
الإمام عليّ بن أبي طالب
عليه السلام :
• فيجدر بالمسلمين في
مشارق الأرض ومغاربها، أن
يستعيدوا في أذهانهم،
صورة حيّة من صور هذه
الذكرى المليئة بالعظات
والعبر، وان يستلهموا من
تضحية عليّ عليه السلام،
في سبيل المبدأ والعقيدة،
ما يبعث فيهم العزيمة
والصلابة، في نصرة الحقّ،
ومقاومة الباطل.
• فليحدّث التاريخ، إن
استطاع أن يحدّث، عن مثل
شجاعة عليّ عليه السلام
وصموده في وجه الأحداث
التي إصطدمت بها حياته من
اليوم الأوّل، حتى اقترن
تاريخها بتأريخ الهجرة
التي كان فيها الفدائيّ
الأوّل.
- كلامه في الإمام الحسن
بن عليّ عليه السلام :
• لم يكن خافياً على
الإمام الحسن عليه السلام
ما كان يُحاك حوله من
المؤمرات في صفوف جيشه
الذي كان أكثره على صلة
بمعاوية لأنّه مؤلّف من
عناصر شتّى قد ساعدت
معاوية على خلق الشغب
في صفوفه، وسهلت له
السبيل لشراء الضمائر
الرخيصة التي كانت أقوى
في يد معاوية من سلاح
الحديد والرجال.
• لقد صالح الإمام الحسن
عليه السلام كما صالح
جدّه في صلح الحديبية،
وقعد لما فقد الأنصار كما
قعد أبوه من قبله لمّا
فقد الأنصار يوم السقيفة
ويوم الشورى.
• تضحية الإمام الحسن
عليه السلام في سبيل
الحقّ لا تقلّ أثراً عن
تضحية الإمام الحسين عليه
السلام، بل لولا تضحية
الإمام الحسن عليه السلام
بالصلح لما كانت تضحية
الإمام الحسين عليه
السلام ولما بقي الإمام
الحسين عليه السلام أو
أحد من آل عليّ ليثور
بجانب الحقّ على الباطل.
والإمام الحسن عليه
السلام بالصلح شهيد الحقّ
كأخيه الإمام الحسين عليه
السلام، ولو أنّ جسمه سلم
من جراح المعركة، لكن
قلبه لم يسلم من جراحها،
وإنّما حمل الجراح بقلبه
صبراً وإباءً حتّى تقيّأه
في الطشت قطعة قطعة.
• الإمام الحسن عليه
السلام بقعوده، قد فتح
باب الميدان للإمام
الحسين عليه السلام.
بينما في ظرفه هو، كان
أكثر أنصاره متخاذلين،
وأكثر جيشه من المنافقين.
ومعاوية الداهية قد أخذ
زمام المبادرة، فدعا
الإمام الحسن عليه السلام
إلى الصلح، والجيش قادم
يومذاك، من ثلاث معارك،
قد ملّ الحرب، فلمّا
سمعوا بكلمة الصلح،
تخاذلوا وتواكلوا.
• أمّا الإمام الحسن عليه
السلام، الذي لم تسمح له
ظروفه بالثورة
المسلّحة،
فقد جرّد سلاحاً خاصّاً
هو الصلح، ففضح به معاوية
وبني أميّة قاطبة، وأثبت
للرأي العامّ، أن بني
أميّة قد ساروا في
جاهليّتهم الحديثة،
ينسجون على منوال
جاهليّتهم القديمة. حتى
إذا وصل الدور إلى يزيد
وطفح الكيل، فحينئذٍ
أصبحت القضيّة لا تحتمل
سوى الثورة؛ لأنّ يزيد قد
أعلن الكفر صراحةً.
• ما امتنع الإمام الحسن
عليه السلام عن الشهادة،
وإنما الشهادة هي امتنعت
عليه، ما ضنّ بنفسه، أو
بخل بنفسه، وما قيمة
الحياة في نظر أهل
البيت
لولا أنّهم في
الحياة؟ قيمة الحياة بهم
فهل يلتمسون الحياة؟ ما
قيمة الحياة لولا أنهم
فيها؟ وما قيمة السلطة
لولا أنّها ميدان
لخلافتهم في الأرض؟
والخلافة كالنبوّة، لا
يمكن أن تأخذ سبيلها في
الأرض إلاّ بالأنصار
المخلصين الذين لم
يتيسّروا في أيّام الإمام
الحسن عليه السلام، كما
تيسّروا للحسين عليه
السلام.
• النبي صلى الله عليه
واله يشير إلى قعود
الإمام الحسن عليه
السلام، كما يشير إلى
قيام الإمام الحسين عليه
السلام، حيث يقول صلى
الله عليه واله: "هذان
ولداي، إمامان قاما أو
قعدا"، والمعنى أنّ
إمامتهما ثابتة في حالتي
القيام والقعود.
- كلامه في الإمام الحسين
بن عليّ عليه السلام
• إنّ النبيّ صلى الله
عليه واله كانت له عناية
خاصّة بالإمام الحسين
عليه السلام، دون أخيه
الإمام الحسن عليه
السلام، وللحسين علاقة
خاصّة بالنبيّ محمّد صلى
الله عليه واله. هذه
العلاقة ليست علاقة
العاطفة، إنّها
علاقة بالرسالة، وللإمام
الحسين عليه السلام علاقة
خاصّة برسالة الرسول
الأكرم صلى الله عليه
واله.
• سجّل التاريخ هذه
الكلمة، حيث قال صلى الله
عليه واله : "حسين
منّي وأنا من حسين"
ما معناها؟ إنّ هذه
الكلمة تشير إلى معنى
عميق الدلالة. أّمّا قوله
حسين منّي، فيعني تولّد
منّي لأنّه إبن بنتي،
وأمّا تولّد النبيّ صلى
الله عليه واله من الإمام
الحسين عليه السلام فهو
بالولادة الروحيّة. يعني
أنّ الرسالة عادت إلى
المجتمع المسلم بنهضة
الحسين عليه السلام،
وبحياة الرسالة حياة
محمّد صلى الله عليه
واله، فكأنّ محمّداً صلى
الله عليه واله وُلد من
جديد بثورة الإمام الحسين
عليه السلام.
• كلّ الناس يعلمون أنّ
الإمام الحسين عليه
السلام من النبيّ
محمّد صلى الله عليه واله
بالولادة. لكنّ النبيّ
صلى الله عليه واله يريد
الإشارة إلى معنى عميق
الدلالة، يريد أن يجعل من
الإمام الحسين عليه
السلام إمتداداً لمحمّد
الرسول صلى الله عليه
واله. يريد أن يقول حسين
منّي يعني لا من ذات
محمّد، بل من محمّد
الرسول صلى الله عليه
واله، وإلاّ فالإمام
الحسن عليه السلام منه
أيضاً فلمَ لم يقل الحسن
منّي؟.
• إذاً لا يتصوّرنّ أحد
أنّه يستطيع أن يتَّصل
بالإسلام، ويتّصل بالرسول
محمّد صلى الله عليه
واله، ولا يتّصل بالإمام
الحسين عليه السلام.
الإسلام تمثّل بالإمام
الحسين عليه السلام،
ومحمد صلى الله عليه واله
تمثّل بالإمام الحسين
عليه السلام، وأنتم الآن
تتمثّلون بالحسين، لكن
إذا طبّقتم مبدأ الحسين،
وسلكتم نهج الإمام الحسين
عليه السلام.
• أيّها المؤمنون، حينما
قال النبيّ صلى الله عليه
واله: "حسين منّي وأنا
من حسين"، فكلّ حياة
الإمام الحسين عليه
السلام هي تمثيل لحياة
جدّه النبيّ صلى الله
عليه واله، من جميع
النواحي؛ لأنّ الظروف قد
هيّأت للحسين عليه
السلام، ما لم يتهيّأ
لغيره، فلذلك كان
إمتداداً لسيرة جدّه
وحياة جدّه.
• خرج الإمام الحسين عليه
السلام من مكّة والناس
يدخلون لأداء فريضة
الحجّ. لكنّ الإمام
الحسين عليه السلام أُزعج
فأُخرج عن حرم الله، وحرم
رسوله. لأنّ يزيد بن
معاوية، قد دسّ ثلاثين
شيطاناً من شياطين بني
أميّة، وأمرهم أن يقتلوا
الإمام الحسين عليه
السلام، ولو كان متعلّقاً
بأستار الكعبة، فخاف
الإمام الحسين عليه
السلام أن يغتاله بنو
أميّة. لكن ما فرَّ من
القتل، فرَّ لئلا تموت
دعوته ورسالته. إذ هو لم
يبلّغ الرسالة حتّى الآن؛
لأنّ الرسالة تحتاج إلى
عمليّة استشهاديّة.
• خرج الإمام الحسين عليه
السلام من بلد قد جعله
الله مثابة للناس وأمناً،
ولكنّ الإمام الحسين عليه
السلام لم يكن آمناً في
ذلك اليوم. محلّ أمن لمن؟ للطيور والحيوانات،
وللبشر والنبات. ومع ذلك
فابن رسول الله صلى الله
عليه واله لم يكن آمناً
في مكة.
• وقف الإمام الحسين عليه
السلام في كربلا
ملبِّياً، ولكن من بعد
التلبية قدّم التضحية.
قدّم الإمام الحسين عليه
السلام بدل الضحيّة في
منى، ضحايا من أهل بيته
وصحبه، حتى نفسه جاد بها
بسخاء في سبيل الله.
واستبدل بالسعي الذي يكون
بين الصفا والمروة،
السعيَ ما بين جثث القتلى
من صحبه وأهل بيته، فصار
يسعى في وادي كربلا.
واستبدل بالطواف حول
البيت، الطوافَ حول تلك
الجثث الطاهرة في كربلا.
وبالتالي استبدل أنه قدّم
نفسه الضحية الكبرى لهذا
الدين. إستبدل بالطواف
واستبدل بشيء آخر. والذي
يطوف ماذا يصنع؟ الذي
يطوف والذي حجّ البيت
يعرف، الذي يطوف يبتدئ
بطوافه من الحجر، ويلمس
الحجر إذا تمكّن ويقبّله،
ولكنّ الإمام الحسين عليه
السلام بدل أن يستلم
الحجر بيده، قد إستلم
الحجر يوم العاشر بجبهته.
• الإمام الحسين عليه
السلام هانت عليه الحياة
حين عزّت في عينه
العقيدة، وصغرت في عينه
الدنيا، عندما كبرت في
عين غيره. لذلك استبسل في
مواطن البأس، وتماسك في
مزالق المحنة، فما وهن
لما أصابه في سبيل الله،
ولا ضعف ولا استكان، بل
بقي ثابت الجأش، حتى خطّ
بدمه الزكيّ على أرض
الفناء وثيقة الخلود.
• نحن الآن مدعوّون لأن
نكون مع الإمام الحسين
عليه السلام، فنهاجر إلى
ما هاجر إليه، ونتمسّك
بما تمسّك به، وأن نكون
مستعدّين للتضحية إذا لزم
الأمر.
- أسباب النصر الإلهيّ:
• عندما علم الله من هذه
النفوس صدق النيّة، على
ما بايعت
وعاهدت،
آتاها النصر, ومنحها
الصبر الذي تستدعيه عبادة
الله في الأرض. وهي من
وراء هذا وذاك، قد قدّمت
للأجيال المتعاقبة المُثل
الخالدة في الدفاع عن
المبادئ الحقّة، بعدما
أثبتت أنّ تلك المبادئ قد
انتصرت أوّلاً في نفوس
أصحابها, وامتزجت
بوجدانهم, وإلاّ لإنطوت
في مطاوي الضياع والفناء.
• إنّ الصفوة المختارة،
التي صنعت الأحداث
للتأريخ، وسجّلت بدمائها
تأريخاً حافلاً بالعزّة
والكرامة، ترينا معالم
الطريق واضحة, وتثبت خطى
من يريد متابعة الزحف في
دروب الجهاد، ويختار
لنفسه حياة الأحرار، وهي
الحياة التي تشرق في
سمائها شمس الإخاء
والإيثار، وترفرف في
أجوائها ألوية العزّة
والإنتصار.
• فليحدّثنا التاريخ، إن
اسعفته الذاكرة، عن إيثار
الأنصار في المدينة،
لإخوانهم المهاجرين على
أنفسهم، ثمّ ما نتج من
هذا الإيثار والتلاحم
والوحدة، من عزٍّ
للإسلام، وخيرٍ للمسلمين.
• لقد نشرت الدعوة
الإسلاميّة ألوية الحضارة
خفّاقةً على ربوع الأرض
في أقلّ من ربع قرن. وذلك
إن دلّ على شيء، فإنّما
يدلّ على أنّ النصر
والفتح، هما وليدان
شرعيّان للفداء والإيمان،
وأنّ الفداء والإيمان هما
وليدان مباركان لهجرة
القلوب إلى المُثل
الرفيعة.
عاشورائيّات
- عاشوراء والنهضة
الحسينيّة:
• لقد كانت القراءة في
السيرة العاشورائيّة قبل
أن نتعرّف على الخطيب
الشيخ عبد الوهّاب الكاشي
قدس سره، بسيطة لا تمثّل
الغرض الذي يريده الإمام
الحسين عليه السلام، كانت
صرف نحيب وبكاء. والإمام
الحسين عليه السلام نفسه
يبرأ من الدموع، إذا لم
تكن سخطاً ونقمة على
الظلم والظالمين، أو إذا
لم تكن تعبيراً عن الحقّ،
والعمل بالحقّ، تبدأ
بنفسك أوّلاً، ثمّ ببيتك
ثانياً، ثمّ بمجتمعك
ثالثاً.
• لا داعي لأن نقول يا
ليتنا كنّا معكم، نحن
الآن معهم، نستطيع أن
نمثّل دور حبيب وزهير
وبرير.
• فليفهم الطاغون، وليفهم
المنحرفون، الذين نسجوا
على منوال أولئك الذين
إنحرفوا في ذلك اليوم عن
الحقّ وأهله، أنّ هذه
المأساة نجدّدها في كلّ
عام، بل في كلّ شهر، بل
في كلّ يوم، لتعيش معنا
وتحيا في قلوبنا
وضمائرنا.
• الإمام الحسين عليه
السلام لا يريد منّا
البكاء فحسب، صحيح أنّ
القلب إذا لم يكن
ممسوخاً، فلا بدّ أن
يتأثّر بهذه الحادثة،
ولكنّ الإمام الحسين عليه
السلام لا يكتفي من
محبّيه بالدموع. إنّما
يريد أن نطبّق مبادئه
ونسير بسيرته.
• إنّ المؤمن لا يهمّه
الإنتصار في المعارك،
بقدر ما يهمّه أن ينتصر
على نفسه، وأن يكون إلى
جانب الحقّ. وليست
العِبرة أن ينتصر في
معارك السلاح. فقد ينتصر
مبدأ الحقّ، دون أن يرافق
ذلك إنتصار بالسلاح.
أنصار الإمام الحسين عليه
السلام
كثير ممّن استشهدوا مع
الإمام الحسين عليه
السلام، ما مرّت عليهم
فترة طويلة صحبوا فيها
الإمام الحسين عليه
السلام حتّى نقول إنّهم
شاهدوا الأنوار الإلهيّة،
فإقتبسوا من تلك الأنوار
حقيقة الدين. ففيهم من
كان نصرانيّاً مثلاً،
وفيهم من سمع موعظة
فأثّرت فيه، فمثلاً نجد
أنّ سعيد بن مرّة
التميميّ الذي كان في
مجلس يزيد بن مسعود
النهشليّ، حين يسمع
القصّة ببساطة، يذهب،
ويترك زوجته وينطلق إلى
كربلاء.
إنّها نفوس مستعدّة
مهيّأة لدعوة الحقّ، وهذه
المجالس لها أثر كبير في
تلك النفوس، فلا تعلم في
أيّ لحظة تدرك العناية
والرحمة الإلهيّة، فإذا
به يتحوّل في لحظة واحدة
من جانب إلى جانب.
لقد كانت كلّ قطرة من دم
الإمام الحسين عليه
السلام، قنبلة في عرش
الملك الأمويّ. وكلّ قطرة
دم أريقت على أرض كربلا،
هي شعلة تنير دروب
الحياة. لذلك كان لها هذا
النغم الأبديّ الخالد
الذي تُردِّده الأجيال
تلو الأجيال، ويدفع
الإنسان للثورة على
الطغيان والإنحراف ويحفزه
للنهضة من أجل العدالة
والإنصاف.
إنّ الحقّ لا يتقيّم
بالنصر الآنيّ، وإنّما
يتقيّم بالنصر الأبديّ،
والنصر الأبديّ لا يكون
لغير الحقّ، والنصر إنّما
يكون للقضيّة التي تبقى
ببقاء الحقّ. ومن هنا ذكر
الحسين عليه السلام
خالدٌ، ولن يفنى الحقّ
الذي ارتوت عروقه بدم
الحسين بن عليّ عليه
السلام.
إنّ الغاية لا تبرّر
الواسطة في نظر الإمام
الحسين عليه السلام.
فالغاية إذا كانت شريفة،
لا يجوز التوصّل إليها
بكلّ وسيلة. لذلك لم يلجأ
كغيره، إلى الدعايات
الكاذبة، والشعارات
المضلِّلة. إنّه يريد
الوصول إلى الحقّ، لكن لا
من طريق الباطل، ويريد
إقامة موازين العدل، لكن
لا من طريق الجور.
كلامه في سبايا العترة
الطاهرة:
إنّ في السبي والتطواف
بزينب وأخوات زينب،
والسلاسل والأغلال في
أيديهنّ وأعناقهنّ أعمقَ
الأثر الذي لا يغني غناءه
السيف في التشهير ببني
أميّة، وكشف ظلمهم للناس
وكأنّ في ذلك موكب إعلام
للناس أن انظروا أيّها
المسلمون إلى ما فعله بنو
أميّة بذريّة نبيّكم.
إنّ إخراج الأمويّين
لزينب وأخواتها هو الذي
أعطى مثل هذا الأثر، فهم
الذين أدخلوها إلى
مجالسهم، وهم الذين
مهّدوا لها السبيل لسبّهم
ولعنهم والتشهير بهم على
رؤوس الأشهاد. وهذا بخلاف
ما لو خرجت مختارة - إن
سوّغنا لها مثل هذا
الخروج أو أرادته لنفسها
وحاشاها - فإنه لا يكون
له مثل هذا الأثر قطعاً.
ما حاوله الحسين عليه
السلام من إخراج العائلة
لم يكن ليفهمه أحد غير
الإمام الحسين عليه
السلام، ولذا لم يجب من
أشار عليه بترك العائلة
إلاّ بجواب مقتضب (شاء
الله أن يراهنّ سبايا)،
فإنّ السبي ليس غاية
بنفسه وإنّما الغاية
النشر والتشهير والدعاية
ضدّ الظالمين وضدّ
سلطانهم الظالم الغاشم.
وهذا ما يريده أهل البيت
في مواقفهم من وراء نصرة
الحقّ ومقاومة الباطل.
عاشوراء صرخة في وجه
الظالمين:
• لقد ترجم الإمام الحسين
عليه السلام القول إلى
عمل؛ لأنّه لم تنفع مع
القوم لغة الكلام.
وأخيراً تكلّم السيف، أخذ
مأخذه من جسد الإمام
الحسين عليه السلام ومن
أجساد رجاله، وإنهزمت
كلمات الإمام الحسين عليه
السلام أمام سلاح يزيد،
ولكنّ مبادئ الإمام
الحسين عليه السلام لم
تنهزم وإسم الإمام الحسين
عليه السلام لم يُمح من
الوجود، وبقي مع الأيّام
رمزاً لمبدأ وعنواناً
لقضيّة، ولا غرو فإنّ
موقف الإمام الحسين عليه
السلام لم يكن إلاّ نواة
للإنسانيّة التي قدّر لها
البقاء على مرّ الزمان.
• الإستشهاد من أجل
العقيدة ومن أجل بناء
الإنسان بناءً إسلاميّاً
جديداً هو في الحقيقة
معنى إنسانيّ متجدّد لا
ينقطع عنه الإنسان في كلّ
عصر، وهو لذلك خليق بأن
تتعاطف معه القلوب جيلاً
بعد جيل على إختلاف في
عقيدة الأجيال وتباين
أنظمتها الإجتماعيّة،
فإنّ ثورة الإمام الحسين
عليه السلام قد لبست مع
الأيام ثوباً يصلح لأن
يرتديه كلّ إنسان يريد
الإحتفاظ بإنسانيّته.
• والثورة كما تكون
بالسيف حيث لا مجال إلا
للسيف، كذلك تكون بالرأي
والفكر، بإعلان الثورة
الفكريّة ضدّ الظلم
والظالمين. لذا قام كلّ
واحد منهم بدوره تجاه
الدين بما يناسب طبيعة
ظرفه وعصره وكان له
أسلوبه الخاصّ في نشر
الدعوة وإيضاح معالمها
والدفاع عنها بالسيف إن
أحوجت الحالة إلى السيف
أو ببثّ المظلوميّة بأناة
ورويّة وإيقاظ الشعور نحو
الحقّ الذي تنكّر له
أولئك الطغاة الذين
تحكّموا في رقاب العباد
بأن يجعل من ذلك منطلقاً
للوصول إلى الهدف حفظاً
لروح الثورة وتمهيداً
لأسباب النهضة ولو بعد
حين. وأهل البيت الذين
أسندت إليهم مهمّة
الرسالة كانوا يسيرون
معها جنباً إلى جنب،
وكلّ إمام قام بالمهمّة
حسبما سمحت له الظروف،
وإن بدا في ظاهر القيام
تباين في السلوك وتناقض
في الشكليّات، ولكنّ هذه
الظاهرة كانت تبدو على
هذا المستوى مختلفة في
الظاهر ومتّحدة في الواقع
تبعاً لإختلاف الظروف
التي مرّ بها كلّ إمام.
• نحن لا نقيم هذه الذكرى
بكاءً على فائت، أو بكاءً
على الإمام الحسين عليه
السلام فقط، وإنّما نجعل
من هذا اليوم، ومن هذه
الذكرى، احتجاجاً صارخاً
على الظلم والظالمين،
أينما كان وحيثما وجد.
• ليس غرض الأئمّة من
إقامة عاشوراء أن نأخذ
منها العَبرة، وإنّما
غرضهم أن نأخذ منها
العِبرة. أن نعتبر بها
وأن نتّعظ بها.
• وتأتي زينب، لتتمّم هذه
الأضحيّة. الإمام
الحسين عليه السلام ضحّى
وقدّم ما عليه، ولكن بقيت
هذه الأضحيّة تحتاج إلى
من يقدّمها قرباناً إلى
الله، لأنّ لها نيّة، لها
تقدمة. فجاءت زينب ورمقت
السماء بطرفها، بعدما
وضعت يديها تحت ظهر
الإمام الحسين عليه
السلام، قائلة: (اللهمّ
تقبّل منّا هذا القربان).
فهل هناك أعظم من هذا
القربان، ومن هذه
الأضحيّة؟.
• وإذا جاء أحد الشباب
وقال: لقد مضى على مأساة
الطفّ
قرون وقرون، فما بال
الشيعة يضربون لها موعداً
في كلّ عام؟ وما بالهم لا
يزالون يرون جرحها
حيّاً؟.
• فحينئذٍ نقول: إنّ
مصيبة الإمام الحسين عليه
السلام لم تكن مصيبة
شخصيّة، والإمام الحسين
عليه السلام لم يمضِ إلى
القتل من أجل شيء زائل،
حتى يُقال إنّ الزمن قد
مرّ على تلك المصيبة. إنّ
ثورة الإمام الحسين عليه
السلام هي امتداد لثورة
الإسلام الكبرى، والإسلام
لم ينتهِ بعد.
• ما دام الإسلام قائماً
فالإمام الحسين عليه
السلام موجود، قضيّة
اقترنت بكلمة لا إله إلاّ
الله، ولولا الإمام
الحسين عليه السلام لم
تُسمع على وجه الأرض تلك
الكلمة.
• إنّ نصرة الإمام الحسين
عليه السلام لا تتمثّل في
إنقاذه من القتل، وإنّما
تتمثّل في نصرة هذا
الدين. الإمام الحسين
عليه السلام جاء ليُقتل؛
لأنّ في قتله حياة
للأمّة. وكلّ من قال لا
إله إلاّ الله هو مدين
للحسين عليه السلام.
• قضيّة الإمام الحسين
عليه السلام ستبقى،
وستحيا بالرغم من أنوف
الظالمين، وستتنشر
وتتّسع، إنّ هذه القضيّة
هي اليوم أوضح منها
بالأمس، وستكون غداً أوضح
منها اليوم، وسيأتي اليوم
الذي لا يكون لغير ثورة
الإمام الحسين عليه
السلام وجود وسلطان في
الأرض.
عِبرٌ من كربلاء:
• لقد امتُحن إبراهيم
الخليل عليه السلام
بنفسه، فكان في مستوى
المسؤوليّة، وامتُحن
بماله، فكان في مستوى
المسؤوليّة، وامتحن بذبح
ولده الذي بقي ينتظره
ثمانين عاماً، وقيل أكثر
من ذلك، فاستعدّ وتهيّأ
لذبحه، وكذلك أذعن
إسماعيل عليه السلام
استجابة لصوت الحقّ،
فامتثل أمر أبيه، ولكن
لمّا رأى الله سبحانه
وتعالى، من إبراهيم
التصميم والعزم على
التنفيذ، فداه بذبحٍ من
عنده؛ لأنّ القضيّة كانت
قضيّة امتحان، لا أقلّ
ولا أكثر، يعني حكم صدر،
لكن مع وقف التنفيذ.
• ولكنّ الحسين عليه
السلام حفيد إبراهيم
الخليل عليه السلام، كان
له مع البلاء شأن آخر،
وهو الوارث للإمامة
الإبراهيميّة منذ ذلك
اليوم، وهو يوم التأسيس؛
لأنّ إبراهيم هو المؤسّس
الأوّل لرسالة الإسلام
التي نعتنقها نحن اليوم.
• إنّ ذرف الدموع فيه
إعزاز للشخص الذي يُبكَى
عليه، لكن ليس هذا هو
الغرض، إذا استعبر
الإنسان، وبكى على
الحسين، وكان يسير في خطّ
معاكس للحسين، فأيُّ
فائدة من تلك الدموع؟ إنّ
الإمام الحسين عليه
السلام نفسه يبرأ من تلك
الدموع.
• فالحسين عليه السلام
أعطانا صورة عظيمة عن
الحقّ، فضحّى
في سبيل الحقّ، والحقّ لا
زال أمانة في أيدينا؛
لأنّ الإمام الحسين عليه
السلام ما ثار إلاّ
ليقدّم للأجيال المثل
الخالد، في التضحية
والفداء، وليفهم الأجيال
المتعاقبة، أنّ الأمّة
التي تكتب تاريخها بالدم،
لن تقهر ولن تزول من
الوجود، ما دامت هذه
الأمّة تعطي الموت، ما
يشاء من الشهداء، وما
دامت تقف من الموت، موقف
الصمود والكبرياء.
• علينا أن نؤدّي رسالة
الحقّ التي ورثناها، على
أتمِّ وجه، مهما تطلّب
ذلك من البذل والتضحيات،
علينا أن نعيش مع هذه
الذكرى، ونخرج منها ونحن
أقوى إرادة وأمضى عزيمة،
وأصمد ما نكون في وجه
الباطل، وفي وجه كلّ من
يريد الكيد للإسلام
والمسلمين. إنّ قضيّة
الإمام الحسين عليه
السلام ليست حبيسة ذلك
المكان وذلك الزمان.
• نستوحي من هذه الذكرى،
أنّ مَنْ كرمت عليه نفسه،
وعظم الحقّ في نفسه، هان
عليه الباطل، وهانت عليه
شهواته وملذّاته.
• ورد عن الإمام الصادق
عليه السلام قوله: "يا
فضيل، أتجلسون وتتحدّثون
بالرِّقة أو بالرَّقة؟
(يعني بنواعيهم وهي هذه
اللغة الموجود الآن عند
أهل العراق وفيها رقّة،
وفيها لطافة، تبعث الأسى
والشجى في النفوس) قال
بلى يا بن رسول الله. قال
أما أنّ تلك المجالس
أحبُّها، فأحيوا أمرنا،
رحم الله من أحيا أمرنا
أهل البيت".
• إنّ إقامة هذه الذكرى،
إذا لم تكن إحياءً
لأمرهم، فهي حجّة علينا،
وبلاء علينا؛ لأنّنا بدل
أن نخرج حينئذٍ من هذه
المجالس، ودموعنا تتفجّر
براكين ثورة على الظلم،
فإنّنا نخرج لنسير مع
الظالمين، ونمشي في ركاب
الظالمين. حينئذٍ نعلم
ألاّ قيمة للبكاء وخاصّة
أنّ أهل الكوفة بكوا على
الحسين، بعد أن نفّذوا
جريمتهم.
• إن ثورة الإمام الحسين
عليه السلام قد إحتلّت
مكانتها في قلب الخلود.
وستبقى ما بقي هذا
الوجود، تسير مع الإسلام
جنباً إلى جنب؛ لأنّها قد
احتضنت أهداف الإسلام،
وكان الإسلام يومذاك في
أشدّ الحاجة إليها. وإذا
كان الإسلام بالنظر إلى
الأديان خلاصتها، كان
الإمام الحسين عليه
السلام بالنسبة إليها
ضمانتها.
ثورة الإمام المهديّ
عجل الله فرجه الشريف
امتداد للثورة الحسينيّة:
• يزول الإستغراب، عندما
نجد في التاريخ أنّ
المهديّ عجل الله
فرجه الشريف يعلن ثورته،
ويجعل شعار ثورته "يا
لثارات جدّي الحسين"؛ ذلك
لأنّ ثورة المهديّ، هي
الفصل الأخير من فصول
ثورة الحسين عليه السلام.
لذلك يعلنها في مكّة،
ويفجّر الثورة من كربلاء،
حيث أُريق دم النبوّة
فيها.
• إنّها حلقة في سلسلة،
فكذلك لو لم تخرج فاطمة
خلف أمير
المؤمنين، تلك الخطوات من
الدار إلى المسجد، لتنقذ
وليّها، لما خرجت زينب
بعد ذلك، مع الإمام
الحسين عليه السلام، وبعد
الإمام الحسين عليه
السلام من كربلا إلى
الكوفة، ومن الكوفة إلى
الشام، وهكذا من بلد إلى
بلد.
• كما أنّه قد آن
للمسلمين عامّة، لا
للشيعة فقط، أن يتّصلوا
بالحسين عليه السلام
اتصالاً عقائديّاً، لا
إتصالاً عاطفيّاً، بأن
يستعيدوا إلى أذهانهم
وأفكارهم ذكرى عاشوراء،
ليأخذوا من معطياتها -
وما أكثرها! - الدروس
والعبر، وأن يجنّدوا من
هذه الذكرى، روحاً
حسينيّة تقودهم في محنة
فلسطين، وتخوض بهم في
ساحات معارك الشرف، التي
خاضها الحسين عليه السلام
وأهل بيته وأصحابه، لأنّه
يجب على المسلمين أن يكون
لهم في كلّ قطر مسلم،
حسينٌ جديد إذا تعرّض ذلك
القطر لكربلاء جديدة.
هجرة الإمام الحسين
عليه السلام امتداد لهجرة
النبيّ صلى الله عليه
واله:
• لقد خرج الإمام الحسين
عليه السلام بأهله من
المدينة إلى مكّة خوفاً
من آل أبي سفيان
وأعوانهم، وخرج جدّه
محمّد من مكّة إلى
المدينة خوفاً من أبي
سفيان وأعوانه. وبين
الخروجين ستون عاماً
وانقرض مجد أبي سفيان على
يدي محمّد بفتح مكّة في
بضع سنين، وانقرضت دولة
أبي سفيان على يد
ولده في أقلّ من ثلاث
سنين، وقامت على أنقاضها
الدولة المروانيّة،
وانقرضت هي الأخرى في
أقلّ من ستين عاماً،
وأراح الله العباد
والبلاد من ظلمهم وجورهم.
• خرج بالنساء والأطفال،
ولو لم يخرج بهنّ لما حصل
السبي والتنكيل، بدون ذلك
لا يحقّق الهدف الذي
أراده وهو القضاء على
دولة الظلم، وكشف القناع
الذي تستّرت به لخداع
البسطاء من الناس بأنّ
الدولة الأمويّة دولة
مسلمة، ولولا الخروج
بزينب وأخوات زينب، لما
تسنّى لها أن تقف في مجلس
ابن زياد وفي مجلس يزيد
لتبيّن للرأي العامّ مبلغ
عتوّ القوم وظلمهم، ولما
تسنّى لها أن تصبّ
اللعنات على بني أميّة
على رؤوس الأشهاد. ولا
قيمة للتضحية إذا لم تولد
العطاء، ولقد أسفرت تضحية
الحسين عليه السلام عن
أكبر العطاء بخروج
النساء، فكان من معطياتها
إقتلاع عرش الأمويّين
وإيقاظ النفوس لإتِّباع
الحقّ.
- أدوار أهل البيت عليهم
السلام
• لقد سكت الإمام عليّ
عليه السلام في بداية
الأمر حرصاً على وحدة
الكلمة، ولكنّه في الوقت
نفسه كان يمنح الرسالة
والقائمين عليها صواب
الرأي، ونبّه الغافلين
إلى مركزه من الدعوة
إحتفاظاً بحقّه.
• تجد حياة الإمام
السجّاد عليه السلام
حافلة بالدعاء وتوجيه
المجتمع المسلم إلى الله،
والظرف الذي عايشه الإمام
السجّاد من أشدّ الظروف
قساوة ومن أجمعها للحوادث
والكوارث على المسلمين
عامّة وعلى أهل البيت
خاصّة... والدعاء خير
وسيلة لنشر تلك المثل
وبثّ الوعي الدينيّ في
النفوس حيث أوشكت في ذلك
الجوّ المظلم أن تزول
معرفة الحقّ من قلوب
الناس، ولم يبق للدين أثر
إلاّ في أفواههم وعلى
ألسنتهم...
• مشى أهل البيت مع الدين
جنباً إلى جنب يحوطونه
بالحماية بما يتّسع له
صدر الزمان، فهذا الإمام
الباقر عليه السلام قد
ملأ حياته بنشر علوم
الرسالة عن طريق الحديث
ومناظرة أهل البدع وأهل
المذاهب الفاسدة التي
مهّدت لها تلك العصور
المظلمة على ألسنة بعض
الشيوخ الذين باعوا دينهم
بدنيا غيرهم. هكذا ينتقل
الدور إلى الإمام جعفر
الصادق عليه السلام الذي
ساعدته الظروف على نشر
العلوم والمعارف من شتّى
النواحي، فلقد كان عصره
عصر العلم، والناس يومذاك
قد وجدوا من نفوسهم
الإستعداد الكامل لتلقّي
العلوم من مدرسة الإمام،
والناس وإن تمكّن حبّ
الدنيا من نفوسهم لكنّ
العلم تبقى له مكانة في
تلك النفوس، وهو غير
موجود عند أولئك الذين
تخلّفوا على المسلمين.
• والحاصل أنّ دور
الأئمّة عليهم السلام على
الرغم من إقصائهم عن
الحكم كان دوراً مشتركاً
في حماية الرسالة
والعقيدة، وكانت الحالة
عند البعض منهم تُؤدّي
إلى الإصطدام المسّلح في
سبيل حمايتها، كما تمّ
للإمامين عليّ والحسين،
والإمتناع عن الإصطدام
المسلّح من قبل الآخرين
لإمتناع الظروف عن
تحمّلها لمثل هذا
الإصطدام، ولكنّ موقفهم
وإن اتخذ الطابع السلبيّ
إلاّ أنّه بصورته
السلبيّة كان يعطي ثمرة
العمل الإيجابيّ من حيث
إنّ موقفهم في حالتي
الإصطدام والمهادنة كان
يعكس تعاليم رسالة
الإسلام ويؤكّد للرأي
العامّ انحراف الحاكمين
عن تلك التعاليم، وهذا هو
أكبر همّهم.
• وجواب الإمام الصادق
عليه السلام للمنصور لما
استدعاه هذا الأخير
للإتصال به أسوة بغيره من
الشيوخ، فيه كلّ الدلالة
على قوّة لا تتزعزع في
معارضة صلبة للحكم القائم
إذ يقول له "إنّ من
أراد الدنيا لا ينصحك،
ومن أراد الآخرة لا يصحبك".
• وانظر إلى قول الإمام
موسى بن جعفر عليه السلام
لهارون العبّاسي "أنت
إمام الأجسام، وأنا إمام
القلوب".
• إنّ مهمة الأئمّة في
جميع أدوارهم مدّ الرسالة
الإسلاميّة بالحياة
وحمايتها من الإنحراف
ليبقى لها أثرها الطبيعيّ
ممتدّاً عبر الأجيال،
وهذا المعنى لا يكفي فيه
القيام بثورة مسلحة؛ ذلك
لأنّ ترسيخ الحكم الصالح
في الأرض يحتاج إلى إعداد
جيش عقائديّ يؤمن بالإمام
إيماناً مطلقاً يكون فيه
دعامة للحكم الصحيح
ويحقّق للثورة القائمة
مكاسبها.
- الحضّ على التديّن
• فما على المسلمين في
هذا الجوّ المشحون
بالغيوم، إلاّ أن
يستعيدوا إلى أذهانهم،
صورة حيّة من صور هذه
الذكرى، ويستفيدوا من
معطياتها، لخوض المعركة
مع العدوّ الذي اعتدى على
مقدّساتنا، واستلب منّا
حريّتنا وكرامتنا. علينا
أن نخوضها معركةً فاصلة
بالعرق والدم والسلاح، مع
العدوّ الغادر الذي لا
يعرف السلام القائم على
العدل، والحريّة
والمساواة. والمسلمون
اليوم، يطالبهم دينهم في
شتّى بقاع الأرض أن
يكونوا أقوياء، وأن
يحاربوا مواضع الضعف من
نفوسهم، حتّى لا يهنوا
ولا يستسلموا
﴿وَلاَ
تَهِنُوا وَلاَ
تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ﴾2.
• ونخوض معركة المصير ضدّ
أعداء الله والإنسانيّة،
أن يهاجر كلّ منّا إلى
نفسه ويسألها ماذا قدّمت
لخوض هذه المعركة؟ وبماذا
ضحّت في سبيلها؟ علينا أن
نأخذ من معطيات هذه
الذكرى، ما ينفعنا في
حياتنا الحاضرة. والجدير
بالمسلمين اليوم، أن
يمثّلوا نفس الدور الذي
مثّله أولئك، بالفناء في
ذات الحقّ الذي ترجموه
إلى أعمال قائمة على
الوفاء لدين الله، وأن
تعيش تلك المبادئ والقيم
في نفوسهم وأفكارهم، ولا
سيّما وهم يخوضون معركة
المصير ضدّ أعداء الله
والإنسانيّة.
• أمامك أيّها الشابّ
طريقان: طريق الخلود
والبقاء، وطريق الزوال
والفناء. والشباب الواعي
سوف يجعل من الإمام
الحسين عليه السلام قدوة
صالحة فلا يختار غير طريق
الحسين، طريق الحقّ
والعدالة والعزّة
والكرامة، وأمّا الشباب
الذي لا يفكّر بأكثر ممّا
تمليه عليه ملذاته
وشهواته فقد آثر أن يسلك
طريق يزيد.
• إنّ حادثة الطفّ مدرسة
تخطّ للأجيال المتعاقبة
نهجاً وحبّاً يعمره
الإيمان الصادق وتتمثّل
فيه قصّة هي رمز للبطولة
والإباء لا تجد لها
مثيلاً في تاريخ الأبطال
الأباة، فقد أخرجت للناس
نموذجاً فريداً في عالم
التضحية، تلك التضحية
التي خرقت بمعجزاتها سنّة
الحياة وقلبت سلّم
التطوّر وراحت تهزأ
بالخطوب وتسخر بالحياة
إذا ساد فيها الظلم
وانتشر الجور.
- الجهاد ومواجهة الأفكار
الإلحاديّة والمنحرفة
• الآن نحن نستطيع أن
نرحل مع الإمام الحسين
عليه السلام، ونكون معه،
إذا تمثّلنا ثورة الإمام
الحسين عليه السلام في
أفكارنا
وقلوبنا، وعملنا بمغزاها
ومرماها. ولا نقتصر على
الدموع، وعلى البكاء، بل
إنّ هذه الدموع يجب أن
تكون ثورة على الظلم
والظالمين.
• والله إنّك إن تنكّبت
طريق الإمام الحسين عليه
السلام، وسرت في غير طريق
الإمام الحسين عليه
السلام، تكون كمن هدر دم
الإمام الحسين عليه
السلام ؛ لأنّ الإمام
الحسين عليه السلام دمه
غالٍ أيّها المسلمون
المؤمنون. الإمام الحسين
عليه السلام سقى الحقّ
بدمه. فلا تضيّعوا هذا
الدم فتتركوا الحقّ.
• أنظروا، الخطر أحدق
بكم، خاصّة أنتم أيّها
الشيعة أحدق بكم. والله
لا خلاص لكم، ولا نجاة
لكم، ولا مستقبلَ زاهراً
لكم، إلاّ أنّ تتّصلوا
بالإمام الحسين عليه
السلام وتستظلّوا بظلّ
نظام محمّد بن عبد الله
صلى الله عليه واله.
• فإذاً نحن في هذا
الزمان، مدعوّون لأن نكون
من جند الحقّ. وما هذه
المجالس إلاّ محاولة من
المحاولات، لأن نجنّد
منها روحاً حسينيّة
تقودنا في محنتنا، وفي
ساحات معارك الشرف، التي
يقف فيها الحقّ في وجه
الباطل. فإذاً نحن نستطيع
الآن أن نكون جنوداً
للحسين بالمحافظة على ما
بذل الإمام الحسين عليه
السلام دمه في سبيله.
• لا تنظروا إلى الدين من
زاوية المتديّنين، فإنّ
المتديّنين شيء والدين
شيء آخر، من أين عرفت
الدين حتّى رميته
بجهلك؟
لا تنظر إلى الدين من
زاوية المصلّين
والصائمين، تقول يصلّون
ويصومون ويكذبون ويفعلون
المنكرات. هؤلاء ما صلّوا
ولا صاموا، وليس العيب في
الصلاة، إنما العيب في
المصلّين.
• الله أقام لك أيّها
الإنسان حفلة تكريم بين
ملائكته المقرّبين وأمرهم
بالسجود لك، فلماذا تلوثّ
شرف إنسانيّتك؟ لماذا
تمرّغ كرامتك بوحل الأرض؟
• كلمة (الله أكبر) تحمل
صرخة عالية في وجه كلّ
متكبّر بأنّ الله أكبر
منه, كلمة (الله أكبر)
تنفخ فيك روح العزّة
والكبرياء والكرامة، فلا
تكون عبداً، ولا
مستعمَراً، ولا مذنباً،
لا تركع إلا لله، ولا
تحني هامتك إلا لله.
• يقولون إنّ الدين قيد.
هو قيد لأي شيء؟ قيد
لحيوانيّتك، حتى لا تنجرف
مع الهوى، وتتملّكك
الرغبات. هل هو قيد
للإنسانيّة؟ إنّه ما جاء
إلاّ ليدعم الإنسانيّة،
التي تأبى عليك أن تنجرف
مع الهوى.
• فكّروا أنه ما انتشر
الفساد، وما عمّ الظلم
إلاّ بالبعد عن الله.
عندما يبتعد الإنسان عن
الله وعن ذكر الموت فإنّه
يصدر عنه كلّ شيء. كلّ
شيء يرقى إليه الشكّ إلاّ
الموت..
• الآن أنت عندما تمشي
وراء واحد من هؤلاء الذين
تزعّموا
الشارع اليوم، أنظر ما هي
غايته، هل صحيح أنّه طالب
حقّ؟ هل صحيح أنّ قلبه
محروق على الشعب كما
يدّعي؟ نحن نطالبكم بأن
يكون لكم الوعي الكافي
فتحاسبوا، ولا تنحرفوا
وتنجرفوا وراء عواطفكم،
فكّروا قبل أن تنقلوا
أقدامكم.
• لِمَ ذهبتم من بين
أيدينا؟ لِمَ تنكّرتم
للدين؟ ما الذي وجدتموه
في الدين؟ تعالوا نجلس
على طاولة.
• لقد جاء الإنحراف
اليوم، ودخل البيوت، بإسم
الثقافة، بإسم الحضارة،
وهي حضارة ماديّة، ولكن
أين أصبح الإنسان في ظلّ
هذه الحضارة؟ هل حفظت لك
هذه الحضارة أمنك
واستقرارك أيّها المسكين؟
• إنّ ما نشهده اليوم من
إنعدام الأمن والإستقرار،
ما هو إلاّ نتيجة لما
جاءتنا به الحضارة
الغربيّة، وهي فوق ذلك،
ما جاءت إلاّ لتقضي على
دينك، وعلى ارتباطك
بالله؛ لأنّك ما دمت
مرتبطاً بالله فلن يقووا
عليك. هم أضعف ما يكونون
في جنب الله.
• هذا إذا كان المعلّم
مستقيماً. ولكن تعال
وانظر إذا كان شيوعيّاً،
لقد نُقل إليّ أنّ أحدهم
يأتي إلى التلميذ ويعده
بترفيعه في الإمتحان إذا
صار شيوعيّاً.
• إنّني أقول لكم الآن،
إنّ القريب العاجل سوف
يكشف لكم عن حقيقة هذه
الأحزاب، وحينئذٍ ستعيشون
نقطة تحوّل، قهراً عنكم،
شئتم أم أبيتم. ولا أريد
أن أفضي الآن بما عندي من
المعلومات الجديدة.
• لقد تبدّلت المقاييس في
هذا اليوم بإسم المدنيّة،
بإسم الثقافة، بإسم
الحضارة، أنظر إلى هذه
الألفاظ الحلوة كيف
يستغلّونها، كما جاءوا في
العراق يوماً بإصطلاح
"الإصلاح الزراعيّ"
ونفّذوا من خلاله ما
أرادوا: ههنا أيضاً
مدنيّة، ثقافة، حضارة،
ليخدعوا البسطاء.
• إنّ نصرة الحقّ لا
تقتصر على ميادين الجهاد،
حيث تدور المعركة بين
المسلمين وخصومهم، وإنّما
تتعدّاها إلى حياتنا
اليوميّة وأعمالنا في
بيتنا، ومع إخواننا، ومع
المجتمع من حولنا. لأنّنا
إذا لم نجاهد الباطل في
نفوسنا، ونستنكر الظلم في
نفوسنا، وإذا لم ينتصر
الحقّ في داخل نفوسنا،
فلا يمكن أن نلبّي دعوة
الحقّ في ميادين الجهاد.
|