المسألة الثانية:
الإهتمام بالمظهر الخارجي
الاهتمام بالمظهر الخارجيّ
للخطيب بحيث يظهر أمّا
مهم بما يدعو إلى تقديره
واحترامه والوثوق بقوله
وبما يتناسب مع ما يريد
أن يقوله. وذلك يحصل
بأمرين:
الأمر الأوّل: لباسه
وهندامه
من اللازم على الخطيب أن
يعرف نفسيّات المجتمعين
وما يجب على مثله أن يظهر
به بينهم. فقد يقتضي
المقام أن يظهر الخطيب
بأفخر لباس وأحسن بزّة ما
يليق به.
وقد يقتضي أن يظهر بمظهر
متواضع كزاهد أو ناسك.
وذلك يختلف باختلاف
الدعوة التي يدعو إليها
وباختلاف طباع الحاضرين.
فكثير من الواعظين يتأثّر
الناس بهم بمجرّد النظر
إليهم قبل أن يتفوّهوا
بكلمة.
ألا تعتقد أنّ خطيباً على
الهيئة التي يصفها نوف
البكاليّ حيث يقول في
مستهلّ خطبة من خطب أمير
المؤمنين عليه السلام
قبل أن يرويها: "خطبنا
بهذه الخطبة أمير
المؤمنين عليّ بن أبي
طالب عليه السلام
الكوفة وهو قائم على
حجارة نصبها له جعدة بن
هبيرة المخزوميّ وعليه
مدرعة من صوف وحمائل سيفه
ليف وفي رجليه نعلان من
ليف وكأنّ جبينه ثفنة
بعير"1.
ألا تعتقد أنّ الخطيب
الذي على هذه الهيئة
سيؤثّر في سامعيه وعظه
وحثّه لهم على الزهد
والتقوى والتقشّف.
وكم من خطيب في مجالس
ذكرى عاشوراء يدفع الناس
بمجرّد مشاهدة هيئته إلى
البكاء وقبل أن ينبسّ
ببنت شفة.
ولا بدّ أيضاً للخطيب أن
يظهر بما يليق به أمّا م
الجمهور كي لا يثير
تهكّمهم واشمئزازهم.
فمثلاً: لو كانت عمامة
الخطيب مائلة أو كانت
عباءته مقلوبة أو كان
ثوبه ممزّقاً أو قميصه
وسخاً وما شابه ذلك، فسوف
لن يكون الأقدر على
الإقناع ولا الأقوى في
الحمل على الانقياد
والاستماع.
الأمر الثاني: سحنة
وجه الخطيب
قال الفارابيّ: ومنها أي
من الأمور التي لا بدّ
منها للخطيب"سحنة وجه
الإنسان أو شكله وشكل
أعضائه ومنظره أو فعله
عندما يتكلّم مثل أن ينذر
بورود أمر مخوف قد قرب
فيرى وجهه وجه خائف أو
هارب"2.
وقد قال أبو عليّ ابن
سينا في هذا المضمار: "و
أمّا الحال المحسوسة غير
القول كمثل من يخبر
ببشارة، وسحنة وجهه سحنة
مسرور مبتهج، أو يخبر
بأطلال آفّة وسحنة وجهه
سحنة مذعور خائف، أو ينطق
عن تقرير بالعذاب أو
الثواب"3.
فملامح وجه الخطيب
وتقاطيع جبينه ونظرات
عينيه وحركات يديه
أمور معبّرة ومؤثّرة في
السامعين فيما إذا استطاع
أن يحسن التصرّف بها
حسبما يريده البيان.
وبعبارة أكثر صراحة يجب
على الخطيب أن يكون
ممثّلاً في مظهره الخارجيّ
وحركات حاجبيه ويبدو
حزيناً في موضع الحزن
وغليظاً فظّاً في موضع
الشدّة.
بل ربما يجب عليه في بعض
الأحيان أن يبكي أو
يتباكى فيما لو دعت
الحاجة إلى ذلك. ويبدو
مسروراً مستبشراً في موضع
السرور. ويبدو بمظهر
الواثق من قوله المؤمن
بدعوته في موضع يتطلّب
ذلك.
المسألة الثالثة: ما
يجب فعله حال الالقاء مدح
القبيح وذمّ الحسن
لا بدّ للخطيب أن يكون قد
تدرّب على تطويع العبارات
والاستفادة من الأمور
بحسب الحاجة وتسخير كلّ
الأدلة لصالحه حتّى لو
كان ظاهر الدليل غير
موافق لمطلوبه.
وذلك بأن يتمكّن من أمرين:
الأمر الأوّل: مدح
القبيح
قد تدعو الحاجة لإظهار
وجه الحسن في من اشتهر
بالقبح.
فمثلاً قد تدعو الحاجة
إلى مدح فاسق فينظر
الخطيب إلى النواحي
الأخرى غير الفسق ويختار
منها ما يمكن مدحه به.
فيقول مثلاً: " أنّه سمح
سهل غير متزمّت ولا
متعنّت، منفتح على
الآخرين لطيف المعاشرة
خفيف الروح يخدم الناس...
الخ" وما شابه ذلك.
وقد يمدح الأبله الأحمق
بأنّه بسيط صافي النفس
بريء براءة الأطفال لا
تشوبه شائبة الغدر والمكر،
ولا يهتمّ بأمور الدنيا
مهما عظمت وتعقّدت، و
أنّه لا يزال على فطرته
التي فطره الله عليها لم
تغيّرها الخطايا والذنوب...
وقد يمدح الهمَّاز
النمَّام الذي يتتبّع
عورات الناس فلا يكاد يرى
عيباً إلّا ّ وينشره في
المجتمع، فيخبر به القاصي
والداني بأنّه صادق وصريح
ولا تأخذه في الله لومة
لائم، و أنّه يقول الحقّ
ولو على نفسه. و أنّه لا
يمكنه السكوت عن قبيح
الفعال، ولا يستطيع أن
يغضّ طرفه حينما يرى شرّاً
لما فيه من علوّ الهمّة
وكبر النفس، ولأنّه ليس
بشيطان أخرس... إلى ما
هنالك.
الأمر الثاني: ذمّ
الحسن
قد يقتضي الأمر إظهار بعض
مساوئ أمر معلوم الحسن.
فقد يذمّ الإنسان المؤمن
المحافظ على دينه بأنّه
جاف متزمّت رجعيّ لا يمكن
الكلام معه، وليس عنده
للحلّ الوسط مجال ولا
يقتنع بشيء ولا يقبل
نصيحة أحد... الخ.
وقد يذمّ الشجاع بأنّه
متهوّر طائش يرمي بنفسه
في كلّ مخوفة، ويبحث عن
الشرّ ويلقي بيديه إلى
التهلكة... الخ.
وقد يذمّ الكريم بأنّه
مسرف جاهل بحقّ المال
وقيمته، ويعطي من يستحقّ
ومن لا يستحقّ، وأنّ
الناس يستفيدون من طيب
قلبه ويأخذون أمواله
بحجّة أنّه كريم وهو لا
يعرف أنّهم يستحمقونه،
وبأنّه سوف يأتيه يوم
يلتفت فيه إلى نفسه ويدرك
خطأه وذلك حينما يجد نفسه
محتاجاً لما في أيدي
الناس حيث لن يجد من
يساعده بدرهم.
وقد يذمّ الحليم الذي
يصفح عمن آذاه أو تصابى
معه أو تكلّم معه بما لا
يليق به، يذمّ بأنّه جبان
لا يجرأ على دفع الاعتداء
عن نفسه حتى تطاول عليه
الكبار والصغار.
وأنّ فيه ذلّة، و أنّه
متعوّد على استماع السباب
والشتائم فلم تعد تؤثّر
فيه شيئاً... إلى ما
هنالك من أمثلة لمدح
القبح وذمّ الحسن ممّا لا
يخفى على القارئ الكريم.
فإنّ التدرّب على هذه
الأمور تطوّع الاستعمالات
والعبارات بين يدي الخطيب
وتجعل ذهنه متوقّداً
مستحضراً لكلّ سؤال جواباً
مهيّئاً لكلّ شخص ما
يناسبه من الكلام.
واعلم أنّ ما قدّمناه لك
ليس دعوة لاعتماد أسلوب
الكذب في الخطاب أبداً
وليس تشجيعاً على التعرّض
للآخرين بالنقد والتجريح
كما قد
يسبق إلى أذهان البعض ممن
تخفى عليهم النكات
العلميّة وإنّما هو توضيح
لفكرة أدبيّة وجلاء
لقاعدة خطابيّة، لو
أتقنها الخطيب لأخذت بيده
إلى إظهار الحقّ والدفاع
عنه وكشف زيغ المبطلين
وتفنيد كلام من لا يستعين
على مراده إلّا بالكذب،
والنفاق فيسلّط الضوء على
نقاط ضعفه ومواضع زلاته
كي لا يعود إلى استحماق
الناس للتسلّط عليهم.
واعلم أيضاً أنّه ليس
فيما ذكرنا شيء من الكذب
بل هو صدق ناصع غاية ما
في الأمر أنّه تصوير قبيح
للصورة الحسنة أو تصوير
حسن للصورة القبيحة وذلك
يحصل بالسكوت عن المحاسن
وذكر ما هو موجود من
المساوئ، وهذا أمر شائع
بين الفصحاء ممن يعرفون
مواضع الكلم ولم ينكر من
الشرع، ولنعطك على ذلك
شاهداً حيّاً:
ورد في البيان والتبيين
أنّ رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم سأل عمرو
بن الأهتم عن الزبرقان بن
بدر وهو حاضر فقال عمرو:
" أنّه مانع لحوزته مطاع
في أذينة".
فقال الزبرقان: "يا رسول
الله، إنّه ليعلم منّي
أكثر ممّا قال ولكنّه
حسدني يا رسول الله في
شرفي فقصّر بي".
فقال عمرو بن الأهتم
حينئذ: "وهو والله زمر
المرؤة4
ضيق الصدر لئيم الخال
حديث الغنى".
فنظر النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم في عينيه
فقال: "يا رسول الله،
رضيت فقلت أحسن ما علمت،
وغضبت فقلت أقبح ما علمت،
وغضبت فقلت أقبح ما علمت.
وما كذبت في الأوّلى ولقد
صدقت في الآخرة".
فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: "إنّ
من البيان لسحراً"5.
وحتّى تطمئن نفسك إلى ما
قلناه لك ولا يبقى في
نفسك منه شيء سنضرب لك
مثالاً حيّاً على مدح
القبيح وآخر على ذمّ
الحسن.
ورد عن الحجّاج أنّه
حينما مرض وفرح أهل
العراق بذلك وأرجفوا
بموته وبلغه ذلك تحامل
حتى صعد المنبر فقال: "إنّ
طائفة من أهل العراق، أهل
الشقاق والنفاق، نزغ
الشيطان بينهم فقالوا: "مات
الحجّاج". ومات الحجّاج
فمه؟ وهل يرجو الحجّاج
الخير إلّا بعد الموت؟
والله ما سرّني ألّا أموت
وأنّ لي الدنيا وما فيها.
وما رأيت الله رضي
بالتخليد إلّا لأهون خلقه
إبليس. قال:
﴿قَالَ
فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ
مِنَ المُنظَرِينَ﴾6.
كما روى ابن سلام الجمحيّ
في طبقات الشعراء أنّه
اجتمع جرير والفرزدق عند
سليمان بن عبد الملك وهو
يومئذ خليفة، وأتى بأسرى
من الروم، وكان في حرسه
رجل من بني عبس قد علم أنّ
سليمان سيأمر أصحابه بضرب
أعناقهم.
فأتى الفرزدق فقال: "إنّ
أمير المؤمنين جرى بأن
يضرب هؤلاء الأسرى".
وحثّه على أن يكون هو
الضارب لهم. وأتاه بسيف
كليل كهام"7.
فقال الفرزدق: "ممّن أنت"؟
قال: "من بني ضبّة أخوالك".
وأمره سليمان بضرب عنق
بعضهم. فتناول السيف من
العبسيّ ثمّ هزّه
فضرب
به عنقه فما حصّ8
شعرة ولم يؤثّر به أثراً.
فضحك سليمان والناس وقال:
"هذه ضربة سيقول فيها
هذايعني جريراً وتقول
فيها العرب".
فقال الفرزدق (متخلّصاً
من سيئته مصوِّراً لها
بصورة حسنة):
فهل ضربة الروميّ جاعلة
لكم
ولا نقتل
الأسرى ولكن نفكهم
أباً عن كليب أو أباً مثل
دارم
إذا أثقل الأعناق
حمل المغارم9
فانظر كيف بدّل السيئة
بالحسنة وعبّر عن عجزه عن
قتل الروميّ بأنّه قد
تعوّد على فكّ الأسرى ولم
يتعوّد على قتلهم. وهذه
مفخرة ما بعدها مفخرة
وتعريض بالخليفة وتفاخر
عليه.
وقد نسب أبو حيّان
التوحيديّ في كتابه
البصائر والذخائر إلى
سقراط تعريفاً للخطابة
ورد فيه هذا القول: "قيل
لسقراط الفيلسوف. -وكان
من خطبائهم- ما صناعة
الخطيب؟ قال: "أن يعظّم
الأشياء الحقيرة ويصغّر
شأن الأشياء العظيمة".
وهذا تعبير آخر عن مدح
القبيح وذمّ الحسن".
|