المؤهلات الفنية
إكمالاً للمؤهلات
الفنية في خطيب المنبر
الحسيني نبدأ درسنا
بالتوافر على خبرة بفن
الخطابة الحسينية. إن
خطيب المنبر الحسيني، لا
يكتفي بإبراز الجوانب
العلميّة والثقافية
والمعلوماتية العامّة
التي يرعاها كل خطيب. أو
بمشاركة كلّ الخطباء في
ضرورة توافره على
المؤهلات والأوصاف الفنية،
المرتبطة بالخطابة بشكل
عام. ويزيد عليهم في نمط
خاص، من الأساليب الفنية
يتميّز بها. فمثلاً في
بعض بلدان الخليج، لا
يكتفي خطيب المنبر
الحسيني، بإلقاء محاضرته
وإنشاد الشعر الرثائي،
بعد ذلك على المنبر، بل
ينزل من على منبره،
ولاقطة الصوت بيده، يختلط
بالجمهور المحتشد، بين
يديه، ليزيد من بكائهم
وانفعالهم، وإذا كان أحد
العلماء الكبار، أو أحد
السادة الأشراف المبرزين،
حاضراً في المجلس، فإن
الخطيب ينزل ليوجّه له
أبيات العزاء، مما يزيد
في بكاء الناس وتأثرهم.
وقد نجد، بعض خطباء
المنبر الحسيني، يرمي
بعمامته إلى الأرض، في
بعض مقاطع ذكر المصيبة،
مثل لحظة ضرب رأس أمير
المؤمنين عليه السلام، في
محراب جامع الكوفة، ليلة
19 شهر رمضان، أو
لحظة قطع رأس الحسين عليه
السلام، ظهيرة يوم
عاشوراء.. وما أن يرى
الناس ذلك، حتى ترتفع
أصواتهم بالنحيب والبكاء..
وبقدر ما يمتلك من يتلو
السيرة الحسينية، من
براعة في الأداء، وفي
تغيير نبرات الصوت،
وجعلها منسّقة مع الكلمات
والمعاني، وبقدر ما يبدو
متأثراً مع تلاوته للسيرة،
ومع إنشاده لأبيات الشعر،
بأسلوب النوح، بقدر ما
يؤثر في السامعين ويحدث
فيهم توتراً نفسياً
وعاطفيّاً يقودهم إلى
البكاء1.
ويحتفظ خطباء المنبر
الحسيني، وجمهورُه،
بلقطات فنيّة، برزت من
بعض مشاهير الخطباء،
ويتداولونها بينهم،
ويتعاقلون تأثيرها في
المستمعينَ.
وإن الحضور الجماهيري،
الحاشد أيام عاشوراء
يتطلب قدرة خطابية فائقة،
للسيطرة على جمهورِهِ،
وشدّه إليه. وعلى الخطيب
الحسيني، أن يكون متهيّئاً
لكل طارئ في أثناء خطبته،
ماذا يصنع إذا انقطع
التيار الكهربائي؟ وكيف
يخاطب جمهوره ليبقي على
حالة الإنشداد إليه؟ كيف
يتصرف الخطيب إذا دخل
المجلس، عالم كبير أو
شخصية مرموقة جدّاً؟ كيف
يتعامل الخطيب، مع خطيب
آخر إذا حضر في مجلسه؟
غير ذلك من احتمالات،
وموارد، تحتّم على خطيب
المنبر الحسيني، أن
يتمتّع بقدرة كبيرة،
وخبرة واسعة، في فن
الخطابة الحسينيّة
وأصولها وتقاليدها
وأعرافها.
ومن هنا تبرز أهمية،
تتلمذ الخطيب الناشئ، على
يد خطيب أستاذ متمرّس،
يضع بين يديه خبرته،
ويبيّن له وصاياه ونصائحه
ويحكي له جوانب من تجاربه.
د- مراعاة الحكمة
إن الحكمة، كما عرّفها
البعض، من أنها (وضع
الشيء في محلّه). وإذا
كان كل خطيب، يحتاج إلى
مراعاة الحكمة، في خطابته،
فإن ذلك يبرز بصورة أوضح،
وأشد، في خطابة المنبر
الحسيني.
إن المنبر الحسيني، يخاطب
شرائح متنوعة من المجتمع،
ويحضر المنبر مستويات
متباينة من الناس، كما
يعقد في ظروف مكانية
وزمانيّة واجتماعيّة
مختلفة. ولمناسبات وأغراض
كثيرة.
وعلى خطيب المنبر الحسيني،
أن يكون حكيماً في خطابته،
مراعياً الظروف المكانيّة
والزمانيّة من جهة،
وتنوّع المستمعين من جهة
أخرى، وتباين مستوى
تلقّيهم، من جهة ثالثة،
وانسجام حديثه مع نوعيّة
المناسبة من جهة رابعة...
وكأمثلة على ما ذُكر
أعلاه، نورد ما يلي:
1- دُعي الخطيب المعروف
الشيخ كاظم سبتي(المارّة
ترجمته، في نهاية الفصل
الثالث) للقراءة في منزل
أحد السادة الأشراف، في
النجف الأشرف، بمناسبة
انتقاله إلى دار جديدة.
وإذا بهذا الخطيب، رغم كل
خبرته، ومعرفته، يبدأ
خطبته، بمقطوعة من خطب
الإمام أمير المؤمنين في
نهج البلاغة، وهي في ذمّ
الدنيا وتبدأ بقوله: "دار
بالبلاء محفوفة، وبالغدر
معروفة، لا تدوم
أحوالها، ولا
يسلم نزّالها، أحوال
مختلفة وثارات متصرّفة،
العيش فيها مذموم والأمن
فيها معدوم..."2
مما جعل صاحب الدار
مذهولاً يضرب على فخذه،
ويردد: ما هذا الافتتاح
يا شيخ كاظم3؟؟
فهنا لم تكن الخطبة
مناسبة، لمقتضى الحال، بل
هي على عكسها تماماً...
2- ومثال آخر جرى مع
الشيخ حسن بن الشيخ كاظم
سبتي المذكور أعلاه،
حينما كان يقرأ في مجلس
مختصر، ليس فيه إلا بضعة
مستمعين، من طلبة إحدى
المدارس الدينية في النجف.
ولما مرّ الإمام الشيخ
محمد حسين كاشف الغطاء،
جلس مع أولئك الطلبة،
ليشاركهم في المجلس
الحسيني طلباً للثواب.
ولكن الخطيب لم يراعِ
ظروف مجلسه، وقلّة
الموجودين، فراح يطنب في
ذكر وصيّة الإمام علي
لولده الحسن وشرحها،
والتي تبدأ في كل مقطع بـ
(بني حسن...) حتى طال وقت
المحاضرة، أكثر من
المعتاد. مما جعل الإمام
الشيخ كاشف الغطاء، يبادر
إلى ذلك الخطيب ويخاطبه:
"بني حسن، أما أوصاك أبوك،
أنه إذا كان في المجلس
ثلاثة مستمعين، فلا تطيل
الحديث عليهم؟؟"4.
وجاء تعليق سماحة الإمام
كاشف الغطاء باللفظة
نفسها التي كان يستخدمها
الخطيب...
3- ذكر لي أحد أساتذة
الخطباء وهو السيد عبد
الزهرة الحسيني الخطيب؛ (أن
خطيباً دعي لقراءة مجلس
حسيني في منزل أحد
العلماء، وكان جلّ الحضور
من العلماء وطلبة العلوم
الدينية، وإذا
بذلك الخطيب يتناول موضوع
الخمر، ومضارها وعقوبة
شاربيها.. فانبرى له أحد
الحاضرين مؤنباً... وهل
وجدت في مجلسنا هذا من
يشرب الخمر؟؟، ألم تجد
غير هذا الموضوع لتتحدث
عنه؟؟ مما أربك الخطيب
وأفشل المحاضرة)5.
هذه هي أهم المؤهلات
الفنيّة، التي ينبغي
توافرها في خطيب المنبر
الحسيني، وقد ركّزنا على
تلك المؤهلات، التي
يتميّز بها خطيب المنبر
الحسيني، عن بقيّة
الخطباء، وإن كان يشترك
معهم، في المؤهلات
الفنّية العامّة، التي لا
بد من اتصاف الخطيب، أي
خطيب بها.
ثم نأتي الآن إلى الصنف
الثالث من المؤهلات، وهي:
3- المؤهلات الرسالية
إن الصنفين الأول،
والثاني، من المؤهلات
العلميّة والفنية، إنما
يوفران شروط الخطابة
الناجحة. ويمكن اعتبار
ذلك طاقة، لا بد من
توجيهها التوجيه الصحيح،
حتى تؤتي الخطابة ثمارها
ومنافعها. فتأتي المؤهلات
الرساليّة، لتقوم بهذه
المهمّة، وهي مؤهلات
ضروريّة لكل خطيب رسالي،
سواء كان خطيب منبر حسيني،
أو خطيب منبر الجمعة، أو
أي خطيب ملتزم بأحكام
دينه وأهداف رسالته.
فهي إذن من المؤهلات
المشتركة بين كل الخطباء
الرساليين الملتزمين.
وقد تكون هذه المؤهلات
الرساليّة مثل: الالتزام
والأخلاقية والهادفيّة
أكثر ضرورة في خطيب
المنبر الحسيني، الذي
يخاطب
جماهير كثيرة واسعة،
وينتقل إلى أماكن ودول
متعددة، بما قد لا يتوافر
لخطيب المسجد.
فالخطيب الرسالي، هو الذي
يراعي مسائل هداية الشباب،
والتزام المرأة المسلمة،
والدفاع عن المظلومين..
وغيرها من الأبحاث، التي
تنبع من وعي الخطيب
وتقديره لحاجة المجتمع
إلى موضوعاته ومنبره.
فرقٌ كبير، بين الخطيب
الناجح، أي الذي يوفّر كل
المؤهلات العلميّة،
والثقافية والمؤهلات
الفنيّة، وبين الخطيب
النافع، الذي لا يكتفي
بتلك المؤهلات، بل يزيد
عليها، مؤهّلات رساليّة،
تجعله يختار الحديث الذي
يزيد في الوعي، لأنه خطيب
نافع، فالخطيب النافع؛ هو
الخطيب الهادف.
إن التزام الخطيب،
واخلاقيته، وهادفيّته،
ووعيه، أمور أساسيّة
لإيجاد المنبر الهادف،
الذي يغني الساحة، وينمّي
درجة الوعي، ويزيد من
التزامها، وتبنيها لنهج
الإسلام وأحكامه.
وكما قلنا، هي مؤهلات من
الواجب توافرها في كل
خطيب إسلامي، ولكنها قد
تكون أكثر بروزاً في خطيب
المنبر الحسيني، لسعة
المساحة التي يخاطبها في
الأمة، وتنوّع الساحات
واتساع نطاق تحرّكه.
إن شدّة ارتباط الخطيب
الملتزم بالله تعالى،
والتزام تقواه، والعمل من
أجل مرضاته، أمور في
صدارة ما ينبغي على
الخطيب الملتزم، والهادف،
أن يتحلى بها، ويعيش
آثارها، في نفسه وسلوكه
وخطابته.
إنّ حالة تقوى الله، وصدق
الإنسان في التعامل مع
ربّه الكريم،
وخلوص النيّة، وصفائها،
من الأسس بالغة الأهمية
في توفيق الخطيب، وانعكاس
ذلك على شدّة تأثر الناس
به، وبكلامه ومواعظه ومن
ثمّ ما يذكر من مصيبة
الإمام الحسين عليه
السلام.
نعم "كم من خطيب، في
مجالس ذكرى مصرع سيد
الشهداء عليه السلام،
يدفع الناس إلى البكاء،
والرّقة بمجرد مشاهدة
هيئته وسمّته، قبل أن
يتكلم"6!
هذه هي الشروط والمؤهلات
التي ينبغي حضورها، في
خطيب المنبر الحسيني،
وبعضها يشترك فيها مع كل
خطيب، والبعض يشترك فيها
مع الخطيب الإسلامي، فيما
يختص خطيب المنبر الحسيني
ببعضها الآخر.
وهنا نكون قد وصلنا إلى
نهاية المواصفات التي
ينبغي لخطيب المنبر
الحسيني التوافر عليها.
|