خطبة حول: حول معركة المبادئ

الحمد لله ربَّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد، وعلى آله وأصحابه الطيّبين الطاهرين.

إليكم كلُّ منقبةٍ تؤولُ         إذا ما قيلَ جدُّكُمُ الرسولُ
وفيكم كلُّ مكرمةٍ تجلّى      إذا ما قيلَ أمُّكُمُ البتول
فلا يبقى لمادحكم كلامٌ       إذا تمَّ الكلامُ فما يقول


لا شكّ أن من يرجع إلى التاريخ، يجد واضحاً جليّاً، أن آل عليّ هم ميزان المجتمع وقادته وسادته. قد ورث كلّ واحد منهم الفضائل من معدنه، وأخذ المكرمات من مصادرها. وهذا الإرث الجليل قد هيّأهم لنصرة الحقّ والعمل في سبيله.

وهم لم يرثوا هذا الحقّ، ليستغلّوه لصالح أنفسهم، وإنّما كان في أيديهم حقّاً مشاعاً للناس، بحيث يكون لكلّ بيت من هذا الحقّ


135


نصيب. وفي حين كان الحقّ، الذي تمخّضت عنه رسالة الإسلام، من نصيبهم، كان الباطل الذي تمخّضت عنه رسالة الشيطان، من نصيب أعدائهم، ونعني بالأعداء هنا، الحزب الأمويّ.

وهكذا، فقد وقع الصراع من اليوم الأوّل، بين أهل البيت النبويّ، والحزب الأمويّ. ولذلك، لم تكن المعركة بين هذين البيتين، أو بين هذين الحيَّين، معركة شخصيّة، وإنّما كانت معركة مبدئيّة، وعلى هذا الأساس، ما كانت هذه المعركة لتقف عند هؤلاء الأشخاص، وإنما تعدّتهم إلى أشخاص آخرين، بمعنى أنّ الحقّ الذي ورثه البيت النبوي، بقي يمتدّ عبر القرون والأجيال، إلى الأبناء وإلى الأحفاد، بل وإلى الأتباع أيضاً.

وراية الباطل التي تسلّمها الحزب الأمويّ، أوّل من رفعها في وجه راية الحق، هو أبو سفيان بن حرب، وهكذا إلى يزيد. ومن ثَمَّ امتدّ الصراع إلى الأتباع من الجانبين.

فمعركة المؤمن مع خصمه في هذا اليوم، هي المعركة الأولى نفسُها، بلا فرق. من انتسب إلى راية الحقّ وإلى أهل الحقّ وسار على نهج عليّ وأبناء عليّ، هو في صراع دائم مع من سار في ركاب بني أميّة، وفي ركاب الباطل الذي يمثّلونه.

إنّه صراع مستمرّ، وإذا اندحر الباطل أحياناً، أمام ضربات الحق، فليس معناه القضاء على الباطل نهائيّاً. بل في النتيجة، يتحوّل الباطل من أرض إلى أرض، ليستجمع قواه، ولكن بعد أن يتمثّل بأشخاص آخرين.


136


إنّها أيضاً معركتنا اليوم نحن المسلمين، فحيثما حملنا راية الحقّ، فُرض علينا أن نسير دروب الجهاد، لنكون من أتباع أهل البيت بحقّ. ولا شكّ أنّ نصرة الحقّ لا تقتصر على معركة السلاح، بل إنّ لها ميادين أخرى.

وهذا يعني أنّنا يجب أن نصارع أوّلاً قوى الباطل والشهوات من أنفسنا، علينا أن نستنكر الباطل من أنفسنا وبالتالي نستنكره من غيرنا. يجب أن تقتنع النفس أوّلاً بالحقّ قبل أن تطبق مبادئه على الآخرين، وتدافع عنه في الخارج.

إنّ المؤمن لا يهمّه الإنتصار في المعارك، بقدر ما يهمّه أن ينتصر على نفسه، وأن يكون إلى جانب الحقّ. وليست العِبرة أن ينتصر في معارك السلاح. فقد ينتصر مبدأ الحقّ، دون أن يرافق ذلك إنتصار بالسلاح. بعبارة أخرى، إنّ مبدأ الحق قد ينتصر تحت ظلّ اللواء المغلوب، وليس من الضروريّ أن يبقى المؤمنون المنتصرون على قيد الحياة. إنّهم يريدون من معركتهم مع خصومهم، أن تنتصر كلمة الحقّ ولو على حساب أرواحهم ودمائهم.

وممّا يؤسف له، أنّ كثيراً من الشباب يظنّون أنّ الحسين عليه السلام قد أخفق في ثورته، ولم يحقّق الأهداف المطلوبة منها، لأنّه كان يريد أمراً فحال الموت دونه. إنّ هؤلاء يعتقدون أنّ الحسين عليه السلام قام ليأخذ السلطة من يزيد فعاجله يزيد وقتله وانتهى الأمر.

ونحن نقول لهؤلاء إنَّ كلامكم يصحّ إذا كان الهدف من ثورة


137


الحسين عليه السلام، أن يصل إلى الملك والسلطان. لكن إذا قلنا إنّ الغرض من ثورة الحسين، هو القضاء على الفساد في الأرض، بمعنى القضاء على بني أميّة، وهو بيان أعمالهم للرأي العامّ، وكشف حقيقتهم، وإفتضاح أمرهم. إذا قلنا إنّ الغرض هو ذلك، فلا شكّ أنّ الحسين عليه السلام قد حققّ أهداف ثورته، وها هم بنو أميّة، بعد ثورة الحسين عليه السلام، قد غدا سبّهم وبغضهم ولعنهم شعاراً للمسلمين الطيّبين، هذا هو المقصود.

إنّ الإمام الحسين عليه السلام هو المنتصر، لأنه لولا ثورة الحسين عليه السلام، لما سمعت ذكراً للحقّ، ولا رأيت أثراً للدين. ولكن لو أنّ المسلمين استغلوا ثورة الحسين عليه السلام لصالح الدين، لا لمآرب شخصيّة، لما سمعت ذكراً للباطل على وجه الأرض أبداً؛ لأنّ الحسين عبَّد الطريق إلى الحقّ على نحو يستطيع أن يسلكه كلّ أحد، كما زرع الأشواك في طريق الباطل. ولكنّ المسلمين من بعد الحسين، أساؤوا التصرّف، واستغلوا هذا المبدأ لمآرب شخصيّة، لا أقلّ ولا أكثر.

إذاً تلك معركة المبادئ، التي لا تسجّل انتصاراتها عن طريق الغلبة بالسلاح، كما أنّها تتجاوز حدود الأشخاص المتصارعين فيها، وها هو الحسين عليه السلام يؤكّد ذلك حين سجّل في وصيّته يوم خروجه، أنّ قبوله والسير في ركابه، إنّما هو طريق للسير في ركاب الحقّ، حيث قال: "فمن قبلني بقبول الله فالله أولى بالحقّ". وكأنه يقول: أيّها الناس لا تتّبعوني لذاتي، لأنّي الحسين بن عليّ عليه السلام،


138


 إنّما تتَّبعونني على أساس اتّباع الحق، لأنّي أنا القائم بالحقّ.

هؤلاء النفر الطيّب، وهم أهل بيت النبيّ صلى الله عليه واله قد وضعوا الحقّ نصب أعينهم، ولم يكن لهم من همّ، سوى أن تبقى راية الحقّ عالية فوق رؤوس الخلق، أنظر إلى كلمة عليّ بن الحسين عليه السلام لمّا قال له أبوه الحسين عليه السلام: "يا بنيّ عنَّ لي هاتف يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير بهم إلى الجنّة". قال "يا أبه، أولسنا على الحقّ؟" قال: "بلى يا بنيّ، والذي إليه مرجع العباد" قال: "إذاً لا نبالي أن نموت محقّين". ما أحسن الموت إذا كان في جانب الحقّ!.

وانظر إلى كلمة تلميذ مدرستهم عمّار بن ياسر "سلام الله عليه" في معركة صفّين، حيث قال "والله لو ضربونا، حتّى يلحقوا بنا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على الحقّ وهم على الباطل". يعني نحن لا نرتاب إذا هزمنا وإذا غُلبنا، ولا يهمّنا ذلك ولو أدى إلى القتل ما دمنا إلى جانب الحقّ. ما أعظمها من كلمة حفظها لنا التاريخ !.

لقد حمل أهل البيت عليهم السلام راية الحقّ، ووقفوا ساهرين على حمايتها والحفاظ عليها، بقدر ما تسمح الظروف، وبقدر ما يتّسع صدر الزمان لنصرة الحقّ، بالثورة المسلّحة إذا ساعد الظرف عليها. وإذا لم يساعد الظرف، توجّهوا إلى سلاح آخر لنصرة الحقّ، ولو بمجانبة الظالمين والبعد عنهم، ليثبتوا للرأي العامّ، أنّ هؤلاء الذين يحكمون بإسم الإسلام إنّما هم يحاربون الإسلام بإسم الإسلام. وأقرب مثال على مجانبة الظالمين موقف الإمام زين العابدين عليه السلام.


139


أمّا الإمام الحسن، الذي لم تسمح له ظروفه بالثورة المسلّحة، فقد جرّد سلاحاً خاصّاً هو الصلح، ففضح به معاوية وبني أميّة قاطبة، وأثبت للرأي العامّ، أنّ بني أميّة قد ساروا في جاهليّتهم الحديثة، ينسجون على منوال جاهليّتهم القديمة. حتّى إذا وصل الدور إلى يزيد وطفح الكيل، فحينئذٍ أصبحت القضيّة لا تحتمل سوى الثورة؛ لأنّ يزيد قد أعلن الكفر صراحةً.

لقد كان ثمّ ستار رقيق يتستّر به معاوية، جاء الحسن فمزّقه بالصلح. لكنّ المسألة وصلت في عصر يزيد، إلى حدّ إعلان الكفر الصريح، لكن من يتكلّم؟ من الذي يثور في وجه هذا الكفر، ثورة محدّدة الأهداف بعيدة عن الأطماع والشوائب بحيث تستمدّ روحها من تعاليم الإسلام الصافية؟ لم يكن رجل الساعة إلاّ الحسين بن عليّ عليه السلام.
فانطلق الحسين عليه السلام جاعلاً رسالة الحقّ عنواناً لثورته كما تقدّم وحيث قال "أفلا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟".

ونحن اليوم، حيث كنّا أتباعاً لأهل البيت عليهم السلام ، علينا أن نؤدّي رسالة الحقّ التي ورثناها، على أتمّ وجه، مهما تطلّب ذلك من البذل والتضحيات، وحينئذٍ يحقّ لنا أن نعتبر أنفسنا بحقّ، من شيعة أهل البيت عليهم السلام .

والحمد لله ربّ العالمين


140