لماذا زمان الثورة
ومكانها في العراق؟
بغض النظر عن الرسائل
التي وصلت إلى الإمام
الحسين عليه السلام من
أهل الكوفة، لم يكن بدٌ
من التوجه إلى العراق
1، لأن بذرة
الشيعة في العراق. فهناك
شيعته
2، ومواطن
العلويين الذين ظهر منهم
الإخلاص لأهل البيت
وخاضوا إلى جانبهم حروب
الجمل وصفين والنهروان
3، وأثنى عليهم
أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام
4.
ولأن العراق لم يستسلم
لبني أمية كبقية الأقطار،
فقد كانت الكوفة هي
الحاضرة الوحيدة في
العالم الإسلامي التي
اخترقت الولاء للأمويين،
وكانت مقر المعارضة
والثورة ضدهم طيلة عشرين
سنة، وبقيت تتمنى زوالهم،
بعد أن ذاقت مرّ حكمهم
واضطهادهم وظلمهم، فقد
حرموها وجوّعوها وبطشوا
برجالها ورؤوسها، وبقيت
على اتصال بالإمام الحسين
عليه السلام تدعوه إلى
الثورة ضد الأمويين
5، وتزوره
دائما
في المدينة
6. كل ذلك أدّى
إلى أن تكون احتمالات
انعكاس الإستشهاد الحسيني
في التربة العراقية أكبر
بكثير من غيرها، والحوادث
التي وقعت بعد كربلاء
وعلى مدى سنين متطاولة
تثبت ذلك.
بينما لم يكن في مكة
والمدينة عشرون رجلاًً
يحبون أهل البيت عليه
السلام
7، وحينما خرج
الإمام الحسين عليه
السلام إلى العراق، لم
يخرج معه من مكة والمدينة
رجل واحد في ثورته.
هذا مع أنه كان يعلم سلام
الله عليه بأن أهل الكوفة
قاتِلوه
8. ومع ذلك فلا
بد من العراق، لأن الله
تعالى ورسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم
اختارا مصرعه وبدء مسيره
وحملته لإنقاذ الإسلام
هناك في كربلاء، في
العراق
9.
الرؤيا دليل الخط الصحيح
للثورة
فقد تكررت هذه الرؤيا غير
مرة، وهي رؤيا حقة، لأن
الرائي إمام معصوم، لا
يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه، ولأن المرئيّ
هو رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم
10.
وكان بدء هذه الرؤيا
الحقة في المدينة، بعدما
أعلن الإمام رفضه مبايعة
يزيد بعد موت معاوية أمام
الوليد بن عتبة والي
المدينة يومذاك، فقد خرج
في الليلة الثانية إلى
القبر، فصلّى ركعتين،
فلما فرغ من صلاته جعل
يقول:
"اللهم إنّ هذا قبر نبيّك
محمّد، وأنا ابن بنت
محمّد، وقد حضرني من
الأمر ما قد علمت، اللهم
وإني أحب المعروف وأكره
المنكر، وأنا أسألك يا ذا
الجلال والإكرام بحق هذا
القبر ومن فيه إلا ما
اخترت من أمري هذا ما هو
لك رضى".
ثم جعل عليه السلام يبكي،
حتى إذا كان في بياض
الصبح وضع رأسه على القبر
فأغفى ساعة، فرأى النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم
قد أقبل في كوكبة من
الملائكة عن يمينه وشماله
ومن بين يديه ومن خلفه،
حتى ضمّ الحسين عليه
السلام إلى صدره، وقبّل
بين عينيه وقال:
"يا بنيَّ يا حسين،
كأنّك عن قريب أراك
مقتولاً مذبوحاً بأرض كربٍ
وبلاء من عصابة من أمتي،
وأنت في ذلك عطشان لا
تُسقى وظمآن لا تُروى،
وهم مع ذلك يرجون شفاعتي!
ما لهم لا أنالهم الله
شفاعتي يوم القيامة، فما
لهم عند الله من خلاق.
حبيبي يا حسين، إنّ
أباك وأمّك وأخاك قد
قدموا عليَّ وهم إليك
مشتاقون، وإنّ لك في
الجنة درجات لن تنالها
إلاّ بالشهادة" !
فجعل الحسين عليه السلام
ينظر في منامه إلى جده
صلى الله عليه وآله وسلم
ويسمع كلامه ويقول: "يا
جدّاه، لا حاجة لي في
الرجوع إلى الدنيا أبداًً،
فخذني إليك واجعلني معك
إلى منزلك!"
فقال له النبي صلى الله
عليه وآله وسلم :
"يا حسين، إنه لا بدّ
لك من الرجوع إلى الدنيا
حتى تُرزق الشهادة، وما
كتب الله لك فيها من
الثواب العظيم، فإنك
وأباك وأخاك وعمّك وعم
أبيك تُحشرون يوم القيامة
في زمرة واحدة حتى تدخلوا
الجنة"
11.
ولما كان السحر ارتحل
الحسين عليه السلام ،
فبلغ ذلك ابن الحنفية،
فأتاه فأخذ زمام ناقته
التي ركبها، فقال له: يا
أخي، ألم تعدني النظر
فيما سألتك؟
قال عليه السلام : بلى.
قال: فما حداك على الخروج
عاجلاً؟
فقال
عليه السلام : أتاني رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم بعد ما فارقتك، فقال:
يا حسين، أخرج فإن الله
قد شاء أن يراك قتيلاً!
فقال له ابن الحنفية: إنا
لله وإنا إليه راجعون،
فما معنى حملك هؤلاء
النساء معك، وأنت تخرج
على مثل هذه الحال؟
فقال له عليه السلام :
"قد قال لي، إن الله قد
شاء أن يراهنّ سبايا!"،
وسلّم عليه ومضى
12.
وقد أشار الإمام عليه
السلام أيضاً إلى أمر هذه
الرؤيا بعد خروجه عن مكة،
في ردّه على عبد الله بن
جعفر ويحيى بن سعيد حينما
ألحّا عليه بالرجوع وجهدا
في ذلك، حيث قال عليه
السلام لهما: "إنّي
رأيتُ رؤيا فيها رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم ، واُمرتُ فيها بأمرٍ
أنا ماضٍ له، عليَّ كان
أو لي!" ولما سألاه
فما تلك الرؤيا؟
قال عليه السلام : "ما
حدّثت بها أحداً، وما أنا
محدّث بها حتى ألقى ربّي!"
13.
فبعد أن اختار رفض البيعة
ليزيد وسلك سبيل الثورة
والقتل الحتمي، سواء خرج
إلى العراق أم لم يخرج،
إذن، لا بد أن يختار ما
اختاره الله ورسوله من
حيث الزمان والمكان،
عاشوراء في كربلاء، في
العراق.
في الطريق إلى كربلاء
في بستان بني عامر، أو
ابن معمر
14، التقى
الإمام عليه السلام
بالشاعر الفرزدق الذي
أجابه على سؤاله بالكلمة
الشهيرة: "قلوب الناس معك
وأسيافهم عليك، مع بني
أمية، والقضاء ينزل من
السماء، والله يفعل ما
يشاء"، فقال الإمام عليه
السلام :
" صدقت، الناس عبيد
المال، والدين لعق على
ألسنتهم، يلوكونه ما درّت
به معائشهم ! فإذا محّصوا
بالبلاء قلّ الدياّنون
15!
يا فرزدق ! إن هؤلاء
قوم لزموا طاعة الشيطان،
وتركوا طاعة الرحمن،
وأظهروا الفساد في الأرض،
وأبطلوا الحدود، وشربوا
الخمور، واستأثروا في
أموال الفقراء والمساكين،
وأنا أولى من قام بنصرة
دين الله وإعزاز شرعه
والجهاد في سبيله لتكون
كلمة الله هي العليا
16.
لله الأمر، وكل يوم ربنا
هو في شأن، إن نزل القضاء
بما نحب فنحمد الله على
نعمائه، وهو المستعان على
أداء الشكر، وإن حال
القضاء دون الرجاء، فلم
يبعد من كان الحق نيته
والتقوى سريرته"
17.
إلا أن الفرزدق استمر في
طريقه مع أمه إلى مكة ولم
يلتحق بالإمام عليه
السلام .
وفي التنعيم، على
بعد 12كلم من مكة، التقى
الإمام عليه السلام
بقافلة آتية من اليمن
لمصلحة يزيد فصادرها
18.
وفي ذات عرق
19 التقى عليه
السلام ببشر بن غالب الذي
قال له أيضاً: قلوب الناس
معك وسيوفهم مع بني أمية،
فقال له الإمام عليه
السلام : " صدق أخو
بني أسد، إن الله يفعل ما
يشاء، ويحكم ما يريد"
20!!
وبشر بن غالب هذا هو الذي
روى عنه دعاء عرفة، ويعد
من أصحابه ومن موالي أهل
البيت عليه السلام
وشيعتهم
21، إلا أنه
استمر في طريقه إلى مكة
ولم يلتحق بالإمام عليه
السلام .
إن كلاًّ من الفرزدق وبشر
بن غالب قد أخبر الإمام
عليه السلام أن قلوب أهل
العراق
معه
وسيوفهم مع بني أمية، ومع
ذلك فنحن نجد أن الإمام
عليه السلام يجيبهما
بجواب واحد: صدقت!!
وذلك يدل بلا ريب على أن
الإمام عليه السلام كان
يعلم منذ البدء بأن أهل
العراق سوف يخذلونه
ويقتلونه، وأن الشهادة
تنتظره في العراق !!
وحينما وصل الإمام عليه
السلام إلى الحاجر من بطن
الرُّمَّة، وهو وادٍ
بعالية نجد، ومنزل لأهل
البصرة إذا أرادوا
المدينة، وفيه يجتمع أهل
الكوفة والبصرة، ويقع
شمال نجد
22، بعث قيس بن
المسهر الصيداوي، ويقال:
بل بعث أخاه من الرضاعة
عبد الله بن يقطر
23، إلى أهل
الكوفة، ولم يكن عليه
السلام علم بخبر مسلم ابن
عقيل وكتب معه إليهم:
" بسم الله الرحمن الرحيم
من الحسين بن علي إلى
إخوانه من المؤمنين
والمسلمين، سلام عليكم،
فإني أحمد إليكم الله
الذي لا إله إلا هو.
أما بعد، فإن كتاب مسلم
بن عقيل جاءني يخبر فيه
بحسن رأيكم واجتماع ملئكم
على نصرنا والطلب بحقنا،
فسألت الله أن يحسن لنا
الصنيع، وأن يثيبكم على
ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت
إليكم من مكة يوم
الثلاثاء لثمان مضين من
ذي الحجة يوم التروية،
فإذا قدم عليكم رسولي
فانكمشوا
24 في أمركم
وجدوا، فإني قادم عليكم
في أيامي هذه، والسلام
عليكم ورحمة الله "
25.
وكان عبيد الله بن
زياد قد علم بخروج الحسين
عليه السلام من مكة،
فكلّف الحصين بن النمير
السكوني بمراقبة مداخل
العراق من الحجاز، فاتخذ
الحصين القادسية
مركزاً
له ووزع خيله شرقاً وغرباً،
فأقبل قيس بن مسهر
الصيداوي، حتى انتهى إلى
القادسية، فأخذه الحصين
بن نمير، وبعث به إلى
عبيد الله بن زياد، فأخرج
الكتاب ومزَّقه، فلما حضر
بين يدى عبيد الله قال له:
من أنت ؟
قال: رجل من شيعة أمير
المؤمنين عليه السلام !
قال: فلماذا مزقت الكتاب
؟
قال: لئلا تعلم ما فيه !
قال: ممن الكتاب وإلى من
؟
قال: من الحسين عليه
السلام إلى قوم من أهل
الكوفة لا أعرف أسماءهم !
فغضب ابن زياد، وقال له:
اصعد فسب الكذاب ابن
الكذاب الحسين بن علي بن
أبي طالب !
فصعد قيس القصر فحمد الله
وأثنى عليه وقال:
"أيّها الناس إنّ هذا
الحسين بن علي خير خلق
الله ابن فاطمة بنت رسول
الله صلّى الله عليه وآله،
وأنا رسوله، وقد فارقته
في الحاجز فأجيبوه" !!
ثم لعن عبيد الله بن زياد
وأباه، واستغفر لعلي بن
أبي طالب عليه السلام ،
فأمر عبيد الله فألقي من
فوق القصر فتقطع فمات
26!!
فبينما الحسين عليه
السلام في الطريق إذ طلع
عليه ركب أقبلوا من
الكوفة فإذا فيهم هلال بن
نافع الجملي وعمرو بن
خالد فسألهم عن خبر الناس
!! فقالوا: أما والله
الأشراف فقد استمالهم ابن
زياد بالأموال فهم عليك
وأما سائر الناس فأفئدتهم
لك وسيوفهم مشهورة عليك
!!
قال: فلكم علم برسولي قيس
بن مسهر ؟؟
قالوا: نعم !! قتله ابن
زياد !!
فاسترجع،
واستعبر باكياً، وقال:
جعل الله له الجنة ثواباً،
اللهم اجعل لنا ولشيعتنا
منزلاً كريماً إنك على كل
شيء قدير
27.
ثم التقى الإمام عليه
السلام بعبد الله بن مطيع
العدوي أحد رجال عبد الله
بن الزبير ثانية
28، ولعلها
المرة الأولى
29، وتكون التي
سبقتها من اشتباه
المؤرخين.
ثم وصل إلى الخزيمية
30، وبينها
وبين الثعلبية إثنان
وثلاثون ميلاً على جهة
الكوفة. فأقام يوماً
وليلة
31.
زهير بن القين
وفي زرود
32، بعد
الخزيمية بميل، انضم إليه
زهير بن القين بعد أن
ذكّره الإمام عليه السلام
بحادثةٍ جرت معه وكلام
سمعه من سلمان الفارسي
33.
وكان عبيدالله بن زياد
أمر فأخذ ما بين واقصة
34 إلى طريق
الشام إلى طريق البصرة،
فلا يدعون أحداً يلج ولا
أحداً يخرج، وأقبل الحسين
عليه السلام لا يشعر بشيء
حتى لقي الأعراب، فسألهم
فقالوا: لا والله ما ندري،
غير أنَّا لا نستطيع أن
نلج أو نخرج. فسار تلقاء
وجهه عليه السلام .
فقد أتاه زهير بن القين،
وما لبث أن جاء مستبشراً
قد أشرق وجهه، فأمر
بفسطاطه وثقله ورحله
ومتاعه فقوض وحمل إلى
الحسين عليه السلام ، ثم
قال لامرأته:
أنت طالق، الحقي بأهلك،
فإني لا أحب أن يصيبك
بسببي إلا خير، فإني قد
وطنت نفسي على الموت مع
الحسين عليه السلام . ثم
قال لمن كان معه من
أصحابه: من أحب منكم (الشهادة
فليقم، ومن كرهها فليتقدم)
أن يتبعني وإلا فإنه آخر
العهد إني سأحدثكم حديثاً:
غزونا بلنجر
35 ففتح الله
علينا وأصبنا غنائم، فقال
لنا سلمان الفارسي رضي
الله عنه: أفرحتم بما فتح
الله عليكم وأصبتم من
المغانم ؟ فقلنا: نعم !
فقال لنا: إذا أدركتم سيد
شباب آل محمّد فكونوا أشد
فرحاً بقتالكم معهم مما
أصبتم من الغنائم. فأما
أنا فإني أستودعكم الله.
فلم يقم معه منهم أحد،
وخرجوا مع المرأة وأخيها
حتى لحقوا بالكوفة
36.
وكان زهير موالياً لأهل
البيت عليهم السلام يتكتم
ولا يظهر ذلك، حتى لقد
شبهه الإمام بمؤمن آل
فرعون
37. ولم يكن
عثمانياً كما يُستوحى من
بعض المؤرخين
38، الذين
نقلوا الرواية عن
مجهولين(رجل من بني فزارة)،
بل نفس هذه النصوص تدل
على أنه كان موالياً لأهل
البيت عليه السلام ، فقد
قال: (أفلستَ تستدل
بموقفي هذا أني منهم؟)
ولم يقل: أصبحت منهم!!
عدا عن أن مواكبة الحسين
عليه السلام في الطريق
غير معقولة فقد غادر
الإمام مكة قبل زهير
بخمسة أيام على الأقل،
فإذا كان الإمام قد جدّ
السير نحو العراق لا يلوي
على شيء فكيف يواكبه؟ إلا
إذا جدّ زهير السير
وبسرعة، والذي يريد أن
يقضي حجه ويلحق بالإمام
في نفس الوقت، فعليه أن
يجدّ السير ويرقل بناقته
ومع ذلك فهو لن يستطيع أن
يدركه إلا في زرود، فيكون
زهير قد جدّ السير لا أنه
واكبه فإذا نزل مشى وإذا
مشى نزل!!!
فهنا نسأل: لماذا يجدّ
السير؟ هل إلا ليلحق
بالإمام ؟.
كما أن حوار زهير مع
زوجته حينما قرر الإلتحاق
يكشف عن حب عميق لأهل
البيت عليه السلام
والحسين عليه السلام .
وأنه كان يعلم بالوقعة
وبأن الإمام عليه السلام
سوف يستشهد.
ووصل الإمام عليه السلام
إلى
الثعلبية
وتقع على ثلثي الطريق من
مكة إلى العراق
39، حيث علم
هناك بشهادة مسلم بن عقيل
وهانيء بن عروة
40.
فقد روى عبد الله بن
سليمان والمنذر بن
المشمعل الأسديان قالا:
لما قضينا حجنا لم تكن
لنا همة إلا اللحاق
بالحسين عليه السلام في
الطريق، لننظر ما يكون من
أمره، فأقبلنا ترقل
41 بنا نياقنا
مسرعين حتى لحقنا بزرود،
فلما دنونا منه إذا نحن
برجل من أهل الكوفة قد
عدل عن الطريق حين رأى
الحسين عليه السلام ،
فوقف الحسين كأنه يريده
ثم تركه ومضى، ومضينا
نحوه، فقال أحدنا لصاحبه:
اذهب بنا إلى هذا لنسأله
فإن عنده خبر الكوفة،
فمضينا حتى انتهينا إليه
فقلنا: السلام عليك !
فقال: وعليكم السلام !
قلنا: ممن الرجل ؟
قال: أسدي !
قلت: ونحن أسديان ! فمن
أنت ؟
قال: أنا بكر بن فلان !
وانتسبنا له ثم قلنا له:
أخبرنا عن الناس وراءك،
قال: نعم، لم أخرج من
الكوفة حتى قتل مسلم بن
عقيل وهانيء بن عروة،
ورأيتهما يجران بأرجلهما
في السوق. فأقبلنا حتى
لحقنا الحسين صلوات الله
عليه فسايرناه حتى نزل
الثعلبية ممسياً،
فجئناه
حين نزل فسلمنا عليه فرد
علينا السلام، فقلنا له:
رحمك الله، إن عندنا خبراً
إن شئت حدثناك علانيةً،
وان شئت سراً !
فنظر إلينا وإلى أصحابه
ثم قال: " ما دون هؤلاء
ستر"
فقلنا له: رأيت الراكب
الذي استقبلته عشي أمس ؟
قال: نعم، وقد أردت
مسألته !
فقلنا: قد والله استبرأنا
لك خبره، وكفيناك مسألته،
وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق
وعقل، وإنه حدّثنا أنه لم
يخرج من الكوفة حتى قتل
مسلم وهانيء، ورآهما
يجران في السوق بأرجلهما
!!
فقال: " إنّا لله وإنّا
إليه راجعون، رحمة الله
عليهما " يردّد ذلك مراراً
!
فقلنا له: ننشدك الله في
نفسك وأهل بيتك إلا
انصرفت من مكانك هذا،
فإنه ليس لك بالكوفة ناصر
ولا شيعة، بل نتخوف أن
يكونوا عليك. فنظر إلى
بني عقيل فقال: " ما ترون
؟ فقد قتل مسلم "
فقالوا: والله لا نرجع
حتى نصيب ثأرنا أو نذوق
ما ذاق !
فأقبل علينا الحسين عليه
السلام وقال: " لا خير في
العيش بعد هؤلاء " !!
فعلمنا أنه قد عزم رأيه
على المسير، فقلنا له:
خار الله لك !
فقال: رحمكما الله.
فقال له بعض أصحابه: إنك
والله ما أنت مثل مسلم
ابن عقيل، ولو قدمت
الكوفة لكان الناس إليك
أسرع !! فسكت !!
ثم انتظر حتى إذا كان
السحر قال لفتيانه
وغلمانه: " اكثروا من
الماء " فاستقوا وأكثروا
ثم ارتحلوا
42.
فسار حتى انتهى إلى
زبالة
43، وهناك
وافاه بها رسول محمّد بن
الأشعث بما كان سأله مسلم
أن يكتب به إليه من أمره،
وخذلان أهل الكوفة إياه،
بعد أن بايعوه، وقد كان
مسلم سأل محمّد بن الأشعث
ذلك. فلما قرأ الكتاب
استيقن بصحة الخبر،
وأفظعه قتل مسلم بن عقيل،
وهانيء ابن عروة. ثم
أخبره الرسول بقتل قيس بن
مسهر رسوله الذي وجهه من
بطن الرمة
44.
والمشهور هو أن الإمام
الحسين عليه السلام سرّح
عبدالله بن يقطر إلى مسلم
بن عقيل بعد خروجه من مكة
في جواب كتاب مسلم إلى
الإمام، الذي أخبره فيه
باجتماع الناس وسأله فيه
القدوم إلى الكوفة، فقبض
عليه الحصين بن نمير
45.
ولكن هناك رواية تقول إن الذي أرسله الحسين عليه السلام هو قيس بن مسهّر...
وإن عبد الله بن يقطر
بعثه الحسين مع مسلم،
فلما أن رأى مسلم الخذلان
قبل أن يتم عليه ما تم
بعث عبد الله إلى الحسين
يخبره بالأمر الذي انتهى،
فقبض عليه الحصين وصار ما
صار عليه من الأمر الذي
ذكرناه"
46.
فأخرج إلى الناس كتاباًً
فقرأه عليهم: " بسم
الله الرحمن الرحيم، أمّا
بعد: فإنّه قد أتانا خبر
فظيع قتل مسلم بن عقيل،
وهانيء بن عروة، وعبد
الله بن يقطر، وقد خذلنا
شيعتنا، فمن أحب منكم
الإنصراف فلينصرف غير حرج،
ليس عليه ذمام ".
وكان الإمام الحسين عليه
السلام لا يمر بأهل ماء
إلا أتبعوه حتى انتهى إلى
زبالة، فتفرق الناس عنه
وأخذوا يميناً وشمالاً،
حتى بقي في أصحابه الذين
جاؤوا معه من المدينة،
ونفر يسير ممن انضووا
إليه. وإنما فعل ذلك لأنه
عليه السلام علم أن
الأغراب الذين أتبعوه
إنما أتبعوه وهم يظنون
أنه يأتي بلداً قد
استقامت له طاعة
أهله،
فكره أن يسيروا معه إلآ
وهم يعلمون على ما يقدمون،
وقد علم أنهم إذا بين لهم
لم يصحبه إلَّا من يريد
مواساته والموت معه، فلما
كان من السحر أمر فتيانه
فاستقوا الماء وأكثروا،
ثم سار حتى مر ببطن
العقبة فنزل بها
47.
وهكذا، صمّم عليه السلام
على المضي والمسير نحو
الكوفة، حتى ولو عبّر
بأنه لا خير في العيش بعد
شباب بني عقيل أو استجابة
للرغبة في الثأر عند
هؤلاء... ولكن موقفه
الحقيقي كان الاندفاع نحو
الأمام لتحقيق المواجهة
التاريخية بين الحق
والباطل
48.
وأقبل الحسين عليه السلام
حتى نزل شراف فلما
كان في السحر أمر فتيانه
فاستقوا من الماء فأكثروا،
ثم ساروا منها حتى انتصف
النهار تقريباً، فظهرت في
الأفق رايات الجيش الأموي
بقيادة الحر بن يزيد
الرياحي، فتياسر الإمام
عليه السلام إلى جبل اسمه
ذو حُسَم، كي يضعه
خلفه ويواجه القوم. فنزل
الحسين فأمر بأبنيته
فضربت.
وسرعان ما تواجه الجيشان
في حرِّ الظهيرة، ألف
فارس من أهل العراق وقلة
قليلة مع الإمام عليه
السلام معتمون متقلدو
أسيافهم، فقال الحسين
عليه السلام لفتيانه:
اسقوا القوم وارووهم من
الماء ورشفوا الخيل
ترشيفاً !!
فقام فتيانه وسقوا القوم
من الماء حتى أرووهم،
وأقبلوا يملؤن القصاع
والأتوار والطساس من
الماء ثم يدنونها من
الفرس، فإذا عبَّ، فيه
ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً
عزلت عنه وسقوا آخر، حتى
سقوا الخيل كلها !!
وكان مجيء الحر بن يزيد
من القادسية، حيث الجيش
الأموي بقيادة الحصين بن
نمير التميمي الذي كان
على شرطة عبيدالله بن
زياد، وأمره أن ينزل
القادسية
وأن
يضع المسالح فينظم ما بين
القطقطانة إلى خفان، ولم
يصرّح الحر للإمام عليه
السلام بمهمته حتى انقضى
حيّز من النهار صلّى فيه
الإمام عليه السلام الظهر
والعصر.
وحينما حضرت صلاة الظهر
خرج الحسين عليه السلام
في إزار ورداء ونعلين
فحمد الله وأثنى عليه ثم
قال:
"أيّها الناس، إنّها
معذرة إلى الله عز وجل
وإليكم، إنّي لم آتكم حتى
أتتني كتبكم، وقدمت عليّ
رسلكم، أن اقدم علينا
فإنّه ليس لنا إمام، لعل
الله يجمعنا بك على الهدى،
فإن كنتم على ذلك فقد
جئتكم، فإن تعطوني ما
أطمئن إليه من عهودكم
ومواثيقكم أقدم مصركم،
وإن لم تفعلوا وكنتم
لمقدمي كارهين انصرفت
عنكم إلى المكان الذي
أقبلت منه اليكم".
فسكتوا عنه، فقال الحسين
عليه السلام للحر: أتريد
أن تصلي بأصحابك ؟
قال: لا ! بل تصلي أنت
ونصلي بصلاتك !
فصلّى بهم الحسين عليه
السلام ، ثم دخل خيمته
واجتمع إليه أصحابه،
وانصرف الحر إلى مكانه
الذى كان به، فلما كان
وقت العصر أمر الحسين
عليه السلام أن يتهيؤا
للرحيل، ثم خرج فأمر
مناديه فنادى بالعصر،
فصلّى بالقوم، ثم سلم
وانصرف إلى القوم بوجهه
مخاطباً الجموع التي كانت
مع الحر، فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال:
"أمّا بعد، أيّها
الناس، فإنّكم إن تتقوا
وتعرفوا الحق لأهله يكن
أرضى لله، ونحن أهل البيت
أولى بولاية هذا الأمر
عليكم من هؤلاء المدّعين
ما ليس لهم، والسائرين
فيكم بالجور والعدوان،
وإن أنتم كرهتمونا وجعلتم
حقّنا وكان رأيكم غير ما
أتتني كتبكم وقدمت به عليّ
رسلكم انصرفت عنكم"
فقال له الحر بن يزيد:
إنا والله ما ندرى ما هذه
الكتب التي تذكر !!
فقال الحسين عليه السلام
: يا عقبة بن سمعان !!
أخرج الخرجين اللذين
فيهما كتبهم
إلي! فأخرج خرجين مملوءين
صحفاً فنشرها بين أيديهم
!!
ولكن الظاهر أن هذا
الخطاب كان بلا جدوى، فقد
صرّح الحرّ للإمام بأنه
يريد أن يُقْدِمه على ابن
زياد، وقال: فإنا لسنا من
هؤلاء الذين كتبوا إليك
!! وقد أمرنا إذا نحن
لقيناك ألا نفارقك حتى
نقدمك على عبيدالله ابن
زياد !!
رفض الإمام عليه السلام
وقال للحر: الموت أدنى
إليك من ذلك !!
ثم قام عليه السلام فحمد
الله وأثنى عليه، ثم قال:
"إنّه قد نزل من الأمر
ما قد ترون، وإنّ الدنيا
قد تغيرت وتنكرت وأدبر
معروفها واستمرت جداً،
فلم يبق منها إلا صبابة
كصبابة الاناء، وخسيس عيش
كالمرعى الوبيل، ألا ترون
أنّ الحق لا يعمل به، وأنّ
الباطل لا يتناهى عنه،
ليرغب المؤمن في لقاء
الله محقاً، فإنّي لا أرى
الموت إلا سعادة، ولا
الحياة مع الظالمين إلا
برما
49".
فقام زهير بن القين
البجلي فقال لأصحابه:
أتتكلمون أم أتكلم ؟؟
قالوا: لا !! بل تكلم !!
فحمد الله فأثنى عليه، ثم
قال للإمام عليه السلام :
قد سمعنا هداك الله يا
ابن رسول الله مقالتك،
والله لو كانت الدنيا لنا
باقية وكنا فيها مخلدين
إلا أن فراقها في نصرك
ومواساتك لآثرنا الخروج
معك على الإقامة فيها!!
فدعا له الحسين ثم قال له
خيراً
50، ثم أمر
قافلته بالإنصراف،
فاعترضها جيش الحر، فوقع
تلاسن بينه وبين الإمام
عليه السلام .. ولما كثر
الكلام بينهما قال له
الحر: إني لم أومر بقتالك،
وإنما أمرت أن لا أفارقك
حتى أقدمك الكوفة، فإذا
أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك
الكوفة ولا تردك إلى
المدينة، لتكون بيني
وبينك نصفاً حتى أكتب إلى
ابن زياد وتكتب أنت إلى
يزيد بن معاوية، إن أردت
أن تكتب إليه
أو إلى عبيدالله بن زياد
إن شئت !! فلعل الله إلى
ذاك أن يأتي بأمر يرزقني
فيه العافية من أن أبتلي
بشيء من أمرك!!
قال الإمام الحسين عليه
السلام : فخذ ههنا
51.
كان الإمام عليه السلام
يريد أن يدخل الكوفة
حُرّاً وبالطريقة التي
يختارها هو، وكان الحُرّ
يريد أن يأخذه إليها
أسيراً! بأمرٍ من ابن
زياد! وكان هذا أصل الأخذ
والرد بينهما، فقد ظل
الإمام عليه السلام مصراً
على التوجه نحو الكوفة،
حتى بعد أن خيّره الحر بن
يزيد في أن يتخذ طريقاًً
لا تدُخله الكوفة ولا
ترده إلى المدينة، فيذهب
حيث يشاء بين ذلك، بل على
رواية ابن أعثم، كان
الإختيار أوسع، حيث شمل
حتى الرجوع إلى المدينة
إذا شاء، حين قال له الحر:
"يا أبا عبد الله، إني لم
أؤمر بقتال، وإنما أُمرتُ
أن لا أفارقك أو أقدم بك
على ابن زياد! وأنا والله
كارهٌ أن يبتليني الله
بشيء من أمرك، غير أني قد
أخذتُ ببيعة القوم وخرجت
إليك! وأنا أعلم أنه لا
يوافي القيامة أحد من هذه
الأمة إلا وهو يرجو شفاعة
جدّك محمّد صلى الله عليه
وآله وسلم ! وأنا خائف إن
قاتلتك أن أخسر الدنيا
والآخرة! ولكن خذ عنّي
هذا الطريق وامضِ حيث شئت!
حتى أكتب على ابن زياد أن
هذا خالفني في الطريق فلم
أقدر عليه!.."
52.
وعلى ذلك، فقد كان الإمام
قادراً على العودة إلى
المدينة، ولكنه أصرّ على
التوجه إلى الكوفة
53، ولمَّا
منعه الحر أن يدخلها إلاّ
أسيراً، لم يبق أمامه
عليه السلام إلا التياسر،
فلا يستسلم للحر ولا يريد
العودة إلى المدينة، وهذا
الطريق هو الذي قاده إلى
كربلاء
54.
وهكذا أخذ الحسين عليه
السلام يتياسر عن طريق
العذيب والقادسية وبينه
وبين
العذيب
ثمانية وثلاثون ميلاً،
وسار في أصحابه والحر
يسايره.
وفي البيضة، وهي ما بين
واقصة إلى العذيب
55، خطب الحسين
أصحابه وأصحاب الحر، فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال:
"أيّها الناس إنّ رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال من رأى سلطاناً
جائراً مستحلاً لحُرم
الله ناكثاً لعهد الله
مخالفاً لسنة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
يعمل في عباد الله بالإثم
والعدوان فلم يغيّر عليه
بفعلٍ ولا قول، كان حقاً
على الله أن يدخله مدخله
!!
ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا
طاعة الشيطان، وتركوا
طاعة الرحمن، وأظهروا
الفساد، وعطّلوا الحدود،
واستأثروا بالفيء،
وأحلّوا حرام الله
وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ
من غَيَّر! وقد أتتني
كتبكم وقدمت عليّ رسلكم
ببيعتكم، أنّكم لا
تسلموني ولا تخذلوني، فإن
تممتم على بيعتكم تصيبوا
رشدكم ! فأنا الحسين بن
علي وابن فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم ، نفسي مع أنفسكم
وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ
أسوة! وإن لم تفعلوا!
ونقضتم عهدكم، وخلعتم
بيعتي من أعناقكم، فلعمري
ما هي لكم بنكر، لقد
فعلتموها بأبي وأخي وابن
عمي مسلم! والمغرور من
اغتر بكم! فحظكم أخطأتم،
ونصيبكم ضيعتم! ومن نكث
فإنّما ينكث على نفسه،
وسيغني الله عنكم،
والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته"
56.
وأقبل الحر يساير الإمام
الحسين عليه السلام وهو
يقول له: إني أذكرك الله
في نفسك، فإني أشهد لئن
قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت
لتهلكن فيما أرى !!
فقال له الحسين عليه
السلام :
أفبالموت تخوفني ؟؟
وهل يعدو بكم الخطب أن
تقتلوني؟ ما أدري ما أقول
لك !! ولكن أقول كما قال
أخو الأوس لابن عمه ولقيه
وهو يريد نصرة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
، فقال له: أين تذهب فإنك
مقتول، فقال:
سأمضي وما بالموت عار على
الفتى
إذا ما نوى حقاً وجاهد
مسلماً
وآسى الرجـــــال
الصالحين
بنـفسه
وفارق
مثبـوراً يغـش ويرغما
فلما سمع ذلك منه الحر
تنحى عنه، وكان يسير
بأصحابه في ناحية والإمام
الحسين عليه السلام في
ناحية أخرى
57، حتى انتهوا
إلى عذيب الهجانات
58، فإذا هم
بأربعة نفر قد أقبلوا من
الكوفة، فأقبل إليهم الحر
بن يزيد فقال: إنّ هؤلاء
النفر الذين من أهل
الكوفة ليسوا ممن أقبل
معك وأنا حابسهم أو رادهم
!
فقال له الحسين عليه
السلام : لأمنعنّهم مما
أمنع منه نفسي !! إنما
هؤلاء أنصاري وأعواني!!
وقد كنت أعطيتني ألا تعرض
لي بشيء حتى يأتيك كتاب
من ابن زياد!!
فقال الحر: أجل !! لكن لم
يأتوا معك !
قال الحسين عليه السلام :
هم أصحابي وهم بمنزلة من
جاء معي !! فإن تممت على
ما كان بيني وبينك وإلا
ناجزتك!!
فكف عنهم الحر.
ثم قال لهم الحسين عليه
السلام : أخبروني خبر
الناس وراءكم !!
فقال له مجمع بن عبد الله
العائذي: أما أشراف الناس
فقد أعظمت رشوتهم، وملئت
غرائرهم، يستمال ودّهم،
ويستخلص به نصيحتهم، فهم
ألب واحد عليك!! وأما
سائر الناس بعد، فإن
أفئدتهم تهوي إليك،
وسيوفهم غداً مشهورة عليك
!
فقال الحسين عليه السلام
: أخبرني ! فهل لكم
برسولي إليكم ؟
قالوا: من هو ؟
قال: قيس بن مسهر
الصيداوي!!
فقالوا: نعم ! أخذه
الحصين بن نمير فبعث به
إلى ابن زياد، فأمره ابن
زياد أن يلعنك ويلعن أباك
فصلّى عليك وعلى أبيك
ولعن ابن زياد وأباه،
ودعا إلى نصرتك
وأخبرهم
بقدومك، فأمر به ابن زياد
فأُلقي من طمار القصر!!
فترقرقت عينا الحسين عليه
السلام ولم يملك دمعه !!
ثم قال: "منهم من قضى
نحبه ومنهم من ينتظر وما
بدلوا تبديلاً، اللهم
اجعل لنا ولهم الجنة نزلاً
واجمع بيننا وبينهم في
مستقرٍ من رحمتك ورغائب
مذخور ثوابك"
59.
ثم دنا الطرماح بن عديّ
من الحسين عليه السلام
فقال له: والله إني لأنظر
فما أرى معك أحداًً! ولو
لم يقاتلك إلا هؤلاء
الذين أراهم ملازميك لكان
كفى بهم، وقد رأيتُ قبل
خروجي من الكوفة إليك
بيومٍ ظهرَ الكوفة وفيه
من الناس ما لم ترَ عيناي
في صعيد واحدٍ جمعاً أكثر
منه! فسألتُ عنهم فقيل:
اجتمعوا ليُعرَضوا، ثم
يُسرَحون إلى الحسين!
فأنشدك اللهَ إن قدرت على
ألا تقدم عليهم شبراً إلا
فعلت! فإن أردت أن تنزل
بلداً يمنعك الله به حتى
ترى من رأيك ويستبين لك
ما أنت صانعٌ فسِرْ حتى
أنزلك مناع جبلنا الذي
يُدعى (أجأ).
أمتنعنا والله به من ملوك
غسان وحمير، ومن النعمان
بن المنذر، ومن الأسود
والأحمر، والله إن دخل
علينا ذُلٌّ قطُّ!!
فأسير معك حتى أُنزلك
القُرَيَّة
60، ثم نبعث
إلى الرجال ممن بأجأ
وسلمى
61 من طيء،
فوالله لا يأتي عليك عشرة
أيام حتى يأتوك رجالاً
وركباناً! ثم أقم فينا ما
بدا لك، فإن هاجك هيجٌ
فأنا زعيم لك بعشرين ألف
طائي يضربون بين يديك
بأسيافهم! والله لا يوصَل
إليك أبداًً ومنهم عينٌ
تطرف! فقال له عليه
السلام :
"جزاك الله وقومك خيراًً،
إنه قد كان بيننا وبين
هؤلاء القوم قولٌ لسنا
نقدر
معه على الإنصراف! ولا
ندري علام تنصرف بنا وبهم
الأمور في عاقبة!"
62.
قال الطرماح بن عدي:
فودعته، وقلت له: دفع
الله عنك شرَّ الجن
والإنس، إني قد أمرتُ
لأهلي من الكوفة ميرة،
ومعي نفقة لهم، فآتيهم
فأضع ذلك فيهم، ثم أقبل
إليك إن شاء الله، فإن
ألحقك فوالله لأكوننّ من
أنصارك!
قال عليه السلام : فإن
كنت فاعلاً فعجّل رحمك
الله!
قال الطرماح: فعلمتُ أنه
مستوحشٌ إلى الرجال حتى
يسألني التعجيل! فلمّا
بلغتُ أهلي وضعت عندهم ما
يُصلحهم وأوصيتُ ! فأخذ
أهلي يقولون: إنك لتصنع
مرَّتَكَ هذه شيئاًً ما
كنت تصنعه قبل اليوم!؟
فأخبرتهم بما أريد،
فأقبلتُ في طريق بني
ثُعَل حتى إذا دنوتُ من
عُذيب الهجانات استقبلني
سماعة بن بدر فنعاه إليَّ!
فرجعت"
63.
إصرار الإمام على
المسير بعد علمه بانقلاب
الوضع في الكوفة
بعد انقلاب أهل الكوفة
على مسلم بن عقيل
وخذلانهم إياه، انتفت
عملياً وانتهت تماماً
حجّتهم التي ألزموا
الإمام عليه السلام بها
بما أرسلوا من رسائل
وبالبيعة التي بايعوها
لمسلم، ومع ذلك فلم يُعرض
الإمام عليه السلام عن
التوجه إلى العراق بعد
وصول خبر مقتل مسلم وهاني
وعبد الله بن يقطر، بل
أصرّ على التوجه إليهم،
وواصل الإحتجاج عليهم
برسائلهم وبيعتهم !! فها
هو يقول لمن يقابله في
الطريق:"هذه كتب أهل
الكوفة إليَّ ولا أراهم
إلا قاتليَّ...!"
64، ويقول
للطرمّاح وقد سأله أن
يلجأ إلى جبل أجأ: "إن
بيني وبين القوم موعداً
أكره أن أخلفهم! فإن يدفع
الله عنا فقديماً ما أنعم
علينا وكفى، وإن يكن ما
لابد منه ففوزٌ وشهادة إن
شاء
الله..65
وفي
نص آخر:
"إنه قد كان بيننا وبين
هؤلاء القوم قولٌ لسنا
نقدر معه على الإنصراف.."
66.
فهل كان الإمام عليه
السلام يراهن على قدرته
الشخصية على التأثير على
أهل الكوفة لو دخلها هو
شخصياً وخاطب أهلها
مباشرة، بحيث أنهم
سيلتفّون حوله ويسارعون
إلى نصرته ؟ بناءً على أن
مسلم بن عقيل لا يملك
قدرة الإمام عليه السلام
في هذا المجال ؟؟
ولعل هذه الفكرة طرأت على
ذهن أحد أصحاب الإمام
عليه السلام حين قال له:
"إنك والله ما أنت مثل
مسلم بن عقيل، ولو قدمت
الكوفة لكان الناس إليك
أسرع..."
67، ولذا واصل
الإمام الإصرار على
التوجه إلى الكوفة ؟
أم أن الإمام عليه السلام
كان يعلم منذ البدء أن
أهل الكوفة سوف يخذلونه
ويقتلونه، لعلمه بما
سيؤول إليه موقف أهل
الكوفة من قبل ذلك، فهو
يعلم بما كان وبما سيكون
إلى قيام الساعة، أو لأن
أنباء أهل الكوفة، بعد
مقتل مسلم، قد تواترت
إليه بسرعة مؤكدة على أن
ابن زياد قد عبّأهم
لقتاله وأنهم أصبحوا إلباً
عليه، وفي عذيب الهجانات
لم يعد ثمّة شكّ في أن
الكوفة قد انقلبت على
عهدها مع الإمام عليه
السلام رأساً على عقب، بل
وقد عبّأها ابن زياد عن
بكرة أبيها واستعرض
عساكرها ليُسرّح بهم إلى
الحسين عليه السلام .
فيكون الإمام عليه السلام
قد واصل طريقه، وأصرّ على
التوجه إلى الكوفة، لا
لأن لأهل الكوفة حجة
باقية عليه، بل وفاءً منه
بوعده والقول الذي أعطاه،
وحتى لا يقول واحد من
الناس أنه لم يفِ تماماً
بالعهد، لو أنه انصرف عن
التوجه إلى الكوفة في بعض
مراحل الطريق، حتى بعد أن
أغلق جيش الحرّ دونه
الطريق إليها، ذلك لأن
الإمام عليه السلام أراد
أن يتم حجّته على أهل
الكوفة، ولم يشأ أن يدع
لهم أيّة مؤاخذة عليه
يمكن أن يتذرّعوا بها لو
أنه كان قد انصرف عن
التوجه إليهم أثناء
الطريق، لأنهم يمكن أن
يدّعوا أن الأخبار التي
بلغت الإمام عليه السلام
عن حال الكوفة لم تكن
صحيحة أو دقيقة! وأن
أنصاراً له كثيرين فيها
كانوا ينتظرونه في خفاء
عن رصد السلطة!
إن إصرار الإمام على
التوجه إلى العراق، رغم
علمه بالإنقلاب الحاد في
موازين القوى لمصلحة
الأمويين، يدل على أن
رسائل أهل الكوفة إلى
الإمام الحسين عليه
السلام ودعوتهم إليه لم
تكن هي السبب الرئيس في
توجهه نحو العراق، بل كان
السبب الرئيس وراء إصراره
على التوجه نحو العراق هو
علمه المسبق بأنه ما لم
يبايع، مقتول لا محالة،
حتى لو كان في جحر هامة
من هوام الأرض، بل كان
عليه السلام يعلم أن أهل
الكوفة قاتلوه، "هذه
رسائل أهل الكوفة إليّ
ولا أراهم إلا قاتليّ!".
ولذلك كان عليه أن يختار
بنفسه أرض مصرعه، ولم يكن
أفضل من أرض العراق
للمصرع المحتوم الذي لا
بُدّ منه، لما ينطوي عليه
العراق من استعدادات
للتأثر بواقعة المصرع،
والتغيّر، حيث ستهُبّ من
هناك، بعد مقتله، عواصف
التغيير والتحولات الكبرى
التي لا تهدأ حتى تُسقط
دولة الأمويين، والتي سوف
يتحقق فيها الفتح الحسيني!
إذن، عندما قال الإمام
عليه السلام في خطبته بعد
صلاة الظهر:
"... وإن لم تفعلوا وكنتم
لمقدمي كارهين انصرفت
عنكم إلى المكان الذي
أقبلتُ منه إليكم"، وفي
خطبته بعد صلاة العصر: "وإن
كرهتمونا وجهلتم حقنا،
وكان رأيكم غير ما أتتني
كتبكم وقدمت به عليَّ
رسلكم انصرفت عنكم!"،
لم يقصد التخلّي عن ثورته،
بل قصد القيام بالانتقال
في ثورته من موقع إلى
موقع، فإذا كان لا يمكنه
أن يدخل الكوفة إلا أسيراً،
فيمكن الآن عدم التوجه
إليها، وهذا لا يعني
تخليه عن مواصلة الثورة،
بل يعني تغيير مسار كة
الثورية الحسينية إلى جهة
أخرى، والالتفاف
على الطوق العسكري الذي
فرضه عليه ابن زياد، سواء
بالعودة إلى مكة المكرمة
أو المدينة المنورة أو
الذهاب إلى اليمن أو أي
مكان آخر، خصوصاً وأن أي
اشتباك بعيداً عن استكمال
الحجة سوف يكون خسارة
للثورة الحسينية وأهدافها.
في قصر بني مقاتل
ثم مضى الحسين عليه
السلام حتى انتهى إلى قصر
بني مقاتل، فنزلوا جميعاً
هناك، فإذا هو بفسطاط
مضروب، فسأل عنه، فأخبر
أنه لعبيد الله بن الحر
الجعفي، وكان من أشراف
أهل الكوفة وفرسانهم،
فأرسل الحسين عليه السلام
إليه بعض مواليه، فأقبل
حتى دخل عليه في فسطاطه
فسلّم عليه فردّ عليه
السلام ثم قال: ما وراءك؟
فقال: واللهِ قد أهدى
الله إليك كرامة إن
قبلتها!
قال: وما ذاك؟
فقال: هذا الحسين بن علي
عليه السلام يدعوك إلى
نصرته! فإن قاتلت بين
يديه أُجرتَ، وإن متَّ
فإنك استشهدت!
فقال له عبيد الله: إنا
لله وإنا إليه راجعون،
والله ما خرجت من الكوفة
إلا كراهية أن يدخلها
الحسين وأنا فيها فلا
أنصره، لكثرة من رأيته
خرج لمحاربته وخذلان
شيعته، فعلمت أنه مقتول
ولا أقدر على نصره، لأنه
ليس له في الكوفة شيعة
ولا أنصار إلا وقد مالوا
إلى الدنيا إلا من عصم
الله منهم! فارجع إليه
وخبّره بذاك. والله ما
أريد ولست أحب أن أراه
ولا يراني ؟
فأقبل إلى الحسين عليه
السلام فخبّره بذلك، فصار
الحسين عليه السلام إليه
في جماعة من إخوانه، فلما
دخل وسلَّم وثب عبيد الله
بن الحر من صدر المجلس،
وجلس الحسين فحمد الله
وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد يا ابن الحرّ، فإن أهل مصركم هذه كتبوا إلي وخبّروني أنهم مجتمعون
على نصرتي، وأن يقوموا
دوني ويقاتلوا عدوّي،
وإنهم سألوني القدوم
عليهم
فقدمتُ،
ولست أدري القوم على ما
زعموا، فإنهم قد أعانوا
على قتل ابن عمي مسلم بن
عقيل وشيعته! وأجمعوا على
ابن مرجانة عبيد الله بن
زياد مبايعين ليزيد بن
معاوية!
وأنت يا ابن الحر، فاعلم
أن الله عز وجل مؤاخذك
بما كسبت وأسلفت من
الذنوب في الأيام الخالية
68، وأنا
أدعوك في وقتي هذا إلى
توبة تغسل بها ما عليك من
الذنوب، أدعوك إلى نصرتنا
اهل البيت، فإن أعطينا
حقّنا حمدنا الله على ذلك
وقبلناه، وإن منعنا حقنا
ورُكبنا بالظلم كنت من
أعواني على طلب الحق".
فقال عبيد الله بن الحر:
والله يا ابن بنت رسول
الله، لو كان لك بالكوفة
أعوان يقاتلون معك لكنتُ
أشدّهم على عدوّك! ولكني
رأيتُ شيعتك بالكوفة وقد
لزموا منازلهم خوفاً من
بني أمية ومن سيوفهم!
والله إني لأعلم أن من
شايعك كان السعيد في
الآخرة، ولكن ما عسى أن
أغني عنك، ولم أخلف لك
بالكوفة ناصراً، فأنشدك
الله أن تطلب منّي هذه
المنزلة! فإن نفسي لم
تسمح بعد بالموت، وأنا
أواسيك بكل ما أقدر عليه،
وهذه فرسي ملجمة، والله
ما طلبت عليها شيئاًً إلا
أذقته حياض الموت، ولا
طُلبتُ وأنا عليها فلُحقتُ،
وخذ سيفي هذا فوالله ما
ضربت به إلا قطعتُ!
فقال له الحسين عليه
السلام :" يا ابن الحرّ،
ما جئناك لفرسك وسيفك!
إنما أتيناك لنسألك
النصرة، فإن كنت قد بخلت
علينا بنفسك فلا حاجة لنا
في شيء من مالك! ولم أكن
بالذي اتخذ المضلّين عضداً،
فإن لم تنصرنا فاتق الله
أن تكون ممن يقاتلنا،
والله لا
يسمع واعيتنا
69 أحد ثم
لا ينصرنا إلا هلك، لأني
قد سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وهو
يقول: من سمع داعية أهل
بيتي ولم ينصرهم على
حقّهم إلا أكبّه الله على
وجهه في النار".
فقال: أما هذا فلا يكون
أبداً إن شاء الله، ثم
سار الحسين عليه السلام
من عنده، ورجع إلى رحله"
70.
ولما كان في آخر الليل
أمر عليه السلام فتيانه
بالإستقاء من الماء، ثم
أمر بالرحيل، فارتحل من
قصر بني مقاتل ليلاً،
ومعه الحر بن يزيد، كلما
أراد أن يميل نحو البادية
منعه، وبعد أن سار الحسين
عليه السلام ساعة خفق وهو
على ظهر فرسه خفقة ثم
انتبه، وهو يقول: "
إنّا لله وإنّا إليه
راجعون، والحمد لله رب
العالمين "
ففعل ذلك مرتين أو
ثلاثاً، فأقبل إليه ابنه
علي بن الحسين عليه
السلام على فرس فقال: ممَّ
حمدت الله واسترجعت ؟
فقال: " يا بنيّ، إنيّ
خفقت خفقة فعنَّ لي فارس
على فرس وهو يقول: القوم
يسيرون، والمنايا تسير
إليهم، فعلمت أنّها
أنفسنا نعيت إلينا "
فقال له: يا أبت لا أراك
الله سوءاً، ألسنا على
الحق ؟
قال: " بلى، والّذي إليه
مرجع العباد "
قال: فإننا إذاً لا نبالي
أن نموت محقين(وقع الموت
علينا أم وقعنا على الموت)
فقال له الحسين عليه
السلام : " جزاك الله من
ولد خير ما جزى ولداً عن
والده"
71.
فلمّا أصبح نزل فصلّى
الغداة، ثمّ عجّل الركوب
فأخذ يتياسر بأصحابه يريد
أن يفرقهم، فيأتيه الحرّ
فيردّه وأصحابه، فجعل إذا
ردّهم نحو الكوفة ردَّاً
شديداًً امتنعوا عليه
وارتفعوا فلم يزالوا
يتياسرون كذلك حتى انتهوا
إلى نينوى
72.
فإذا راكب على نجيب له
وعليه السلاح متنكب قوساً
مقبل من الكوفة، فوقفوا
جميعاً ينتظرونه، فلما
انتهى إليهم سلَّم على
الحر بن يزيد وأصحابه ولم
يسلم على الحسين عليه
السلام وأصحابه، فدفع إلى
الحر كتاباً من عبيدالله
بن زياد فإذا فيه:
أمّا بعد، فجعجع
73 بالحسين بن
علي وأصحابه بالمكان الذي
يوافيك كتابي ويقدم عليك
رسولي، فلا تنزله إلا
بالعراء في غير حصن وعلى
غير ماء، وقد أمرت رسولي
أن يلزمك ولا يفارقك حتى
يأتيني بإنفاذك أمري،
والسلام.
فلما قرأ الكتاب قال لهم
الحر: هذا كتاب الأمير
عبيدالله ابن زياد يأمرني
فيه أن أجعجع بكم في
المكان الذى يأتيني فيه
كتابه، وهذا رسوله وقد
أمره أن لا يفارقنى حتى
أنفذ رأيه وأمره
74 ولا بد من
الانتهاء إلى أمره، فانزل
بهذا المكان، ولا تجعل
للأمير عليَّ علّة.
فنظر أبو الشعثاء الكندي
إلى رسول عبيدالله بن
زياد، فعنَّ له، فقال:
أمالكُ بن النسير البدي
؟؟ قال: نعم !! وكان أحد
كندة.
فقال له: ثكلتك أمك !!
ماذا جئت فيه ؟
قال: وما جئت فيه ؟؟ أطعت
إمامي ووفيت ببيعتي !!
فقال له أبو الشعثاء:
عصيت ربك !! وأطعت إمامك
في هلاك نفسك!! كسبت
العار والنار!! قال الله
عز وجل:
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ
لَا يُنصَرُونَ75﴾،
فإمامك منهم. وأخذ الحر
بن يزيد الإمام الحسين
عليه السلام وأصحابه وأهل
بيته بالنزول في ذلك
المكان على غير ماءٍ ولا
في قرية.
فقالوا: دعنا ننزل في هذه
القرية، يعنون نينوى، أو
هذه القرية، يعنون
الغاضرية، أو هذه الأخرى،
يعنون شفية!!
فقال: لا والله ما أستطيع
ذلك !! هذا رجل قد بعث
إليَّ عيناً!!
فقال زهير بن القين
للإمام الحسين عليه
السلام : إني والله ما
أراه يكون بعد هذا الذي
ترون إلا أشد مما ترون،
بأبي وأمي يا ابن رسول
الله، والله لو لم يأتنا
غير هؤلاء لكان لنا فيهم
كفاية، فكيف بمن سيأتينا
من غيرهم ؟ فهلم بنا
نناجز هؤلاء، إن قتال
هؤلاء أهون من قتال من
يأتينا من بعدهم فلعمري
ليأتينا من بعد ما ترى ما
لا قبل لنا به
76!!
فقال له الإمام الحسين
عليه السلام : فإني أكره
أن أبدأهم بقتال، ما كنت
لابدأهم بالقتال حتى
يبدأوا!!
فقال له زهير بن القين:
فهاهنا قرية بالقرب منَّا
على شط الفرات، وهي في
عاقول
77حصينة،
الفرات يحدق بها إلا من
وجه واحد. فإن منعونا
قاتلناهم فقتالهم أهون
علينا من قتال من يجيء من
بعدهم فقال له الإمام
الحسين عليه السلام :
وأية قرية هي ؟؟
قال: هي العقر!!
فقال الإمام الحسين عليه
السلام : اللهم انى أعوذ
بك من العقر !!
فقال الحسين للحر: سر بنا
قليلاً، ثم ننزل.
فسار معه حتى أتوا كربلاء،
فوقف الحر وأصحابه أمام
الحسين ومنعوهم من المسير،
وقال: انزل بهذا المكان،
فالفرات منك قريب.
قال الحسين عليه السلام :
وما اسم هذا المكان ؟
قالوا له: كربلاء.
قال عليه السلام : ذات
كربٍ وبلاء، ولقد مرَّ
أبي بهذا المكان عند
مسيره إلى صفين، وأنا معه،
فوقف، فسأل عنه، فأخبر
باسمه، فقال: "هاهنا محط
ركابهم، وهاهنا مهراق
دمائهم"، فسئل عن ذلك،
فقال: " ثقل لآل بيت
محمّد، ينزلون هاهنا".
ثم أمر الحسين
بأثقاله، فحطت بذلك
المكان
78، وكان ذلك
يوم الخميس، وهو اليوم
الثاني من المحرم سنة
إحدى وستين
79.
|