الوصول إلى مكة:
أقام الإمام الحسين عليه
السلام في مكة منذ الثالث
من شعبان وحتى الثامن من
ذي الحجة، وقد اختار مكة
استثماراً لأشهر الحج
ليوصل نهضته المباركة
والتعريف بأهدافها إلى كل
العالم الإسلامي. ونزل في
دار العباس عليه السلام
بن عبد المطلب المتواجد
في " شِعب علي " ، ذلك
أنه لم يبقَ في مكة إلاّ
هي داراً لبني هاشم،
فعقيل بن أبي طالب كان قد
باع دور المهاجرين من بني
هاشم خشية أن تستولي
عليها قريش وتصادرها وباع
حتى دار النبي صلى الله
عليه وآله . وقد اختار
دار العباس عليه السلام
ليبدأ من هناك بالتهيئة
لنهضته لأسبابٍ سياسية
واجتماعية و تبليغية،
وكان الموالون في جميع
أنحاء البلاد الإسلامية
يبعثون بمكاتيبهم إلى
الإمام الحسين عليه
السلام ويسألونه عمّا
يهمهم من أمور دينهم.
البنية الاجتماعية
والسياسة لمكة المكرمة:
إن التركيبة الاجتماعية
لمكة المكرمة منذ عهد
الرسول صلى الله عليه
وآله تركيبة قبلية، فهي
من بيوتاتٍ وعشائر.
وتتألف قريش من خمسة
وعشرين بطناً تنقسم إلى
قسمين؛ القسم الأول من
ثلاثة وعشرين بطناً هم
الأكثر عدداً ومدداً
ظاهرياً. والقسم الثاني
يتألف من رسول الله محمد
صلى الله عليه وآله ومن
بطنه الهاشمي وبطن عبد
المطلب بن عبد مناف.
وكانت بطون قريش بأجمعها
مناوئة للدعوة المحمدية،
وقد أصيبت بالخيبة وشدة
النكسة مما أصابها من بني
هاشم عامة ومن علي بن أبي
طالب عليه السلام خاصة
بعد تعاظم أمر رسول الله
صلى الله عليه وآله ،
واشتداد شوكته خصوصاً بعد
معركة بدر الكبرى التي
عبّأت فيها قريش كل قواها،
إذ ما بقي أحد من عظماء
قريش إلا أخرج مالاً
لتجهيز الجيش، وقالوا: من
لم يخرج نهدم داره.
بعد بدر ترسخ حقد قريش
على بني هاشم عامة، وكانت
تعلم أن علياً عليه
السلام هو السبب الرئيسي
في انهزامها وخسارتها
المفجعة لقتله أبرز وجوه
قريش، وقد بقي هذا الحقد
دفيناً، وغذته السلطة
التي كانت منبثقة من أحد
أكثر بطون قريش كرهاً لآل
الرسول صلى الله عليه
وآله ، وهم بني سفيان، ما
يؤكد عدم وجود قاعدة
شعبية تتولى الإمام
الحسين عليه السلام
وتنصره، بل كان الأمر كما
وصفه الإمام السجاد عليه
السلام :
" ما بمكة والمدينة عشرون
رجلاً يحبناً "
وهذا هو السبب في عدم
اختيار الإمام عليه
السلام لمكة مركزاً
لانطلاق ثورته، إذ لم
تتوفر له، ولا لأخيه
الحسن عليه السلام ، ولا
حتى لأبيهما علي عليه
السلام ، قاعدة موالية في
مكة.
لذا وبعد دخوله عليه
السلام مكة عكف الناس من
المعتمرين والحجاج من أهل
الأقطار الأخرى يفدون
إليه ويجلسون حواليه
ويستمعون من كلامه
وينتفعون بما يسمعون منه
ويضبطون ما يروون عنه،
وليس فيهم من أهل مكة سوى
القلّة الذين هم ليسوا من
قريش بل ممّن سكن مكة بعد
الفتح.
حركة الإمام الحسين عليه
السلام في مكة:
طيلة المدة التي أقام
فيها الإمام الحسين عليه
السلام في مكة المكرمة
التقى مجموعة متنوعة من
المشارب والميول والأفكار
من وجهاء مرموقين
ومعروفين في أوساط الأمة
الإسلامية، وقد عرض هؤلاء
على الإمام عليه السلام
مشورتهم ونصائحهم
واعتراضاتهم، كل منهم على
هدي مشربه وميله وطريقة
تفكيره، ولئن اختلفت تلك
المشورات والنصائح
والاعتراضات في بعض
تفاصيلها، فقد اشتركت
جميعها في منطلق التفكير
والنظرة إلى القضية، إذ
أن جميعها كان يرى الفوز
والنصر في تسلّم الحكم
والسلامة والعافية
والأمان الدنيوي التي
تكون برفض بيعة يزيد،
ويرى الخسارة والانكسار
في القتل والتشرد والبلاء
والتعرض للاضطهاد إثر
القيام بوجهه، فمن هذا
المنطلق انبعثت جميع تلك
الاعتراضات و المشورات
والنصائح.
في نفس الوقت كان الإمام
الحسين عليه السلام يتحرك
بالفعل على أساس منطق
العمق الذي جعل أساس
حساباته مصير الإسلام
والأمة الإسلامية، وأيضاً
بمنطق الحجج الظاهرة في
تعامله منطق المشورات
والنصائح، فكان عليه
السلام يراعي في ردوده
وإجاباته نوع المخاطب من
حيث قدر عقله ومستوى
بصيرته ودرجة ولائه لآل
البيت عليهم السلام .
موقف السلطة من حركة
الإمام عليه السلام في
مكة:
اخترق الإمام الحسين عليه
السلام بدخوله إلى مكة
المرحلة الأولى من الحصار
الذي فرضه عليه يزيد بن
معاوية في المدينة
المنورة وهو إما البيعة
أو القتل. وانتاب السلطة
الخوف حينما علمت بدخول
الإمام عليه السلام مكة
المكرمة في الأيام التي
تتقاطر فيها جموع
المعتمرين والحجاج من
جميع مستويات أقطار
العالم الإسلامي. فهُرعت
إلى اتخاذ التدابير
اللازمة لمواصلة فرض
الحصار على حركة الإمام
عليه السلام من جديد،
فاجتمع يزيد مع مستشار
القصر سرجون الرومي، وخلص
اجتماعهما إلى توجيه
رسائل إلى بعض وجهاء
الأمة تدعوهم إلى التدخل
وممارسة الضغط على الإمام
عليه السلام وبذل قصارى
سعيهم لإخراج السلطة من
مأزقها الكبير، ورسائل
أخرى تضمنت تهديداً
وإنذاراً لأهل المدينة
عامة ومن بقي من بني هاشم
خاصة تحذرهم من مغبة
الالتحاق بالإمام عليه
السلام والانضمام إلى
حركته.
ومن أبرز قرارات هذا
الاجتماع أيضاً اغتيال
الإمام عليه السلام في
مكة، وقد بعثت السلطة
جمعاً من جلاوزتها إلى
مكة لتنفيذ هذه المهمة،
إذ لم توفق هذه الزمرة
بمساعدة السلطة المحلية
في المدينة في محاولة
لإلقاء القبض على الإمام
عليه السلام وإرساله إلى
دمشق.
واجتهد والي مكة عمرو بن
سعيد بن العاص الذي أوصاه
يزيد بالفتك بالحسين
أينما وجد وقتله ولو كان
متعلقاً بأستار الكعبة.
وأكد الإمام الحسين عليه
السلام هذه الحقيقة من
خلال قوله لأخيه محمد بن
الحنفية الذي لحقه إلى
مكة:
" يا أخي قد خفتُ أن
يغتالني يزيد بن معاوية
بالحرم، فأكون الذي
يستباح به حرمة هذا البيت
"
وعمد عمرو بن سعيد بن
العاص إلى متابعة الصغيرة
والكبيرة من حركات الإمام
عليه السلام ، وقد ذعر من
تقاطر الوفود على الإمام
عليه السلام والتفاف
الناس حوله، فلم يطق صبراً،
ولم يجد بداً من أن يسأل
الإمام عليه السلام عن سر
قدومه إلى مكة، فأجابه
الإمام عليه السلام :
" عائذاً بالله وبهذا البيت!
"
لم يحقق عمرو ما أُمر به
من إلقاء القبض على
الإمام عليه السلام أو
الفتك به سراً أو جهراً،
لأن الإمام عليه السلام
كان يتمتع بوجود حماية
كاملة من جهة، ومن جهة
أخرى خوفه من مواجهة
الإمام عليه السلام
علانية إمام الحجيج.
رسالة الإمام الحسين عليه
السلام إلى أهل البصرة:
كانت البصرة آنذاك تحت
سيطرة عبيد الله بن زياد
وهو والٍ قوي ومستبد، وقد
هيمن على إدارة أمورها
وأحكم الرقابة الشديدة
على أهلها. والبصرة كما
الكوفة ولايتين لم تنغلقا
لصالح السلطة كالشام
تماماً، فأتباع أهل البيت
عليهم السلام في هاتين
الولايتين، برغم الإرهاب
والقمع كانت لهم
اجتماعاتهم ومنتدياتهم
السرية. ولكن الفرق بين
الكوفة والبصرة ليس من
حيث عدد الموالين فحسب بل
أيضاً من حيث درجة
تحفزّهم للتحرك ضد السلطة.
وقد بادر الإمام عليه
السلام إلى الكتابة لأهل
البصرة عن طريق أشرافها
ورؤساء الأخماس فيها حيث
كانت قد قُسّمت إلى خمسة
أقسام، ولكل خمس منها
رئيس من الأشراف، وكان
بعض هؤلاء ممّن يميل إلى
السلطة، والبعضُ ممّن لا
يؤتمن والبعض الآخر ممّن
لا تتسق مواقفه باتجاه
واحد.
وعلى الرغم من ذلك، أراد
الإمام الحسين عليه
السلام إلقاء الحجة على
الجميع، فرسالته إليهم
تُرينا كيف كان عليه
السلام يعرف مسؤوليته
ويمضي معها، فأهل البصرة
لم يكتبوا إليه، ولم
يدعوه إلى بلدهم كما فعل
أهل الكوفة، ولكنه أراد
أن يعدّهم للمجابهة
المحتومة، ذلك أنه حين
قرر أن ينهض بتبعات دينه
وأمته كان قراره هذا آتيا
من أعماق روحه وضميره،
وليس من حركة أهل الكوفة
ودعوتهم إياه، وبتلك
الرسالة أيضاً يُعلِم
البصريين
الراغبين في نصرته بأمر
نهضته وتعبئتهم لذلك من
خلال أشرافهم الموالين.
وكانت رسالة الإمام
الحسين عليه السلام إلى
البصريين:
" وقد بعثتُ رسولي إليكم
بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم
إلى كتاب الله وسنّة نبيه،
فإن السُنّة قد أميتت،
وإن البدعة قد أحييت، وإن
تسمعوا قولي وتطيعوا أمري
أهدكم سبيل الرشاد "
وأرسلها مع سُليمان بن
رزين لثقته به واعتماده
عليه، وقد قتله عُبيد
الله بن زياد بعد خيانة
المنذر بن الجارود العبدي
الذي كانت ابنته عبرية
زوجةً لعبيد الله، زاعماً
أنه قد خاف أن يكون
الكتاب من عبيد الله نفسه،
فصلبه عبيد الله وقتل
رسول الإمام الحسين عليه
السلام سليمان ليكون
الشهيد الأول في النهضة
الحسينية، وذلك قبل يوم
من ترك عبيد الله البصرة
لتوليه سلطة الكوفة بأمر
من يزيد.
الموالون في البصرة:
وإذا كانت البصرة قد شهدت
من أكثر رؤساء الأخماس
تردداً في نصرة الإمام
عليه السلام وشهدت إعراضاً
عنه، ما عدا تحرك يزيد بن
مسعود النهشلي من تحريك
وتوجيه المشاعر القبلية
من خلال مزجها بذكاء
بمشاعر دينية باتجاه نصرة
الإمام الحسين عليه
السلام .
لكن ما شهدته البصرة في
السر اختلف كثيراً عن
العلن، فقد اجتمع بعض
الموالون وهم من قبائل
شتى على أساس الولاء لأهل
البيت عليهم السلام
والبراءة من أعدائهم، وقد
تذاكر فيه المجتمعون أمر
الإمام عليه السلام وما
آل إليه الوضع الراهن،
وتداولوا ما يجب عليهم
القيام به أداءً للتكليف
الديني، وقد نتج عن هذه
اللقاءات انطلاقة تسعة
رجال من البصرييين برغم
أعين
الرصد وحواجز الحصار،
مسرعين نحو مكة المكرمة
ليلتحقوا بالركب الحسيني،
وهم: الحجاج بن بدر
التميمي السعدي، قعنب بن
عمر النمري، يزيد ابن
ثبيط العبدي وابناه عبد
الله وعبيد الله، الأدهم
بن أمية العبدي، سيف بن
مالك لعبدي، عامر بن مسلم
العبدي ومولاه سالم.
اجتماع الإمام الحسين
عليه السلام برسل أهل
الكوفة ومبعوثيهم:
بعد أن علم أهل الكوفة
بامتناع الإمام الحسين
عليه السلام عن بيعة يزيد،
وأنه قد صار إلى مكة،
تقاطرت رسائلهم الكثيرة
إليه بلا انقطاع، وقد
أبدوا استعدادهم لنصرته
والقيام معه، ودعوه فيها
إلى القدوم إليهم، حتى
بلغ عدد رسائلهم في يوم
واحد ستمائة رسالة.
وتلاقت الرُسل كلها عند
الإمام عليه السلام فقرأ
الكتب، وسأل آخر الرسل
إليه هاني بن هاني وسعيد
بن عبد الله:
" خبّراني من اجتمع على
هذا الكتاب الذي كتب
معكما إليّ.. "
فعددا من اجتمع عليه
ومنهم: " شبث الربعي،
حجار بن ابجر، يزيد ابن
الحارث، عروة بن قيس،
عمرو بن الحجاج..".
فقام عندها الحسين عليه
السلام فتطهّر وصلّى
ركعتين بين الركن والمقام،
ثم جمع الرسل فقال لهم:
" أنه ماضٍ لأمره، فعزم
الله لي بالخير، إنه ولي
ذلك والقادر عليه إن شاء
الله تعالى "
ثم كتبَ إلى أهل الكوفة
رسالته وأرسلها مع هاني
وسعيد ابن عبد الله، وهي:
" بسم الله الرحمن الرحيم
من الحسين بن علي إلى
الملأ من المؤمنين
والمسلمين،
أما بعدُ: فإن هانياً
وسعيداً قدما عليّ بكتبكم،
وكانا آخر من قدم عليّ من
رسلكم، وقد فهمتُ كل الذي
اقتصصتم وذكرتم، ومقالة
جلكم، إنه ليس علينا إمام
فأقبل لعل الله أن يجمعنا
بك على الحق والهدى. وإني
باعث إليكم أخي وابن عمي
وثقتي من أهل بيتي مسلم
بن عقيل رضي الله عنه ،
فإن كتب إلي أنه قد اجتمع
رأي ملأكم وذوي الحجة
والفضل منكم على مثل ما
قدمت به رسلكم وقرأت في
كتبكم فإني أقدم إليكم
وشيكاً إن شاء الله،
فلعمري ما الإمام إلا
الحاكم بالكتاب، القائم
بالقسط، الداين بدين الحق،
الحابس نفسه على ذات الله،
والسلام "
ودعا الإمام الحسين عليه
السلام ابن عمه مسلم بن
عقيل بن أبي طالب رضي
الله عنه ، فسرحه مع قيس
بن مسّهر الصيداوي وعمارة
بن عبد الله السلولي وعبد
الرحمن وعبد الله ابني
شداد الأرحبي، وأمره "
بالتقوى وكتمان أمره،
واللطف " ، فإن رأى الناس
مجتمعين مستوسقين عجّل
إليه بذلك.
ودفع الإمام عليه السلام
إلى مسلم رضي الله عنه
كتاباً وختمه بختمه، وفيه:
" إني موجهك إلى أهل
الكوفة، وسيقضي الله من
أمرك ما يحب ويرضى، وأنا
أرجو أن أكون أنا وأنت في
درجة الشهداء، فامضِ
ببركة الله وعونه حتى
تدخل الكوفة، فإن دخلتها
فانزل عند أوثق أهلها،
وادعُ الناس إلى طاعتي،
فإن رأيتهم مجتمعين على
بيعتي فعجّل عليّ بالخبر
حتى أعمل على حساب ذلك إن
شاء الله تعالى "
وما يلفتُ في وصية الإمام
عليه السلام لمسلم رضي
الله عنه الطلب إليه
كتمان أمره واللطف ،
وكتمان الأمر هنا لا يعني
إتباع مسلم رضي الله عنه
أسلوب العمل السري في
الدعوة إلى طاعة الإمام
عليه السلام ذلك لأن ظاهر
قوله عليه السلام :
"
وادع الناس إلى طاعتي "
هو العلانية في العمل.
نعم قد يلزم الأمر أن
تكون البداية والمنطلق من
أهل الثقة والولاء، وهذا
ما يشير إليه قوله عليه
السلام :
" فإذا دخلتها فانزل عند
أوثق أهلها "
ويستفاد من هذه الرواية
أيضاً أن الإمام عليه
السلام قد أشعر مسلم بن
عقيل رضي الله عنه ، أو
اخبره بأن عاقبة أمره
الفوز بالشهادة من خلال
قوله عليه السلام :
" وأنا أرجو أن أكون أنا
وأنتَ في درجة الشهداء "
ممّا يدل على أن مسلم رضي
الله عنه قد علم من قول
الإمام عليه السلام أنه
متوجه إلى الشهادة.
فخرج مسلم رضي الله عنه
من مكة في النصف من شهر
رمضان حتى قدم الكوفة في
الخامس من شوّال.
رسالة الإمام الحسين عليه
السلام إلى محمد بن
الحنفية:
بعثَ الإمام الحسين عليه
السلام إلى أخيه محمد بن
الحنفية رسالة موجزة،
يستقدم إليه من خفّ من
بني هاشم، ونصها:
" بسم الله الرحمن الرحيم،
من الحسين بن علي إلى
محمد بن علي ومن قِبله من
بني هاشم. أما بعدُ: فإن
من لحق بي استشهد ومن لم
يلحق بي لم يدرك الفتح
والسلام "
فقدم إليه جماعة منهم،
وتبعهم ابن الحنفية. وقد
أخبر الإمام الحسين عليه
السلام الأسرة النبوية
بأن من لحقه منهم سوف
يظفر بالشهادة، ومن لم
يلحق به فإنه لا ينال
الفتح
لم يرد الإمام الحسين
عليه السلام بالفتح إلا
ما يترتب على نهضته
وتضحيته من نقض دعائم
الضلال وكسح أشواك الباطل
عن صراط الشريعة المطهرة،
وإقامة أركان العدل
والتوحيد وأن واجب الأمة
القيام في وجه المنكر.
رسالة يزيد بن معاوية
للإمام الحسين عليه
السلام :
أما يزيد فكتب من الشام
كتاباً أرفقه بأبياتٍ من
الشعر يخاطب فيها الإمام
الحسين عليه السلام خاصة،
وأرسله إلى عبد الله ابن
عباس يطلبُ إليه فيها أن
يرد الإمام عليه السلام
عن الخروج على النظام
ويحذره من مغبة ذلك،
قائلاً:
" فإن ابن عمك حسيناً
وعدو الله ابن الزبير
التويا ببيعتي ولحقا بمكة
مرصدين الفتنة، معرضين
أنفسهما للهلكة، فأما ابن
الزبير فإنه صريع الفناء
وقتيل السيف غداً، وأما
الحسين فقد أحببتُ
الإعذار إليكم أهل البيت
ممَّا كان منه "
وقد سعى يزيد من خلال
رسالته لابن عباس إلى عدة
أمور أهمها:
1- الموازنة في الترغيب
والترهيب وهذا من تأثير
وإملاء سرجون الرومي صاحب
الخبرة العتيقة في الحرب
النفسية ومعالجة الأزمات
السياسية.
2- العودة إلى نفس الطريقة
التي اتبعها والده بوجه
المعارضة، وهي التحذير من
شق عصا الأمة وتفريق
المسلمين وإرجاعهم إلى
الفتنة.
3- اتهام الإمام عليه
السلام بأن غاية خروجه
طلب الملك والدنيا، لذا
طلب يزيد من ابن عباس أن
يمني الإمام عليه السلام
في حال تخليه عن القيام
بالأمان والكرامة الواسعة.
وبعد أن نظر أهل المدينة
إلى الكتاب وجهوه إلى
الإمام الحسين عليه
السلام الذي كشف جوابه عن
ازدرائه الكامل ليزيد إذ
لم يذكر في الجواب اسمه،
كما لم يلّقبه بلقب ولم
يسّلم عليه مما يتبين منه
أن يزيد مصداق تام
للمكذّب بالدين وبالرسل
والأوصياء:
" بسم الله الرحمن الرحيم
وإن كذبوك فقل لي عملي
ولكم عملكم، أنتم بريئون
مما أعمل، وأنا بريء مما
تعملون. والسلام "
مقتطفات من خطبتي الإمام
الحسين عليه السلام في
مكة:
أقام الإمام الحسين عليه
السلام في مكة ما يقارب
مائة وخمسة وعشرين
يوماً،ولم يسجل التاريخ
طيلة هذه الفترة إلا
خطبتين له عليه السلام
ألقاهما قُبيل خروجه إلى
العراق في موسم الحج.
الخطبة الأولى كانت في
الليلة الثامنة من ذي
الحجة، وهي تختصُ بقيامه
والدعوة للالتحاق به.
أما الثانية فقد اختلفت
مضامينها عن الأولى إذ
اقتصرت على إشارات
أخلاقية ومنها
" إن
الحلم زينة، والوفاء مروة،
والصلة نعمة، والاستكبار
صلف، والعجلة سفه، والسفه
ضعف، والعلّو ورطة،
ومجالسة أهل الدناءة شر،
ومجالسة أهل الفسق ريبة "
أما الخطبة الأولى فهي:
" الحمد لله، ما شاء الله،
ولا قوة إلا بالله، وصلّى
الله على رسوله، خُطّ
الموت على ولد ادم مخطّ
القلادة على جيد الفتاة،
وما أولهني إلى أسلافي
اشتياق يعقوب إلى يوسف،
وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه،
كأني بأوصالي تقطعها
عسلان الفلوات بين
النواويس وكربلا، فيملأن
مني أكرشاً جوفاً وأجربة
سغباً، لا محيص عن يوم
خط
بالقلم، رضى الله
رضانا أهل البيت، نصبر
على بلائه ويوفينا أجر
الصابرين، لن تشذ عن رسول
الله صلى الله عليه وآله
لحمته، وهي مجموعة في
حظيرة القدس، تقربهم عينه،
وينجز بهم وعده، من كان
باذلاً فينا مهجته وموطناً
على لقاء الله نفسه
فليرحل معنا فإنني راحل
مصبحاً إن شاء الله تعالى
"
شبّه الإمام الحسين عليه
السلام حتمية عدم انفلات
الإنسان من طوق قهرية
الموت بعدم انفلات عنق
الفتاة من طوق القلادة
المحكم، وتشبيه الموت
بالقلادة على جيد الفتاة
وهي زينة لها التفاته
رائعة إلى أن الموت خطوة
تكاملية في مسار حركة
الإنسان التكوينية، وهو
زينة للمؤمن خاصة في مسار
حركة المصير لكونه معبراً
للمؤمن من دار العناء
والتزاحم والابتلاء
والشدائد إلى دار النعيم
والجزاء الأوفى والسعادة
الأبدية، ولا شك أن
الشهادة وهي أفضل وأشرف
الموت أحرى بحقيقة الزينة
من مطلق الموت، ولا يؤتها
إلا ذو حظ عظيم.
كما أشار الإمام الحسين
عليه السلام في خطبته إلى
أن مصرعه اختيار إلهي لا
على نحو القهر والجبر
طبعاً، بل على نحو
التشريف بكرامة التكليف
في الظروف الصعبة الخاصة
المؤدية إلى أن يتحرك
الإمام عليه السلام نحو
هذا المصرع تعبداً
وامتثالاً لأمر الله
تعالى في أداء هذا
التكليف في مثل تلك
الظروف.
والمتأمل في تفاصيل حركة
الإمام الحسين عليه
السلام يرى أنه دأب على
الإخبار بمصرعه منذ أن
كان في المدينة، وفي
الطريق إلى مكة، وفي
منازل الطريق إلى العراق،
مغربلاً بذلك الركب
الحسيني من جميع من
أرادوا الدنيا من وراء
الالتحاق به، ولم يكتفِ
بذلك بل عرّض حتى الصفوة
الخالصة من أنصاره لهذا
الاختبار، لتعلو بثباتهم
درجاتهم الرفيعة عند الله
تعالى.
يوم الخروج من مكة:
وصلت رسالة مسلم بن عقيل
رضي الله عنه إلى الإمام
الحسين عليه السلام قبل
أن يقتل بسبعةٍ وعشرين
يوماً، وفيها الرد الذي
انتظره الإمام الحسين
عليه السلام قبل التوجه
إلى الكوفة مع قيس بن
المسهّر، وفيها:
" أما بعد، فإن الرائد لا
يُكذّب أهله إن جمع
أهل الكوفة معك، فأقبل
حين تقرأ كتابي، والسلام
"
وعلى ضوء رسالة مسلم رضي
الله عنه عقد الإمام عليه
السلام عزمه على التوجه
إلى الكوفة، وقد كتب
إليهم رسالته الثانية:
" وقد شخصتُ إليكم من مكة
يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين
من ذي الحجة يوم التروية
"
وحملها قيس بن المسهّر
إلى الكوفة، ولكنه قبض
عليه أثناء هذه السفارة
في الطريق فمزق الرسالة
حتى لا يقرأها عبيد الله
بن زياد قبل أن يقتله.
لماذا الخروج من مكة أيام
الحج:
شعر الإمام عليه السلام
بسعي السلطة الحثيث لقتله،
حتى وإن استباحوا بدمه
حرمة البيت العتيق، وبذلك
تستطيع السلطة طمس
الحقيقة بالإشاعات
الكاذبة التي يبثها يزيد
بن معاوية، وتكون أهداف
رحلة الإمام عليه السلام
من المدينة إلى مكة ذهبت
سُدى، ودخل الإمام عليه
السلام في إحرام العمرة
ابتداءً ولم يُحرم للحج،
لعلمه بأن الظالمين سوف
يصدونه عن إتمام حجه!.
وتؤكد طبيعة وتاريخ
الخطبة الأولى للإمام
عليه السلام أن خروجه
بالركب الحسيني من مكة لم
يكن سراً، والركبُ كان
كبير نسبياً خصوصاً بعد
التحاق جميع بنو هاشم من
المدينة والأنصار
والموالين والبصريين،
والجميع
على أهبة واستعداد لكل
احتمال، في وقت لم يكن من
مصلحة السلطة مواجهة
الإمام عليه السلام
مواجهة حربية علنية في
مكة أو أطرافها، لأنها
تعلم ما له عليه السلام
من مكانة سامية وقدسية
بالغة في قلوب جموع
الحجيج الذين كان لا
يزالون آنذاك في مكة.
وقد حاول عمرو بن سعيد بن
العاص منعه من الخروج
ابتداءً قائلاً لشرطته: "
اركبوا كل بعير بين
السماء والأرض فاطلبوه! "
، وهذا يدل على أن خروج
الإمام عليه السلام من
مكة كان معناه انفلات
الثورة الحسينية من طوق
الحصار الذي سعت إليه
السلطة الأموية في
المدينة ابتداءً ثم مكة.
ولكن مع تفاقم الأمور أمر
شرطته بالانسحاب والسماح
للإمام عليه السلام
بالمغادرة العاجلة خوفاً
من انقلاب الأمور لصالح
الإمام عليه السلام .
ولكن من المؤكد أيضاً أن
الركب قد خرج ليلاً.
لماذا حمل الإمام الحسين
عليه السلام النساء
والأطفال معه ؟
عند خروج الإمام الحسين
عليه السلام من مكة، جاء
إليه أخوه محمد بن
الحنفية وأخذ بزمام ناقته،
قائلاً له: يا أخي، ألم
تعدني النظر فيما سألتك؟!
فأجابه الإمام عليه
السلام :
" بلى "
قال محمد: فما حداك على
الخروج عاجلاً؟
فقال الإمام عليه السلام
:
" أتاني رسول الله صلى
الله عليه وآله بعدما
فارقتك، فقال: يا حسين،
أخرج فإن الله شاء أن
يراك قتيلا! "
فقال محمد بن الحنفية:
إنا لله وإنا إليه راجعون.
فما معنى حملك هؤلاء
النساء معك وأنتَ تخرج
على مثل هذه الحال؟
فقال الإمام عليه السلام
:
قد قال لي: إن الله شاء
أن يراهن سبايا. "
لقد علل الإمام عليه
السلام حمله لأهله ونسائه
معه، بأن ذلك تحقيق
لمشيئة الله تعالى، وقد
أشار إلى ذلك في المدينة
مع محاورته لأم سلمة:
" يا أماه، قد شاء الله
عز وجل أن يراني مقتولاً
مذبوحاً ظلماً وعدواناً،
وقد شاء الله أن يرى حرمي
ورهطي ونسائي مشردين "
وأراد الله لهذا الركب
النسائي أن يكون المسيرة
الإعلامية التبليغية
الكبرى من بعد الإمام
عليه السلام ، إذ لولاها
لما كان يمكن للثورة
الحسينية أن تحقق كامل
أهدافها في عصرها وفي ما
بعدها من العصور.
إذن فحمل الإمام عليه
السلام لودائع النبوة من
ضرورات نجاح الثورة
الحسينية، وكان لا بدّ أن
يقوم بذلك حتى لو لم يكن
هناك احتمال لتعرض هذه
الودائع النبوية للأذى
والسجن إذا بقين في
المدينة أو مكة وهذا
الاحتمال ورد بقوة. وكان
يوم خرج الإمام عليه
السلام من مكة الثامن من
ذي الحجة.
لماذا العراق ؟
لقد أعلن الإمام عليه
السلام لأهل بيته وشيعته
عن قصده النهائي في
الخروج إلى أرض العراق
وهو في المدينة لمّا يخرج
عنها بعد، ويُستفاد من
هذه الحقيقة على صعيد
التحليل التاريخي، إضافة
إلى البعد الإعتقادي
الحاكي عن أن الإمام عليه
السلام كان يعلم بكل
تفاصيل ما يجري عليه بعلمٍ
إلهي لكونه إماماً. ومع
دراسته السياسية
الاجتماعية كان يرى أن
العراق أفضل أرض يختارها
مسرحاً للمواجهة وللمعركة
الفاصلة بينه وبين السلطة،
فقد كانت
الكوفة بمثابة العاصمة
الحقيقية للعالم الإسلامي،
لما كانت تمثله من مركز
الثقل العسكري الأبرز،
التي هي المنطلق إلى حروب
الفتح والمستقر، وكانت
الأحداث التي تقع فيها
تلقي بظلالها على العالم
الإسلامي كله.
|