حيث نكمل في درسنا هذا
بقية المواصفات والمؤهلات
التي ينبغي للخطيب
التحلّي بها. إن ما
ذكرناه في الصنف الأول من
المؤهلات، كانت تتعلق بما
يمكن أن نطلق عليه مصطلح
(المعلومة). ومجرد حصول
الخطيب -أي خطيب- على
المعلومة، لا يصيّر منهُ
خطيباً.. إذ أن الخطابة
تحتاج إلى مؤهلات فنيّة
تمكّن الخطيب من صياغة،
وطرح المعلومات التي عنده
بما يفعّل تأثيرها، من
خلالها على الجماهير.
وبهذه المؤهلات الفنّية،
يتميز الخطيب عن المحاضر؛
الذي يكتفي بطرح
المعلومات، التي عنده
بأسلوب هادئ وبنمط واحد
تقريباً. بينما على
الخطيب، أن يكون طرحه
وأسلوبه، مراعياً فيه
الجماهير بمستوياتها
المختلفة، وشدّها إليه،
وإيصال معلوماته إليه. في
حين أن المحاضر عادة
يخاطب مستوىً معيناً
وشريحة خاصة من الناس.
وبعض هذه المؤهلات
الفنّية ضروريّة لكل خطيب.
مثل: إبراز المقاطع
المهمة في الخطبة، عدم
جعل الصوت على وتيرة
واحدة، تغيّر سرعة الحديث،
التوقف قبيل وبعيد كل
فكرة
مهمة، استعمال إشارات
اليدين والرأس أثناء
إلقاء الخطبة وإلى غير
ذلك من المواصفات الفنية.
ومع ذلك فلا بد من أن
نؤكد على بعض المؤهلات
الفنيّة، التي تكون وثيقة
الصلة، بخطيب المنبر
الحسيني، وأهمها:
أ- امتلاك مستوىً جيد من
القدرة على الحفظ
ينبغي على خطيب المنبر
الحسيني، أن يحفظ العديد
من النصوص، التي تشكّل
عنصراً مهمّاً وأساسيّاً
في نجاحه خطابيّاً.
فبالإضافة إلى استظهار
آيات قرآنية كريمة، وبعضاً
من الأحاديث الشريفة وما
ينقل عن توجيهات الأئمة
والصالحين، فإن هناك
عناية خاصة، تبذل لحفظ
خطب، أو مقاطع من نهج
البلاغة وكذلك تحفظ خطبة
السيدة فاطمة الزهراء
عليها السلام، ذات
المضامين اللغوية العالية،
وكذلك النصوص المتعلقة
بواقعة كربلاء، مثل الكتب
التي راسل بها الإمام
الحسين عليه السلام
الآخرين، وخطبه، وكذلك
خطب بعض أصحابه يوم
عاشوراء. وهناك اهتمام
خاص بخطبتي الإمام زين
العابدين علي بن الحسين
عليه السلام، والسيدة
زينب بنت علي بن أبي طالب
عليهما السلام، في الشام
حينما وصلتها السبايا.
لقد كان خطيب المنبر
الحسيني سابقاً يتلو
خطبته، من كتاب أو دفتر
يقرأ على الناس. ولكن
ومنذ عهد الشيخ كاظم
سبتي(المارّة ترجمته) أخذ
خطباء المنبر الحسينيون،
يتبارون بكثرة محفوظاتهم.
فهم بالإضافة إلى حفظ
المحاضرة بأكملها بما
يحتوي من أفكار، وآراء
ومطارحات، ونقاط وشواهد،
تحفظ بعض النصوص الخاصة،
وكذلك لا بدّ من حفظ
القصائد الشعريّة، التي
تتلى في مقدمة المحاضرة،
لا سيما في مجالس، العشرة
الأولى من المحرّم،
ووفيات النبي
صلى
الله عليه وآله وسلم،
وبقية أهل البيت عليه
السلام. إن ملكة الحفظ
تبلغ ببعض الخطباء، أن
يستظهروا كل حوادث يوم
عاشوراء بأسماء أشخاصها،
وأشعارهم، وحواراتهم
مرتّبة تاريخيّاً، مع ما
يناسب كل مقطع من شعر
رثائي، باللغة الفصحى، أو
العاميّة العراقية
الدارجة. ويستمر الخطيب
يوم عاشوراء في قراءة
المقتل، لما يزيد على
ساعتين متصلتين، بصوت
مرتفع، وإنشاد للشعر،
وأسلوب عاطفي حزين. إن
زيادة رصيد الخطيب
الحسيني، من المحفوظات
الشعريّة والتاريخية
والنصوصيّة يعني زيادة
فرص نجاحه، وتميّز منبره
وشدّة إقبال الناس على
محاضراته.
ب- التمتّع بقَدْر
جيد من رقة الصوت
لما كانت خطابة المنبر
الحسيني، قد ارتبطت بشكل
أساسي، بالتعريج على
واقعة كربلاء، والتوقف
عند مقطع منها، وإشباعه
بالشعر والإنشاد الحزين،
بل إن بداية المنبر
الحسيني، كانت عبارة عن
إنشاد الشعر الرثائي،
الذي قيل في الإمام
الحسين عليه السلام. حيث
كان أئمة أهل البيت عليهم
السلام، يعقدون تلك
المجالس في بيوتهم، كما
مرّ علينا في الفصل
الثاني من هذا البحث.
ولقد وجدنا، أن اهتمام
الأئمة بعنصر الصوت
ورقّته كان مبكّراً،
ففيما نقلنا من رواية
دخول أبي هارون المكفوف
على الإمام الصادق عليه
السلام، وإنشاده قصيدة
للشاعر السيد الحِمْيَري،
فعلّق
الإمام على ذلك الإنشاد،
وطلب من هذا المنشد،
قراءة المراثي بصوت رقيق.
ولا يزال الصوت ورقته، من
المؤهّلات الفنية المهمّة،
في خطب المنبر الحسيني،
بل يعتبر هو العنصر الأهم
إطلاقاً، في المجالس التي
تعقد في القرى والأرياف،
وبعض مجالس البيوت في
العراق، وبلدان الخليج.
أما في لبنان، فإن الصوت
ورقّته، هو العنصر الأهم
في خطيب المنبر الحسيني،
في كل المجالس كبيرها
وصغيرها، المهم منها
ومتواضع الأهمية.
ولهذا، إذا اكتشف طلاّب
العلوم الدينية المبتدؤون،
أحد زملائهم، ممن يمتلك
حسن الصوت، انهالوا عليه،
ناصحين ومشجعين، أن ينخرط
في صفوف خطباء المنبر
الحسيني!.
كما تنهال نصائح مغايرة
أخرى،على من يعتلي أعواد
المنبر الحسيني، وصوته
ليس بتلك الرّقة والعذوبة
المتوقّعة، بأن يترك
الخطابة الحسينية لأن
صوته لا يساعد عليها.
وقد كان عنصر رقّة الصوت،
من الأمور التي حالت، دون
توجّه الكثيرين، نحو حقل
خطابة المنبر الحسيني.
وفيهم من لا يُستهان
بعلمه ومعلوماته وتقواه.
والواقع أن "حسن الصوت
وحسن الإلقاء، والتّمكن
من التصرّف بنبرات الصوت،
وتغييره، حسب الحاجة، من
أهم ما يميّز الخطيب
الناجح. وذلك في أصله
موهبة ربّانية، يختص بها
البشر من غير كسب، غير
أنها تقوّى وتنمو
بالتمرين، والتعلّم،
كجميع المواهب
الشخصيّة2.
ولكن لا بد من وجود طبقات
صوت مهيّأة للتمرين
والتطوّر.
إن الصوت الجميل الرقيق،
له أبلغ الأثر، في إثارة
الشحنة العاطفيّة، التي
تنتهي بالبكاء، في نهاية
فقرات المنبر الحسيني،
والبكاء كان ولا يزال
أمراً أساسيّاً، يتميّز
به خطاب المنبر الحسيني،
عن بقية المنابر، إسلامية
وغيرها.
ويعلّق الخطيب السيد صالح
الحلّي (المارة ترجمته في
نهاية الفصل الثالث) على
هذه النقطة بقوله: "إن
خطيب المنبر الحسيني،
يحتاج إلى حاءات ثلاثة هي:
الحظ والحفظ والحسّ"3
أي الصوت4،
ومنه قوله تعالى:
﴿لا
يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا
وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ
أنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾5.
وإذا كان عنصر الصوت، من
العناصر المهمّة، في
خطابة كل خطيب؛ فإنه في
الخطابة الحسينية في غاية
الأهمية، لأن خطيب المنبر
الحسيني لا يكتفي بالخطبة
العادية ككل خطيب، بل لا
بد له من إنشاد الشعر
الرثائي، باللغتين الفصحى
والعاميّة، واستخدام
أطوار وطرق متنوعة، وبما
يستلزم بذلك من ترجيع
للصوت وتغيير نبراته.
|