ليست الهجرة مجرّد انتقال
من مكان إلى مكان، وإنّما
هي انتقال من حال إلى
حال، فالإنتقال من حال
الحيرة الفكريّة، إلى
اليقين الثابت هجرة.
والانتقال من الشِّرْك
إلى الإيمان هجرة. بل إنّ
التغيّر الذي طرأ على
مجتمع المدينة، من
قبائلها إلى مكّة هجرة
استعدّ من خلالها هذا
المجتمع للقتال من أجل
الدين.
وعلى هذا الأساس من
المنطق، يمكننا القول
بحقّ بأنّ ظهور الإسلام
في جزيرة العرب هجرة
إنسانيّة كاملة، من حياة
الضلال والظلام، إلى حياة
جديدة مليئة بالهدى
والنور. بل إنّ الدخول في
دين الإسلام هجرة. وبدأت
هذه الهجرة في بيت
النبوّة بالنبيّ وبزوجه
خديجة، وأخيه عليّ. ثمّ
انطلقت الهجرة من خارج
بيت النبوّة، تعمل عملها
في النفوس، فكانت إيذاناً
للإنسانيّة بأنّ قوّة
الباطل، مهما عظمت
فمصيرها إلى الفناء، وأنّ
الحقّ وإن طال عليه
الأمد، فلا بدّ له من يوم
تتبدّل فيه ضرَّاؤه إلى
سرّاء.
ولم تكن الهجرة هذه
بدعاً، وإنّما هي سنّة
الأنبياء من قبلها، من
لدن إبراهيم إلى عيسى.
فإبراهيم قال كما قضى
الله من
أمره
﴿إِنِّي
مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾1.
ولقد هاجر إلى ربّه.
وكذلك فعل موسى بعده.
ومثلهما عيسى، هاجر
فراراً من اليهود، وقد
أرادوا الفتك به، فأيّده
الله في هجرته.
ومثل هؤلاء فعل النبيّ
بهجرته من مكّة إلى
المدينة. وقد أذن الله له
بالهجرة التي لم تكن إلى
فراغ، فقد كان مجتمع
المدينة مهيّأً لنصرة
المسلمين، الذين تنقّلوا
فيها من جهاد إلى جهاد.
ومن هنا كانت الهجرة
ميلاداً جديداً للإسلام.
فقد غيّرت تاريخ العالم.
إذ كان من آثارها، إنشاء
دولة امتدّت من الأندلس
غرباً، إلى أن دقّت أسوار
الصين شرقاً.
ونستطيع أن نقول إنّه
بتلك الهجرة من مكّة إلى
المدينة، قد هاجر معه
التاريخ بعصوره وأجياله،
وأعدّ سجلّه المرقوم
ليكتب أعمال المجد
والخلود، لخير أمّة
أُخرجت للناس. بل هي هجرة
أهل السماء لأهل الأرض،
لكي يهاجر أهلها إلى
السماء باتّباع رسل
السماء. ولذا عقد فيها
روابط المحبّة عملاً
وإنجازاً، بين قوم يحبّون
من هاجر إليهم، فعاش
الجميع في حياة وثيقة
المودّة، محكمة الروابط
تضرب الأقدار بسيف
تقديرها. وقوّات العالم
خاضعة لتسخيرها. والعدالة
في الدنيا قائمة
بتدبيرها.
وهكذا كما أضاءت مكّة
ببعثته، وأشرقت المدينة
بهجرته، فقد سُعدت الدنيا
برسالته. فذكريات الهجرة
تعيد إلى الأذهان طلائع
الإيمان، متمثّلة في جند
الرحمن. فلا بدع إذا كان
يوم الهجرة أعظم أيّام
التاريخ.
وإذا كانت الهجرة قد
انقطعت بالفتح، أي فتح
مكّة، كما قال"لا هجرة
بعد الفتح" فتلك هي
الهجرة إلى دار النبوّة.
أمّا الهجرة إلى رسالة
النبيّ، فهي قائمة إلى
يوم القيامة. إنَّها
بواقعها، تعني كلّ هجرة
في سبيل الحقّ، فإنّها
هجرة إلى الله وإلى رسوله
بهذا الإعتبار، كما تعني
الآية
﴿وَمَن
يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ
اللّهِ يَجِدْ فِي
الأَرْضِ مُرَاغَمًا
كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن
يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ
مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ
عَلى اللّهِ وَكَانَ
اللّهُ غَفُورًا
رَّحِيمًا﴾2.
إنّ الهجرة هي الحدّ
الفاصل بين الذلّة
والعزّة، وبين الشكّ
واليقين، وبين الرجس
والطهر، قد غيرت مجرى
التاريخ، فهي كما بدّلت
الأرض كذلك بدّلت ديناً
بدين، وفساداً بإصلاح،
وفوضى بنظام. بل لولا
الهجرة ما تجاوز الإسلام
أطراف مكّة.
وحسب الهجرة أن ترى فيها
مشهداً فدائيّاً لشابّ من
شباب الإسلام، الذين
تربّوا على الإيمان
والتضحية، وعلى بذل النفس
والنفيس لتكون كلمة الله
هي العليا، وكلمة الذين
كفروا السفلى. ألا وهو
عليّ، الذي نام في فراش
النبيّ فادياً إيّاه
بنفسه، ومؤدّياً عنه
الودائع التي عنده للناس،
وفي ذلك ما يدلّ على أنّه
لا يؤدّي عن النبيّ غير
عليّ، ولا يملأ فراغ
المكان الذي يجلس فيه
النبيّ غير عليّ.
ولقد
فسّرت الأحداث هذا الموقف
من عليّ، بما أحرزه
الإسلام من انتصار، من
قوّة وازدهار، وكلّها
تلتقي مع معطيات الهجرة،
التي سمعت بأنّها لا تعني
الإنتقال من مكان إلى
مكان، ولا من بلد إلى
بلد. وإنّما تعني
الإنتقال من وطن الملك
إلى وطن الملكوت، ومن وطن
الحسّ إلى وطن القدس، بل
إنّها الانتقال من الكون
إلى المكوِّن. وهل تتمّ
فائدة الإنتقال، إلاّ حيث
تنتقل النفس من شعور إلى
شعور. فإذا سافر معك
الشعور الأوّل فأنت مقيم
لم تبرح.
وليس من باب الاتفاق، أن
تقترن ذكرى هجرة النبيّ،
من مكّة إلى المدينة،
بذكرى هجرة الحسين، من
المدينة إلى مكّة. ولئن
اختلف مكان الهجرتين، فلم
تختلف الغاية والهدف من
وراء الهجرتين.
يهاجر النبيّ خوفاً على
رسالته من أبي سفيان
وأعوانه. ويهاجر الإمام
الحسين عليه السلام من
المدينة خوفاً على دعوته
- قبل أن يصل بها إلى
الهدف المنشود - من حفيد
أبي سفيان. وبين الهجرتين
ستّون عاماً.
وإذا كانت هجرة النبيّ من
أجل رسالته، التي كانت
تحتاج إلى أرض تستطيع
فيها الوقوف على أقدامها،
لتنطلق منها إلى بناء
المجتمع بناءً إسلاميّاً،
وإذا كانت هجرة النبيّ من
أجل حماية العقيدة من كيد
المشركين، فإن هجرة
الإمام الحسين عليه
السلام كانت من أجل صيانة
تلك العقيدة من تلاعب
الحاكمين بإسمها.
إذاً الهجرتان سلكتا
خطّاً واحداً، ومسيرة
واحدة، توصلان معاً
إلى
الله وإلى إعلاء كلمته في
الأرض، وتطبيق شريعته في
كلّ بقعة حلّت أو تحلّ
بها. لقد هاجر الإمام
الحسين عليه السلام
لينتقل بأمّة جدّه،
وبرسالة جدّه، من أرض
تهدّدها بالفناء، من حيث
إنّ الإمام الحسين عليه
السلام مهدّد فيها
بالقضاء عليه، قبل أن
تستوعب دعوته وصرخته
أطراف الأرض وآفاق
السماء، ومعنى ذلك أنّ
ثورة الحسين، ببواعثها
وأهدافها، لا يمكن فصلها
عن تاريخ الدعوة التي صدع
بها جدّه، كما يقضي بذلك
الحديث "حسين منّي
وأنا من حسين".
إذاً، ثورة الحسين عليه
السلام قد ارتبطت بحركة
الإسلام الأولى، ولا يمكن
النظر إليها مجرّدة عن
إطارها العامّ.
وهنا يبرز التساؤل: كيف
ننظر نحن اليوم إلى ثورة
الحسين؟ وماذا تعني لنا
هذه النهضة؟.
إنّ الصورة التي نتمثّل
بها الحسين، لا تعدو
الحزن والأسى، لأنّنا
نتمثّل الإمام الحسين
عليه السلام في صورة
المظلوم والمقتول، الذي
يستحقّ الرثاء والبكاء.
ولكنّ هذه الصورة بعيدة
كلّ البعد عن الواقع الذي
فتح الإمام الحسين عليه
السلام عيوننا عليه،
وأيقظ أفكارنا ومشاعرنا
على حقيقته، عندما كان
يطلق تلك الصيحات
المتتالية يوم مقتله،
ويطلب الناصر لدينه،
والدين لا يُنصر في ميدان
كربلا فحسب، بل تمتّد
نصرته إلى كلّ معركة في
الأرض.
إنّها صورة مشوّهة، تلك
التي تمثّل الإمام الحسين
عليه السلام ضحيّةً
ومغلوباً على أمره، وهي
بلا شكّ من نسج أولئك
الذين سوّدوا وجه
التاريخ،
بإظهار الشيعة بمظهر
الذّل والخنوع، والتعلّق
بالماضي المشوّه، ذاك
التعلّق الذي لا ينفصل عن
الروح الإنهزاميّة، أمام
الأحداث التي تتحدّى
وجودنا ومصيرنا.
إنّ نداء الإمام الحسين
عليه السلام يوم العاشر،
وصرخته التي أطلقها عبر
الأجيال، لا تستوجب إلاّ
الصمود في مواجهة
الأحداث، والإرتفاع معه
إلى حيث أراد من ثورته،
وهو أن لا يقف أحدنا أمام
حقّه المسلوب، وقفة
الخانع الذليل. وإنّما
يريد منّا أن نمدّ إلى
حقّنا يد العزّة والقوّة،
ولا نردّها إلاّ وهي
قابضة عليه، أو هي مقطوعة
دونه.
إنّ الإمام الحسين عليه
السلام وإن كان مظلوماً،
فإنه ثائر. وهو وإن كان
ضحيّة، لكنّه في الوقت
نفسِه شهيد. إنّ النظر
إلى الحسين عليه السلام،
بهذه الصورة، يبعث العزّة
في كلّ نفس، ويشعل النار
في كلّ قلب على الظلم،
ويؤجّج الثورة في كلّ
إنسان وفي كلّ مكان.
وهل يستطيع الإمام الحسين
عليه السلام أن يفعل غير
ما فعل، وهو يرى من حوله
ظلماً واستبداداً،
وتحريفاً للشريعة
وتبديلاً للنظام، وهو
يحتلُّ المركز القياديّ
في العالم الإسلامي؟ إنّه
حين رأى أنّ الوضع يتعذّر
إصلاحه بالحسنى، وأنّه لا
بدّ من القيام
بعمل(استشهاديّ) يستيقظ
معه الناس على الحقّ
الضائع، هيّأ لثورته
أسباب الفاجعة، بالشكل
الذي لم يسبق له نظير في
دنيا الناس، لأنّه أراد
أن يجعل من ثورته ناراً
تأتي على الحكم الظالم
المستبدّ فتحرقه بمن فيه.
إنّ الإمام الحسين عليه
السلام ينادينا بلسان
الثائر والشهيد، لا بلسان
الضحية والمظلوم، لأنّه
لا يريد أن يثير فينا روح
الخنوع والإستسلام،
وإنّما يريد أن يثير فينا
روح الثورة والفداء. تلك
الروح التي انحسرت رويداً
رويداً من صفوف أفرادنا،
ومن صفوف مجتمعنا.
إنّنا كمسلمين لم ننتصر
على أعدائنا، إلاّ بعدما
انتصرنا على أنفسنا.
إنّنا لم ننتصر بقوّتنا،
ولا بكثرة عددنا، وإنّما
انتصرنا بالإيمان
بقضيّتنا، إيماناً نستسهل
معه الموت في سبيلها.
ولدينا من تاريخنا مثلان
بارزان يفتحان أمامنا
الطريق، أوَّلهما معركة
بدر، التي انتصرت فيها
القلّة المؤمنة على
الكثرة الكافرة، وهي درس
لنا نتعلّم منه أنّ
الغلبة للحقّ لا للقوّة.
وثانيهما الإنتصار الكبير
الذي تحقّق في وقعة
حُنين، التي أصبح الإسلام
من بعدها قوّة كبيرة خضعت
لها الجزيرة العربيّة
بكاملها. ولقد علّمتنا
هاتان المعركتان اللتان
تحوّل فيهما مجرى
التاريخ، أنّ الإيمان
بالله والتسليم لأمره،
هما الشرطان الأساسيّان
لإنتصارنا. ولذا لمّا
أصاب الغرور بعض المسلمين
في وقعة حنين، انهزموا
شرّ هزيمة بالرغم من
قوّتهم وكثرة عددهم.
ولولا ثبات من ثبت مع
النبيّ وعلى رأسهم عليّ،
الذي دارت رحى المعركة
على يده وحده والمسلمون
منهزمون، لكان قد تمّ
القضاء على الإسلام
وأهله، كما قصّ الله لنا
من أمر هذه الوقعة بقوله
﴿لَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي
مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ
كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ
تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ
الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُم
مُّدْبِرِينَ *
ثُمَّ
أَنَزلَ اللّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ
جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا
وَعذَّبَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ وَذَلِكَ
جَزَاء الْكَافِرِين﴾3.
والمراد من المؤمنين عليّ
ومن ثبت حول النبيّ من
الثمانية الذين أحدقوا
به، كما حدّث التاريخ، بل
لولا عليّ لما ثبت هؤلاء،
فقد خاض المعركة بنفسه
حتّى جاء برأس أبي جرول.
وختاماً، فالذي يجب أن
نجنيه من إحيائنا لذكرى
الحسين، في كلّ مناسبة،
هو أن نتّصل به عبر
الفاصل الزمنيّ، اتصالاً
عقائديّاً لا عاطفيّاً،
بمعنى أن يتحوّل الإمام
الحسين عليه السلام في
قلوبنا وعقولنا، إلى قوّة
عمل تدفعنا إلى تجديد
صلتنا بالله، صلة خالصة
من كلّ شائبة، وتدفعنا
إلى التضحية على كلّ
صعيد، من أجل الحقّ
والعدل، لنكون أهلاً
للنصر من عند الله، كما
قال:
﴿إِنَّا
لَنَنصُرُ رُسُلَنَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهَادُ﴾4.
|