بلاد الشام
الشام اسم يشمل عامة
الأقاليم الداخلة اليوم
في سورية ولبنان وفلسطين،
وكانت الشام من أول
الأقطار التي فكّر الرسول
صلى الله عليه واله في
أمرها لنشر كلمة التوحيد
وبثّ الدعوة إلى الإسلام،
وقد جهّز الرسول العديد
من السرايا والغزوات لهذا
الغرض، وفي أواخر أيامه
جهزّ جيشاً أمّر عليه
أسامة بن زيد، وقال: "لعن
الله من تخلف عن جيش
أسامة".. وما كان هدف
الرسول صلى الله عليه
واله توسيع رقعة حكمه
جغرافياً، بل كان ذلك
أمراً عرضياً تابعاً لبسط
كلمة التوحيد والتفاف
الناس حول راية الإسلام،
وهداية الناس إلى الله
تبارك وتعالى، ولكن
الأمور تغيرت بعد وفاة
الرسول صلى الله عليه
واله، وانقلبت الموازين،
وغرّت الدنيا كثيراً من
الناس، وأصبحت الغنيمة
والحصول على المناصب
الدنيوية وبسط السلطة
والنفوذ من أهم الدواعي
لفتوح البلدان.
وبعد أن فتحها المسلمون
استعمل عليها عمر يزيد بن
أبي سفيان، ومن بعده أخاه
معاوية بن أبي سفيان، وفي
سنة 41 بايعه أهل الشام
بالخلافة، فهو مؤسس
الدولة الأموية التي جعلت
من دمشق قاعدة الحواضر
الإسلامية، وظلت كذلك حتى
سنة 132 هجرية، وقد ورّث
معاوية ابنه يزيد الخلافة
سنة 60 للهجرة.
الركب الحسيني إلى
الشام
لما وصل كتاب ابن زياد
إلى يزيد بن معاوية ووقف
عليه، أعاد الجواب إليه
يأمره فيه بحمل رأس
الحسين ورؤوس من استشهد
معه وبحمل أثقاله ونسائه
وعياله.
فلمّا فرغ القوم من
التطواف بالرأس الشريف في
الكوفة ردوه الى القصر
فدفعه ابن زياد إلى زحر
بن قيس ودفع إليه رؤوس
أصحابه وسرّحه إلى يزيد
بن معاوية، وأنفذ معه أبا
بردة بن عوف الأزدي وطارق
بن أبي ظبيان مع جماعة من
أهل الكوفة، حتى وردوا
بها على يزيد.
وقد ساقوا الأسارى من أهل
البيت عليهم السلام من
النساء والأطفال راكبين
أقتاباً يابسة، وحولهم
الجنود بالرماح، إن دمعت
عين أحدهم قُرعَ رأسه
بالرمح، وساقوا بهم من
منزل الى منزل كما تساق
أسارى الترك والديلم،
وكان على رأسهم سيد
العابدين علي بن الحسين
عليهم السلام وقد جًعل
الغلّ في عنقه ويده،
يحمله بعير يظلع بغير
وطاء.
وروي عن السيدة زينب
عليها السلام أنها قالت:
"قد علم الله ما صار
إلينا، قتل خيرنا،
وانسقنا كما تساق الأنعام،
وحُملنا على الأقتاب".
وسار القوم برأس
الإمام الحسين عليه
السلام ولأسارى فلمّا
قربوا من دمشق، دنت
السيدة أم كلثوم من الشمر،
فقالت: "لي إليك حاجة؟".
فقال:
"وما حاجتك؟" . قالت
عليها السلام: "إذا
دخلت بنا البلد فاحملنا
في درب قليل النظارة،
وتقدم إليهم أن يخرجوا
هذه الرؤوس من بين
المحامل وينحّونا عنها،
فقد خزينا من كثرة النظر
إلينا ونحن في هذه الحال".
فأمر لعنه الله في جواب
سؤالها أن تُجعل الرؤوس
على الرماح في أوساط
المحامل، وسلك بهم بين
النظارة على تلك الصفة،
حتى أتى بهم إلى باب دمشق،
فوقفوا على درج باب
المسجد الجامع حيث يُقام
السبي.
وكان دخول الركب الحسيني
إلى دمشق نهاراً وأهلها
قد علّقوا الستور والحجب
والديباج، فرحين مستبشرين،
ونساؤهم يلعبن بالدفوف،
ويضربن على الطبول، كأنه
العيد الأكبر عندهم.
وروي عن سهل بن سعد
الساعدي الصحابي أنه قال:
"خرجت إلى بيت المقدس حتى
توسطت الشام فإذا أنا
بمدينة مطردة الأنهار
كثيرة الأشجار قد علقوا
الستور والحجب والديباج
وهم فرحون مستبشرون
وعندهم نساء يلعبن
بالدفوف والطبول، فقلتُ
في نفسي: لعل لأهل الشام
عيداً لا نعرفه نحن.
فرأيت قوماً يتحدثون،
فقلت: يا هؤلاء ألكم
بالشام عيد لا نعرفه نحن؟
قالوا: يا شيخ نراك غريباً!
فقلتُ: أنا سهل بن سعد قد
رأيتُ رسول الله صلى الله
عليه واله وحملتُ حديثه،
فقالوا: يا سهل ما أعجبكَ
السماء لا تمطر دماً
والأرض لا تخسف بأهلها.
قلتُ: ولمَ ذلك؟ فقالوا:
هذا رأس الحسين عترة رسول
الله صلى الله عليه واله
يهدى من أرض العراق إلى
الشام وسيأتي الان. قلت:
وا عجباه! يهدى رأس
الحسين والناس يفرحون؟!".
الإمام زين العابدين
عليه السلام مع الشيخ
الشامي
بعد أن أقيم السبي على
درج باب المسجد، إذا بشيخ
قد أقبل حتّى دنا منهم،
وقال: "الحمد لله الذي
قتلكم وأهلككم، وأراح
الرجال من سطوتكم، وأمكن
أمير المؤمنين منكم!".
قال له الإمام زين
العابدين عليه السلام:
"يا شيخ هل قرأت القران؟".
فقال: "نعم قرأته".
قال عليه السلام: "فعرفت
هذه الاية:
﴿قل لا
أسألكم عليه أجراً إلا
المودة في القُربى﴾
1
؟".
قال الشيخ: "قرأت ذلك..".
فقال عليه السلام:
"فنحن
القربى يا شيخ! فهل قرأت
في "بني إسرائيل"
﴿واتِ ذا
القربى حقه ﴾2
؟".
فقال الشيخ: "قد قرأت
ذلك..".
قال عليه السلام:
"نحن
القربى يا شيخ! ولكن هل
قرأت هذه الاية:
﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن
لله خمسه وللرسول ولذي
القربى
3 ؟ فنحن ذو
القربى يا شيخ، ولكن هل
قرأت هذه الاية:
﴿إنما يريد
الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت ويطهّركم
تطهيرا
4﴾ ؟".
فقال الشيخ: "قد قرأت
ذلك".
فقال عليه السلام: "فنحن
أهل البيت الذين خُصِصنا
باية الطهارة..".
فبكى الشيخ ورمى عمامته،
ثم رفع رأسه إلى السماء،
وقال: "اللهم إني أبرأ
إليك من عدو ال محمد صلى
الله عليه واله، من الجن
والانس، ثم قال: هل لي من
توبة؟".
فقال عليه السلام: "نعم،
إن تبت تاب الله عليك
وأنت معنا..".
فقال: "أنا تائب..".
فبلغ يزيد بن معاوية حديث
الشيخ فأمر بقتله.
ونستنتج من هذا الخبر عدة
أمور:
1- إن هذا أول موقف تكلم
به الإمام زين العابدين
عليه السلام بعد تحمّله
شدة السفر، لأن الرواية
تقول: إن الإمام عليه
السلام بقي طول طريق
السفر بين الكوفة والشام
ساكتاً لا يكلم أحداً.
2- يقوم الإمام بأداء
الرسالة في أول فرصة وأول
نقطة يجد بها الطينة
الطيبة، فمع أن ذاك الشيخ
الشامي لم يكن إلا رجلاً
عاش في حكم الأمويين، ولم
يرَ الإمام علياً عليه
السلام ولا أحداً من
أبنائه، ولكن فطرته سليمة،
بينما الذين قاموا بقتل
الإمام الحسين عليه
السلام وسبي أهل بيته فقد
كان كثير منهم ممن رأى
علياً والحسن والحسين
عليهم السلام وصلى خلفهم!
3- سيطرة الجو الإعلامي
المسموم على المجتمع،
فلقد أذاعوا أن المقتول
هو رجل خارجي خرج على "أمير
المؤمنين"، وكان يريد بث
الفتنة والفرقة في
المجتمع، لذا نرى أن
الرجل الشامي بادر
بالتعبير عن حمده لله على
قتل الخارجي وإهلاك أهله.
رأس الإمام الحسين عليه
السلام وبقية الركب
الحسيني بين يدي يزيد بن
معاوية
لقد غمرت الأفراح
والمسرات يزيد، وأمر
بترتيب مجلس حاشد
بالأشراف والأعيان
والشخصيات من أهل الشام
وممثلي بعض الدول
والأديان انذاك مثل رأس
الجالوت، فكان مجلساً في
غاية الأهمية سياسياً
واجتماعياً، داخلياً
وخارجياً، وقد أراد أن
يظهر نفسه بأنه انتصر على
عدوه. فلما أُدخل عليه
موكب الأسارى من أهل
البيت عليهم السلام، هنأه
القوم بالفتح.
وعن الإمام الباقر عليه
السلام أنه قال: "
قُدِم بنا على يزيد بن
معاوية لعنه الله بعدما
قتل الحسين ونحن اثنا عشر
غلاماً ليس منا أحد إلا
مجموعة يداه إلى عنقه
وفينا علي بن الحسين عليه
السلام..".
وأدخل رأس الإمام الحسين
عليه السلام على يزيد
ووضع بين يديه، فاستبشر
الشقي بقتله، وجعل ينكتُ
رأسه بالخيزران.
وأقبل قاتل الإمام الحسين
عليه السلام على يزيد
يقول:
أوقر ركابي فضة وذهبا
فقد قتلت الملك المحجبا
قتلتُ خير الناس أماً
وأباً
وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقال له اللعين: "إذا
علمتَ أنه خير الناس فلمَ
قتلته؟".
فأجابه: "رجوت الجائزة!".
فأجابه يزيد: "اخرج من
بين يديّ فلا جائزة لك".
وقد كان هذا المجلس العام
الوحيد الذي جمع فيه يزيد
الأشراف، ذلك أن المجالس
الخاصة التي كان يحضر فيه
رأس الإمام الحسين عليه
السلام وأهل البيت تكرّرت،
فكان يزيد يتخذ مجالس
الشرب واللهو والقيان
والطرب، ويحضر رأس الإمام
الحسين عليه السلام بين
يديه.
يزيد ينكث ثانيا
الإمام الحسين عليه
السلام
وضع يزيد رأس الإمام
الحسين عليه السلام بين
يديه وأجلس النساء خلفه
لئلا ينظرن إليه، وكانت
ابنتا الإمام تتطاولان
لتنظرا إلى الرأس وجعل
يزيد يتطاول ليستره عنهما،
وهو ينكت ثناياه بقضيبٍ
في بيديه متمثلاً ببيت
شعر للحصين بن الحمام
المري:
نفلق هاماً من رجال أعزة
علينا وهم كانوا أعقّ
وأظلما
ثم قال: "ما رأيتُ وجهاً
قط أحسن منه!".
فقيل له: "إنه كان يشبه
رسول الله صلى الله عليه
واله".
فسكت، ولم يبقَ أحد في
مجلسه إلا عابه وتركه،
وكان عنده أبو برزة
الأسلمي، وهو صحابي من
سكان المدينة ثم البصرة،
فقال له: "ويحك يا يزيد،
أتنكت بقضيبك ثغر الحسين
عليه السلام ابن فاطمة
عليها السلام؟! اشهد، لقد
رأيت النبي صلى الله عليه
واله يرشف ثناياه وثنايا
أخيه الحسن عليه السلام
ويقول: أنتما سيدا شباب
أهل الجنة، قتل الله
قاتلكما ولعنه، وأعدّ له
جهنّم وساءت مصيراً".
فغضب يزيد وأمر بإخراجه
من المجلس فأُخرج سحباً.
وكان موقف هذا الصحابي في
أهم زمان وأخطر مكان،
ولأجل ذلك لم يتحمل يزيد
هذا الموقف.
ثم إن عبد الرحمن بن
الحكم أخا مروان بن الحكم،
كان ممن حضر المجلس العام،
فلمّا رأى ما فعل يزيد
برأس الإمام الحسين عليه
السلام وتمثله بالأبيات
قال:
سمية
5
أمسى نسلها عدد الحصى
وبنت رسول الله ليس لها
نسل
فعندئذٍ، وخشية انقلاب
الأمور ضده، بادر يزيد
إلى القول: " نعم، فلعن
الله ابن مرجانة، إذ أقدم
على قتل الحسين بن فاطمة،
لو كنت صاحبه لما سألني
خصلة إلا أعطيته إياها
ولدفعت عنه الحتف بكل ما
استطعت ولو بهلاك بعض
ولدي، ولكن قضى الله أمراً
فلم يكن له مرد".
ثم إنه قال لعبد الرحمن:
"سبحان الله! أما يسعك
السكوت يا ابن الحمقاء!
ما لك ولهذا؟!".
وقد أظهر يزيد في بعض
كلماته ندمه كذباً ونفاقاً،
ملقياً بمسؤولية قتل
الإمام الحسين عليه
السلام على عاتق ابن زياد،
وكان ذلك الندم يرجع إلى
كذبه وخوفه على زوال ملكه
وتمشياً مع الوضع العام
واستنكار الناس لذلك،
والدليل على كذب يزيد أنه
لم يعاقب عبيد الله بن
زياد، ولم يعزله عن
الإمارة، بل شكره
واستدعاه وشرب معه الخمر
وأعطاه جائزة كبيرة.
يزيد والتضليل المكشوف
تبدلت لهجة يزيد أثناء
وجود الموكب النبوي في
الشام، فبعد أن كان يظهر
الفرح بقتل الإمام الحسين
عليه السلام، اضطر أمام
شدة النكير المكتوم والذي
تم التعبير عنه غالباً
بتعابير ضعيفة.
وفي سياق إظهاره الفرح
قال في مجلسه: :"أتدرون
من أين دهي أبو عبد الله؟".
فقالوا: "لا، فأجابهم: من
الفقه والتأويل! هذا يفخر
علي". ويقول: "أبي خير من
أبي يزيد، وأمي خير من
أمه، وجدي خير من جد يزيد،
وأنا خير من يزيد"، فهذا
الذي قتله! فأما قوله "إن
أبي خير من أبي يزيد" فقد
حاج أبي أباه فقضى الله
لأبي على أبيه! وأما قوله
"إن أمي خير من أم يزيد"
فلعمري إنه صادق، إن
فاطمة بنت رسول الله صلى
الله عليه واله خير من
أمي، وأما قوله "إن جدي
خير من جد يزيد" فليس أحد
يؤمن بالله واليوم الاخر
يقول إنه خير من محمد صلى
الله عليه واله، وأما
قوله "أنا" خير مني
فلعمري لم يقرأ هذه الاية:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ
الْمُلْك﴾6
.
لقد التجأ يزيد إلى هذا
الموقف ليوهم الأمة بأنه
وإن قتل ابن بنت رسول
الله صلى الله عليه واله
إلا أنه لم يخرج من
الإسلام، خاتماً كلامه
بذكر مشيئة الله وقضائه
وقدره ليعطي لجريمته
النكراء بعداً دينياً! من
خلال تثبيت مسلك
الجبرالذي تشبث به
الطواغيت ليُسكتوا به
أصوات مخالفيهم والسذج من
الناس.
تمثل يزيد بأبيات ابن
الزبعرى
تؤكد مجمل الروايات على
تمثل يزيد بن معاوية
بأبيات ابن الزبعرى في
مجلسه العام. والزبعرى
شاعر قريش في الجاهلية،
كان شديداً على المسلمين:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّوا واستهلوا فرحاً
ثم قالوا يا يزيد لا تُشل
لستُ من خندف إن لم أنتقم
من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل
وقد زاد يزيد على هذه
الأبيات ما يدل على كفره
وخبث باطنه، ويكشف عما في
قلبه من الإلحاد والحقد
على رسول الله صلى الله
عليه واله وأهل بيته عليه
السلام:
لستُ من عتبة إن لم أنتقم
من بني أحمد ما كان فعل
وقد استندت السيدة
زينب عليها السلام إلى
إنشاد يزيد لهذه الأبيات
في المجلس بقولها:
"فلا يستبطأ في بغضنا أهل
البيت... وهو يقول فرحاً
بقتل ولده وسبي ذريته غير
متحوب
ولا مستعظم: ليت
أشياخي...".
ثم إن أحد الصحابة
قال ليزيد بعد تمثله بهذه
الأبيات: "ارتددت عن
الإسلام يا أمير المؤمنين!".
قال يزيد: "بلى.. نستغفر
الله..".
فأجابه الصحابي: "والله
لا ساكنتك أرضاً أبدا".
وخرج عنه.
وهذا اعتراف من يزيد على
نفسه بأن قوله يوجب الكفر
والارتداد عن الدين، غير
أنه بعد أن نكث يزيد
ثنايا الإمام الحسين عليه
السلام بقضيبه، أمر بصلبه،
فصُلب ثلاثة أيام بدمشق
على باب المسجد.
محاورات الإمام زين
العابدين عليه السلام مع
يزيد
لقد بلغت الحرب النفسية
الذروة بعد واقعة الطف
الأليمة، ولم تكن بأقل من
الحرب في ظل السيوف،
وأراد يزيد أن يظهر بمظهر
الغالب الظافر في جميع
المجالات، وأن يرى انتهاء
الأمر بتمامه، لكي يتم
بذلك كل شيء له! وهو
يعلم أنه لا يصل إليه إلا
بظفره في هذه الحرب.
في المقابل نرى جبهة الحق
تسير في خطى قائدها،
وتتحرك نحو تحقق أهدافها،
فنرى السيدة زينب عليها
السلام تقف خلف الإمام
زين العابدين عليه السلام
في جميع المواقف، وكيف لا
وهو الحجة على الأرض بعد
أبيه عليه السلام.
روي أن يزيد قال للسيدة
زينب عليها السلام: "تكلمي؟!"
فأجابت عليها السلام: "هو
المتكلم ". أي الإمام زين
العابدين عليه السلام وقد
أرادت بذلك أن تعرّف قائد
المسيرة المظفرة.
كان الإمام زين العابدين
عليه السلام يواجه مشاكل
عديدة ينبغي له أن يتغلب
عليها:
1- طاغوتاً متغطرساً يعيش
نشوة النصر المزعوم، لابد
أن يواجه بكلمة الحق على
رؤوس الأشهاد، ليكشف
الغطاء عن واقعه الملحد،
ويظهر على حقيقته خصوصاً
أمام أتباعه ومواليه.
2- نظاماً قمعياً أقامه
معاوية على الترغيب
والترهيب والجماجم
والأشلاء، وأراد له
الشيطان أن يكون التأسيس
للامبراطورية الأموية
التي تتخذها "الشجرة
الملعونة في القران"
وسيلة لطمس معالم الدين
وتحريف شريعة سيد
المرسلين".
وكان لابد من هز أركان
هذه الإمبراطورية التي
تتخذ مال الله دولاً
وعباد الله خولاً باسم
الإسلام وخلافة رسول الله
صلى الله عليه واله.
3- إعلاماً مضللاً وبيئة
مسمومة، عرفت الإسلام من
خلال يزيد بن أبي سفيان
ثم معاوية، وها هم يسمعون
أن هؤلاء السبايا جيء
بهم من معركة مع خارجي
خرج على "أمير المؤمنين"!
كان على الإمام زين
العابدين عليه السلام أن
يواجه ذلك ليمزق غيوم
الجهل التي تلبدت منذ
حوالي أربعة عقود.
عن الإمام جعفر الصادق
عليه السلام قال: "لما
أدخل رأس الحسين بن علي
عليه السلام على يزيد
لعنه الله وأدخل عليه علي
بن الحسين وبنات أمير
المؤمنين عليه السلام،
وكان علي بن الحسين عليه
السلام مقيداً مغلولاً".
قال يزيد: "يا علي بن
الحسين، الحمد الله الذي
قتل أباك!".
فقال علي بن الحسين عليه
السلام: "لعن الله من
قتل أبي".
فغضب يزيد وأمر بضرب
عنقه.
فقال علي بن الحسين: "فإذا
قتلتني فبنات رسول الله
صلى الله عليه واله من
يردهم إلى منازلهم وليس
لهم محرم غيري؟".
فقال يزيد: "أنتَ
تردهم إلى منازلهم!".
ثم دعا بمبرد فأقبل يبرد
الجامعة من عنقه بيده، ثم
قال له: "يا علي بن
الحسين، أتدري ما الذي
أريد بذلك ؟".
قال عليه السلام: "بلى،
تريد أن لا تكون لأحد عليّ
منّة غيرك".
فقال يزيد: "هذا
والله ما أردت فعله... يا
علي بن الحسين "﴿وَمَا
أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُم﴾
7
".
فقال علي بن الحسين
عليه السلام: "كلا، ما
هذه فينا نزلت،إنما نزلت
فينا: "﴿مَا أَصَابَ مِن
مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن
قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ
﴿لِكَيْلَا
تَأْسَوْا عَلَى مَا
فَاتَكُمْ وَلَا
تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾"
8
فنحن الذين لا نأسى على
ما فاتنا، ولا نفرح بما
اتانا منها".
وبهذا هدم الإمام زين
العابدين عليه السلام أصل
استناد يزيد من الأساس،
وبيّن عدم فقهه بمعنى
الاية الشريفة، فوثب رجل
من أهل الشام وقال دعني
أقتله، فألقت السيدة زينب
عليه السلام بنفسها عليه.
وجعل الإمام زين العابدين
عليه السلام يقول:
لا تطمعوا أن تهينونا
ونكرمكم
وأن نكف الأذى عنكم
وتؤذونا
فالله يعلم أنّا لا نحبكم
ولا نلومكم إن لم تحبونا
فقال يزيد: "صدقت، ولكن
أراد أبوك وجدك أن يكونا
أميرين، فالحمد لله الذي
أذلهما وسفك دماءهما!".
فوقف الإمام عليه السلام
ليُذكر يزيد بن معاوية
بابائه وأجداده، ويُعرفه
بأبيه وجده: "يا ابن
معاوية وهند وصخر، لم يزل
ابائي وأجدادي فيهم
الإمرة من قبل أن تولد،
ولقد كان جدّي علي بن أبي
طالب عليه السلام يوم بدر
وأحد والأحزاب في يده
راية رسول الله صلى الله
عليه واله، وأبوك وجدك في
أيديهما رايات الكفر".
ثم قال عليه السلام: "ويلك
يا يزيد، إنك لو تدري ما
صنعتَ وما الذي ارتكبت من
أبي وأهل بيتي وأخي
وعمومتي إذاً لهربت في
الجبال وافترشت الرمال
ودعوت بالويل والثبور، أن
يكون رأس الحسين بن فاطمة
وعلي عليهما السلام
منصوباً على باب المدينة
وهو وديعة رسول الله صلى
الله عليه واله فيكم،
فأبشر بالخزي والندامة
غداً، إذا جمع الناس ليومٍ
لا ريب فيه".
ثم دعا يزيد بالنساء
والصبيان، فأُجسلوا بين
يديه، فراهم بهيئة مؤلمة
فقال: "قبّح الله ابن
مرجانة، لو كانت بينكم
وبينه قرابة ورحم ما فعل
هذا بكم ولا بعث بكم هكذا".
وكانت هذه الكلمات
وأمثالها من يزيد في
المرحلة الثانية التي تلت
تعبيره عن غاية البهجة
والسرور، إلا أنه فوجيء
بردة فعل من الناس لم يكن
يحسب لها أدنى حساب، مما
اضطره إلى أن يتخلى عن
المسؤولية ويرميها على
عاتق ابن زياد.
وتبرز من مواقف الإمام
علي بن الحسين عليه
السلام عدة نقاط للبحث
والتأمل:
1- صلابة موقف الإمام
عليه السلام وصموده في
المقام.
2- جعل الإمام عليه
السلام مسؤولية قتل
الإمام الحسين عليه
السلام وما جرى في وقعة
الطف وبعده على عاتق يزيد
وتنبيهه لعمق الفاجعة
الكبرى ووعيده بنار جهنم.
3- تبيين حقيقة يزيد بأنه
وأباه وجده كانوا في خط
الباطل، معلنين الحرب على
رسول الله صلى الله عليه
واله، وأهل البيت عليهم
السلام، وأن النهضة
الحسينية هي استمرار لتلك
المواجهة والمقابلة.
يزيد يهمّ بقتل الإمام
زين العابدين عليه السلام
وكما تقلب موقف يزيد في
الحديث عما جرى في كربلاء،
بين الفرح بما حصل،
والتبرؤ منه، كذلم تقلبت
مواقفه من الإمام السجاد
عليه السلام، بين السماتة،
ومحاولة القتل، ثم
الإيحاء بأنه يكرمه.
حاول يزيد لعنه الله
أثناء محاوراته للإمام
زين العابدين عليه السلام
أن يستنطقه بكلمة يوجب
فيها قتله، والإمام عليه
السلام يجيبه حسب ما
يكلمه وفي يده سبحة صغيرة
يديرها بأصابعه، وهو
يتكلم، فقال له يزيد: "أنا
أكلمكَ وأنت تجيبني وتدير
أصابعك بسبحة في يدك، كيف
يجوز ذلك؟".
فقال عليه السلام حدثني
أبي عن جدي صلى الله عليه
واله: "إنه كان إذا
صلّى الغداة وانفتل لا
يتكلم حتى يأخذ سبحة بين
يديه، فيقول: اللهم إني
أصبحت أسبّحك وأحمدك
وأُهلّلك وأُكبرك وأُمجدك
بعدد ما أدير به سبحتي،
ويأخذ السبحة في يده
ويديرها وهو يتكلم بما
يريد من غير أن يتكلّم
بالتسبيح، وذكر أن ذلك
محتسب له وهو حرز إلى أن
يأوي إلى فراشه، فإذا أوى
إلى فراشه قال مثل ذلك
القول ووضع سبحته تحت
رأسه فهي محسوبة له من
الوقت إلى الوقت، ففعلتُ
ذلك اقتداءً بجدي صلى
الله عليه واله".
فقال له يزيد لعنه الله:
"لستُ أكلم أحداً منكم
إلا ويجيبني بما يفوز به".
وشاور يزيد جلساءه في أمر
الأسارى في مجلسٍ كان في
اخر أيام مقام أهل البيت
عليه السلام في الشام،
فأشاروا بقتله وقالوا له:
"لا تتخذ من كلب سوء جرواً".
فابتدر الإمام عليه
السلام بالكلام، فحمد
الله وأثنى عليه، ثم قال
ليزيد: "لقد أشار عليك
هؤلاء بخلاف ما أشار
جلساء فرعون إليه، حيث
شاورهم في موسى وهارون،
فإنهم قالوا: أرجه وأخاه،
وقد أشار هؤلاء عليك
بقتلنا".
`
فسكت يزيد.
رأس اليهود في مجلس
يزيد العام
بعد المحاورة التي جرت
بين الإمام زين العابدين
عليه السلام ويزيد، التفت
إليه حبرٌ من أحبار
اليهود وكان حاضراً، فقال:
"من هذا الغلام يا أمير
المؤمنين؟".
فقال يزيد: "صاحب الرأس
هو أبوه".
قال الحبر: "ومن هو صاحب
الرأس يا أمير المؤمنين؟".
قال: "الحسين بن علي بن
أبي طالب".
قال: "فمن أمه؟".
قال يزيد: "فاطمة بنت
محمد صلى الله عليه واله".
فقال الحبر: "يا سبحان
الله! هذا ابن بنت نبيكم
قتلتموه في هذه السرعة!
بئس ما خلفتموه في ذريته،
والله لو خلف فينا موسى
بن عمران سبطاً من صلبه،
لظننا أنا كنا نعبده من
دون الله، وأنتم إنما
فارقكم نبيكم بالأمس،
فوثبتم على ابن نبيكم
قتلتموه، سوأة لكم من أمة..".
السيدة زينب بنت علي
عليه السلام في مجلس يزيد
إنها بطلة المعركة في
مجلس يزيد، تقف أمام
طغيانه بكل صلابة، وتكلمه
بمنتهى الشجاعة، لأنها
ترى الواقع الثابت عند
الله، ولأجل ذلك نرى أنها
تفرغ عن منطق أبيها الذي
هو نفس المصطفى الحبيب،
فتجعل الشام وقصرها
الأموي امتداداً ساحة
كربلاء وثورة سيد الشهداء،
وتجسيداً نمذجياً لقيمها
الكريمة وأهدافها السامية،
فها هي تقول له:
"يا يزيد أما تخاف الله
ورسوله من قتل الحسين
عليه السلام؟ وماكفاك ذلك
حتى تستجلب بنات رسول
الله صلى الله عليه واله
من العراق إلى الشام! وما
كفاك حتى تسوقنا إليك كما
تُساق الإماء على المطايا
بغير وطاء! وما قتل أخي
الحسين عليه السلام أحد
غيرك يا يزيد، ولولا أمرك
ما يقدر ابن مرجانة أن
يقتله،لأنه كان أقلّ عدداً
وأذل نفساً، أما خشيت من
الله بقتله وقد قال رسول
الله صلى الله عليه واله
فيه وفي أخيه: "الحسن
والحسين سيدا أهل الجنة
من الخلق أجمعين"؟ فإن
قلتَ لا فقد كذبتَ، وإن
قلتَ نعم فقد خصمت نفسك
واعترفت بسوء فعلك..".
فقال يزيد: "ذرية يتبع
بعضها بعضاً..".
وقد ركزت السيدة زينب
عليها السلام في هذا
الخطاب على ثلاثة أمور:
1- الإنتساب إلى رسول
الله صلى الله عليه واله.
2- تحميل مسؤولية قتل
الإمام الحسين عليه
السلام ليزيد لتبطل كل
محاولة للتبرؤ من ذلك.
3- إثبات أن يزيد لا
علاقة له بالإسلام من
قريب ولا من بعيد.
السيدة زينب عليها
السلام مع الرأس الشريف
اتخذ موقف السيدة زينب
عليها السلام عند رؤية
الرأس الشريف منحىً
عاطفياً، فهي لما رأته
نادت بصوت حزين يقرح
القلوب: "وا حسيناه،
يا حبيب رسول الله، يا
ابن مكة ومنى، يا ابن
فاطمة
الزهراء سيدة النساء، يا
ابن بنت المصطفى..".
فأبكت كل من كان حاضراً
في المجلس.
خطبة السيدة زينب عليها
السلام
9 :
وهي الوثيقة المحمدية
العلوية الفاطمية
والحسنية الحسينية التي
اتخذت موقعها في سياق
خطبة المصطفى الحبيب يوم
الغدير، وخطبة أمها
الصديقة الكبرى الشهيدة
في المسجد النبوي، وخطبة
أبيها أمير المؤمنين
المعروفة ب"الشقشقية"،
لتشكل هذه الخطب جميعاً
الوثائق الأبرز لمن كان
له قلب أو ألقى السمع وهو
شهيد.
وقد ألقت عليه السلام هذه
الخطبة بعد تمثّل يزيد
بأبيات الزبعرى:
"صدق الله ورسوله يا يزيد
"﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ
الَّذِينَ أَسَاؤُوا
السُّوأَى أَن كَذَّبُوا
بِايَاتِ اللَّهِ
وَكَانُوا بِهَا
يَسْتَهْزِؤُون﴾"
10
، أظننت يا يزيد حين أُخذ
علينا بأطراف الأرض
وأكناف السماء فأصبحنا
نساق كما تساق الأسارى أن
بنا هواناً على الله، وبك
عليه كرامة!! وأن هذا
لعظيم خطرك فشمخت بأنفك
ونظرت في عطفك، جذلان
فرحاً حين رأيت الدنيا
مستوسقة لك، والأمور
متسقة عليك، وقد أملهت
ونفّست وهو قول الله
تبارك وتعالى: "﴿وَلاَ
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُواْ أَنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا
وَلَهْمُ عَذَابٌ
مُّهِين﴾"11
، أمن العدل يا ابن
الطلقاء تخديرك نساءك
وإماءك وسوقك بنات
رسول اللهم صلى الله عليه
واله قد هتكت ستورهن
وأصحلت أصواتهن مكتئبات
تحدي بهنّ الأباعر ويحدو
بهن الأعادي من بلدٍ إلى
بلدٍ، لا يراقبن ولا
يؤوين، يتشوفهنّ القريب
والبعيد، ليس معهن وليّ
من رجالهن، وكيف يستطبأ
في بغضنا من نظر إلينا
بالشنف والشنان والإحن
والأضغان، أتقول: "ليت
أشياخي ببدرٍ شهدوا" غير
متأثم ولا مستعظم وأنت
تنكت ثنايا أبي عبد الله
بمخصرتك؟ ولمَ لا تكون
كذلك وقد نكأت القرحة
واستأصلت الشافة بإهراقك
دماء ذرية رسول الله صلى
الله عليه واله ونجوم
الأرض من ال عبد المطلب،
ولتردن على الله وشيكاً
موردهم ولتودن أنك عميت
وبكمت، وأنك لم تقل: "لأهلوا
وأستهلوا فرحاً". اللهم
خذ بحقنا وانتقم لنا ممن
ظلمنا، والله ما فريت إلا
في جلدك، ولا حززت إلا في
لحمك، وسترد على رسول
الله صلى الله عليه واله
برغمك وعترته ولحمته في
حظيرة القدس، يوم يجمع
الله شملهم ملمومين من
الشعث، وهو قول الله
تبارك وتعالى: "﴿وَلاَ
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ
اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ﴾"12
، وسيعلم من بوّأك ومكّنك
من رقاب المؤمنين إذا كان
الحكم الله والخصم محمد
صلى الله عليه واله
وجوارحك شاهدة عليك، فبئس
للظالمين بدلاً، أيّكم شرّ
مكاناً وأضعف جنداً، مع
أني والله يا عدوّ الله
وابن عدوه أستصغر قدرك
وأستعظم تقريعك، غير أن
العيون عبرى والصدور حرّى
وما يجري ذلك أو يغني
عنّا، وقد قُتل الحسين
عليه السلام، وحزب
الشيطان يقربنا إلى حزب
السفهاء ليعطوهم أموال
الله على انتهاك محارم
الله، فهذه الأيدي تنطف
من دمائنا، وهذا الأفواه
تتحلب من لحومنا، وتلك
الجثث الزواكي يعتامها
عسلان الفلوات، فلئن
اتخذتنا مغنماً لتتخذن
مغرماً حين لا تجد إلا ما
قدمت يداك، تستصرخ ابن
مرجانة ويستصرخ بك،
وتتعاوى وأتباعك عند
الميزان، وقد وجدت أفضل
زاد زوّدك معاوية قتلك
ذرية محمد صلى الله عليه
واله، فوالله ما اتقيتُ
غير الله ولا شكواي إلا
إلى الله، فكِدْ كيدك
واسْعَ سعيك، وناصِبْ
جهدك، فوالله لا يرحض عنك
عار ما أتيت إلينا أبداً،
والحمد لله الذي ختم
بالسعادة والمغفرة لسادات
شبّان الجنان، فأوجب لهم
الجنة،أسأل الله أن يرفع
لهم الدرجات وأن يوجب لهم
المزيد من فضله، فإنه ولي
قدير".
فكان هذا الخطاب كالصاعقة
على رأس يزيد، فقال:
يا صيحة تحمد من صوائح
ما أهون النوح على
النوائح
واستبدت بيزيد الحيرة،
فلم يدر مايقول فما كان
منه إلا أن تمثّل بقول
شاعرٍ. ولاتوجد لأدنى
مناسبة بين ما سمعه
الطاغية، من الصواعق التي
انقضت عليه وعلى بني أمية
مذكرة بكل كلمة منها
بضربة من ضربات ذي الفقار
بين يدي رسول الله صلى
الله عليه واله وبين ما
تمثل به من الشعر الذي
أعلن فيه أن الصيحة تحمد
من الصوائح! وأن النوح
يهون على النائحات! إنها
محاولة الأبكم الفاشلة
للتستر بالتشفي.
نظرة سريعة في مضامين
الخطبة العظيمة
1- الانطلاق من محور
مركزي في المعارف
الإسلامية حول إمهال الله
تعالى الطغاة الظلمة
والكفرة الفجرة، وأنه ليس
ذلك إلا لإتمام الحجة
عليهم وليزدادوا إثماً.
2- بيان جور يزيد في
الحكم، مع أنه يدّعي
تمثيله للخلافة.
3- التركيز على مسألة حفظ
مكانة المرأة ولزوم
الغيرة.
4- التركيز على أن ما
فعله يزيد هو نتيجة الكفر،
وأن ما ارتكبه هو انتقام
لمّا فعله الرسول صلى
الله عليه واله من قتل
أقرباء يزيد الكفرة في
يوم بدر، وهو هز السيوف
في وجه رسول الله بعد
مُضي خمسين سنة من وفاة
الرسول صلى الله عليه
واله.
5- التأكيد أن الحكم
والولاية لال محمد لا
لغيرهم، وذلك في قولها:
"... وحين صفا لك
ملكنا وسلطاننا".
6- الإشارة إلى
مسؤولية من مكّن الطاغية
من رقاب المسلمين، وبذلك
ترد على من يريد أن يحيل
ذلك إلى قضاء الله وقدره.
7- التصريح بعدم تمكن
يزيد ولا أذنابه من محو
ذكر أهل البيت عليهم
السلام، فذلك أمر لا
يتمكن منه أحد.
8- بيان عظمة مقام الشهيد
وسمو قيمة الشهادة في
الفكر الإسلامي.
9- جعل المسؤولية الكبرى
في قتل الإمام الحسين
عليه السلام على عاتق
يزيد مباشرة.
موقف السيدة زينب عليها
السلام من طلب الرجل
الشامي
روي عن فاطمة بنت الحسين
عليه السلام أنها قالت:
فلما جلسنا بين يدي يزيد،
قام إليه رجل من أهل
الشام، فقال: يا أمير
المؤمنين، هب لي هذه
الجارية يعنيني فأرعدتُ
وظننت أن ذلك جائز لهم،
فأخذت بثياب عمتي زينب،
وكانت تعلم أن ذلك لا
يكون.
فقالت عمتي عليها السلام
للشامي: "كذبتَ ولؤمتَ،
والله ما ذلك لك ولا له!".
فغضب يزيد وقال: "كذبتِ!
إن ذلك لي ولو شئت أن
أفعل لفعلت!".
قالت: "والله ما جعل
الله لك ذلك إلا أن تخرج
من ملتنا وتدين بغيرها".
فاستطار يزيد غضباً وقال:
"إياي تستقبلين بهذا؟
إنما خرج من الدين أبوك
وأخوك!".
قالت زينب عليها السلام:
"بدين الله ودين أبي ودين
أخي اهتديت أنت وجدك
وأبوك إن كنتَ مسلماً!".
قال : "كذبت يا عدوة
الله!".
قالت عليها السلام له:
"أنتَ أمير تشتم ظالماً
وتقهر بسلطانك.. فكأنه
استحيا وسكت..".
فعاد الشامي فقال: "هب
لي هذه الجارية".
فقال له يزيد: "أعزب، وهب
الله لك حتفاً قاضياً".
لقد حققت السيدة زينب
عليها السلام نصراً حاسماً
على الطاغي وهو في ذروة
السلطة والقدرة الظاهرية،
فقد أفحمته المرة بعد
المرة،
وقد تمكنت أن تظهر جهل
مدّعي الخلافة للناس،كما
كشفت عن عدم فقهه في شؤون
الدين، فإن نساء المسلمين
لا يصح اعتبارهن سبايا في
الحروب، ولا يعاملن
معاملة السبي، فكيف إن كن
بنات رسول الله صلى الله
عليه واله؟
دور عقيلات بيت النبوة
عليهم السلام في مجلس
يزيد
سارت النساءُ في بقية
الركب الحُسيني على خطى
الإمام زين العابدين عليه
السلام والسيدة زينب
عليها السلام بتحقيق نفس
الأهداف، وعمدن إلى فضح
السلطة الظالمة، وتعريف
أنفسهن بأنهن سبايا ال
بيت النبوة عليهم السلام
في كل موقفٍ، ما يجعل
الأمور تنقلبُ على رأس
يزيد بن معاوية، وهذا ما
فعلته السيدة سُكينة بنت
الإمام الحسين عليه
السلام. في تعريف الأسارى
بأنهم من ال محمد صلى
الله عليه واله لكي تسيطر
على الجو المسموم إعلامياً.
فعن الإمام جعفر بن محمد
الصادق عن أبيه عليه
السلام: لما قدم يزيد
بذراري الحسين أدخل بهن
نهاراً مكشوفات وجوههن،
فقال أهل الشام الجفاة:
ما رأينا أحسن من هؤلاء،
فمن أنتم؟ فقالت سكينة
بنت الحسين عليه السلام:
"نحن سبايا ال محمد!".
ولما وضع رأس الإمام
الحسين عليه السلام بين
يدي يزيد، قالت له السيدة
سكينة عليه السلام: "والله
ما رأيتُ أقسى قلباً من
يزيد، ولا كافراً ولا
مشركاً شرّاً منه ولا
أجفى منه".
وكذا قامت فاطمة بنت
الإمام الحسين عليه
السلام وكانت أكبر
من سُكينة
حينما أدخلت نساء الإمام
الحسين عليه السلام على
يزيد، فصاحت نساء ال يزيد
وبنات معاوية وأهله
وولولن، فقالت فاطمة بنت
الحسين عليه السلام: "أبنات
رسول الله سبايا يا يزيد؟".
فبكى الناس وبكى أهل داره
حتى علت الأصوات.
خطبة الإمام زين العابدين
عليه السلام
أمر يزيد بمنبرٍ وخطيب
ليَذكُرَ للناس مساوئ
الإمام الحسين عليه
السلام وأبيه الإمام علي
عليه السلام، فصعد الخطيب
المنبر فحمد الله وأثنى
عليه، وأكثر الوقيعة في
علي والحسين عليه السلام،
وأطنب في مدح معاوية
ويزيد، فصاح به الإمام
زين العابدين عليه السلام:
"ويلك أيها الخاطب!
اشتريت رضا المخلوق بسخط
الخالق، فتبوّأ مقعدك من
النار". ثم قال عليه
السلام: "يا يزيد! ائذن
لي حتى أصعد هذه الأعواد،
فأتكلم بكلمات، فيهن لله
رضا ولهؤلاء الجالسين أجر
وثواب..".
فأبى يزيد، فقال
الناس: "يا أمير المؤمنين،
ائذن له ليصعد، فلعلنا
نسمع منه شيئاً". فقال
لهم: "إن صعد المنبر هذا
لم ينزل إلا بفضيحتي
وفضيحة ال أبي سفيان..".
فقالوا: "ما قدر ما يُحسن
هذا؟".
فقال: "إنه من أهل بيت قد
زقّوا العلم زقّا..".
ولم يزالوا به، حتى أذِن
له بالصعود، فصعد المنبر،
فحمد الله وأثنى عليه، ثم
خطب خطبة أبكى منها
العيون، وأوجل منها
القلوب، فقال فيها:
"أيها الناس،أُعطينا ستاً
وفُضلنا بسبع، أعطينا
العلم والحلم والسماحة
والفصاحة والشجاعة
والمحبة في قلوب المؤمنين،
وفضلنا بأن منا النبي
المختار محمداً صلى الله
عليه واله وسلم، ومنا
الصديق، ومنا الطيارعليه
السلام، ومنا أسد الله و
أسد الرسول صلى الله عليه
واله، ومنا سيدة نساء
العالمين فاطمة البتول
عليها السلام، ومنا سبطا
هذه الأمة وسيدا شباب أهل
الجنة.
فمن عرفني فقد عرفني، ومن
لم يعرفني، أنبأته بحسبي
ونسبي..
أيها الناس: أنا ابن مكة
ومنى، أنا ابن زمزم
والصفا، أنا ابن من حمل
الزكاة في أطراف الرداء،
أنا ابن خير من ائتزر
وارتدى، أنا ابن خير من
انتعل واحتفى، أنا ابن
خير من طاف وسعى، أنا ابن
خير من حج ولبى، أنا ابن
من حُمل على البراق في
الهواء، أنا ابن من أسري
به من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى، فسبحان من
أسرى، أنا ابن من بلغ به
جبرائيل إلى سدرة المنتهى،
أنا ابن من دنا فتدلى
فكان قاب قوسين أو أدنى،
أنا ابن من صلى بملائكة
السماء، أنا ابن من أوحى
إليه الجليل ما أوحى، أنا
ابن محمد المصطفى، أنا
ابن علي المرتضى، أنا ابن
من ضرب خراطيم الخلق حتى
قالوا لا إله إلا الله،
أنا ابن من ضرب بين يدي
رسول الله بسيفين، وطعن
برمحين، وهاجر الهجرتين،
وبايع البيعتين، وصلّى
القبلتين، وقاتل ببدر
وحنين، ولم يكفر بالله
طرفة عين، أنا ابن صالح
المؤمنين، ووراث النبيين،
وقامع الملحدين، ويعسوب
المسلمين، ونور المجاهدين،
وزين العابدين، وتاج
البكائين، وأصبر الصابرين،
وأفضل القائمين من ال
ياسين ورسول رب العالمين،
أنا ابن المؤيد بجبرائيل،
والمنصور بميكائيل، أنا
ابن المحامي عن حرم
المسلمين، وقاتل الناكثين
والقاسطين والمارقين،
والمجاهد أعداءه الناصبين،
وأفخر من مشى من قريش
أجمعين، وأول من أجاب
واستجاب لله من المؤمنين،
وأقدم السابقين، وقاصم
المعتدين، ومبير المشركين،
وسهم من مرامي الله على
المنافقين، ولسان حكمة
العابدين، ناصر دين الله،
وولي أمر الله، وبستان
حكمة الله، وعيبة علم
الله، سمح سخي، بهلول زكي
أبطحي، رضي مرضي، مقدام
همام، صابر صوام، مهذب
قوام، شجاع قمقام، قاطع
الأصلاب، ومفرق الأحزاب،
أربطهم جناناً، وأطبقهم
عناناً، وأرجأهم لساناً،
وأمضاهم عزيمة، وأشدهم
شكيمة، أسد باسل، وغيث
هاطل، يطحنهم في الحروب
إذا ازدلفت الأسنة وقربت
الأعنة، طحن الرحى،
ويذروهم ذرو الريح الهشيم،
ليث الحجاز، وصاحب
الإعجاز، وكبش العراق،
الإمام بالنص والاستحقاق،
مكيّ مدنيّ، أبطحيّ تهامي،
خيفيّ عبقيّ، بدريّ أُحديّ،
شجريّ مهاجري، من العرب
سيّدها، ومن الوغى ليثها،
وارث المشعرين، وأبو
السبطين الحسن والحسين،
مظهر العجائب، ومفرّق
الكتائب، والشهاب الثاقب،
والنور العاقب، أسد الله
الغالب، مطلوب كل طالب،
غالب كل غالب، ذاك جدي
علي أبي طالب.
أنا ابن فاطمة
الزهراء،أنا ابن سيدة
النساء، أنا ابن الطهر
البتول، أنا ابن بضعة
الرسول، أنا ابن علي
المرتضى، أنا ابن فاطمة
الزهراء، أنا ابن خديجة
الكبرى، أنا ابن المقتول
ظلماً، أنا ابن
المحزوز من القفا، أنا
ابن العطشان حتى قضى، أنا
ابن طريح كربلاء، أنا ابن
مسلوب العمامة والرداء،
أنا ابن من بكت عليه
ملائكة السماء، أنا ابن
من ناحت عليه الجن في
الأرض والطير في الهواء،
أنا ابن من رأسه على
السنان يُهدى، أنا ابن من
حرمه من العراق إلى الشام
تسبى. أيها الناس: إن
الله تعالى وله الحمد
ابتلانا أهل البيت ببلاءٍ
حسن حيث جعل راية الهدى
والعدل والتقى فينا، وجعل
راية الضلالة والردى في
غيرنا..".
فضج الناس بالبكاء
والنحيب، وخشي يزيد أن
تكون فتنة، فأمر المؤذن
أن يؤذن فقطع عليه الكلام
وسكت.
فلما قال المؤذن "الله
أكبر"، قال علي بن الحسين
عليه السلام: "كبّرت
كبيراً لا يقاس ولا يدرك
بالحواس، ولا شيء أكبر
من الله".
فلما قال "أشهد أن لا إله
إلا الله"، قال الإمام
عليه السلام:" شهد بها
شعري وبشري ولحمي ودمي
ومخي وعظمي".
فلما قال "أشهد أن محمداً
رسول الله" التفت الإمام
عليه السلام من أعلى
المنبر إلى يزيد وقال:
"يا يزيد، محمد هذا جدي
أم جدك؟ فإن زعمت أنه جدك
فقد كذبت، وإن قلتَ إنه
جدي فلم قتلتَ عترته؟".
ففرغ المؤذن وقام يزيد
وصلّى صلاة الظهر.
نظرة خاطفة في خطبة
الإمام السجاد عليه
السلام وصداها
لقد اقتصر الإمام عليه
السلام في هذه الخطبة على
التعريف بأسرته ونفسه ولم
يتعرّض لشيء اخر، ولعل
السر في ذلك أنه لما كان
يعلم أن المجتمع الشامي
لا يعرف عن أهل البيت
عليه السلام ومنزلتهم
الرفيعة شيئاً لكونه تربى
في أحضان سلطة الطغاة من
بني أمية التي أخفت عنهم
الحقائق وغذتهم بالولاء
لأبناء الشجرة الملعونة
والحقد على ال بيت رسول
الله صلى الله عليه واله
اكتفى بذلك، ومن هذا
المنطق نرى أنه عليه
السلام يعالج المسألة
عاطفياً، لأن تأثيره في
هذه المرحلة أكثر من أي
أداة، ومضمون الخطبة
يرشدنا إلى أن المخاطبين
كانوا من جمهور الناس، لا
الأشراف والأعيان منهم
فحسب، فجو المجلس يختلف
عن جو مجلس يزيد العام،
الذي كان مزدحماً
بالأعيان والأشراف وكبار
رجال أهل الكتاب وبعض
ممثلي الدول الكبار انذاك.
فلذلك نرى أن الإمام عليه
السلام يعدد مزايا ال
البيت عليهم السلام ويخص
بالذكر رجالاً منهم ليس
لهم بديل ولا نظير، فيقول
إنّ منا النبي المختار،
ومنا الصديق يعني علي بن
أبي طالب عليه السلام
ويعدد الكثير من الصفات
دون أن يصرح في البداية
بالمقصود ممن يذكرهم بهذه
الأوصاف مثل الصدق، وسيدي
شباب أهل الجنة و..، حتى
يذكر أوصافاً متعددة لهم
تكشف عن بعض زوايا حياتهم
وفضائلهم، ليكون أوقع
بالنفوس، كما كان ذلك
بالفعل.
وبعد ذلك يذكر الإمام
عليه السلام أصله وجذره
نسباً وموطناً، حتى يعلم
الجميع أنه فرع الشجرة
النبوية والثمرة العلوية
والجوهرة الفاطمية
واللؤلؤة الحسينية، ومن
قلب مكة والمدينة، فكيف
شوّهت السلطة الباغية
والحكومة الطاغية الواقع
على الناس وأذاعت الكذب
وعرفتهم للأمة بأنهم
الخوارج على أمير
الفاسقين يزيد!
إن الإمام عليه السلام
بعد تبيينه مختصات جده
رسول الله صلى الله عليه
واله من الوحي والمعراج،
يبيّن خصائص جده أمير
المؤمنين علي عليه السلام،
والمجتمع الشامي يسمع
أوصافاً له يسمعها أول
مرة، فهو الذي ضرب بين
يدي رسول الله بسيفين
وطعن برمحين...
ثم يذكر بعض خصائص جدته
الصديقة الكبرى الإنسية
الحوراء فاطمة الزهراء
عليها السلام حتى يصل إلى
قمة كلامه "أنا ابن
المقتول ظلماً.."
يقول ذلك، والظالم يزيد
جالس بين يديه في المجلس،
ويشير إلى بعض مأساة
كربلاء فيقول: "أنا
ابن المحزوز الرأس من
القفا، أنا ابن العطشان
حتى قضى، أنا ابن طريح
كربلاء، أنا ابن مسلوب
العمامة والرداء..".
هذا ما جرى في كربلاء،
وهذا واقع مقتل الإمام
الحسين عليه السلام،وأما
الشيء الموجود حالياً في
الشام الذي لا بدّ أن
يلتفت إليه هذا الجمهور
الغافل الضائع فهو أن جسم
الإمام الحسين عليه
السلام الطاهر وإن كان في
كربلاء ولكن رأسه الشريف
وحرمه في الشام.
ثم إن يزيد لم يجد مفراً
إلا أن يلتجى إلى المؤذن
بذريعة الأذان،وقد كان
يعلم في البداية أن
الإمام عليه السلام لو
صعد المنبر يقلب الوضع
عليه، ولكنه ما كان يعلم
انه يصل إلى هذه الدرجة،
وإلا لما رضي بذلك أصلاً.
لقد أثر خطاب الإمام
تأثيراً بالغاً في أوساط
المجتمع الشامي، فقد جعل
بعضهم ينظر إلى بعض، ويسر
بعضهم إلى بعض بما الوا
إليه
من الخيبة والخسران، حتى
تغيرت أحوالهم مع يزيد
وأخذوا ينظرون إليه نظرة
احتقار وازدراء.
أهم لقاءات الإمام زين
العابدين عليه السلام في
الشام
اللقاء الأول كان عندما
نزل الإمام زين العابدين
عليه السلام عن المنبر،
أخذ ناحية باب المسجد،
فلقيه مكحول الشامي وهو
إمام الشام، وصاحب رسول
الله صلى الله عليه واله
ومبغض لأمير المؤمنين علي
عليه السلام، فقال له: "كيف
أمسيتَ يا ابن رسول الله؟".
قال عليه السلام: "أمسينا
بينكم مثل بني إسرائيل في
ال فرعون، يذبّحون
أبناءهم، ويستحيون نساءهم،
وفي ذلكم بلاء من ربكم
عظيم".
أما اللقاء الثاني للإمام
زين العابدين عليه السلام
مع منهال بن عمر الأسدي
في سوقٍ من أسواق دمشق،
فقال له : "كيف أمسيتَ يا
ابن رسول الله؟". قال
عليه السلام: "ويحك أما
ان لك أن تعلم كيف أصبحت؟
أصبحنا في قومنا مثل بني
إسرائيل في ال فرعون،
يذّبحون أبناءنا،
ويستحيون نساءنا، وأصبح
خير البرية بعد محمد
يُلعن على المنابر، وأصبح
عدوّنا يُعطى المال
والشرف، وأصبح من يحبنا
محقوراً منقوصاً حقه،
وكذلك لم يزل المؤمنون،
وأصبحت العجم تعرف للعرب
حقها أن محمداً كان منها،
وأصبحت قريش تفتخر على
العرب بأن محمداً كان
منها، وأصبحت العرب تعرف
لقريش حقها بأن محمداً
كان منها، وأصبحت العرب
تفتخر على العجم بأن
محمداً كان منها، وأصبحنا
أهل البيت لا يُعرف لنا
حق، فكهذا أصبحنا يا
منهال".
ونشير إلى تكرار الحادثة
والمحادثة مع مكحول
ومنهال لا وحدتها، خاصة
أن المروي كون محادثة
مكحول عند ناحية المسجد،
ومكالمة منهال في سوق
دمشق، وليس بغريب أن
يتكرر ويتقارب جواب في
سؤال واحد.
الإمام زين العابدين
عليه السلام يحاور الرأي
العام المُضَلّل
اهتم الإمام زين العابدين
عليه السلام بمسألة تنوير
الأفكار وكشف الحقائق
أكثر من أي شيء، ولقد
ذكرنا شيئاً من كلامه
ومحادثاته وخطبه التي
تعالج هذا الجانب، فقد
أتى إليه رجل من أهل
الشام، فقال له: "أنت علي
بن الحسين؟".
قال عليه السلام: "نعم".
قال: "أبوك قتل المؤمنين!".
فبكى الإمام عليه السلام
ثم مسح وجهه وقال: "ويلك!
وبما قطعت على أبي أنه
قتل المؤمنين؟".
قال: "بقوله إخواننا بغوا
علينا فقاتلناهم على
بغيهم".
قال عليه السلام: "أما
تقرأ القران ؟".
قال: "إني أقرأ".
قال عليه السلام:
"أما سمعتَ قوله
﴿وَإِلَى
عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا..
وَإِلَى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْبًا..
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ
صَالِحًاً﴾
13
".
قال: "بلى".
قال عليه السلام:
"كان أخاهم في عشيرتهم أم
في دينهم؟".
قال: "في عشيرتهم".
قال عليه السلام: "فرّجت
عني فرج الله عنك".
حبس بقية الركب الحسيني
في الشام
فقد روي عن فاطمة بنت علي
عليه السلام، قالت: "ثم
إن يزيد لعنه الله أمر
بنساء الحسين عليه السلام
فحبسن مع علي بن الحسين
عليه السلام في محبس لا
يكنّهم من حر ولا قرّ،
حتى تقشرت وجوههم".
وكان البيت خراباً بحيث
كان يُخشى وقوعه عليهم،
فعن أبي عبد الله الصادق
عليه السلام قال: "أُتي
بعلي بن الحسين عليه
السلام إلى يزيد بن
معاوية ومن معه من النساء
أسرى فجعلوهم في بيت،
ووكلوا بهم قوماً من
العجم لا يفهمون العربية،
قال بعض لبعض : إنما
جعلنا في هذا البيت ليهدم
علينا فيقتلنا فيه، فقال
علي بن الحسين عليه
السلام للحرس بالرطانة :
تدرون ما يقول هؤلاء
النساء؟ يقلن كيت وكيت،
فقال الحرس: قد قالوا
إنكم تخرجون غداً
وتُقتلون، فقال علي بن
الحسين عليه السلام: كلا،
يأبى الله ذلك، ثم أقبل
عليهم يعلّمهم بلسانهم".
إقامة عزاء الإمام الحسين
عليه السلام في بيت يزيد
تضليلاً وتعمية
عندما أُدخل الركب
الحسيني إلى يزيد، ووُضع
الرأس بين يديه، سمعت هند
بنت عبد الله بنت عامر
زوجة يزيد، الحديث الذي
دار
في قاعة القصر، فتقنعت
بثوبها وخرجت إليه وسألته:
"يا أمير المؤمنين، أرأس
الحسين ابن فاطمة بنت
رسول الله؟".
فأجابها: "نعم، فاعولي
عليه وحدي على ابن بنت
رسول الله صلى الله عليه
واله وصريخة قريش، عجل
عليه ابن زياد، فقتله
قتله الله".
فشقت الستر وهي حاسرة
فوثب إليها يزيد فغطاها.
ثم أُدخلت النساء
الهاشميات إلى دار يزيد،
فلم تبق امرأة من ال يزيد
إلا أتتهن وأظهرن التوجع
والحزن على ما أصابهن
وعلى ما نزل بهن.
واستدعى يزيد سبايا البيت
النبوي عليهم السلام فقال
لهن: "أيّهما أحبّ إليكن،
المقام عندي أم الرجوع
إلى المدينة؟ ولكم
الجائزة السنية!".
قالوا: "نحب أولاً أن
ننوح على الحسين عليه
السلام".
قال: "افعلن ما بدا لكم".
ثم أخليت لهن الحجر
والبيوت في دمشق، ولم تبقَ
هاشمية ولا قرشية إلا
لبست السواد على الإمام
عليه السلام وندبنه مدة
بقائهن في الشام، وبكى
أهل الشام حتى علت
أصواتهم.
واضطر يزيد "لعنه الله"
لأن يبكي تصنعاً أمام
الناس خوفاً من سخطهم
الشديد عليه، ثم خشي شق
العصا وحصول الفتنة وأخذ
في الاعتذار والإنكار
لفعل ابن زياد وإبداء
التعظيم والتكريم لعلي بن
الحسين عليه السلام ونقل
نساء رسول الله إلى داره
الخاصة وكان لا يتغدى ولا
يتعشى إلا مع الإمام عليه
السلام.
رأس الإمام الحسين
عليه السلام عند يتيمته
كان للإمام الحسين
عليه السلام بنت صغيرة
اسمها رقيّة، ولها ثلاث
سنين، وكانت مع الأسراء
في الشام، وكانت تبكي
لفراق أبيها ليلاً ونهاراً،
وكانوا يقولون لها: "هو
في سفر أي سفر الاخرة ،
فرأته ليلة في النوم،
فلمّا انتبهت جزعت جزعاً
شديدا"، وقالت: "ائتوني
بوالدي وقرة عيني"،
وكلما أراد أهل البيت
عليهم السلام إسكاتها
ازدادت حزناً وبكاءً،
ولبكائها هاج حزن أهل
البيت عليهم السلام،
فأخذوا في البكاء، ولطموا
الخدود، وحثوا على رؤوسهم
التراب، وقام صياح، فسمع
يزيد صيحتهم وبكاءهم،
فقال: "ما الخبر؟" قيل له:
"إنها بنت الحسين عليه
السلام الصغيرة، رأت
أباها بنومها، فانتبهت
وهي تطلبه وتبكي وتصيح"،
فلما سمع يزيد ذلك، قال:
"ارفعوا إليها رأس أبيها،
وحطوه بين يديها تتسلى"،
فأتوا بالرأس في طبق مغطى
بمنديل، ووضعوه بين يديها،
فقالت: "يا هذا، إني
طلبت أبي ولم أطلب الطعام"،
فقالوا: "إن هنا أباكِ"،
فرفعت المنديل ورأت رأساً،
فقالت: "ما الرأس؟"
قالوا: "رأس أبيك". فرفعت
الرأس وضمته إلى صدرتها
وهي تقول: "يا أبتاه
من ذا الذي خضبك بدمائك؟
يا أبتاه من ذا الذي قطع
وريدك؟ يا أبتاه، من ذا
الذي أيتمني على صغر سني؟
يا أبتاه من لليتيمة حتى
تكبر؟ يا أبتاه من للنساء
الحاسرات؟ يا أبتاه من
للأرامل المسبيات؟ يا
أبتاه من للعيون الباكيات؟
يا أبتاه من للضائعات
الغريبات؟ يا أبتاه من
بعدك واخيبتاه، يا أبتاه
من بعدك وا غربتاه، يا
أبتاه ليتني لك
الفداء، يا أبتاه ليتني
قبل هذا اليوم عمياء، يا
أبتاه ليتني وسدت التراب
ولا أرى شيبك مخضباً
بالدماء".
ثم وضعت فمها على فم
الشهيد المظلوم، وبكت حتى
غشي عليها، فلمّا حركوها
فإذا هي قد فارقت روحها
الدنيا، فارتفعت أصوات
أهل البيت عليهم السلام
بالبكاء، وتجدد الحزن
والعزاء، ومن سمع من أهل
الشام بكاءهم، فلم يُرَ
في ذلك اليوم إلا باكٍ أو
باكية.
يزيد يظهر الندامة ويلعن
ابن مرجانة
اضطر يزيد أن يظهر
الندامة في قتله للإمام
الحسين عليه السلام
وأصحابه، وبادر بلعن عبيد
الله بن زياد، وذلك لعدة
أمور:
1 الاستنكار الشعبي العام:
فقد بلغه بغض الناس له
ولعنهم وسبهم إياه، حيث
صرّح هو بذلك: "لعن الله
ابن مرجانة! لقد بغّضني
المسلمين وزرع لي في
قلوبهم البغضاء".
2 الاستنكار الخاص:
أ وجوه أهل الشام: فقد
أنكر عليه أهل الشام
فعلته وتغيرت وجوههم
بعدما رأوا ما فعله برأس
الإمام الحسين عليه
السلام.
ب عسكر يزيد: بعد تمثله
بأبيات الزبعرى ما بقي
أحد من عسكره إلا تركه.
ج استنكار بيت يزيد.
ويظهر هنا أن تلك الندامة
ناشئة عن بغض المسلمين
وعداوتهم له، وإلا فلم
الفرح والسرور والاحتفال
بقتل الإمام عليه السلام
قبل
أن يعرف أهل الشام حقيقة
ما جرى، ثم إن إلقاء
الملامة على عاتق ابن
زياد ولعنه له ما هو إلا
موقف سرعان ما فضحته
المكافأة الكبيرة التي
صرفها يزيد لابن زياد على
قتله الإمام عليه السلام،
وقضاؤه ليالي معه في
القصر يشربون الخمر
ويحتفلون بذلك.
|