المسألة السادسة:
التحلّي بخصلتين
لا بدّ للخطيب أن يتحلّى
بخصلتين مهمّتين في باب
الخطابة هما:
الأولى: حضور الذهن
يجب أن يكون الخطيب حاضر
الذهن حال الإلقاء.
ملتفتاً إلى كلّ ما يقوله،
وإلى ما يمكن أن يرد عليه
من اعتراضات وكيفيّة
التخلّص منها والإجابة
عنها. فإذا فاجأه أحدهم
باعتراض ردّه برد حسن لين
دون إظهار عجز أو جهل أو
تأفّف. وإذا سأله بعضهم
عن أمر يتعلّق بخطبته
يكون معدّاً له الجواب
الشافي و إلّا وجد نفسه
في مأزق لا يعرف الخروج
منه وينقض بذلك غرضه فلا
يتمكّن من إقناع الجمهور
بفكرته ولا تلقينهم
عقيدته. ولنعطك على ذلك
مثالاً:
دار بين السيّدة زينب بنت
عليّ عليها السلام وعبيد
الله بن زياد حوار بعد
خطبة ألقتها بحضوره أظهرت
فيها نقصه وعدم تديّنه
وأحصت عليه عيوبه وذنوبه،
فقال رادّاً عليها، يقصد
إبطال قولها أمّا م
الحاضرين:
"من هي هذه المتنكرة"؟
فقال بعض من حضر: "هي
زينب بنت عليّ".
فقال لها بمكر وخبث
محاولاً إظهارها مستحقّة
لما وقع بهم من السبي
والإذلال فيكون بذلك
بريئاً ولم يفعل ذنباً
يستحقّ عليه التوبيخ: "الحمد
لله الذي فضحكم وأكذب
أحدوثتكم".
فقالت الحوراء عليها
السلام: "الحمد لله
الذي أكرمنا بالنبوّة
وطهّرنا من الرجس تطهيراً،
إنّما يفتضح الفاسق ويكذب
الفاجر وهو غيرنا".
فلمّا سمع هذا التعريض به
أمام مناصريه سلك طريقاً
آخر لإفحامها: "هل رأيت
ما صنع الله بأخيك الحسين"؟
فقالت له ببيان فصيح:
"ما رأيت إلّا جميلاً،
هؤلاء قوم كتب الله عليهم
القتل فبرزوا إلى مضاجعهم
وسيجمع الله بينك وبينهم
فتحاج وتخاصم فانظر لمن
الفلاح يومئذٍ، ثكلتك
أمّك يابن مرجانة".
فأطرق عبيد الله بن زياد
لا يحير جواباً وقد أفحم
واسود وجهه1.
وليس هناك أوضح دلالة على
أهميّة حضور الذهن حال
الخطاب ممّا جاء في آخر
خطبة المتقين للإمام عليّ
بن أبي طالب عليه السلام،
حينما صعق همّام العابد
فاعترض رجل من الحاضرين
على الإمام بقوله: "فما
بالك يا أمير المؤمنين"؟
يقصد أنّه هو الذي كان
السبب بموت همّام.
فأجابه عليه السلام: "ويحك،
إنّ لكلّ أجل وقتاً لا
يعدوه وسبباً لا يتجاوزه،
فمهلاً لا تعد لمثلها
فإنّما نفث الشيطان على
لسانك"2.
الثانية: حسن التخلّص
إن ّمن الأمور المهمّة
للخطيب أن يجيد التخلّص
من الخطأ لو حصل ووقع فيه،
ويحسن الاعتذار عن ذلك،
فإنّ كلّ إنسان معرّض
للخطأ لا محالة، ولعلّه
من المواقع الصعبة عليه
أمام الجمهور الذي كان
يقف فيه ملقّناً ومسدّداً
يظهر بظهر المحتاج إلى من
يعلّمه ويقوّم اعوجاجه
ويصلح خطأه. فإن كان
الخطيب ماهراً يعرف كيف
يدير دفّة الخلاص، نجا
بنفسه إلى شاطئ ال أمّا ن
باعتذار حسن أو بطريقٍ
خفيّ يسلكه للهروب من
ورطة الغلط، ويظهر نفسه
كأنّه تعمّد ما صدر منه
وأنّ ذلك لم يكن خطأ
وإنّما قصده لعلّة في
نفسه، ثمّ يبِّرر تلك
العلّة ويوضّح السبب الذي
دعاه إلى ذلك بوجه سليم
بسيط لا يدع للمستمعين
شكّاً ولا ريباً.
وسنضرب لك مثالين لتوضيح
حسن التخلّص والاعتذار:
الأوّل
في فتح بلاد خراسان كان
قتيبة بن مسلم قائداً
لجيوش بني أميّة وكان
وكيع بن الأسود التميميّ
أحد قادة جنوده، وقد صعد
وكيع هذا يوماً لوعظ
الناس وإرشادهم فقال في
ضمن خطبته: "إنّ الله خلق
السماوات والأرض في ستّة
أشهر". فانبرى له رجل من
الحاضرين قائلاً: "إنّما
كان ذلك في ستّة أيام"3.
فقال وكيع بلهجة البصرة
الواثق من نفسه وكأنّه لم
يصدر منه أيّ خطأ: "وأبيك
لقد قلتها وإنّي
لأستقلّها"4.
أيّ أنّه يرى أنّ ستّة
أشهر قليل على خلق
السماوات والأرض فكيف
بستّة أيام؟ فما ذلك إلّا
لأنّ الله قويّ عزيز فلا
بدّ من إطاعته وعدم
التعرّض له بالمعصية.
المثال الثاني
روي أنّ الشيخ محمّد تقي
فلسفيّ صاحب كتاب الطفل
بين الوراثة والتربية،
وهو من مشاهير الخطباء
الإيرانيّين المعاصرين،
كان يخطب في مناسبة مرور
أربعين يوماً على وفاة
المرحوم آية الله
البروجرديّ الذي كان
مرجعاً للشيعة آنذاك،
فقال في طيّ خطابه هذه
العبارة: "إنّ آية الله
البروجرديّ دامت بركاته...".
وهذا خطأ منه إذ كان عليه
أن يقول قدس سرّه أو رحمه
الله أو "أسكنه الله فسيح
جنّاته" أو ما شابه ذلك
من العبارات التي تقال في
هكذا مقام فالتفت إلى
خطأه وتابع قائلاً: "نعم
دامت بركاته لأنّه وإن
ذهب للقاء ربّه إلّا أنّ
بركات أفعاله الخيّرة
دائمة ولا تزال بيننا".
المسألة السابعة:
قدرة السيطرة على المجلس
لا بدّ أن يتحلّى الخطيب
بالقدرة على السيطرة على
المجلس من جهة إصغاء
الحاضرين جميعاً. فإن
حاول بعضهم التشويش عرف
كيف يتوجّه نحوه وهو
يتابع كلامه بصوت عال
وكأنّه يقول له: "لا
تتكلّم أثناء كلامي".
وإذا أحسّ بأنّ هناك من
يتكلّم مع جالس بجانبه
عرف كيف يورد في ضمن
كلامه وعلى نحو الجملة
الاعتراضيّة ما يعرّض فيه
بهما ممّا يجعلهما يقلعان
عن ذلك ويؤدّب بذلك
الباقين فلا يحاول أحد
خلق ضوضاء أثناء الإلقاء.
وقد يكون من المناسب أن
يصمت قليلاً بشكل ملحوظ
ليسمع الناس الحاضرون صوت
الذي يتكلّم مع زميله
فيخجل ويمسك ولا يعود
لمثلها.
وكلّما كان الخطيب
متفاعلاً مع خطابه وكان
خطابه مؤثّراً في
المستمعين كلّما سيطر على
الحفل أكثر، و إلّا فسوف
لن يتمكّن من كبح جماح
الضوضاء التي قد تزداد
حتى تتغلّب عليه وتلزمه
الصمت.
وقد ورد في كتاب الخطابة
لمحمّد أبو زهرة كلام
لديكوب، وهو أحد علماء
النفس الفرنسيّين وكان
نائباً في البرلمان
الفرنسيّ، يصف به الخطيب
النيابي الفاشل الذي لا
يعرف كيف يسيطر على
المستمعين: "إذا استوى
على المنبر أخرج من
محفظته أوراقاً فنشرها
أمّا مه على الترتيب وشرع
يخطب مطمئنّاً، وهو يفخر
في نفسه بأنّه سيبثّ
عقيدته لتسكن روح سامعيه،
لأنّه وزن أدلّته وحرّرها
وأعدّ شيئاً كثيراً من
الإحصاءات والحجج وأيقن
أنّ الحقّّ في جانبه وأنّ
معارضه لا يثبت أمام
الحقيقة التي يأتي بها.
وهكذا يبدأ معتمداً على
صواب رأيه واصفاً إخوانه
باعتقاده أنّهم لا يطلبون
إلّا الحقّ. وبينما هو
يخطب إذ تأخذه الدهشة من
اضطراب الحاضرين ويتقزّز
من الضوضاء الناتجة من
ذلك الاضطراب ويتساءل؟
- "لماذا لا يسود السكون"؟
- "وما السبب في هذا
الاضطراب"؟
- "وما السبب القوي الذي
يحمل ذلك على ترك مجلسه"؟
فيفرك حاجبيه والحيرة
تعلو جبينه ويمسك عن
الكلام فيشجّعه الرئيس،
فيعود بصوت مرتفع فيزيد
الأعضاء في عدم الإصغاء،
فيجهر ويهتزّ فتزداد
الجلبة من حوله ويعود لا
يسمع نفسه فيمسك عن
الكلام مرّة أخرى. ثمّ
يخشى أن يدعو سكوته إلى
أصوات الأقفال فيرجع إلى
الخطابة بما فيه من قوّة
وهناك تعلو الجلبة ويختلط
الحابل بالنابل ممّا لا
يقدر على وصفه الواصفون"5.
ومن كلّ ما تقدّم خلال
المسائل السبع، نستخلص
أنّه يجب على الخطيب أن
يكون سائقاً ماهراً يعرف
مقصده وهدفه جيّداً.
فيسير بمن معه من
المسافرين الذين يقلّهم
إلى النقطة التي حدّدها
لنفسه عالماً بمكان
تحرّكه وابتدائه عارفاً
بموضع وصوله وانتهائه.
يسرع بهم طوراً ويبطئ
أحياناً ويذهب بهم شمالاً
مرّة ويميناً مرّة أخرى
حتى إذا تعب الركّاب من
السفر وشعروا بالملل من
طول الجلوس عرف كيف يعرج
بهم على واحة مريحة
يتناولون قسطاً من الراحة
في ظلالها فيورد لهم قصّة
طريفة أو حكاية مضحكة أو
مثالاً غربياً فيستعيدون
نشاطهم وتتجدّد عزيمتهم
ثمّ يتابع بهم المسير إلى
الهدف المحدّد والنقطة
المرجوّة وهم في غاية
النشاط والسرور والراحة.
|