الأمر الثاني: الارتجال
لا بدّ للخطيب أن يعوّد
نفسه على الارتجال فيشارك
في إلقاء الخطب في
المناسبات البسيطة وبين
أصدقائه ثمّ يحاول أن
يرتجل في مناسبات أكبر
وأهمّ، وهكذا إلى أن يصل
إلى المرتبة المطلوبة.
تعريفه: والمراد من
الارتجال هنا الاستغناء
عن الورقة وإن كان بعضهم
يفسّره بأنّه الإلقاء دون
تحضير مطلقاً.
ما يساعد على الارتجال
ومن أهمّ الأمور التي
تساعد على الارتجال كثرة
محفوظاته وسعة إطلاعه، بل
يمكن القول أنّه من الصعب
جدّاً أن يصبح المرء
خطيباً مرتجلاً بدون
محفوظات يعتمد بها.
وهناك أشياء معيّنة إذا
حفظها الخطيب ساعدته على
الارتجال:
أوّلاً: أكبر قدر ممكن من
القرآن الكريم حفظاً
محكماً مع مراعاة كلّ ما
في الآية من حركات وسكنات
والاطلاع على معاني
الآيات إجمالاً.
ثانياً: أكبر قدر ممكن من
الأحاديث النبويّة
وروايات الأئمّة عليهم
السلام، وخصوصاً الأحاديث
القصيرة أو ما يسمّى
بالكلمات القصار.
ثالثاً: بعض خطب نهج
البلاغة مثل:
أ - خطبة المتقين.
ب - خطبة الجهاد.
ج - الخطبة الشقشقيّة.
د - خطبة الحثّ على
الصلاة.
هـ - كتابه عليه السلام
إلى عامله في البصرة
عثمان بن حنيف. فإنّ فيها
مادّة واسعة يمكن
الاستشهاد بها في كثير من
الموضوعات.
و - عهده عليه السلام إلى
مالك الأشتر عامله على
مصر.
رابعاً: أكبر قدر ممكن من
الأقوال المأثورة والحكم
والأشعار والأمثال.
خامساً: جمع ما تيسّر من
القصص الهادفة والقصيرة
التي كان لها أساس في
الكتب دون ما كان على
سبيل الخرافة والأسطورة،
اللهم إلّا بعض القصص
العظيمة الفائدة.
سادساً: أكبر قدر ممكن من
استعمالات البلغاء
وعباراتهم وتركيباتهم
القابلة للحفظ.
سابعاً: الاعتياد على
استعمال الكلمات الجزلة
مكان الكلمات المبتذلة.
مثل أن يقال: "ديمة" مكان
"غيمة"، و"عبرة" مكان "دمعة"،
و"ليث" مكان أسد، و"صارم"
مكان "السيف" و"أديم"
مكان "التراب"، و"قرطاس"
مكان "الورق" وما إلى ما
هنالك من ألفاظ من الواضح
إنّها أجمل من غيرها ممّا
سار على ألسن الناس
وتؤدّي نفس المعنى تقريباً.
والشيء الأساسي الذي
يحتاجه الارتجال هو
الإلقاء وممارسته بين
الناس والتعوّد على
مواجهتهم والإقبال عليهم.
فإنّ ذلك يعلّم الخطيب
أشياء كثيرة لا يمكنه أن
يتعلّمها من الخطابة التي
تعتمد على الورقة. فقد
يحتاج الخطيب في بعض
الأحيان أن يغيّر بعض
الأفكار التي وردت في ضمن
خطابه نتيجة عروض طارئ
يستلزم ذلك كما لو كان في
ضمن الخطاب فقرة ترحيب
بقدوم شخص يتوقّع حضوره
الحفل ولم يحصل ذلك أو
بالعكس، فقد يلزم الترحيب
به لمجيئه فجأة. فإن كان
الخطيب مرتجلاً أمكنه فعل
ما يريد من الإطالة أو
التقصير أو الحذف أو
الزيادة أو التبديل لبعض
الأمور أو غير ذلك ممّا
لا يتيسّر فعله لمن لا
يمكنه الاستغناءعن الورقة.
وللخطابة تلاوة مميّزة عن
الارتجال يجب أن لا
نبخسها حقّها وهي: أنّ
الخطيب المرتجل قد يلتبس
عليه ما كان يريد أن
يقوله ثمّ يأتي إلى ذهنه
أيّ شيء ممّا يصلح
للمقال بخلاف من يستفيد
ممّا كتبه، فإنّ ورقته في
جيبه يتفقّدها قبل الصعود
إلى المنبر فإذا استوى
عليه أخرجها وتلا ما فيها.
ولا يمكن للمرتجل التخلّص
من هذه الحالة إلّا إذا
كان متمرّساً حادّ الذهن
متوقّد البصيرة فإنّه
يأتي بدل الكلام الذي كان
يريد أن يقوله ونسيه
بكلام آخر ربما كان أحسن
من الأوّل وأجمل.
ومن الجدير بالذكر هنا أنّ
العرب لم يكونوا
ليستعملوا الإلقاء
الإملائيّ أو ما شابه ذلك
في خطبهم مطلقاً، بل كان
عالمهم وجاهلهم سيّدهم
ومسودهم، أميرهم ومأمورهم
يلقون خطبهم ارتجالاً،
ولذلك اشتهروا بأنّهم
أقوى الشعوب طرّاً على
الارتجال.
|