الاستعداد للقتال
لمّا أصبح الحسين عليه
السلام يوم عاشوارء، وكان
يوم الجمعة، صلّى بأصحابه
صلاة الصبح، وقام خطيباً
فيهم، فحمِد الله وأثنى
عليه، ثم قال:"إن الله
تعالى قد أذِنَ في قتلكم
وقتلي في هذا اليوم
فعليكم بالصبر والقتال
"1.
وأصبح عمر بن سعد في ذلك
اليوم، فعبّأ أصحابه،
وخرج فيمن معه من الناس
نحو الحسين عليه السلام ،
وكان على ميمنته عمرو بن
الحجاج الزبيدى، وعلى
ميسرته شمر بن ذي الجوشن،
وعلى الخيل عزرة بن قيس
الأحمسي، وعلى الرجالة
شبث بن ربعي، وأعطى
الراية ذويداً دريداً)
مولاه
2.
ولما صبّحت الخيل الحسين
عليه السلام رفع يديه
وقال:
"اللهم أنت ثقتي في كلّ
كرب، ورجائي في كلّ شدة
وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل
بي ثقةٌ وعدّة، كم من همٍّ
يضعف فيه الفؤاد، وتقل
فيه الحيلة، ويخذل فيه
الصديق، ويشمت فيه العدو،
أنزلته بك وشكوته إليك،
رغبة منّي إليك عمّن
سواك، ففرجته وكشفته،
فأنت وليّ كل نعمة، وصاحب
كل حسنة، ومنتهى كل رغبة
"
3. ثم صفّ أصحابه للحرب،
وكانوا اثنين وسبعين
فارِساً وراجلاً (اثنين
وثلاثين فارسا وأربعين
راجلا)
4، فجعل زُهير بن
القين في الميمنة، وحبيب
بن مظاهر في الميسرة
5،
وثبت هو وأهل بيته في
القلب
6، وأعطى رايته
أخاه العبّاس
7، ثم وقف،
ووقفوا معه أمام البيوت
8، وجعلوا البيوت في
ظهورهم، وأمر بحطبٍ وقصبٍ
كان من وراء البيوت أن
يُترك في خندقٍ كان قد
حُفر هناك وأن يُحرق
بالنار، مخافة أن يأتوهم
من ورائهم
9.
وزحف عمر بن سعد نحو
الإمام الحسين عليه
السلام في ثلاثين ألفاً.
ثم أقبل أصحابه يجولون
حول البيوت، فإذا بالنار
تضطرم في الحطب والقصب
الذي كان أنصار الإمام
الحسين عليه السلام قد
ألهبوا فيه النار من
ورائهم لئلا يأتوهم من
خلفهم، وتقدم منهم رجل من
أصحاب عمر بن سعد يركض
على فرس كامل الأداة، فلم
يكلمهم حتى مر على
أبياتهم، فنظر إليها فإذا
هو لا يرى إلا حطبا تلتهب
النار فيه، فرجع فنادى
بأعلى صوته: يا حسين
استعجلت النار في الدنيا
قبل يوم القيامة!!
فقال الحسين عليه السلام
: من هذا ؟ كأنه شمر بن
ذي الجوشن!
فقالوا: نعم أصلحك الله
هو هو، فقال عليه السلام
: يا ابن راعية المعزى
أنت أولى بها صليا.
فقال له مسلم بن عوسجة:
يا ابن رسول الله جعلت
فداك ألا أرميه بسهم،
فإنه
قد أمكنني، وليس يسقط سهم،
فالفاسق من أعظم الجبارين.
فقال له الحسين عليه
السلام : لا ترمه فإني
أكره أن أبدأهم
10.
خطبة الإمام الحسين عليه
السلام الأولى في أهل
العراق
ثم دعا الإمام الحسين
عليه السلام براحلته
فركبها وتقدم حتى وقف
بازاء القوم، فجعل ينظر
إلى صفوفهم كأنهم السيل،
ونظر إلى ابن سعد واقفاً
في صناديد الكوفة، ثم
نادى بأعلى صوته، وجلهم
يسمعون: " يا أهل العراق
"
ثم قال:
" أيّها الناس! اسمعوا
قولي ولا تعجلوا حتى
أعظكم بما يحق لكم عليَّ،
وحتى أعذر إليكم، فإن
أعطيتموني النَّصَف كنتم
بذلك أسعد، وإن لم تعطوني
النَّصَف من أنفسكم
فأَجمعوا رأيكم ثم لا يكن
أمركم عليكم غُمّة ثم
اقضوا إليَّ ولا تنظرون،
إنّ وليي الله الذي نزّل
الكتاب وهو يتولى
الصالحين!"
ثم حمد الله وأثنى عليه
وذكر الله بما هو أهله،
وصلّى على النبي صلّى
الله عليه وآله وعلى
ملائكة الله وأنبيائه،
فلم يسمع متكلم في قبله
ولا بعده أبلغ منطق منه،
فقال:
"الحمدلله الذي خلق
الدنيا فجعلها دارَ فناءٍ
وزوالٍ، متصرّفة بأهلها
حالاً بعد حال، فالمغرور
من غرَّته والشقي من
فتنته، فلا تغرنّكم هذه
الدنيا، فإنّها تقطع رجاء
من ركن إليها وتُخيِّب
طَمَعَ من طمٍع فيها،
وأراكم قد اجتمعتم على
أمرٍ قد أَسخطتم الله فيه
عليكم وأعرَض بوجهه
الكريم عنكم، وأحلَّ بكم
نقمته، وجنَّبكم رحمته،
فنعم الربُّ ربُّنا، وبئس
العبيدُ أنتم ! أقررتم
بالطاعة، وآمنتم بالرسول
محمّد صلّى الله عليه
وآله ثم إنّكم زحفتم إلى
ذريته وعترته تريدون
قتلهم،
لقد استحوذ عليكم الشيطان،
فأنساكم ذكر الله العظيم،
فتبّاً لكم ولما تريدون،
إنّا لله وإنّا إليه
راجعون، هؤلاء قوم كفروا
بعد إيمانهم فبُعداً
للقوم الظالمين!!
أمّا بعد، فانسبوني
فانظروا من أنا، ثم
ارجعوا إلى أنفسكم
وعاتبوها، فانظروا هل
يصلُحُ لكم قتلي وانتهاكُ
حرمتي ؟ ألست ابنَ بنت
نبيِّكم، وابنَ وصيه وابنَ
عمه وأولَ المؤمنين
المصدّق لرسول الله بما
جاء به من عند ربه، أو
ليس حمزة سيّد الشهداء
عمّي، أو ليس جعفر
الطيّار في الجنّة
بجناحين عمّي ؟! أَوَ لم
يبلغكُم ما قال رسول اللهِ
لي ولأخي: هذان سيدا شباب
أهل الجنّة ؟ ! فإن
صدّقتموني بما أقول وهو
الحقّ، والله ما تعمّدت
كذباً منذ علمت أنّ الله
يمقت عليه أهله، وإن
كذّبتموني فإنّ فيكم من
لو سألتموه عن ذلك
أخبرَكم، سلوا جابرَ بنَ
عبدِ اللهِ الأنصاري وأبا
سعيدٍ الخدريّ وسهل بن
سعد الساعديّ وزيدَ بنَ
أرقم وأنسَ بنَ مالك،
يخبروكم أنّهم سمعوا هذه
المقالةَ من رسول اللهِ
صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ
لي ولأخي، أَمَا في هذا
حاجز لكم(يحجزكم) عن سفك
دمي ؟!".
فقال عمر: ويلكم كلموه
فإنّه ابن أبيه، والله لو
وقف فيكم هكذا يوماً
جديداً لما انقطع ولما
حصر، فكلموه!
فتقدم شمر لعنه الله فقال:
يا حسين ما هذا الذي تقول
؟ أفهمنا حتى نفهم!
فقال: أقول اتّقوا الله
ربكم ولا تقتلوني، فإنّه
لا يحلّ لكم قتلي، ولا
انتهاك حرمتي، فإنّي ابنُ
بنت نبيِّكم، وجدّتي
خديجة زوجة نبيِّكم،
ولعلّه قد بلغكم قول
نبيِّكم: الحسن والحسين
سيدا شباب أهل الجنة
11.
فقال له شمر بن ذي الجوشن:
(أنا أعبد الله على حرف
إن كنت أدري ما تقول!)
12 فقال له حبيب بن مظاهر:
والله إني لأراك تعبد
الله على سبعين حرفاً،
وأنا أشهد أنك صادق ما
تدري ما يقول، قد طبع
الله على قلبك.
فقال له الإمام الحسين
عليه السلام : حسبك يا
أخا بني أسد! فقد قضي
القضاء، وجف القلم، والله
بالغ أمره، والله إنّي
لأشوق إلى جدي وأبي وأمّي
وأخي وأسلافي من يعقوب
إلى يوسف وأخيه! ولي مصرع
أنا لاقيه!
ثم قال لهم الحسين عليه
السلام : " فإن كنتم في
شك من هذا،أفتشكون أنّي
ابن بنت نبيكم!فوالله
ما بين المشرق والمغرب
ابن بنت نبي غيري فيكم
ولا في غيركم، ويحكم
أتطلبوني بقتيلٍ منكم
قتلته، أو مالٍ لكم
استهلكته، أو بقصاصِ
جراحة ؟!"
فأخذوا لا يكلمونه، فنادى:
" يا شبث بن ربعي، يا
حجار بن أبجر، يا قيس بن
الأشعث، يا يزيد بن
الحارث، ألم تكتبوا إليَّ
أن قد أينعت الثمار واخضرَّ
الجناب، وإنما تُقدِم على
جُند لك مجنّد؟! "
فقال له قيس بن الأشعث:
ما ندري ما تقول، ولكن
انزل على حكم بني عمك،
فإنهم لن يروك إلا ما تحب.
فقال له الحسين عليه
السلام " لا والله لا
أعطيكم بيدي إعطاء الذليل،
ولا أفرّ فرار(أقر إقرار)
العبيد".
ثم نادى: " يا عباد الله،
إنّي عذت بربّي وربّكم أن
ترجمون، أعوذ بّربي
وربّكم من كل متكبرٍ لا
يؤمن بيوم الحساب ".
ثم إنه أناخ راحلته وأمر
عقبة بن سمعان فعقلها
13.
وكان بين يديه برير بن
خضير الهمداني، فقال له
الإمام عليه السلام :
كلّم القوم يا برير
وانصحهم!
فتقدم برير فقال: يا قوم
اتّقوا الله فإنّ ثقل
محمّد قد أصبح بين أظهركم،
هؤلاء ذريته وعترته
وبناته وحرمه، فهاتوا ما
عندكم وما الذي تريدون أن
تصنعوه بهم ؟
فقالوا: نريد أن نمكّن
منهم الأمير ابن زياد،
فيرى رأيه فيهم !
فقال لهم برير: أفلا
تقبلون منهم أن يرجعوا
إلى المكان الذي جاؤوا
منه ؟ ويلكم يا أهل
الكوفة أنسيتم كتبكم
وعهودكم التي أعطيتموها
وأشهدتم الله عليها، يا
ويلكم أدعوتم أهل بيت
نبيكم، وزعمتم أنكم
تقتلون أنفسكم دونهم، حتى
إذا أتوكم أسلمتموهم إلى
ابن زياد، وحلأتموهم عن
ماء الفرات!! بئس ما
خلفتم نبيكم في ذريته، ما
لكم لا سقاكم الله يوم
القيامة، فبئس القوم أنتم
!
فقال له نفر منهم: يا هذا
ما ندري ما تقول ؟ |
فقال برير: الحمد لله
الذي زادني فيكم بصيرة!!
اللهم إني أبرء إليك من
فعال هؤلاء القوم! اللهم
ألق بأسهم بينهم، حتى
يلقوك وأنت عليهم غضبان!
فجعل القوم يرمونه
بالسهام، فرجع برير إلى
ورائه.
ثم خطب زهير بن القين
فقال:
يا أهل الكوفة! نذارِ لكم
من عذاب الله نذارِ! إنّ
حقاً على المسلم نصيحة
أخيه المسلم، ونحن حتى
الآن إخوة، وعلى دين واحد
وملة واحدة، ما لم يقع
بيننا وبينكم السيف،
وأنتم للنصيحة منّا أهل،
فإذا وقع السيف انقطعت
العصمة وكنا أمة وأنتم
أمة.
إنّ الله قد ابتلانا
وإياكم بذرية نبيه محمّد
صلى الله عليه وآله وسلم
، لينظر ما نحن وأنتم
عاملون، إنا ندعوكم إلى
نصرهم وخذلان الطاغية
عبيدالله بن زياد، فإنكم
لا تدركون منهما إلا بسوء
عمر سلطانهما كله!
ليسملان أعينكم ويقطعان
أيديكم وأرجلكم، ويمثلان
بكم، ويرفعانكم على جذوع
النخل، ويقتلان أماثلكم
وقرّاءكم، أمثال حجر بن
عدي وأصحابه وهانيء بن
عروة وأشباهه.
فسبّوه وأثنوا على عبيد
الله بن زياد ودعوا له،
وقالوا: والله لا نبرح
حتى نقتل صاحبك ومن معه،
أو نبعث به وبأصحابه إلى
الأمير عبيدالله سلماً!
فقال لهم زهير: عباد الله
إن ولد فاطمة رضوان الله
عليها أحق بالود والنصر
من
ابن سمية، فإن لم تنصروهم
فأعيذكم بالله أن تقتلوهم،
فخلوا بين هذا الرجل وبين
ابن عمه يزيد بن معاوية،
فلعمري إنَّ يزيد ليرضى
من طاعتكم بدون قتل
الحسين عليه السلام !
فرماه شمر بن ذي الجوشن
بسهم، وقال: اسكت! أسكت
الله نأمتك! أبرمتنا
بكثرة كلامك! فقال له
زهير: يا ابن البوَّال
على عقبيه! ما إياك أخاطب!
إنما أنت بهيمة! والله ما
أظنك تحكم من كتاب الله
آيتين! فأبشر بالخزي يوم
القيامة والعذاب الأليم!
فقال له شمر: إن الله
قاتلك وصاحبك عن ساعة!
قال زهير: أفبالموت
تخوفني! فوالله للموت معه
أحب إلى من الخلد معكم!
ثم أقبل على الناس رافعاً
صوته فقال: عباد الله لا
يغرنكم من دينكم هذا
الجلف الجافي وأشباهه!
فوالله لا تنال شفاعة
محمّد صلى الله عليه وآله
وسلم قوماً أهرقوا دماء
ذريته وأهل بيته، وقتلوا
من نصرهم وذبَّ عن حريمهم.
فناداه رجل فقال له: إن
أبا عبد الله يقول لك
أقبل فلعمري لئن كان مؤمن
آل فرعون نصح لقومه وأبلغ
في الدعاء لقد نصحت
لهؤلاء وأبلغت لو نفع
النصح والإبلاغ
14.
ثم خطب الإمام الحسين
عليه السلام خطبة ثانية،
وقال:
" تبّاً لكم أيتها
الجماعة وترحا! حين
استصرختمونا والهين
فأصرخنا كم موجفين! سللتم
علينا سيفاً لنا في
أيمانكم! وحششتم علينا
ناراً اقتدحناها على
عدوّنا وعدوّكم! فأصبحتم
إلباً لأعدائكم على
أوليائكم، بغير عدل أفشوه
فيكم، ولا أمل أصبح لكم
فيهم! فهلّا لكم الويلات!
تركتمونا والسيف مشيم
والجأش طامن والرأي لمّا
يستحصف! ولكن أسرعتم
إليها كطيرة الدبى!
وتداعيتم إليها كتهافت
الفراش! فسحقاً يا عبيد
الأمّة، وشذاذ الأحزاب،
ونبذة الكتاب، ومحرّفي
الكلم، وعصبة الآثام،
ونفثة الشيطان، ومطفئي
السنن! أهؤلاء تعضدون
وعنّا تتخاذلون!!؟
أجل والله! الغدر فيكم
قديم! وشجت إليه أصولكم
وتأزرّت عليه فروعكم!
فكنتم أخبث ثمر! شجى
للناظر وأكلة للغاصب!
ألا وإنّ الدَّعي ابن
الدَّعي قد ركز بين
اثنتين، بين السلّة
والذلّة، وهيهات منَّا
الذلّة، يأبى الله لنا
ذلك ورسوله والمؤمنون،
وحجور طابت وطهرت، وأنوف
حمية، ونفوس أبية من أن
نؤثر طاعة اللئام على
مصارع الكرام! ألا وإنّي
زاحف بهذه الأسرة مع قلة
العدد وخذلة الناصر!
فـإن نُـهزم فـهزّامون
قـِدمـاً
وإن نُغلـب فغـير
مُغلَّبيـنا
ومـا إن طـبّنا جـُبنٌ
ولـكـن
منـايانا ودولــة
آخـريـنا
إذا مـا الـموت رفِّع عن
أُناس
كـلاكـله أنـاخ بآخـريـنا
فـأفنى ذلـكم سروات قومـي
كمـا أفنـى القرون
الأولينا
فلـو خلُد الـملوك إذاً
خلُدنا
ولـو بقي الكـرام إذاً
بقينا
فقـل للشامتيـن بنـا
أفــيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
ثم أَيمَّ الله لا تلبثون
بعدها إلا كريث ما يركب
الفرس، حتى تدور بكم دور
الرحى وتقلق بكم قلق
المحور، عهد عهده إليّ
أبي عن جدّي، فأجمعوا
أمركم وشركاءكم ثمَّ لا
يكن أمركم عليكم غمَّة ثمَّ
اقضوا إليّ ولا تنظرون،
إنِّي توكلت على الله ربي
وربكم ما من دابة إلا هو
آخذ بناصيتها إنَّ ربِّي
على صراطٍ مستقيم.
ثم رفع يديه نحو السماء
وقال:
"اللهمّ احبس عنهم قطر
السماء، وابعث عليهم سنين
كسنيِّ يوسف، وسلِّط
عليهم
غلامَ ثقيفٍ، يسقيهم كأساً
مصبَّرةً
15، والله لا
يدعُ أحداًً منهم إلا
انتقم لي منه قتلةً بقتلةٍ،
وضربةً بضربةٍ، وإنَّه
لينتصر لي ولأهل بيتي
وأشياعي. فإنّهم كذَّبونا
وخذلونا، وأنت رّبنا عليك
توكلنا، وإليك أنبنا
وإليك المصير".
ثم نزل عليه السلام ودعا
بفرس رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم المرتجز
فركبه وعبَّأ أصحابه
للقتال
16.
واستدعى الحسين عليه
السلام عمر بن سعد فدُعي
له، وكان كارهاً لا يحبُّ
أن يأتيه، فقال: "أي عمر!!
أتزعم أنّك تقتلني،
ويولّيك الدَّعي بلاد
الري
17 وجُرجان18، والله
لا تهنأ بذلك، عهدٌ معهود،
فاصنع ما أنت صانعٌ،
فإنّك لا تفرحُ بعدي
بدنياً ولا آخرةٍ، وكأنّي
برأسك على قصبة يتراماه
الصبيان بالكوفة،
ويتّخذونه غرضاً بينهم"...
فصرف بوجهه عنه مغضباً
19.
نشوب القتال
تقدم عمر بن سعد نحو جيش
الحسين عليه السلام ، ثم
نادى غلامه: يا ذويد(دريد)
!! أدن رايتك! فأدناها،
ثم وضع عمر سهمه في كبد
قوسه ثم رمى بسهم فقال:
اشهدوا ( لي عند الأمير)
أنّي أول من رمى
20، فرمى
أصحابه
21 كلهم بأجمعهم
في أثره رشقة واحدة
كأنَّها القطر
22، فما
بقي من أصحاب الحسين عليه
السلام أحد إلاّ
أصابه
من رميتهم سهم!
23 فقال
الإمام الحسين عليه
السلام لأصحابه: قوموا
يرحمكم الله إلى الموت
الذي لا بد منه فإنَّ هذه
السهام رسل القوم إليكم!!
توبة الحر
فلما رأى الحر بن يزيد
الرياحي أن القوم قد
صمموا على قتال الحسين
عليه السلام ، وكان قد
شاع في صفوف جيش ابن سعد
أن الإمام الحسين عليه
السلام عرض خصالاً على
عمر بن سعد أحدها أن
يتركوه يضع يده في يد
يزيد، وقد تقدم أن ذلك
ليس إلاّ كذبة ابتكرها
عمر بن سعد نفسه لكي ينجو
من التورط في قتل الحسين
عليه السلام ، وقد انتهت
هذه الكذبة عندما رفض
عبيد الله بن زياد اقتراح
عمر، فقد تقدم الحر من
ابن سعد وقال له: أي عمر،
أصلحك الله أمقاتل أنت
هذا الرجل؟
قال: إي والله!! قتالاً
أيسره أن تسقط الرؤوس
وتطيح الأيدي.
قال: أفما لكم في واحدة
من الخصال التي عرض عليكم
رضىً؟
قال عمر بن سعد: أما
والله لو كان الأمر إليّ
لفعلت ولكن أميرك قد أبى
ذلك.
فأقبل الحر حتى وقف من
الناس موقفاً، ومعه رجل
من قومه يقال له قرة بن
قيس، فقال يا قرة هل سقيت
فرسك اليوم؟
قال: لا.
قال الحر: فما تريد أن
تسقيه؟
قال قرة: فظننت والله أنه
يريد أن يتنحى فلا يشهد
القتال، وكره أن أراه حين
يصنع ذلك فيخاف أن أرفعه
عليه، فقلت له: لم أسقه
وأنا منطلق فساقيه.
فاعتزلت ذلك المكان الذي
كان فيه
24.
فأخذ الحر يدنو من حسين ٍقليلاً
قليلاًً، فقال له رجل من
قومه يقال له المهاجر بن
أوس: ما تريد يا ابن يزيد؟
أتريد أن تحمل؟
فسكت الحر وأخذه مثل
العرواء (الأفكل)، وهي
الرعدة !!
فقال له: يا ابن يزيد!
والله إن أمرك لمريب،
والله ما رأيت منك في
موقف قط مثل شيء أراه
الآن، ولو قيل لي من أشجع
أهل الكوفة رجلاًً ما
عدوتك، فما هذا الذى أرى
منك؟
قال الحر: إني والله
أخيّر نفسي بين الجنة
والنار!! ووالله لا أختار
على الجنة شيئاً ولو
قطِّعت وحرِّقت!!
ثم ضرب فرسه فلحق بالإمام
الحسين عليه السلام وهو
يقول:
" اللهم إليك أنيبُ فتب
عليَّ، فقد أرعبت قلوبَ
أوليائك، وأولاد نبيّك"
25.
ثم قال له: جعلني الله
فداك يا ابن رسول الله!
أنا صاحبك الذي حبستك عن
الرجوع، وسايرتك في
الطريق، وجعجعت بك في هذا
المكان، والله الذي لا
إله إلا هو ما ظننت أن
القوم يردّون عليك ما
عرضت عليهم أبداًً! ولا
يبلغون منك هذه المنزلة!
(فقلت في نفسي لا أبالي
أن أطيع القوم في بعض
أمرهم ولا يرون أنَّي
خرجت من طاعتهم وأما هم
فسيقبلون من حسين هذه
الخصال التي يعرض عليهم!)
والله لو ظننت أنهم لا
يقبلونها منك ما ركبتها
منك! وإني قد جئتك تائباً
مما كان مني إلى ربي
ومواسياً لك بنفسي حتى
أموت بين يديك! أفترى ذلك
لي توبة ؟؟
قال نعم يتوب الله عليك
26، أنت الحر كما سمتك
أمك، أنت الحر، إن شاء
الله، في الدنيا والآخرة..
إنزل..
قال: أنا لك فارساً خير
مني راجلاً أقاتلهم على
فرس ساعة وإلى النزول ما
يصير آخر أمري.
قال الحسين عليه السلام :
فاصنع يرحمك الله ما بدا
لك!
ثم استأذن الحر الحسين
عليه السلام في أن يُكلّم
أهل الكوفة، فأذن له،
فاستقدم أمام (الحسين)
أصحابه ثم قال: أيها
القوم ألا تقبلون من حسين
خصلة من هذه الخصال التي
عرض عليكم فيعافيكم الله
من حربه وقتاله؟
قالوا: هذا الأمير عمر بن
سعد فكلِّمه!
فكلّمه بمثل ما كلَّمه به
قبل وبمثل ما كلَّم به
أصحابه.
قال عمر: قد حرصت، لو
وجدت إلى ذلك سبيلاً فعلت!
فقال الحر: يا أهل الكوفة،
لأمكم الهبل والعبر! إذ
دعوتموه (أدعوتم هذا
العبد الصالح) حتى إذا
أتاكم أسلمتموه، وزعمتم
أنكم قاتلوا أنفسكم دونه
ثم عدوتم عليه لتقتلوه،
أمسكتم بنفسه وأخذتم
بكظمه
27، وأحطتم به من
كل جانب فمنعتموه التوجه
في بلاد الله العريضة،
حتى يأمن ويأمن أهل بيته،
وأصبح في أيدكم كالأسير
لا يملك لنفسه نفعاً ولا
يدفع عنها ضراً، وحلأتموه
28 ونساءه وصبيته وأصحابه
عن ماء الفرات الجاري...
وتمرغ فيه خنازير السواد
وكلابه! وهاهم قد صرعهم
العطش! بئسما خلفتم
محمّداً في ذريته، لا
أسقاكم الله يوم الظمأ
الأكبر (إن لم تتوبوا
وتنزعوا عما أنتم عليه من
يومكم هذا في ساعتكم هذه).
فحملت عليه رجالة لهم
ترميه بالنبل، فأقبل حتى
وقف أمام الحسين
29 عليه
السلام .
خروج مسروق بن وائل من
ساحة كربلاء
وكان مسروق بن وائل في
أوائل الخيل، ممن سار إلى
الحسين عليه السلام، فقال:
أكون في أوائلها لعلّي
أصيب رأس الحسين عليه
السلام فأصيب به منزلة
عند عبيد الله بن زياد !!
فلما انتهى إلى الحسين
عليه السلام تقدَّم رجل
من القوم يقال له عبد
الله ابن حوزة حتى وقف
أمام الحسين عليه السلام
فقال: أفيكم حسين ؟
فسكت الحسين عليه السلام
فقالها ثانية، فسكت، حتى
إذا كانت الثالثة، قال
الحسين عليه السلام :
قولوا له نعم ! هذا حسين،
فما حاجتك.
فقال ابن حوزة: يا حسين
أبشر بالنار !
قال الحسين عليه السلام : كذبت!! بل أقدم على ربٍّ
غفورٍ وشفيعٍ مطاع، فمن
أنت ؟
قال: ابن حوزة !!!
فرفع الحسين عليه السلام
يديه حتى رأينا بياض
إبطيه من فوق الثياب، ثم
قال: اللهم حزَّه إلى
النار!!
فغضب ابن حوزة فذهب ليقحم
إليه الفرس وبينه وبينه
نهر، فاضطرب به فرسه في
جدول فوقع فيه، وتعلقت
رجله اليسرى بالركاب
وارتفعت اليمنى ووقع رأسه
في الأرض، فشدَّ عليه
مسلم بن عوسجة فضرب رجله
اليمنى فطارت، ونفر الفرس
وعدا به فانقطعت قدمه
وساقه وفخذه وبقي جانبه
الآخر متعلقاً بالركاب،
فأخذه الفرس يمرّ به
فيضرب برأسه كل حجر وكل
شجرة حتى مات.
فرجع مسروق وترك الخيل من
ورائه، بعد أن رأى
الاستجابة الفورية لأهل
البيت
30 عليه السلام .
المبارزة الأولى
ثم برز يسار مولى زياد بن
أبي سفيان وسالم مولى
عبيد الله بن زياد، فقالا:
من يبارز ؟ ليخرج إلينا
بعضكم! فوثب حبيب بن
مظاهر وبرير بن خضير!
فقال لهما الحسين عليه
السلام : اجلسا! فقام عبد
الله بن عمير الكلبي فقال:
أبا عبد الله رحمك الله!
ائذن لي فلأخرج اليهما!!
فرأى الحسين عليه السلام
رجلاً آدم طويلاً شديد
الساعدين بعيد ما بين
المنكبين، فقال الحسين
عليه السلام : إني لأحسبه
للأقران قتّالاًً !! اخرج
إن شئت. فخرج إليهما.
فقالا له: من أنت؟ فانتسب
لهما.
فقالا: لا نعرفك!! ليخرج
إلينا زهير بن القين أو
حبيب بن مظاهر أو برير بن
خضير !! ويسار مستنتل
31 أمام سالم.
فقال له الكلبي: يا ابن
الزانية! وبك رغبة عن
مبارزة أحد من الناس؟!
وما يخرج إليك أحد من
الناس إلا وهو خير منك؟
ثم شدَّ عليه فضربه بسيفه
حتى برد، فإنه لمشتغل
بضربه إذ شدَّ عليه سالم
مولى عبيدالله بن زياد،
فصاح به أصحابه: قد رهقك
العبد !! فلم يأبه له حتى
غشيه فبدره ضربة اتَّقاها
ابن عمير بكفِّه اليسرى
فأطارت أصابع كفه ثمَّ شدَّ
عليه فضربه حتى قتله،
وأقبل وقد قتلهما جميعاً
وهو يقول:
إن تنكروني فأنا ابن كلب
حسبي
ببيتي في عُلَيمٍ
حسبي
إنّي امرؤ ذو مِرَّةٍ
وعصب ولـست بالخوّار عـند
الـنكب
إنّـي زعيم لـك أمَّ وهب بالـطّعن فيهم مُقدما
والـضرب
ضرب غلام مؤمن بالرب
فأخذت أم وهب امرأته
عموداً ثم أقبلت نحو
زوجها تقول له: فداك أبي
وأمي قاتل دون الطيبين
ذرية محمّد!
فأقبل إليها يردّها نحو
النساء، فأخذت تجاذب ثوبه!
ثم قالت: إني لن أدعك دون
أن أموت معك! فناداها
الحسين عليه السلام فقال:
"جزيتم من أهل بيت خيراًً،
إرجعي رحمك الله إلى
النساء فاجلسي معهن فإنّه
ليس على النساء قتال" ! فانصرفت اليهن
32.
الحملة الأولى
وحمل شمر بن ذي الجوشن في
ميسرة أهل الكوفة على
ميمنة الإمام الحسين عليه
السلام فثبتوا له فطاعنوه
وأصحابه، وحمل عمرو بن
الحجاج وهو في ميمنة أهل
الكوفة من نحو الفرات على
ميسرة الإمام الحسين عليه
السلام ، وهو يقول: يا
أهل الكوفة! الزموا
طاعتكم وجماعتكم، ولا
ترتابوا في قتل مَن مَرق
عن الدين وخالف الإمام !!
فقال له الحسين عليه
السلام : يا عمرو بن
الحجاج ! أَعليّ تحرّض
الناس؟ أنحن مرقنا وأنتم
ثبتم عليه ؟ أَما والله
لتعلمن لو قد قبضت
أرواحكم ومتّم على
أعمالكم أيّنا مرق من
الدّين، ومن هو أولى بصلي
النّار!.
فلما أن دنت خيل أهل
الكوفة من أصحاب الإمام
الحسين عليه السلام ثبتوا،
وجثوا
33 لهم على الركب،
وأشرعوا
34 الرماح نحوهم،
فلم تقدِم الخيل على
الرماح، فلما ذهبت الخيل
لترجع رشقهم أصحاب الحسين
عليه السلام بالنبل،
فصرعوا رجالاً وجرحوا
آخرين
35..
ثم حمل عمرو بن الحجاج في
أصحابه على الحسين عليه
السلام من نحو الفرات
فاقتتلوا ساعة، ثم انصرف
عمرو بن الحجاج وأصحابه،
وارتفعت الغبرة، فإذا هم
بمسلم
بن عوسجة الأسدي صريع،
فمشى إليه الحسين عليه
السلام فإذا به رمق، فقال:
"رحمك ربك يا مسلم ابن
عوسجة،"
﴿فَمِنْهُم
مَّن قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا﴾
36!
ودنا منه حبيب ابن مظاهر،
فقال: عزّ عليّ مصرعك يا
مسلم! أبشر بالجنة!
فقال له مسلم، قولاً
ضعيفاً: بشَّرك الله بخير!
فقال له حبيب: لولا أني
أعلم أني في أثرك لاحق بك
من ساعتي هذه لأحببت أن
توصيني بكل ما أهمك، حتى
أحفظك في كل ذلك بما أنت
أهل له في القرابة والدين!
قال: بل أنا أوصيك بهذا
رحمك الله، وأهوى بيده
إلى الحسين، أن تموت دونه!
قال حبيب: أفعل وربّ
الكعبة!
فما كان بأسرع من أن مات
في أيديهم
37، وكان أول
38 شهيد من أصحاب الحسين
عليه السلام .. وصاحت
جارية له فقالت: يا ابن
عوسجتاه يا سيداه !!
فتنادى أصحاب عمرو بن
الحجاج: قتلنا مسلم ابن
عوسجة الأسدي.
فقال شبث لبعض من حوله من
أصحابه: ثكلتكم أمهاتكم!
إنما تقتلون أنفسكم
بأيديكم وتذللون أنفسكم
لغيركم! تفرحون أن يقتل
مثل مسلم بن عوسجة؟ أما
والذي أسلمت له، لربَّ
موقفٍ له قد رأيته في
المسلمين كريم! لقد رأيته
يوم سلق آذربيجان قتل ستة
من المشركين قبل تَتَامّ
خيول المسلمين!! أفيقتل
منكم مثله وتفرحون ؟.
وكان الذي قتل مسلم بن
عوسجة، مسلم بن عبد الله
الضبابي وعبد الرحمن ابن
أبي خشكارة البجلي
39.
وحمل شمر بن ذي الجوشن في
ميسرة عمر بن سعد على
ميمنة الإمام الحسين عليه
السلام وأصحابه، فثبتوا
له فطاعنوه وأصحابه،
وقاتل عبد الله بن عمير
الكلبي قتالاًً شديداًً،
فقتل رجلين آخرين من
أصحاب شمر، فحمل عليه
هانيء بن ثبيت الحضرمي
وبكير بن حي التيمى
فقتلاه، وكان الشهيد
الثاني من أصحاب الحسين
عليه السلام . وخرجت
امرأة الكلبي تمشي إلى
زوجها، حتى جلست عند رأسه
تمسح عنه التراب، وتقول:
هنيئاً لك الجنة، فقال
شمر بن ذي الجوشن لغلام
يسمى رستم: اضرب رأسها
بالعمود، فضرب رأسها
فشدخه، فماتت مكانها
40.
استشهاد مجموعة الصيداوي
بكاملها
وفي أول الحملة الأولى،
وما أن نشب القتال، حتى
شدَّ الصيداوي عمرو بن
خالد، وجنادة بن الحارث
السلماني41، ومجمع بن عبد
الله العائذي، وابنه عائذ،
وسعد مولى عمر بن خالد،
وواضح مولى الحرث، مقدمين
بأسيافهم على أهل الكوفة،
فلما وغلوا عطف عليهم
أصحاب عمر بن سعد فأخذوا
يحوزونهم وقطعوهم من
أصحابهم غير بعيد، فحمل
عليهم العباس بن علي عليه
السلام ، فاستنقذهم
فجاؤوا قد جرّحوا، فلما
دنا منهم عدوهم شدّوا
بأسيافهم فقاتلوا حتى
قتلوا في مكان واحد
42.
الهجوم المعاكس لأنصار
الإمام الحسين عليه
السلام
ثم حمل أصحاب الحسين عليه
السلام حملة واحدة
43،
وقاتلوهم قتالاً شديداًً،
وأخذت خيلهم تحمل، وإنما
هم اثنان وثلاثون فارساً،
وأخذت لا تحمل على جانب
من خيل أهل الكوفة إلا
كشفته.
مقدمة جيش ابن سعد تطلب
النجدة
فلما رأى عزرة بن قيس،
وهو على خيل أهل الكوفة،
أن خيله تنكشف من كل جانب،
ورأى الوهنَ في أصحابه
والفشل كلّما يحملون، بعث
إلى عمر بن سعد عبدَ
الرحمن بنَ حصن فقال: أما
ترى ما تلقى خيلي منذ
اليوم من هذه العدة
اليسيرة؟
ابعث إليهم الرجال
والرماة!! فقال عمر بن
سعد لشبث بن ربعي: ألا
تقدم إليهم؟
فقال: سبحان الله أتعمد
إلى شيخ مصر وأهل مصر
عامة تبعثه في الرماة ؟؟
لم تجد من تندب لهذا
ويجزي عنك غيري
44 ؟
وكان الحصين بن نمير
السكوني على شرطة
عبيدالله بن زياد، فبعثه
إلى الحسين عليه السلام ،
وكان مع عمر بن سعد،
فاستدعاه، فبعث معه
المجفّفة
45 وخمسمائة من
المرامية، فأقبلوا حتى
إذا دنوا من الحسين عليه
السلام وأصحابه رشقوهم
بالنبل، واشتدَّ القتال،
وأكثر أصحاب الحسين فيهم
الجراح، فلم يلبثوا أن
عقروا خيولهم فصاروا
رجالة كلهم
46.
وصول أوباش الكوفة إلى
قلب معسكر الإمام الحسين
عليه السلام
ثم حمل الشِّمر في جماعة
من أصحابه على ميسرة
الحسين عليه السلام حتى
طعن فسطاط الحسين برمحه،
ونادى عليّ بالنار حتى
أحرق هذا البيت على أهله.
فصاح النساء وخرجن من
الفسطاط، وصاح به الحسين
عليه السلام : يا ابن ذي
الجوشن، أنت تدعو بالنّار
لتحرق بيتي على أهلي،
حرقك الله بالنّار!
فحمل عليه زهير بن القين
في عشرة رجال من أصحابه،
فشدَّ على شمر بن ذي
الجوشن وأصحابه، فكشفهم
عن البيوت
47 حتى ارتفعوا
عنها، وصرعوا أبا عزة
الضبابي فقتلوه وكان من
أصحاب شمر
48.
وقاتلوهم حتى انتصف
النهار أشد قتال خلقه
الله! فلم يقدروا أن
يأتوهم من وجهٍ واحدٍ
لتقارُب أبنيتهم، فأرسل
ابن سعدٍ الرجال
ليقوِّضوها
49 عن أيمانهم
وعن شمائلهم ليحيطوا بهم،
فأخذ الثلاثة والأربعة من
أصحاب الحسين يتخلّلون
البيوت فيشدّون على الرجل
وهو ينهب فيقتلونه،
ويرمونه من قريب فيعقرونه.
فقال ابن سعدٍ: احرقوها
بالنار، فأضرموا فيها
النار، فصاحت النساء
ودُهِشت الأطفال، فقال
الحسين عليه السلام : دعوهم فليحرقوها! فإنّهم
لو قد حرقوها لم يستطيعوا
أن يجوزوا إليكم منها!
وكان ذلك كذلك
50 وأخذوا
لا يقاتلونهم إلا من وجه
واحد.
وأحاط جيش عمر بن سعد
بأصحاب الإمام الحسين
عليه السلام وبمعسكره من
كل جانب، وتعطفوا عليهم
من كل جهة وبجميع الأسلحة،
واستعر القتال، وتفوّقت
الكثرة عدداً وعدةً
وكثافةً في الرماية على
القلّة، وأخذ أصحاب
الإمام الحسين عليه
السلام يستشهدون واحداً
تلو الآخر، فكان إذا قتل
الرجل أو الرجلان من
أصحاب الإمام عليه السلام
يبين ذلك فيهم لقلتهم،
ولا يبين القتل في جيش
عمر بن سعد لكثرتهم.
وانجلت غبرة الحملة
الأولى عن تسعة وخمسين
صريعاً
51 من أصحاب
الحسين عليه السلام .
فعندها ضرب الحسين عليه
السلام بيده على لحيته
وجعل يقول:
"اشتدَّ غضب الله تعالى
على اليهود والنصارى إذ
جعلوا له ولداًً! واشتدَّ
غضب
الله تعالى على النصارى
إذ جعلوه ثالث ثلاثة!
واشتدَّ غضب الله تعالى
على المجوس إذ عبدوا
الشمس والقمر دونه! واشتدَّ
غضب الله تعالى على قوم
اتفقت آراؤهم(كلمتهم) على
قتل ابن بنت نبيّهم! (أما)
والله لا أجيبهم إلى شيء
مما يريدونه أبداًً حتى
ألقى الله وأنا مخضّب
بدمي
52!
ثم صاح عليه السلام : أما
من مغيث يُغيثنا لوجه
الله تعالى؟ أما من ذابٍّ
يذبّ عن حرم رسول الله
53؟"
وهنا أنزل الله تعالى
النصر على الحسين عليه
السلام ، حتى كان ما بين
السماء والأرض، ثم خيّر:
النصر أو لقاء الله،
فاختار لقاء الله
54!
شهداء الحملة الأولى
تضاربت جداًً أرقام
وأسماء شهداء معركة الطف،
وخصوصاً شهداء الحملة
الأولى، وتداخلت مع أسماء
الشهداء الذين سقطوا
مبارزة بعد الحملة الأولى.
وقد ذكرنا هنا أسماء
شهداء الحملة الأولى التي
استفدناها من جملة من كتب
التراجم والتواريخ، مع
ملاحظة أن يكون بعضهم
مكرراً نتيجة للتصحيف
الذي تقع فيه كتب التاريخ
بسبب عملية النسخ، أو أن
يكون بعضهم ذكر في بعض
المصادر الأخرى ممن
استشهد في المبارزة. وهم:
الحبّاب بن عامر
التميمي
55 - الحُلاس بن
عمرو الراسبي الأزدي –
النعمان بن عمرو الراسبي
الأزدي – الأدهم بن أميّة
العبدي البصري – أم وهب
زوج عبد الله بن عمير
الكلبي – أمية بن سعد
الطائي – القاسم بن حبيب
بن أبي بشر
الأزدي
– الحجاج بن بدر التميمي
السعدي
56 – أسلم بن عمرو
التركي مولى الحسين عليه
السلام
57 – الحارث بن
امرء القيس الكندي
58 – الحرث بن نبهان مولى حمزة
عليه السلام – بشر بن
عمرو بن الأحدوث الحضرمي
الكندي
59 – جبلة بن علي
الشيباني
60 – جندب بن
حجير الكندي– جنادة بن
كعب بن الحرث الأنصاري -
جوين بن مالك التيمي
61 – جنادة بن الحرث المذحجي
السلماني – جون بن حويّ،
مولى أبي ذرّ
62 – جابر
بن الحجّاج مولى عامر بن
نهشل التيمي
63 – حنظلة
بن عمرو الشيباني
64 – حجير بن جندب بن حجير
الكندي
65- زاهر بن عمرو
الكندي، صاحب عمرو بن
الحمق - زهير بن سليم
الأزدي – زهير بن بشر
الخثعمي
66- سالم بن عمرو
67 - سالم مولى عامر بن
مسلم - سوار بن أبي عمير
النهمي
68 - سيف بن مالك
العبدي البصري
69– سعد
مولى عمرو بن خالد
الصيداوي – سعد بن الحرث
مولى علي عليه السلام
70
– شبيب مولى الحرث بن
سريع الهمداني الجابري
71
– شبيب بن عبد الله
النهشلي
72 -ضرغامة بن
مالك التغلبي
73 – عامر
بن مسلم العبدي البصري –
عائذ بن مجمع بن عبد الله
العائذي – عبد الرحمن بن
عبد الله الأرحبي
74 – عبد الله بن بشر الخثعمي
75– عبيد الله بن يزيد
العبدي البصري – عبد الله
بن يزيد العبدي البصري –
عبد الرحمن بن عبد ربّ
الأنصاري
76 - عبد الله
بن عروة الغفاري
77 – عبد
الرحمن بن مسعود بن
الحجّاج
78 - عبد الله بن
عمير الكلبي – عمراًن بن
كعب بن حارث الأشجعي
79–
عمرو بن ضبعة الضبعي
80 - عمرو الجندعي
81 – عمّار
الدالاني – عمرو بن خالد
الأسدي الصيداوي
82- عمار
بن حسان الطائي – قارب بن
عبد الله الدئلي – قاسط
بن زهير التغلبي– كنانة
بن عتيق التغلبي
83 – مسلم بن كثير الأزدي –
مسلم بن
عوسجة الأسدي – مسعود بن
الحجّاج التيمي – مسقط بن
زهير التغلبي – مجمع بن
عبد الله العائذي – منجح
بن سهم مولى الحسين عليه
السلام
84 – نصر بن أبي
نيزر مولى علي عليه
السلام
85 – نعيم بن
عجلان.
وتعطف الناس على الباقين
من أصحاب الإمام الحسين
عليه السلام ، فكثروهم،
فإذا قتل منهم الرجل
والرجلان تبين فيهم،
وأولئك كثير لا يتبين
فيهم ما يقتل منهم.
الصلاة الأخيرة يوم
عاشوراء
فلما رأى ذلك أبو ثمامة،
عمرو ابن عبد الله
الصائدي، قال للحسين عليه
السلام : يا أبا عبد الله
! نفسي لك الفداء، إني
أرى هؤلاء قد اقتربوا منك،
ولا والله لا تقتل حتى
أقتل دونك إن شاء الله،
وأحب ان ألقى ربى وقد
صليت هذه الصلاة التي قد
دنا وقتها!!
فرفع الحسين عليه السلام
رأسه ثم قال:
ذكرت الصلاة، جعلك الله
من المصلين الذاكرين، نعم!!
هذا أول وقتها، سلوهم أن
يكفوا عنا حتى نصلي!!
شهادة حبيب بن مظاهر
فقال لهم الحصين بن
النمير السكوني: إنها لا
تقبل !!
فقال له حبيب بن مظاهر:
لا تقبل!! زعمت الصلاة من
آل رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لا تقبل
وتقبل منك...!؟
فحمل عليهم الحصين بن
النمير السكوني، وخرج
إليه حبيب بن مظاهر فضرب
وجه فرسه بالسيف، فشب
ووقع عنه، وحمله أصحابه
فاستنقذوه.
وأخذ حبيب يقاتل قتالاً
شديداًً، فحمل عليه رجل
من بني تميم فضربه حبيب
بالسيف على رأسه فقتله
86، وحمل عليه آخر من بني
تميم فطعنه فوقع حبيب،
فذهب ليقوم فضربه الحصين
بن النمير السكوني على
رأسه بالسيف فوقع، ونزل
إليه التميمي فاحتزّ رأسه.
فقال له الحصين: إني
لشريكك في قتله!
فقال التميمي: والله ما
قتله غيري!
فقال الحصين: أعطنيه
اعلقه في عنق فرسي كيما
يرى الناس ويعلموا أني
شركت في قتله، ثم خذه أنت
بعد فامض به إلى عبيدالله
بن زياد، فلا حاجة لي
فيما تعطاه على قتلك إياه!
فأبى عليه، فأصلح قومه
فيما بينهما على هذا !!
فدفع إليه رأس حبيب بن
مظاهر، فجال به في العسكر
قد علقه في عنق فرسه، ثم
دفعه بعد ذلك إليه، فلما
رجعوا إلى الكوفة أخذ
الآخر رأس حبيب فعلقه في
لبان فرسه ثم أقبل به إلى
ابن زياد في القصر.
ولما قتل حبيب ابن مظاهر
هدَّ ذلك حسيناًً عليه
السلام وقال:
"عند الله أحتسب نفسي
وحماة أصحابي"
87.
أداء الصلاة الأخيرة
وشهادة سعيد بن عبد الله
الحنفي
وقام الإمام الحسين عليه
السلام إلى الصلاة، فصلّى
بمن بقي من أصحابه صلاة
الخوف
88، ويقال بل صلّى
وأصحابُه فرادى بالإيماء
89. وتقدّم أمامه زهير بن
القين وسعيد بن عبد الله
الحنفي في نصفٍ من أصحابه
90، ووُصِلَ إلى الحسين،
فاستقدم الحنفي أمامه،
فاستُهدِفَ لهم يرمونه
بالنبل يميناًً وشمالاًً
قائماً بين يديه، فما زال
يرمي حتى سقط
91 إلى
الأرض وهو يقول: اللهم
العنهم لعن عاد وثمود!
اللهم أبلغ نبيك عني
السلام! وأبلغه ما لقيت
من ألم الجراح، فإني أردت
بذلك نصرة نبيك
92.
ثم التفت إلى الإمام
الحسين عليه السلام فقال:
أوفيت يا ابن رسول الله
؟؟
فقال عليه السلام : نعم!!
أنت أمامي في الجنة!
ثم فاضت نفسه.
ولما نظر من بقي من أصحاب
الحسين عليه السلام إلى
كثرة من قتل منهم، أخذ
الرجلان والثلاثة
والأربعة يستأذنون الحسين
عليه السلام في الذبّ عنه.
ثم أخذوا بعد أن قلَّ
عددهم وبان النقصُ فيهم
يبرز الرجلُ بعد الرجلِ،
فأكثروا القتل في أهل
الكوفة، وكان كل من أراد
الخروج ودّعَ الحسين عليه
السلام بقوله: السلامُ
عليك يا ابن رسول الله،
فيُجيبُه الحسين: وعليك
السلام، ونحن خلفك، ثم
يقرأ:﴿فَمِنْهُم
مَّن قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا﴾.
93
وكان الحر بن يزيد
الرياحي أول من برز من
أصحاب الحسين عليه السلام
، فقال له: يا ابن رسول
الله! كنت أول خارج عليك،
فأذن لي أن أكون أول قتيل
بين يديك،
فلعلّي
أن أكون أوّل من يصافح
جدّك محمّداً غداًً في
القيامة!!
وتقدم إلى قتال القوم،
وأخذ يرتجز ويقول:
آلـيت لا أقـتل حـتى
أقــتلا ولن أصاب اليوم
إلا مقبلا
أضربهم بالسيف ضرباً
مقصلا لا ناكلاً عـنهم
ولا مـهللا
وأخذ يقول أيضاً:
أضرب في أعراضهم بالسيف
عن خير من حلَّ منى
والخيف
فقاتل هو وزهير بن القين
قتالاً شديداًً، فكان إذا
شدَّ أحدهما، فإن استلحم،
شدَّ الآخر حتى يخلصه
ففعلا ذلك ساعة.
وكان رجل من أهل الكوفة
يقال له يزيد بن سفيان قد
قال: أما والله لو أني
رأيت الحر بن يزيد حين
خرج لأتبعته السنان،
فبينا الناس يتجاولون
ويقتتلون والحر بن يزيد
يحمل على القوم مقدماً
ويتمثل قول عنترة:
ما زلـت أرميهـم بثغــرة
نحـره ولبانـه
94 حتـى
تسـربل بالـدم
وإن فرسه لمضروب على
أذنيه وحاجبه وإن دماءه
لتسيل، فقال الحصين بن
نمير ليزيد بن سفيان: هذا
الحر بن يزيد الذي كنت
تتمنى، قال: نعم!
فخرج إليه، فقال له: هل
لك يا حر بن يزيد في
المبارزة؟
قال: نعم قد شئت !!
فبرز له، فكأنما كانت
نفسه في يده فما لبث الحر
حين خرج إليه أن قتله.
95
ورمى أحد أصحاب عمر بن
سعد فرس الحر بسهم، فما
لبث أن أرعد الفرس واضطرب
وكبا، فوثب عنه الحر كأنه
ليث والسيف في يده وهو
يقول:
96
إن تعقروا بي فأنا ابن
الحر أشجع من ذي لبد هزبر
فما رُئيَ أحد قط يفري
فريه.
وقد روى الشيخ الصدوق أنه
قتل منهم ثمانية عشر رجلاًً
97. ثم إن رجالة شدَّت
على الحر بن يزيد فقتل
98، فاحتمله أصحاب الحسين
عليه السلام حتى وضعوه
بين يديه وبه رمق، فجعل
الحسين عليه السلام يمسح
وجهه ويقول:
أنت الحر كما سمتك أمّك!
وأنت الحر في الدنيا،
وأنت الحر في الآخرة
99.
ثم برز يزيد بن زياد بن
مهاصر الكندي
100، وهو
أبو الشعثاء الكندي، فجثى
على ركبتيه بين يدي
الحسين عليه السلام ،
فرمى بمائة سهم ما سقط
منها إلا خمسة أسهم، وكان
رامياً. والإمام الحسين
عليه السلام يقول: اللهم
سدد رميته، واجعل ثوابه
الجنة.
فلما رمى بها قام فقال:
ما سقط منها إلا خمسة
أسهم، ولقد تبيّن لي أنّي
قد قتلتُ خمسة نفر. فلم
يزل يقاتل حتى قُتل رضوان
الله عليه
101 "وكان في
أول من قُتل"
102.
واستأذن الصحابي الجليل
أنس بن الحارث الكاهلي
103 الإمام الحسين عليه
السلام لمبارزة الأعداء
فأذن له، "وبرز شادّاً
وسطه بالعمامة، رافعاً
حاجبيه بالعصابة،
ولما نظر إليه الحسين
عليه السلام بهذه الهيئة
بكى وقال: شكر الله لك يا
شيخ، فقاتل حتى قتل
104.
وبرز وهب بن وهب، وكان
نصرانياً أسلم على يد
الحسين عليه السلام هو
وأمه، فأتبعوه إلى كربلاء،
فركب فرساً وتناول بيده
عمود الفسطاط، فقاتل، ثم
استؤسر فأُتي به عمر بن
سعد لعنه الله، فأمر بضرب
عنقه، ورمي به إلى عسكر
الحسين عليه السلام ،
وأخذت أمّه سيفه وبرزت،
فقال لها الحسين عليه
السلام :
يا أم وهب! اجلسي فقد وضع
الله الجهاد عن النساء،
إنَّك وابنك مع جدي محمّد
صلى الله عليه وآله وسلم
في الجنة"
105.
ثم برز الحجاج بن مسروق
المذحجي الجعفي، وهو يقول:
أقـدم حسين هـاديـاً
مهديّـا اليـوم نلقـى
جدَّك النبيّـا
ثــم أبـاك ذا العُــلا
عـليّـا والحسن الخير
الرضا الوليّا
وذا الجناحيـن الفتى
الكمـّا وأسد الله الشهيد
الحـيّـــا
106
ثم حمل فقاتل حتى قُتل
107، وكان مؤذِّن الإمام
الحسين عليه السلام في
أوقات الصلاة، وخرج من
الكوفة إلى الإمام عليه
السلام والتحق به في مكة
المكرمة.
وتقدم زهير بن القين وضرب
على منكب الحسين
108 وقال:
أقـدم هُديتَ
109 هاديـاً
مهديـا فاليـوم نلقـــى
جـدّك النـبـيا
وحـسنـــاً
والمرتــضـى عـليـا وذا
الجـناحـين الفـتـى
الكميـا
وأسـد الله الشـهيــد
الحــيــا
ثم أخذ يقاتل قتالاًً
شديداًً، وهو يقول:
أنا زهير وأنا ابن القين
أذودهم بالسيف عن حسينِ
فشدّ عليه كثير بن عبد
الله الشعبي، ومهاجر بن
أوس، فقتلاه.
110
فقال الحسين عليه السلام
حين صُرع زهير: لا
يبعدنّك الله يا زهير!
ولعن الله قاتلك لعن
الذين مسخهم قردة وخنازير."
111
وكان سلمان بن مضارب
البجلي مع ابن عمه زهير
في سفر الحجّ سنة ستين
للهجرة، ولما مال زهير في
الطريق إلى الإمام عليه
السلام وانضم إليه، مال
معه ابن عمّه سلمان هذا
وانضم إلى الإمام عليه
السلام أيضاً، واستشهد في
كربلاء، ولعله قتل مع
زهير
112.
ثم برز أبو ثمامة الصائدي
وقال:
عـزاءً لآل المصطفــى
وبنـاتـه على حبس خير
الناس سبط محمّد
عـزاءً لزهـراء النبـي
وزوجـها خـزانة علـم الله
مـن بعـد أحمـد
عزاءً لأهل الشرق والغرب
كلهم وحزناً على حبس
الحسين المسدد
فـمن مـبلغ عنـي الـنبي
وبنـته بأن ابنكم في مجهد
أيّ مجهد"
113
ثم إن أبا ثمامة قال
للحسين عليه السلام ، وقد
صلّى: يا أبا عبد الله
إني قد هممت أن ألحق
بأصحابي، وكرهت أن أتخلّف
وأراك وحيداً من أهلك
قتيلاً. فقال له الحسين
عليه السلام : تقدم فإنا
لاحقون بك عن ساعة.
فتقدم فقاتل حتى أُثخن
بالجراحات، فقتله قيس بن
عبد الله الصائدي ابن عم
له،
وكان له عدواً
114. ولكن
الطبري يذكر أن أبا ثمامة
الصائدي هو الذي قتل ابن
عم له وكان عدواً له!
115.
وخرج يزيد بن معقل، فقال
يا برير بن خضير كيف ترى
الله صَنَعَ بك؟ قال:
صَنَعَ الله والله بي
خيراًً، وصَنَعَ الله بك
شراً!
قال: كذبت وقبل اليوم ما
كنت كذَّاباً ! هل تذكر
وانا أُماشيك في بني
لوذان وأنت تقول إن عثمان
بن عفان كان على نفسه
مسرفاً، وإن معاوية بن
أبي سفيان ضالٌ مضلٌ، وإن
امام الهدى والحق علي بن
أبي طالب ؟؟
فقال له برير: أشهد أنَّ
هذا رأيي وقولي ؟
فقال له يزيد بن معقل:
فإني أشهد أنك من الضالين.
فقال له برير بن خضير: هل
لك فلأباهلك ولندع الله
أن يلعن الكاذب وأن يقتل
المبطل ثم اخرج فلأبارزك
؟
فخرجا فرفعا أيديهما إلى
الله يدعوانه أن يلعن
الكاذب وأن يقتل المحق
المبطل، ثم برز كل واحد
منهما لصاحبه، فاختلفا
ضربتين، فضرب يزيد بن
معقل برير بن خضير ضربةً
خفيفةً لم تضره شيئاًً،
وضربه برير بن خضير ضربةً
قدَّت المغفر وبلغت
الدماغ، فخرَّ كأنمَّا
هوى من حالق، وإن سيف ابن
خضير لثابت في رأسه وهو
ينضنضه من رأسه.
وحمل عليه رضي بن منقذ
العبدي، فاعتنق بريراً،
فاعتركا ساعة، ثم إن
بريراً قعد على صدره فقال
رضي: أين أهل المصاع
116 والدفاع ؟
فذهب كعب بن جابر الأزدي
ليحمل عليه، فقيل له: إن
هذا برير بن خضير القارئ
الذى كان يقرئنا القرآن
في المسجد !! فحمل عليه
بالرمح حتى وضعه في ظهره
فلما
وجد
مس الرمح برك عليه فعض
بوجهه وقطع طرف أنفه،
فطعنه كعب بن جابر حتى
ألقاه عنه وقد غيب السنان
في ظهره، ثم أقبل عليه
يضربه بسيفه حتى قتله.
فلما رجع كعب بن جابر
قالت له امرأته أو أخته
النوار بنت جابر: أعنت
على ابن فاطمة، وقتلت سيد
القراء!! لقد أتيت عظيماً
من الأمر والله لا أكلمك
من رأسي كلمةً أبداً
117.
وخرج عمرو بن قرظة
الأنصاري يقاتل دون
الحسين عليه السلام وهو
يقول:
قــد علمــت كتيـبة
الأنصــارِ أنّـي
سـأحــمـي حــوزة
الـذّمار
ضـرب غلام غير نكـسٍ شـار
دون حسـين مـهجـتي
وداري"118
وكان عليّ بن قرظة أخوه
مع عمر بن سعد! فنادى: يا
حسين! أضللت أخي وغررته
حتى قتلته!؟ قال: إن الله
لم يُضل أخاك ولكنه هدى
أخاك وأضلك!
قال: قتلني الله إن لم
أقتلك أو أموت دونك! فحمل
عليه، فاعترضه نافع بن
هلال الجملي المرادي
فطعنه فصرعه، فحمله
أصحابه فاستنقذوه فدوويَ
بعدُ فبرئ
119.
وكان نافع بن هلال الجملي
قد كتب اسمه على أفواق
نبله، فجعل يرمي بها
مسمومة وهو يقول:
أرمي بها معلّمةً أفواقها
مسمومة تجري بها أخفاقها
يملأنّ أرضها رشاقها
والنفس لا ينفعها إشفاقها
فقتل اثني عشر رجلاًً من
أصحاب عمر بن سعد سوى من
جرح! حتى إذا فنيت نباله
جرّد فيهم سيفه، فحمل
عليهم وهو يقول:
أنــا
ابــن هـلال
120 الجملي
أنـا عـلى ديــن علــي
فبرز إليه مزاحم بن حريث
فقال له: أنا على دين
عثمان، فقال له نافع: أنت
على دين شيطان، وحمل عليه
فقتله.
فصاح عمرو بن الحجاج
بأصحابه: يا حمقى!!
أتدرون من تُقاتلون؟
تُقاتلون فرسان المِصر
وأهل البصائر وقوماً
مستميتين، لا يبرزُ إليهم
أحدٌ منكم إلا قتلوه على
قِلّتهم، والله لو لم
ترموهم إلا بالحجارة
لقتلتموهم.
فقال عمر بن سعد: صدقت،
الرأيُ ما رأيت، أرسل في
الناس من يعزم عليهم أن
لا يبارزهم رجل منهم، ولو
خرجتم إليهم وحداناً
121 لأتوا عليكم
122.
فتواثبوا عليه وأطافوا به
يضاربونه بالحجارة
والنصال حتى كسروا عضديه،
فأخذوه أسيراً، فأمسكه
شمر بن ذي الجوشن، ومعه
أصحاب له يسوقون نافعاً
حتى أتي به عمر بن سعد،
فقال له عمر بن سعد: ويحك
يا نافع ما حملك على ما
صنعت بنفسك؟؟
قال، والدماء تسيل على
لحيته: إن ربي يعلم ما
أردت، والله لقد قتلت
منكم اثني عشر سوى من
جرحت، وما ألوم نفسي على
الجهد، ولو بقيت لي عضد
وساعد ما أسرتموني!
فقال شمر لعمر بن سعد:
أقتله أصلحك الله !!
قال: أنت جئت به !! فإن
شئت فأقتله !!
فانتضى شمر سيفه، فقال له
نافع: أما والله أن لو
كنتَ من المسلمين لعظم
عليك أن تلقى الله
بدمائنا، فالحمد لله الذى
جعل منايانا على يدي شرار
خلقه!! فقتله شمر لعنه
الله
123!!
واستأذن يزيد بن مغفل
الجعفي الحسين عليه
السلام في البراز فأذن له،
فتقدّم وهو يقول:
أنـا يزيـد وأنـا بـن
مغفــل
وفي يميني نصل سيف
منجل
أعلو به الهامات وسط
القسطل
عن الحسين المـاجد
المفضّل
ثم قاتل حتى قُتل"
124.
وكان الموقّع
125 بن
ثمامة الأسدي الصيداوي
ممن جاء إلى الحسين عليه
السلام في الطفّ، وخلص
إليه ليلاً مع من خلص،
فنثر نبله وجثا على
ركبتيه فقاتل، فصُرع
فجاءه نفر من قومه
فاستنقذوه وقالوا له: أنت
آمن ! أخرج إلينا، فخرج
إليهم، وأتوا به إلى
الكوفة فأخفوه، فلمّا قدم
عمر بن سعد على ابن زياد
وأخبره خبره أرسل إليه
ليقتله، فشفع فيه جماعة
من بني أسد، فلم يقتله
ولكن كبّله بالحديد ونفاه
إلى الزارة
126، وكان
مريضاً من الجراحات التي
به، فبقي في الزارة مريضاً
مكبّلاً حتى مات بعد سنة
127.
وكان جنادة بن كعب بن
الحرث الأنصاري الخزرجي
ممّن قتل في الحملة
الأولى من أصحاب الحسين
عليه السلام
128، وكان قد
صحب الإمام عليه السلام
من مكة، وجاء معه أهله
وابنه عمرو وهو ابن إحدى
عشر سنة
129، فقالت له
أمه: يا بني اخرج فقاتل
بين يدي ابن رسول الله
حتى تُقتل! فخرج
فقال الحسين عليه السلام
: هذا شابٌ قُتل أبوه،
ولعلّ أمه تكره خروجه،
فقال الشاب: أمي أمرتني
يا ابن رسول الله! فخرج
وهو يقول:
أميري حسين ونعم الأمير
سرور فؤاد البشير النذير
علـيٌّ وفاطمـة والـداه
فهل تعلمون له من نظير
ثم قاتل فقُتِل، وحُزَّ
رأسه ورمي به إلى عسكر
الحسين، فأخذت أمه رأسه
وقالت له: أحسنت يا بني!
يا قُرة عيني وسرور قلبي!
ثمّ أخذت عمود خيمة وحملت
على القوم وهي تقول:
أنا عجوز في النسا ضعيفة
باليـة خـاويـة نحيفـة
أضربكـم بضربـة عنيفة دون
بني فاطمة الشريفـة
فأمر الحسين عليه السلام
بصرفها ودعا لها"
130.
فلما رأى أصحاب الحسين
أنهم قد كُثروا، وأنهم لا
يقدرون على أن يمنعوا
حسيناًً ولا أنفسهم
تنافسوا في أن يُقتلوا
بين يديه، فجاءه عبد الله
وعبد الرحمن إبنا عزرة (أو
عروة)
131 الغفاريان، فقالا: يا أبا عبد الله،
عليك السلام! حازنا العدوّ
إليك فأحببنا أن نُقتل
بين يديك، نمنعك وندفع
عنك!
قال: مرحباًً بكما أُدنوا
منّي!
فدنوا منه، فجعلا يقاتلان
قريباً منه، وأحدهما يقول:
قـد علمـتْ حقـاً بنو
غِفــار
وخــــنــدفٌ
بـعـد بـنـي نزار
لنضربنّ مـتعشر
الـــفـُجّـار
بكــل عــــضبٍ
صـارمٍ بتّــارِ
يا قوم ذودوا عن بني
الأحرار
132
بالمشـرفيّ
والقـــنا الخطّـار
133
وجاء
الفتيان الجابريان سيف بن
الحارث بن سريع ومالك بن
عبد بن سريع، وهما ابنا
عم وأخوان لأم، فأتيا
حسيناًً عليه السلام ،
فدنوا منه وهما يبكيان،
فقال: أي ابني أخي ما
يبكيكما، فوالله إني
لأرجو أن تكونا عن ساعة
قريري عين؟
قالا: جعلنا الله فداك!
لا والله ما على أنفسنا
نبكي، ولكنا نبكي عليك،
نراك قد أحيط بك ولا نقدر
على أن نمنعك!!
فقال: جزاكما الله يا
ابني أخي بوجدكما من ذلك
ومواساتكما إياي بأنفسكما
أحسن جزاء المتقين
134.
ثم استقدما يلتفتان إلى
الحسين عليه السلام
ويقولان: السلام عليك يا
ابن رسول الله! فقال:
وعليكما السلام ورحمة
الله، فقاتلا حتى قتلا
135.
وجاء حنظلة بن أسعد
الشبامي، فقام بين يدي
الإمام الحسين عليه
السلام ، فأخذ ينادي: يا
قوم ! إني أخاف عليكم مثل
يوم الأحزاب مثل دأب قوم
نوح وعاد وثمود والذين من
بعدهم وما الله يريد ظلماً
للعباد ويا قوم إني أخاف
عليكم يوم التناد يوم
تولون مدبرين ما لكم من
الله من عاصم ومن يضلل
الله فما له من هاد، يا
قوم لا تقتلوا حسيناًً
فيسحتكم الله بعذاب وقد
خاب من افترى!
فقال له الحسين عليه
السلام :
يا ابن أسعد! رحمك الله!
إنهم قد استوجبوا العذاب
حين ردّوا عليك ما دعوتهم
إليه من الحق ونهضوا إليك
ليستبيحوك وأصحابك! فكيف
بهم الآن وقد قتلوا
إخوانك الصالحين!
قال: صدقت جعلت فداك!!
أنت أفقه مني وأحق بذلك،
أفلا نروح إلى الآخرة
ونلحق بإخواننا !!
فقال عليه السلام : رح
إلى خير من الدنيا وما
فيها وإلى ملك لا يبلى!
فقال: السلام عليك أبا
عبد الله !! صلّى الله
عليك وعلى أهل بيتك وعرّف
بيننا وبينك في جنته.
فقال عليه السلام : آمين
آمين!!
فاستقدم فقاتل حتى قتل.
وجاء عابس بن أبي شبيب
الشاكري ومعه شوذب
136 بن
عبد الله مولى شاكر، فقال:
يا شوذب ما في نفسك أن
تصنع؟
قال: ما أصنع؟ أقاتل معك
دون ابن بنت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
حتى أقتل.
قال: ذلك الظن بك!! أما
الآن فتقدم بين يدي أبي
عبد الله حتى يحتسبك كما
احتسب غيرك من أصحابه
وحتى أحتسبك أنا !! فإنه
لو كان معي الساعة أحد
أنا أولى به مني بك لسرني
أن يتقدم بين يدي حتى
أحتسبه، فإن هذا يوم
ينبغي لنا أن نطلب الأجر
فيه بكل ما قدرنا عليه،
فإنه لا عمل بعد اليوم
وإنما هو الحساب!!
فتقدم شوذب فسلَّم على
الحسين عليه السلام فقال:
السلام عليك يا أبا عبد
الله ورحمة الله وبركاته،
أستودعك الله وأسترعيك،
ثم مضى فقاتل حتى قتل
137.
ثم تقدم عابس بن أبي شبيب
الشاكري، فقال: يا أبا
عبد الله! أما والله ما
أمسى على ظهر الأرض قريب
ولا بعيد أعز عليّ ولا
أحب إليّ منك! ولو قدرت
على أن أدفع عنك الضيم
والقتل بشيء أعز عليّ من
نفسي ودمي لفعلته! السلام
عليك يا أبا عبد الله
أشهد الله أنّي على هديك
وهدي أبيك.
ثم مشى بالسيف مصلتاً
نحوهم وبه ضربة على جبينه،
فقال أحد رجال عمر بن سعد،
لما رآه مقبلاً، وقد عرفه،
وقد شاهده في المغازي:
أيها الناس!! هذا أسدُ
الأُسود! هذا ابن أبي
شبيب! لا يخرجن إليه أحد
منكم! فأخذ شبيب ينادي:
ألا رجل لرجل !! فقال عمر
بن سعد: ارضخوه بالحجارة!
فرمي بالحجارة من كل جانب،
فلما رأى ذلك ألقى درعه
ومغفره، ثم شدَّ على
الناس، فكان يطرد أكثر من
مائتين من الناس، ثم إنهم
تعطفوا عليه من كل جانب
فقتل. فكان رأسه في أيدي
رجال ذوي عدَّة، هذا يقول
أنا قتلته وهذا يقول أنا
قتلته!!
فأتوا عمر بن سعد
فقال: لا تختصموا! هذا لم
يقتله سنان واحد، ففرّق
بينهم بهذا القول
138.
وكان سعدٌ وأخوه أبو
الحتوف، الأنصاريان، من
أهل الكوفة ومن المحكّمة
139، فخرجا مع عمر بن سعد
إلى قتال الحسين عليه
السلام ، فلما كان اليوم
العاشر، وقُتل أصحاب
الحسين فجعل الحسين عليه
السلام يُنادي: ألا ناصر
فينصرنا.
فسمعته النساء
والأطفال، فتصارخن، وسمع
سعدٌ وأخوه أبو الحتوف
النداء من الحسين عليه
السلام والصراخ من عياله،
فمالا بسيفهماً مع الحسين
عليه السلام على أعدائه،
فجعلا يقاتلان حتى قُتلا
معاً".
140
وكان مجمع بن زياد بن
عمرو الجهني،
141 وعبّاد
بن المهاجر بن أبي
المهاجر الجهني،
142 قد
التحقوا بالإمام عليه
السلام من منازل جهينة،
وهو في طريقه من المدينة
إلى مكة، وثبتوا معه
ولازموه، فلم ينفضّوا عنه
حين انفض كثير من الأغراب
عنه في زُبالة، فلما كان
يوم العاشر من المحرم
قاتلوا بين يديه حتى
قتلوا رضوان الله عليهم.
وكان ولدا يزيد بن ثبيط
العبدي البصري، عبد الله
وعبيد الله، قد قُتلا في
الحملة الأولى
143، فبرز
وقاتل حتى قتل
144.
وكان رافع بن عبد الله قد
خرج إلى الإمام الحسين
عليه السلام مع مولاه
مسلم بن كثير الأعرج
الأزدي من الكوفة،
وانضمّا إلى الإمام عليه
السلام في كربلاء، ولما
كان اليوم العاشر، ونشب
القتال قُتل مسلم بن كثير
في الحملة الأولى، وبعد
صلاة الظهر، تقدّم مولاه
رافع بن عبد الله مبارزاً
للأعداء بين يدي الإمام
الحسين عليه السلام ،
فقاتل ثم نال شرف الشهادة
145.
ثم قتل حبشي بن قيس
النهمي
146، وزياد بن
عريب الهمداني الصائدي
147، وكنيته أبو عمرة،
وهو ممن أدرك زمان النبي
صلى الله عليه وآله وسلم
، وقد روى الشيخ ابن نما
عن مهران الكاهلي، وهو
مولى لبني كاهل، قال:
شهدت كربلاء مع الحسين
عليه السلام فرأيت رجلاًً
يقاتل قتالاًً شديداًً،
لا يحمل على قوم إلا
كشفهم! ثم يرجع إلى
الحسين عليه السلام
ويرتجز ويقول:
أبشـــر هُديتَ
الرُشـــــد يا بن أحمدا
فـي جنــة الفــردوس
تــعلـــوا صعّــدا
فقلت: من هذا؟ قالوا: أبو
عمرة النهشلي، فاعترضه
عامر بن نهشل أحد بني تيم
الله بن ثعلبة فقتله
واحتزّ رأسه. وكان أبو
عمرة هذا متهجّداً كثير
الصلاة
148.
ومن أنصاره عليه السلام
الذين استشهدوا بين يديه
في كربلاء قعنب بن عمر
النمري البصري، وكان قد
جاء إلى الإمام عليه
السلام مع الحجاج بن بدر
السعدي من البصرة،
والتحقا به في مكة، ولم
يزل ملازماً له، حتى نشب
القتال يوم عاشوراء،
فقاتل في الطفّ بين يدي
الإمام عليه السلام حتى
قُتل في الحملة الأولى
149، وروي أنه قُتل
مبارزة
150.
وكان بكر بن حي التيمي
ممن خرج مع عمر ابن سعد
إلى حرب الحسين عليه
السلام ، حتى إذا قامت
الحرب على ساق، مال مع
الحسين عليه السلام على
ابن سعد، فقتل بين
يدي الحسين عليه السلام ،
بعد الحملة الأولى
151.
وكان من موالي الحسين
غلام تركيّ قارئ للقرآن،
عارف بالعربية، فخرج إلى
القتال وهو يقول:
أميــري حســينٌ ونعم
الأمـير سـرور فــؤاد
البشيـر النــذيـر
فجعل يقاتل، فتحاوشوه
فصرعوه، فجاءه الحسين
عليه السلام وبك ووضع
خدّه على خدّه، ففتح
عينيه ورآه فتبسم وقال:
من مثلي وابن رسول الله
واضعٌ خده على خدي، ثم
صار إلى ربّه
152.
وقاتل بشير
153 بن عمرو
بن الأُحدوث الحضرمي وهو
يقول:
اليومَ يــا نفسُ ألاقــي
الرحـمن والــيوم
تُجـزَين بــك إحسـان
لا تجــزعـي فكـلّ شــيء
فـان والصبر أحظى لكِ عند
الديان"
154
حتى قتل.
وكان سويد بن عمرو بن أبي
المطاع الخثعمي، آخر من
استشهد بين يدي الحسين
عليه السلام من أصحابه
155، وكان شيخاً شريفاً
عابداً كثير الصلاة،
وشجاعاً مجرّباً في
الحروب
156. فقاتل قتال
الأسد الباسل، وبالغ في
الصبر على البلاء النازل
حتى سقط بين القتلى وقد
أثخن بالجراح، ولم يزل
كذلك وليس به حراك،
حتى سمعهم يقولون: قُتل
الحسين. فتحامل وأخرج من
خفّه سكيناً، وجعل
يقاتلهم بها حتى قتل
رضوان الله عليه"
157.
وأما آخر من بقي مع
الحسين عليه السلام ولم
يستشهد في كربلاء، فهو
الضحاك بن عبدالله
المشرقي، وكان قد قدم هو
ومالك بن النضر الأرحبي
على الحسين عليه السلام
وهو في الطريق إلى كربلاء
158، فسلما عليه ثم جلسا
إليه، فرد عليهما ورحب
بهما، وسألهما عما جاءا
له، فقالا: جئنا لنسلم
عليك وندعو الله لك
بالعافية، ونُحدث بك عهداً،
ونخبرك خبر الناس، وإنا
نحدّثك أنهم قد جمعوا على
حربك! فرَ رأيك.
فقال الحسين عليه السلام
: حسبي الله ونعم الوكيل.
فتذمما وسلما عليه ودعوا
الله له! فقال لهما: ما
يمنعكما من نصرتي!؟
فقال مالك بن النضر: عليّ
دين ولي عيال!!
فقال الضحاك بن عبدالله
المشرقي: إن عليَّ ديناًً
وإن لي لعيالاً، ولكنك إن
جعلتني في حلّ من
الإنصراف إذا لم أجد
مقاتلاً، قاتلتُ عنك ما
كان لك نافعاً وعنك دافعاً!
قال الإمام الحسين عليه
السلام : فأنت في حلّ!
فأقام معه
159، وعندما
استشهد آخر واحد من أصحاب
الحسين عليه السلام
استأذن الإمام عليه
السلام بالتخلّي عنه آخر
الأمر، وفرّ من الميدان،
ونجا من القتل!!
أنصار آخرون لأبي عبد
الله الحسين عليه السلام
لقد وردت في مصادر مختلفة
ومتشابهة ومتباينة، أسماء
أخرى لرجال ذكرت هذه
المصادر أنهم استشهدوا مع
الإمام الحسين عليه
السلام في كربلاء، وهذ
الاسماء تتشابه مع أسماء
أخرى، بعضها ذكر أنه
استشهد في الطف، وبعضها
لم يكن من شهداء الطف،
وهؤلاء هم:
مالك بن دودان
160، أنيس
بن معقل الأصبحي
161،
ربيعة بن خوط
162، زيد بن
معقل
163، هلال ابن
الحجاج
164، بدر بن رقيط
وابنيه
165، خالد بن عمرو
بن خالد الأزدي
166،جابر
بن عروة الغفاري
167،
عمرو بن جندب الحضرمي
168، جعبة بن قيس بن
مسلمة
169، أبو الهياج
170، يزيد بن حُصين
الهمداني المشرقي
171،
عمرو بن مطاع الجعفي
172،
عبد الرحمن بن عبد الله
اليزني
173، يحيى بن سليم
المازني
174، جبلة بن عبد
الله
175، سعد بن حنظلة
التميمي
176، عمير بن عبد
الله
المذحجي
177، إبراهيم بن
الحصين الأسدي178، دارم
بن عبد الله الصائدي
179،
يحيى بن هاني بن عروة180،
الهفهاف بن المهند
الراسبي181.
وورد السلام في الزيارة
الرجبية الشعبانية على
الأسماء التالية:
سليمان بن سليمان الأزدي،
عامر بن مالك، منيع بن
زياد، عامر بن جليدة،
حمّاد بن حمّاد الخزاعي،
رميث بن عمرو
182، منذر
بن المفضّل الجعفي، حيان
بن الحارث
183، عمر بن
أبي كعب، سليمان بن عون
الحضرمي، عثمان بن فروة
الغفاري، غيلان بن عبد
الرحمن، قيس بن عبد الله
الهمداني، عمر بن كنّاد،
زائدة بن مهاجر، سليمان
بن كثير، سويد مولى شاكر
184.
مقاتل ومصارع بني هاشم
عليه السلام في كربلاء
وبعد ما استشهدت الصفوة
العظيمة من أصحاب الإمام
الحسين عليه السلام هبّ
أبناء الأسرة النبوية
شباباً وأطفالاً للتضحية
والفداء، وهم بالرغم من
صغر سنهم كانوا كالليوث،
لم يرهبهم الموت ولم
تفزعهم الأهوال، وتسابقوا
بشوق إلى ميادين الجهاد،
وقد ضنّ الإمام عليه
السلام على بعضهم بالموت،
فلم يسمح لهم بالجهاد إلا
أنهم أخذوا يتضرعون إليه
ويقبّلون يديه ورجليه
ليأذن لهم في الدفاع عنه.
والمنظر الرهيب الذي يذيب
القلوب، ويذهل كل كائن حي
هو أن أولئك الفتية جعل
يودّع بعضهم بعضاً الوداع
الأخير، فكان كل واحد
منهم يوسع أخاه وابن عمه
تقبيلاً،
وهم غارقون بالدموع حزناً
وأسىً على ريحانة رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم حيث يرونه وحيداً
غريباً قد أحاطت به جيوش
الأعداء، ويرون عقائل
النبوة قد تعالت أصواتهن
بالبكاء والعويل... وساعد
الله الإمام عليه السلام
على تحمّل هذه الكوارث
التي تقصم الأصلاب، وتذهل
الألباب، ولا يطيقها أيّ
إنسان إلا من امتحن الله
قلبه للإيمان، بل لا
يطيقها إلا من عصمه الله
بعصمة الإمامة.
وقد وردت عدة أقوال في
عدد شهداء الطف من
الهاشميين، ما بين تسعة
أشخاص
185، إلى أحد عشر
186، إلى سبعة عشر
187،
إلى سبعة وعشرين شهيداً
188.وكان عليّ الأكبر
عليه السلام
189، ابن
الإمام الحسين عليه
السلام ، أول
الهاشميين
190 الذين
تقدّموا إلى الشهادة بين
يديه. وأمّه ليلى بنت أبي
مرّة بن عروة بن مسعود
الثقفي، وهو يومئذٍ ابن
ثمانية وعشرين سنة، فلما
رآه الحسين رفع شيبته نحو
السماء وقال:
"اللهم اشهد على هؤلاء
القوم، فقد برز إليهم
غلام أشبه الناس خَلقاً
وخُلُقاً ومنطقاً برسولك
محمّد صلى الله عليه وآله
وسلم ، كنا إذا اشتقنا
إلى وجه رسولك نظرنا إلى
وجهه. اللهم فامنعهم
بركات الأرض، وإن منعتهم
ففرّقهم تفريقاً، ومزّقهم
تمزيقاً. واجعلهم طرائق
قدداً، ولا تُرضي الولاة
عنهم أبداًً، فإنهم دعونا
لينصرونا، ثمّ عدوا علينا
يقاتلونا ويقتلونا".
ثم صاح الحسين عليه
السلام بعمر بن سعد:
"مالك، قطع الله رحمك،
ولا بارك الله في أمرك،
وسلّط عليك من يذبحك على
فراشك، كما قطعت رحمي،
ولم تحفظ قرابتي من رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم ، ثم رفع صوته وقرأ
﴿إِنَّ
اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ
وَنُوحًا وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ
عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ
*
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن
بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ﴾.
ثم حمل علي بن الحسين
عليه السلام وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي
نحن وبيت الله أولى
بالنبي
والله لا يحكم فينا ابن
الدعي أطعنكم بالرمح حتى
ينثني
أضربكم بالسيف حتى يلتوي
ضرب غلام هاشمي علوي
فلم يزل يقاتل حتى ضجّ
أهل الكوفة لكثرة من قتل
منهم، ثم رجع إلى أبيه
وقد أصابته جراحات كثيرة،
فقال: يا أبة، العطش قد
قتلني، وثقل الحديد قد
أجهدني، فهل إلى شربة ماءٍ
من سبيل؟ أتقوّى بها على
الأعداء.
فبكى الحسين عليه السلام
وقال: يا بني عزَّ على
محمّد وعلى عليّ وعلى
أبيك، أن تدعوهم فلا
يجيبونك، وتستغيث بهم فلا
يغيثونك، يا بني هاتِ
لسانك.
فأخذ لسانه فمصّه، ودفع
إليه خاتمه وقال: خذ هذا
الخاتم في فيك، وارجع إلى
قتال عدوّك، فإني أرجو أن
لا تمسي حتى يسقيك جدك
بكأسه الأوفى شربة لا
تظمأ بعدها أبداًً.
فرجع عليّ بن الحسين عليه
السلام إلى القتال، وحمل
وهو يقول:
الحربُ قد بانت لها حقائق
وظهرت من بعدها مصادق
والله ربّ العرش، لا
نفارق جموعكم أو تُغمد
البوارق
وجعل يُقاتل، فضربه منقذ
بن مُرة العبد على مفرق
رأسه ضربة صرعه فيها،
وضربه الناس بأسيافهم،
فاعتنق الفرس، فحمله
الفرس إلى عسكر عدوّه،
فقطعوه بأسيافهم إرباً
إرباً، فلما بلغت روحه
التراقي نادى بأعلى صوته،
يا أبتاه هذا جدي رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم قد سقاني بكأسه
الأوفى شربة لا أظمأ
بعدها أبداًً، وهو يقول
لك: العجل فإن لك كأساً
مذخورة.
فصاح الحسين عليه السلام
:
"قتل الله قوماً قتلوك يا
بني ما أجرأهم على الله
وعلى انتهاك حرمة رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم على الدنيا بعدك
العفا".
ثم أخذ بكفه من دمه
الطاهر ورمى به نحو
السماء، فلم يسقط منه
قطرة
191!
وخرجت السيدة زينب عليه
السلام مسرعة تنادي
بالويل والثبور، تصيح:
واحبيباه، وا ثمرة فؤاداه،
وا نور عيناه، يا أخياه
وابن أخياه، ثم جاءت حتى
انكبّت عليه،
فجاء
إليها الحسين حتى أخذ
بيدها وردّها إلى الفسطاط،
ثم أقبل مع فتيانه إلى
ابنه فقال: احملوا أخاكم!
فحملوه من مصرعه حتى
وضعوه عند الفسطاط الذي
يقاتلون أمامه
192،
والظاهر من بعض الأخبار
أنه كان لعلي الأكبر ذرية
193.
واندفعت الفتية الطيّبة
من أنصار الإمام الحسين
عليه السلام من آل عقيل
عليه السلام إلى الجهاد،
وهي مستهينة بالموت، وقد
نظر الإمام عليه السلام
إلى بسالتهم واندفاعهم
إلى نصرته فكان يقول: "
اللهم أقتل قاتل آل عقيل...
صبراً آل عقيل إن موعدكم
الجنة". وكان علي بن
الحسين زين العابدين عليه
السلام يميل أشدّ الميل
لآل عقيل ويقدّمهم على
غيرهم من آل جعفر، فقيل
له في ذلك، فقال: إني
لأذكر يومهم مع أبي عبد
الله فأرق لهم.
وقد استشهد منهم تسعة في
المعركة دفاعاً عن ريحانة
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وفيهم يقول
الشاعر:
عينُ جـودي بعبـرة
وعـويـل وانـدبـي إن
نـدبـتِ آل الـرسول
سبعـة كلـهـم لصـلب عـليّ قـد أصيبوا وتسعـة
لعــقـيل"
194
والذين اشتهر عند
المؤرخين وأهل التراجم
أنهم استشهدوا مع الإمام
عليه السلام يوم عاشوراء
هم: عبدالله بن مسلم بن
عقيل عليه السلام ، وقد
روي أنه أول من خرج من
الطالبيين عليه السلام
إلى قتال الأعداء، وكان
يقول:
اليوم ألقى مُسلماً وهو
أبي وفتية بادوا على دين
النبي
ليسوا كقومٍ عُرفوا
بالكذب لكـن خيارٌ وكرامُ
النسبِ
مــن هــاشـم السـادات
أهـل الحسـب
ثم حمل حتى قتل منهم
جماعة وقُتل
195. فقد
رماه عمرو بن صبيح
الصيداوي
196 بسهم فوضع
كفّه على جبهته، فأخذ لا
يستطيع أن يحرك كفّيه، ثم
انتهى له بسهم آخر ففلق
قلبه، فاعتوره الناس من
كل جانب
197. ويقال قتله
أسد بن مالك الحضرمي
198.
وحمل بنو أبي طالب بعد
قتل عبدالله حملة واحدة،
فصاح بهم الحسين عليه
السلام : صبراً على الموت
يا بني عمومتي! فوقع محمّد بن مسلم بن عقيل بن
أبي طالب عليه السلام ، وأمه أم ولد، فشدّ عليه
أبو مرهم الأزدي ولقيط بن
إياس الجهني،
199فقتلاه. وبرز إلى ميدان الحرب
جعفر
200 بن عقيل بن أبي
طالب وهو يرتجز ويقول:
أنا الغلام الأبطحي
الطالبي من معشر في هاشم
وغالب
ونحن حقاً سادة الذوائـب
هذا حسين سيـد الأطائـب
فقتله عروة بن عبد الله
الخثعمي
201.
وبرز عبد الرحمن بن عقيل
عليه السلام ، وأمه أم
ولد
202، وهو يرتجز ويقول:
أبـي عقيـل فأعرفوا مكاني
مــن هاشـم وهاشـم
إخـــواني
كهول صدق سادة القرآن هذا
حسين شـامـخ الـبنـيان"
203
فشدّ عليه اثنان من رجال
عمر بن سعد
204 فقتلوه.
وبرز إلى ساحة الحرب
محمّد بن أبي سعيد بن
عقيل بن أبي طالب عليه
السلام ، وأمه أم ولد.
فقتله لقيط بن ياسر
الجهني، وذُكر أنه اشترك
معه آخرون في قتله
205.
وقال هشام الكلبي: حدّث
هاني بن ثبيت الحضرمي قال:
كنت ممن شهد قتل الحسين
عليه السلام ، فوالله إني
لواقف عاشر عشرة ليس منا
إلا رجل على فرس، وقد
جالت الخيل وتضعضعت، إذ
خرج غلام من آل الحسين
وهو ممسك بعود من تلك
الأبنية عليه إزار وقميص،
وهو مذعور يتلفت يميناًً
وشمالاًً، فكأني أنظر إلى
درّتين في أذنيه يتذبذبان
كلّما التفت، إذ أقبل رجل
يركض حتى إذا دنا منه مال
عن فرسه، ثم اقتصد الغلام
فقطعه بالسيف.
قال هشام الكلبي: هاني بن
ثبيت الحضرمي هو صاحب أي
قاتل، الغلام، وكنّى
عن نفسه استحياءً أو خوفاً"
206.
وانبرى إلى ساحة القتال
عبد الله بن عقيل الأكبر
207 وقاتل قتال الأبطال،
فقُتل وهو ابن ثلاث
وثلاثين سنة
208.
ثم برز بقية أولاد عقيل،
عبيد الله، وأمه الخوصاء
بنت حفصة، ومحمّد
209،
وهو صهر الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام ، وعون، وعلي، وموسى
210.
ثم برز أحمد بن محمّد بن
عقيل
211، فاستشهدوا
جميعاًً واحداً تلو الآخر.
ثم ابتدأ آل جعفر بن أبي
طالب عليه السلام بالتقدم
إلى حومة الحرب لنصرة سيد
شباب أهل الجنة، فبرز عون
بن عبد الله بن جعفر
212 عليه السلام ، وأمه
العقيلة
213 زينب بنت
الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام . وهو يرتجز
ويقول:
إن تنكـــروني فأنـا ابـن
جعفــر شهيد صـدق في
الجنـان أزهـــر
يطيـــر فيــهــا بجنـاح
أخضـر كفى بهذا شرفاً فـي
المحشر
214
ثم برز إلى ميدان المعركة
محمّد بن عبد الله بن
جعفر بن أبي طالب، وأمه
الخوصاء بنت حفصة
215.
وهو يرتجز:
نشكـو إلــى الله مــن
العدوان فِعالِ قـوم فـي
الردى عـميـان
قــد بدّلـوا معــالـم
القــرآن ومحكـم
التنـــزيــل والتـبيان
وأظهــروا الكفـر مــع
الطغـيـان"
216
فقاتل وقُتل
217.
وكان القاسم بن محمّد بن
جعفر بن أبي طالب عليه
السلام ، وأمه أم ولد،
ملازماً لابن عمه الحسين
عليه السلام ، ولم يفارقه
أبداً، وقد زوّجه عليه
السلام بنت عمّه عبد الله
بن جعفر التي خطبها
معاوية لابنه يزيد، وأمها
زينب بنت أمير المؤمنين
عليه السلام ، واسمها أم
كلثوم الصغرى، وقد انتقل
القاسم مع زوجته مع
الحسين عليه السلام إلى
كربلاء، وقاتل وأثخن
بالجراح، فتعطفوا عليه من
كل جانب، فقتلوه
218.
وبعده استشهد عبيد الله
بن عبد الله بن جعفر219 عليه السلام ، وأمه
الخوصاء بنت حفصة، ثم عبد
الله بن عبد الله بن جعفر
عليه السلام
220
ثم جاء دور أبناء الإمام
الحسن بن علي عليه السلام
، وكان أول واحد فيهم
القاسم بن الحسن
221 عليه
السلام، وكان يقول: " لا
يُقتل عمي وأنا أحمل
السيف"
222. ولما رأى
وحدة عمه، استأذنه في
القتال فلم يأذن له لصغره،
فما زال به حتى أذن له
223.
روى الشيخ المفيد (رضوان
الله عليه) قائلاً: "قال
حميد بن مسلم: فإنا كذلك
إذ خرج علينا غلام كأن
وجهه شقة قمر في يده سيف،
وعليه قميص وإزار، ونعلان
قد
انقطع
شسعُ إحداهما، فقال لي
عمر بن سعيد بن نفيل
الأزدي: والله لأشدّن
عليه. فقلت: سبحان الله،
وما تريد بذلك؟! دعه
يكفيكه هؤلاء القوم الذين
ما يبقون على أحد منهم!
فقال: والله لأشدّن عليه.
فشدّ عليه فما ولّى حتى
ضرب رأسه بالسيف ففلقه،
ووقع الغلام لوجهه فقال:
يا عمّاه! فجلى الحسين
عليه السلام كما يُجلي
الصقر، ثم شدّ شدة ليث
أغضب، فضرب عمر بن سعيد
بن نفيل بالسيف فاتقاها
بالساعد، فأطنّها من لدُنِ
المرفق، فصاح صيحة سمعها
أهل العسكر، ثم تنحى عنه
الحسين عليه السلام ،
وحملت خيلُ الكوفة
لتستنقذه فتوطّأته
بأرجلها حتى مات.
وانجلت الغبرة فرأيت
الحسين عليه السلام قائماً
على رأس الغلام وهو يفحص
برجله والحسين عليه
السلام يقول: بعداً لقوم
قتلوك، ومن خصمهم يوم
القيامة فيك جدُّك. ثم
قال:
عزَّ، والله، على عمك أن
تدعوه فلا يجيبك، أو
يجيبك فلا ينفعك،( أو
يعينك فلا يغني عنك، بعداً
لقوم قتلوك، الويل لقاتلك)
صوت، والله، كثر واتروه
وقل ناصروه!!
ثم حمله على صدره، فكأني
أنظر إلى رجلي الغلام
تخطان الأرض. فجاء به حتى
ألقاه مع ابنه علي بن
الحسين عليه السلام
والقتلى من أهل بيته،
فسألتُ عنه فقيل لي:
القاسم بن الحسن بن علي
بن أبي طالب عليه السلام
224.
ثم رفع صوته إلى السماء
وقال:
"اللهم أحصهم عدداً ولا
تغادر منهم أحداً، ولا
تغفر لهم أبداً. صبراً يا
بني عمومتي، صبراً يا أهل
بيتي لا رأيتم هوانا ًبعد
هذا اليوم أبداًً"
225.
وكان أحمد بن الحسن عليه
السلام قد خرج مع عمّه
الحسين عليه السلام هو
وأمّه وأخوه
القاسم
وأختاه أمّ الحسن وأمّ
الخير إلى مكة، ثم إلى
كربلاء، وله من العمر ست
عشرة سنة، وعند اشتداد
القتال، بعد صلاة الظهر،
حمل على القوم وهو يرتجز،
وأثخن بالجراح، فتعطّفوا
عليه جماعة كثيرة فقتلوه
226. ثم استشهد بعده
أبو
بكر بن الحسن عليه السلام
227.
وقاتل الحسن بن الحسن
المثنى، فأصابته ثماني
عشرة جراحة، وقطعت يده
اليمنى ولم يستشهد
228،
فقد وقع فأخذه خاله أسماء
بن خارجة فحمله إلى
الكوفة وداواه حتى برئ
وحمله إلى المدينة
229.
وأما عمر بن الحسن عليه
السلام ، فقد قيل إنه من
شهداء الطف،
230 ولكن ابن
الجوزي قال: "واستصغروا
أيضاً عمر ابن الحسن بن
علي عليه السلام فلم
يقتلوه وتركوه"
231.
وبعد استشهاد أولاد
عمومته وأولاد أخيه، أخذ
إخوان الإمام الحسين عليه
السلام بالتصدي والقتال
في يوم عاشوراء. وهناك
اختلاف بين المؤرخين حول
عدد أولاد الإمام علي بن
أبي طالب عليه السلام
الذين قتلوا مع ريحانة
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في واقعة الطف،
فعن المفيد والطبري أنهم
كانوا خمسة، وعن آخرين
أنهم كانوا تسعة أشخاص،
ونحن نذكر هنا المشهورين
منهم.
وكان عبدالله وجعفر
وعثمان
232 إخوة العباس
بن علي عليه السلام من
أمه، أم البنين
فاطمة بنت حزام الكلابية،
العامرية
233، فلما رأى
العباس كثرة القتلى في
أهله قال لهم: "يا بني
أمي، تقدموا، بنفسي أنتم،
فحاموا عن سيدكم حتى
تموتوا دونه، حتى أراكم
قد نصحتم لله ولرسوله.
234 فتقدموا جميعاً.
فصاروا أمام الحسين عليه
السلام ، يقونه بوجوههم
ونحورهم.
فتقدم عبدالله فقاتل
قتالاًً شديداًً، فاختلف
هو وهاني بن ثبيت الحضرمي
ضربتين فقتله هاني لعنه
الله"
235. ثم تقدم
جعفر
236، فقتله أيضاً هانيء
237، وجاء برأسه
238.
وروي أن خولِّي بن يزيد
الأصبحي هو الذي قتله
239.
وعندما برز عثمان بن علي
عليه السلام ، رماه خوليُّ
بن يزيد الأصبحي بسهم
فصرعه
240، وشدّ عليه رجل
من بني دارم فاحتزّ رأسه،
فأتى عمر بن سعد، فقال له:
أثبني، فقال عمر: عليك
بأميرك، يعني عبيد الله
بن زياد، فسله أن يثيبك
241. وبقي العباس بن علي
قائماً أمام الحسين عليه
السلام يقاتل دونه، ويميل
معه حيث مال.
ثم برز محمّد الأصغر، أو
عبد الله، أبو بكر بن علي
عليه السلام وأمه ليلى
بنت
مسعود الثقفية
242 قائلاً:
شيـخي علـي ذو الفخـار
الأطول من هاشم الخير
الكريم المُفضل
هذا حسيـن ابـن النبـيّ
المرسل عـنه نحامي
بالحـسام المصقل
تـفديــه نـفـسي مـن أخٍ
مبجـّل
فرماه رجل فقتله وجاء
برأسه
243، وأمه أم ولد
244. ويقال إنه لم يُقتل
لمرضه
245.
ولكن مؤرخين آخرين أوردوا
كنيته دون اسمه، وذكروا
أن أمه ليلى بنت مسعود بن
خالد، من تميم. وروي عن
الإمام محمّد الباقر عليه
السلام أن رجلاًً من
همدان قتله
246، وذكر
المدائني: أنه وُجد في
ساقية مقتولاً لا يُدرى
من قتله"
247.
وذكر ابن شهراشوب في
المناقب أن عمر بن علي
عليه السلام برز، من بعد
أخيه أبي بكر، وهو يرتجز:
خلّـوا عداة الله خلـوا
عــن عـمـر خـلوا عن
الليـث الهصور المكفهر
يضربكــم بسـيفــه ولا
يــفـر يـا زجـر يـا زجـر
تـدانَ من عمر
وقتل زجراً قاتل أخيه، ثم
دخل حومة الحرب
248، فلم
يزل يقاتل حتى قتل
249.
ولكن ما ذكره ابن شهراشوب
في المناقب يدفعنا إلى
طرح مسألة مهمة، وهي
أنه
سواء كان لأمير المؤمنين
علي عليه السلام ابنين
250 باسم عمر، الأكبر
والأصغر، أم كان له ابن
واحد اسمه عمر
251،
فالمشهور أن عمر قد تخلّف
عن أخيه الحسين عليه
السلام بلا عذر معروف،
ولم يسر معه إلى الكوفة،
وأن الرواية التي تقول إن
"عمر" حضر كربلاء لا يمكن
أن تصح، فالمشهور بين أهل
التواريخ والسير أنه لم
يشهد مع أخيه الحسين عليه
السلام بالطف
252.
والمذكور في التاريخ أنه
مات بينبع
253 وهو ابن
سبع وسبعين سنة، وقيل خمس
وسبعين سنة، وقيل عاش
خمساً وثمانين سنة!
254.. وأنه إذا كان هناك "عمر"
آخر، فهو لم يحضر الطف
أيضاً، بل قتل في وقعة
المذار سنة سبع وستين
255.
وتباينت كلمات المؤرخين
في شهادة إبراهيم بن علي
بن أبي طالب عليه السلام
في وقعة الطف.
فقد شكك في ذلك أبو الفرج
الاصفهاني في مقاتل
الطالبيين، وهو أقدم من
تحدّث في هذه المسألة،
حيث قال: "وقد ذكر محمّد
بن علي بن حمزة أنه قتل
يومئذٍ إبراهيم بن علي بن
أبي طالب عليه السلام .
وأمه أم ولد. وما سمعت
بهذا من غيره، ولا رأيت
لإبراهيم في شيء من كتب
الأنساب ذكراً"
256.
وفي مقابل ذلك صرح ابن
عبد ربه الأندلسي،
257 وابن شهر آشوب
258،
والنمازي
259، والخوارزمي
260، بأنه قتل في كربلاء،
بين يدي ريحانة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
.
ثم استشهد بقية أولاد
أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام ، عتيق،
وأمه أم ولد
261. وعون
262. ويحيى، وأمه أسماء
بنت عميس
263، لكن أبا
الفرج ذكر أنه توفي في
حياة أبيه أمير المؤمنين
عليه السلام
264.
وذكرت بعض الأخبار أن
عبيد الله بن علي بن أبي
طالب عليه السلام قتل في
واقعة الطف
265، ولكن لا
يمكن الإعتماد على هذه
الأخبار، لأن هناك أقوال
كثيرة مقابلها تصرّح بأنه
لم يقتل بكربلاء، خصوصاً
وأن في أصحابها من له
الخبرة التامة في علم
الأنساب، كمصعب الزبيري
في نسب قريش
266، أو ابن
فندق في لباب الأنساب
267، أو الأندلسي في
جمهرة أنساب العرب
268،
ويقول أبو الفرج
الأصبهاني
في
مقاتل الطالبيين: إنما
قتل عبيد الله يوم المدار،
269 قتله أصحاب المختار
بن أبي عبيد الثقفي، وقد
رأيته بالمدار270. أو
بالمذار
271 وقبره هناك
ظاهر، معروف عند أهل تلك
البلاد
272.
وذكر بعض المحققين أن "العباس
الأصغر" بن الإمام علي
عليه السلام هو أخو
الإمام الحسين عليه
السلام لأبيه، وأمه لبابة
بنت عبيد الله بن العبّاس،
وأنه استشهد يوم الطف
273. وقد نقل ذلك عن
خليفة بن خياط، قال: "وقتل
مع الحسين عليه السلام
العباس الأصغر، أمه لبابة
بنت عبيد الله بن العباس"
274. ويؤيده ما رواه سبط
ابن الجوزي
275.
لكنّ النمازيّ يقول في
ترجمة (لبابة بنت عبيد
الله بن عباس بن عبد
المطّلب): "تزوّجها أبو
الفضل العباس بن أمير
المؤمنين عليه السلام ، فولد له منها عبيد الله
وفضل، وكانت جميلة عاقلة،
وبعد شهادة العباس عليه
السلام تزوجها زيد بن عبد
الملك، وعن المجدي
تزوّجها وليد بن عتبة بن
أبي سفيان، فولد له منها
القاسم"
276.
فإذا كان العباس الأصغر،
هو ابن لبابة بنت عبيد
الله بن العباس، زوجة أبي
الفضل عليه السلام ، فهو
إذن ابن أبي الفضل العباس،
وليس أخاه، ذلك لأن لبابة
لا يمكن
أن تكون زوجة لأمير
المؤمنين عليه السلام ،
ثم زوجة لابنه أبي الفضل
عليه السلام .
شهادة أبي الفضل العباس
عليه السلام
كان أبو الفضل العباس
عليه السلام أكبر أولاد
أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام ، وأمهم
أم البنين فاطمة بنت حزام
الكلابية، وقد ولد في
الرابع من شعبان سنة ست
وعشرين للهجرة، وكان عمره
الشريف عند استشهاده
أربعاً وثلاثين سنة.
وقد ذكرت المصادر
التاريخية في كيفية شهادة
أبي الفضل العباس صورتين،
إجمالية وتفصيلية.
أما الإجمالية، فقد قال
الشيخ المفيد: "وحملت
الجماعة على الحسين عليه
السلام فغلبوه على عسكره،
واشتد به العطش، فركب
المسنّاة يريد الفرات،
وبين يديه العباس أخوه،
فاعترضته خيل ابن سعد
وفيهم رجل من بني دارم
فقال لهم: ويلكم حولوا
بينه وبين الفرات ولا
تمكنوه من الماء! فقال
الحسين عليه السلام :
اللهم أظمئه.
فغضب الدارميّ ورماه بسهم
فأثبته في حنَكِه، فانتزع
الحسين عليه السلام السهم،
وبسط يده تحت حنكه
فامتلأت راحتاه بالدم!
فرمى به ثمّ قال: اللهم
إني أشكو إليك ما يُفعل
بابن بنت نبيّك! ثم رجع
إلى مكانه وقد اشتدّ به
العطش، وأحاط القوم
بالعبّاس فاقتطعوه عنه،
فجعل يقاتلهم وحده حتى
قُتل عليه السلام ، وكان
المتولّي لقتله زيد بن
ورقاء الحنفيّ
277، وحكيم
بن الطفيل السنبسي
278،
بعد أن أُثخن بالجراح فلم
يستطع حراكاً!"
279.
وأما التفصيلية، فقد
اشتركت في إيرادها مجموعة
من المصادر، وتقول إن
العباس بن علي عليه
السلام خرج من بعد أخيه
عبد الله، فحمل وهو يقول:
أقسمـت بالله الأعــزّ
الأعظــم وبالحجون
صـادقـاً وزمـزم
وبالحــطيـم والفنـا
المحــرّم ليخضبنّ اليوم
جسمي بدمي
دون الحسين ذي الفخار
الأقدم إمــام أهل الفضل
والتكرّم
فلم يزل يقاتل حتى قتل
جماعة من القوم، ثم قُتل،
فقال الحسين عليه السلام
: "الآن انكسر ظهري وقلّت
حيلتي!"
280.
وفي مصادر أخرى المزيد من
التفاصيل، يقول ابن شهر
آشوب السروي في كتابه
المناقب: " وكان عبّاس
السقاء قمر بني هاشم،
صاحب لواء الحسين، وهو
أكبر الإخوان، مضى يطلب
الماء، فحملوا عليه، وحمل
هو عليهم وجعل يقول:
لا أرهب الـموتَ إذا
الـموت زقا حتى أوارى في
المصاليت لقا
نفسي لنفس المصطفى الطهر
وقا إني أنا العبـاس أغدو
بالسقا
ولا أخـاف الـشـرّ يـوم
المـلتـقـى
ففرّقهم، فكمن له زيد بن
ورقاء الجهني من وراء
نخلة، وعاونه حكيم بن
طفيل السنبسي فضربه على
يمينه، فأخذ السيف بشماله،
وحمل عليهم وهو يرتجز:
والله إن قطعتـم يمينـي
إني أحامي أبداًً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين نجل
النبيّ الطاهر الأمينِ
فقاتل حتى ضعف، فكمن له
الحكيم بن الطفيل الطائي
من وراء نخلة فضربه على
شماله فقال:
يا نفس لا تخشي من الكفار
وأبشري برحمة الجبّـارِ
مع النبيّ السيّـد
المختـار قد قطعوا ببغيهم
يساري
فـأصلـهم يـــارب حـر
الـنـار
فقتله الملعون بعمود من
حديد"
281.
الإمام الحسين عليه
السلام وحيداً فريداً في
الميدان
ولما قتل العباس عليه
السلام التفت الحسين عليه
السلام فلم يرَ أحداًً
ينصره! ونظر إلى أهله
وصحبه مجزّرين كالأضاحي،
وهو إذ ذاك يسمع عويل
الأيامى وصراخ الأطفال،
فصاح بأعلى صوته: "هل من
ذابٍ عن حُرم رسول الله
؟" هل من موحّدٍ
يخاف
الله فينا؟ هل من مغيث
يرجو الله في إغاثتنا؟"
فخرج ولده علي بن الحسين
زين العابدين عليه السلام
، وكان مريضاً لا يقدر أن
يقلّ سيفه، وأمّ كلثوم
تنادي خلفه: يا بنيّ ارجع،
فقال: يا عمّتاه ذريني
أقاتل بين يدي ابن رسول
الله، فقال الحسين عليه
السلام : "يا أمّ كلثوم،
خذيه لئلا تبقى الأرض
خالية من نسل آل محمّد
صلى الله عليه وآله وسلم
"
282.
قتل أطفال الحسين عليه
السلام
ويظهر من الأخبار
والروايات الواردة في هذا
الفصل من ملحمة عاشوراء
أن الإمام عليه السلام
كان له ولدان صغيران
قُتلا في الطف، أحدهما
اسمه عبد الله بن الحسين
عليه السلام وأمه الرباب
بنت امرئ القيس، والآخر
اسمه علي الأصغر.
أما الأول فوُلد في الحرب،
فأُتي الإمام الحسين عليه
السلام به وهو قاعد
283 أمام الفسطاط، أو هو واقف
على فرسه
284، فأخذه في
حجره ولبّاه بريقه وأذّن
في أذنه وجعل يحنّكه،
وسمّاه عبدالله. فرماه
حرملة بن الكاهل الأسدي
بسهم فوقع في حلق الصبيّ
فذبحه، فنزع الحسين السهم
من حلقه وجعل يلطخه بدمه
ويقول:
" والله لأنت أكرم على
الله من الناقة، ولَمحمّد
أكرم على الله من صالح"
285، ثم نزل عن فرسه وحفر
له بطرف السيف ورمّله
بدمه وصلّى عليه ودفنه"
286.
وفي رواية أخرى أن الإمام
عليه السلام هو الذي
تقدَّم إلى باب الخيمة
وقال لزينب: ناوليني ولدي
الصغير حتى أودعه، فأخذه
وأمال إليه ليقبّله،
فرماه حرملة بن الكاهل
الأسدي بسهم فوقع في نحره
فذبحه، فقال لزينب عليه
السلام :خذيه. ثم تلقى
الدم بكفيه حتى امتلأتا،
ورمى به نحو السماء وقال:
هوّن عليّ ما نزل بي أنه
بعين الله. قال الباقر
عليه السلام : "فلم تسقط
من ذلك الدم قطرة إلى
الأرض"
287. وفي رواية
الشيخ المفيد: فتلقى
الحسين عليه السلام دمه
فلمّا ملأ كفّه صبّه في
الأرض ثم قال: "ربّ إن
تكن حبست عنا النصر من
السماء، فاجعل ذلك لما هو
خير، وانتقم لنا من هؤلاء
القوم الظالمين". ثم حمله
حتى وضعه مع قتلى أهله من
ولده وبني أخيه
288.
وأما ولده الثاني، فقد
كان معه حينما خرج من
المدينة. واسمه علي
الأصغر، له من العمر ثلاث
سنين
289. وكان الإمام
عليه السلام يقبله وهو
واقف إلى باب الخيمة،
ويقول له: يا بني ويل
لهؤلاء القوم إذا كان غداًً
خصمهم جدّك محمّد.
فأصابه سهم فقتله
290.
الوصية الأخيرة
ثم أحضر علي بن الحسين
عليه السلام ، وكان عليلاً،
فأوصى إليه الإمام الحسين
عليه السلام بالإسم
الأعظم ومواريث الأنبياء
عليه السلام ، وعرّفه أنه
قد دفع العلوم والصحف
والمصاحف والسلاح إلى أمّ
سلمة رضي الله عنها،
وأمرها أن تدفع جميع ذلك
إليه
291.
وروي أن الحسين عليه
السلام دعا ابنته الكبرى
فاطمة بنت الحسين عليه
السلام
292، فدفع إليها
كتاباًً ملفوفاً ووصية
ظاهرة، وكان علي بن
الحسين عليه السلام
مبطوناً معهم لا يرون إلا
أنه لما به، فدفعت فاطمة
الكتاب إلى علي بن الحسين
عليه السلام ، ثم صار ذلك
إلى بقية أئمة أهل البيت
عليه السلام
293.
الإستعداد للشهادة
ولما بقي الحسين عليه
السلام في ثلاثة رهط أو
أربعة، قال: ائتوني بثوبٍ
لا يرغب فيه أحد ألبسه
غير ثيابي، وأجعله تحت
ثيابي، لا أجرّد فإني
مقتول مسلوب، فقال له بعض
أصحابه: لو لبست تحته
تُبّاناً
294 قال: ذلك
ثوب مذلة، ولا ينبغي لي
أن ألبسه، ثم أتوه بشيء
أوسع منه دون السراًويل
وفوق التبان ففزره
295 ونكثه لكيلا يسلبه ولبسه
296.
الملحمة الحسينية
ثم وقف صلوات الله عليه
قبلة القوم وسيفه مُصلت
في يده، آيساً من الحياة
عازماً على الموت، وهو
يقول:
وإن تكــن الدنيــا تعـدّ
نفيسـة فــإن ثــواب الله
أعلــى وأنبــلُ
وإن تكن الأبدان للمـوت
أنشئت فقتل امرئ بالسيف
فـي الله أفضـل
وإن تكـن الأرزاق قسمـاً
مقـدّراً فقلّة سعي المرء
في الكسب أجـملُ
وإن تكن الأمـوال للترك
جمعها فما بـال مـتروك به
الـمرءُ يبخـلُ
سأمضي وما بالقتل عار على
الفتى إذا في سبيـل الله
يمضـي ويُقتــلُ
ثم إنه دعا الناس إلى
البراز، فلم يزل يقتل كلّ
من دنا منه من عيون
الرجال، ثم حمل على
الميمنة وقال:
الموت خير من ركوب العار والعار أولى من دخول
النار
حمل على الميسرة وقال:
أنا الحسين ابن علي أحـمي
عـيالات أبي
آلـيت أن لا أنثنـي أمضي
على دين النبي
وجعل يقاتل
297 بثبات
ورباطة جأشه! وقد وصفه
أحد الذين شهدوا وقعة
الطف من أعدائه في معسكر
ابن سعد، فقال: " فوالله
ما رأيت مكثوراً قط، قد
قُتل ولده وأهل بيته
وجميع أصحابه حوله،
وأحاطت به الكتائب، أربط
جأشاً، ولا أمضى جناناً
منه، ولا أجرأ مقدماً!
والله ما رأيت قبله ولا
بعده مثله! فوالله لكان
يشدّ عليهم فكانت
الرجّالة لتنكشف من عن
يمينه وشماله انكشاف
المعزى إذا شدّ فيها
الذئب"
298.
"فمكث ملياً والناس
يدافعونه ويكرهون الإقدام
عليه"
299. وكان يحمل
فيهم، ولقد كمّلوا ثلاثين
ألفاً فيُهزمون بين يديه
كأنهم الجراد المنتشر!!
ثمّ يرجع إلى مركزه وهو
يقول: لا حول ولا قوة إلا
بالله!"
300.
فقال عمر بن سعد لقومه:
ويلكم أتدرون من تبارزون؟
هذا ابن الأنزع البطين!
هذا ابن قتّال العرب!
فاحملوا عليه من كلّ جانب
301! فحمل عليه مئات
الرجال من حملة الرماح
والسيوف ورماة السهام!....
ثم حمل الحسين عليه
السلام على الأعور السلمي
وعمرو بن الحجّاج الزبيدي،
وكانا في أربعة آلاف رجل
على الشريعة، وأقحم الفرس
على الفرات! ولكن صارخاً
من جيش عمر بن سعد هتف به:
تتلذذ بشرب الماء وقد
هُتكت حريمك!؟ فنفض الماء
من يده، وحمل على القوم
فكشفهم فإذا الخيمة سالمة!
302.
ثم ودّع ثانياً أهل بيته،
وأمرهم بالصبر، ووعدهم
بالثواب والأجر، وأمرهم
بلبس أُزِرهم، وقال لهم:
"استعدوا للبلاء، واعلموا
أن الله تعالى حافظكم
وحاميكم، وسينجيكم من شرّ
الأعداء، ويجعل عاقبة
أمركم إلى خير، ويعذِّب
أعاديكم بأنواع البلاء،
ويعوّضكم الله عن هذه
البلية بأنواع النعم
والكرامة، فلا تشكوا، ولا
تقولوا بألسنتكم ما ينقص
من قدركم!"
303.
يقول إبن شهرآشوب: "ثم
ودّع النساء وكانت سكينة
تصيح فضمّها إلى صدره
وقال:
سيطول بُعـدي يـا سكـينة فاعلمي منــك البكاء إذا الحمام دهانـي
لا تحرقـي قلبـي بدمعـك
حسـرة
ما دام منّـي
الـروح فـي جثمــاني
فإذا قُتـلتُ فـأنــتِ
أولى بالـذي تـأتيــنه
يـا خـيـرة النسوان"
304
فقال عمر بن سعد: ويحكم
اهجموا عليه ما دام
مشغولاً بنفسه وحرمه،
والله إن فرغ لكم لا
تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم
!!
فحملوا عليه يرمونه
بالسهام حتى تخالفت
السهام بين أطناب المخيّم،
وشك سهم بعض أُزر النساء،
فدهشن وأرعبن وصحن ودخلن
الخيمة ينظرن إلى الحسين
عليه السلام كيف يصنع.
فحمل عليهم حملة منكرة
قتل فيها كثيراً من
الرجال والأبطال، فكان
كالليث الغضبان، لا يلحق
أحداًً إلا بعجه بسيفه
فقتله، والسهام تأخذه من
كل ناحية وهو يتقيها
بصدره ونحره".
ويصفه، في هذه الساعة
الإلهية من حياته المقدسة،
أحد الذين شهدوا معركة
كربلاء من جيش عمر بن سعد،
فيقول: كانت عليه جُبّة
من خزّ، وكان معتمّاً
وكان مخضوباً بالوسمة،
وسمعته يقول قبل أن يُقتل،
وهو يقاتل على رجليه قتال
الفارس الشجاع، يتّقي
الرمية، ويفترص العورة،
ويشدّ على الخيل، وهو
يقول:
"يا أمة السوء! بئسما
خلفتم محمّداً صلى الله
عليه وآله وسلم في عترته!
أعلى قتلي تحاثون؟ أما
إنكم والله لا تقتلون
بعدي عبداً من عباد اللهِ
الصالحين، اللهُ أسخط
عليكم لقتله منّي،
فتهابوا قتله، بل يهون
عليكم عند قتلكم إياي،
وأيمُ الله إني لأرجو أن
يكرمني الله بهوانكم، ثم
ينتقم لي منكم من حيث لا
تشعرون، أما والله أن لو
قتلتموني لقد ألقى الله
بأسكم بينكم، وسفك دماءكم،
ثم لا يرضى لكم حتى يضاعف
لكم العذاب الأليم".
فصاح الحصين بن النمير
السكوني: يا ابن فاطمة!
بماذا ينتقم لك منّا؟
فقال عليه السلام :
"يُلقي بأسكم بينكم،
ويسفك دماءكم، ثم يصبّ
عليكم العذاب الأليم".
ورجع سالماً إلى موقفه
عند الحريم، ثم حمل حملة
أخرى وأراد الكرّ راجعاً
إلى موقفه، فأقبل شمر بن
ذي الجوشن في نفر من عشرة
من رجّالة أهل الكوفة
قِبَل منزل الحسين الذي
فيه ثقله وعياله، فحالوا
بينه وبين رحله، وأحدقوا
به، ثم إن جماعة منهم
تبادروا إلى الحريم
والأطفال يريدون سلبهم،
فصاح الحسين عليه السلام
:
ويحكم يا شيعة الشيطان،
يا شيعة آل أبي سفيان.
ويلكم إن لم يكن لكم دين،
وكنتم لا تخافون يوم
المعاد، وكنتم عرباً كما
تزعمون، فكونوا في أمر
دنياكم أحراراً ذوي أحساب،
إمنعوا رحلي وأهلي من
طغامكم
305 وجهّالكم.
وكفّوا سفهاءكم عن التعرض
للنساء والأطفال فإنهم لم
يقاتلوا. فرحلي لكم عن
ساعة مباح
306.
فقال شمر بن ذي الجوشن:
ذلك لك يابن فاطمة
307، "ثم
قال لأوباش أهل الكوفة:
كفّوا عنهم واقصدوا الرجل
بنفسه".
308
فقصده القوم بالحرب من كل
جانب، فجعل يحمل عليهم
ويحملون عليه، وهو في ذلك
يطلب الماء ليشرب منه
شربة، فكلما حمل بفرسه
على الفرات حملوا عليه
حتى أجلوه عنه
309، ثمّ
رماه رجل يُقال له أبو
الحتوف الجعفي بسهم فوقع
السهم في جبهته، فنزع
الحسين السهم ورمى به،
فسال الدم على وجهه
ولحيته
310. فقال:
"اللهم قد ترى ما أنا فيه
من عبادك هؤلاء العُصاة
العتاة! اللهم فأحصهم
عدداً، وأقتلهم بدداً،
ولا تذر على وجه الأرض
منهم أحداًً، ولا تغفر
لهم أبداًً"!.
ثم جعل يُقاتل، حتى
أصابته مئات الجراحات بين
طعنة بالرمح وضربة بالسيف
ورمية
بالسهام، وكانت كلها في
مقدمه لأنه كان لا يولّي
311. فوقف يستريح وقد ضعف
عن القتال، فبينا هو واقف
إذ أتاه حجر فوقع على
جبهته، فسالت الدماء من
جبهته، فأخذ الثوب ليمسح
عن جبهته فأتاه سهم محدّد
مسموم، له ثلاث شعب، فوقع
في قلبه، فقال الحسين
عليه السلام :
"بسم الله وبالله وعلى
ملة رسول الله".
ورفع رأسه إلى السماء،
وقال:
"إلهي، إنك تعلم أنهم
يقتلون رجلاًً ليس على
وجه الأرض ابن نبيّ غيره".
ثم أخذ السهم وأخرجه من
وراء ظهره فانبعث الدم
كالميزاب، فوضع يده على
الجرح، فلما امتلأت دماً
رمى بها إلى السماء، فما
رجع من ذلك قطرة، وما
عُرفت الحمرة في السماء
حتى رمى الحسين عليه
السلام بدمه إلى السماء،
ثم وضع يده على الجرح
ثانياً، فلما امتلأت لطّخ
بها رأسه ولحيته، وقال:
"هكذا والله أكون حتى
ألقى جدي محمّدأً صلى
الله عليه وآله وسلم وأنا
مخضوب بدمي، وأقول: يا
رسول الله، قتلني فلان
وفلان".
ثم ضعف عن القتال، فوقف
مكانه، ومكث طويلاًً من
النهار، ولو شاء الناس أن
يقتلوه لفعلوا، ولكنّهم
كان يتقي بعضهم ببعض،
ويحبّ هؤلاء أن يكفيهم
هؤلاء، فكلما أتاه رجل
من الناس وانتهى إليه
انصرف عنه، وكره أن يلقى
الله بدمه. حتى جاءه رجلٌ
من كندة يقال له مالك بن
نسر، فضربه بالسيف على
رأسه، وكان عليه برنس،
فقطع البرنس وامتلأ دماً،
فقال له الحسين عليه
السلام :
"لا أكلت بيمينك ولا شربت
بها، وحشرك الله مع
الظالمين".
وكان عبد الله بن الحسن
عليه السلام غلاماً لم
يراهق، ولما رأى وحدة
عمّه عليه السلام
بين
أعدائه الذين قد أحاطوا
به بعد مقتل أنصاره، وكان
نزف رأسه قد اشتدّ به من
ضربة مالك بن النسر
الكندي
312 لعنه الله،
خرج إليه من عند النساء
حتى وقف إلى جنبه، فلحقته
زينب بنت علي عليه السلام
لتحبسه، فقال لها الحسين
عليه السلام : "إحبسيه يا
أختي"!! فأبى وامتنع
عليها امتناعاً شديداًً
وقال: والله لا أفارق
عمّي! وأهوى أبجر بن كعب
313 إلى الحسين عليه
السلام بالسيف، فقال له
الغلام: ويلك يابن
الخبيثة أتقتل عمي!؟
فضربه أبجر بالسيف
فاتقاها الغلام بيده،
فأطنّها إلى الجلدة فإذا
يده معلقة، ونادى الغلام:
يا أمّتاه! فأخذه الحسين
عليه السلام فضمه إليه
وقال:
" يابن أخي إصبر على ما
نزل لك، واحتسب في ذلك
الخير، فإن الله يلحقك
بآبائك الصالحين".
ثم رفع الإمام الحسين
عليه السلام يده وقال:
"اللهم إن متعتهم إلى حين
ففرقهم فرقاً، واجعلهم
طرائق قدداً، ولا تُرضِ
الولاة عنهم أبداًً،
فإنهم دعونا لينصرونا، ثم
عدوا علينا فقتلونا!"
314.
ثم ألقى الإمام الحسين
البرنس ولبس قلنسوة واعتمّ
عليها، وقد أعيى وتبلد
315.
ثم نادى شمر: ما تنتظرون
بالرجل؟ فقد أثخنته
السهام، أقتلوه ثكلتكم
أمهاتكم.
فحُمل عليه من كل جانب،
وأخذت به الرماح والسيوف،
ورماه سنان بن أنس بسهم
في نحره، وطعنه صالح بن
وهب المرّي على خاصرته
طعنة منكرة، وضُرب على
عاتقه، ثم انصرفوا وهو
ينوء ويكبو"
316. فسقط
الحسين عن فرسه
317 إلى
الأرض على خدّه الأيمن،
ثم استوى جالساً ونزع
السهم من نحره.
ولما اشتد به الحال رفع
طرفه إلى السماء يدعو
الله ويناجيه قائلاً:
"اللهم متعال المكان،
عظيم الجبروت، شديد
المحال، غنيّ عن الخلائق،
عريض الكبرياء، قادر على
ما تشاء، قريب الرحمة
صادق الوعد، سابغ النعمة،
حسن البلاء، قريب إذا
دعيت، محيط بما خلقت،
قابل التوبة لمن تاب إليك،
قادر على ما أردت، تدرك
ما طلبت، شكور إذا شكرت،
ذكور إذ ذكرت، أدعوك
محتاجاً، وأرغب إليك
كافياً، اللهم احكم بيننا
وبين قومنا فإنهم غرّونا
وخذلونا وغدروا بنا
وقتلونا، ونحن عترة نبيّك،
وولد حبيبك محمّد صلى
الله عليه وآله وسلم الذي
اصطفيته بالرسالة،
وائتمنته على الوحي،
فاجعل لنا من أمرنا فرجاً
ومخرجاً يا أرحم الراحمين.
صبراً على قضائك يا ربّ،
لا إله سواك، يا غياث
المستغيثين، مالي ربّ
سواك، ولا معبود غيرك،
صبراً على حكمك، يا غياث
من لا غياث له، يا دائماً
لا نفاذ له، يا محيي
الموتى، يا قائماً على كل
نفس بما كسبت، أحكم بيني
وبينهم وأنت خير الحاكمين"
318.
ثم دنا عمر بن سعد من
الحسين ليراه. وخرجت زينب
عليه السلام وهي تقول:
ليت السماء أطبقت على
الأرض، يا ابن سعد،
أيُقتل أبو عبد الله وأنت
تنظر إليه؟ فصرف وجهه
عنها، والحسين جالسٌ
وعليه جُبة خز، قد تحاماه
الناس، فصاح شمر: ويحكم
ما تنتظرون؟ أقتلوه
ثكلتكم أمهاتكم
319،
فضربه زرعة بن شريك
فأَبَانَ كفّه اليسرى، ثم
ضربه على عاتقه فجعل عليه
السلام يكبو مرة ويقوم
أخرى، فحمل عليه سنان ابن
أنس في تلك الحال فطعنه
بالرمح فصرعه
320، وقال
لخوليّ بن يزيد: احتز
رأسه. فضعف وارتعدت يداه،
فقال له سنان: فتّ الله
عضدك وأبان يدك
321. فنزل
إليه نصر بن خرشة الضبابي،
وقيل: بن ذي الجوشن
322،
وكان أبرص، وألقاه على
قفاه، ثم أخذ بلحيته،
فقال له الحسين عليه
السلام : أنت الكلبُ
الأبقع الذي رأيته في
منامي.
فقال له شمر: أتشبهني
بالكلاب يا ابن فاطمة؟ ثم
جعل يضرب بسيفه مذبح
الحسين عليه السلام ويقول:
أقتلك اليوم ونفسي تعلمُ علماًً يقيناً ليس فيه
مزعم
ولا مجـالٌ لا ولا تـكتم
أن أباك خير من يُكلـّم
وروي أنه جاء إليه شمر بن
ذي الجوشن، وسنان بن أنس،
والحسين عليه السلام بآخر
رمق يلوك لسانه من العطش،
فقال شمر: يا ابن أبي
تراب، ألستَ تزعم أن أباك
على
حوض النبي يسقي من أحبّه؟
فاصبر حتى تأخذ الماء من
يده. ثم قال لسنان بن أنس:
احتز رأسه من قفاه، فقال:
لا والله، لا أفعل ذلك
فيكون جدّه محمّد خصمي،
فغضب شمر منه، وجلس على
صدر الحسين عليه السلام ،
وقبض على لحيته وهمّ
بقتله، فضحك الحسين وقال
له: أتقتلني؟ أو لا تعلم
من أنا؟
قال شمر لعنه الله: أعرفك
حق المعرفة، أمك فاطمة
الزهراء، وأبوك عليّ
المرتضى، وجدك محمّد
المصطفى، وخصيمك الله
العليّ الأعلى، وأقتلك
ولا أبالي، وضربه بسيفه
اثنتي عشرة ضربة، ثم حزّ
رأسه"
323.
فقال الناس لسنان بن أنس:
قتلت حسين بن علي وابن
فاطمة ابنة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ،
قتلت أعظم العرب خطراً،
جاء إلى هؤلاء يريد أن
يزيلهم عن ملكهم، فأتِ
أمراءك فاطلب ثوابهم
وإنهم لو أعطوك بيوت
أموالهم في قتل الحسين
عليه السلام كان قليلاًً،
فأقبل على فرسه وكان
شجاعاً شاعراً، وكانت به
لوثة، فأقبل حتى وقف على
باب فسطاط عمر بن سعد، ثم
نادى بأعلى صوته:
أوقر ركابي فضة وذهبا أنا
قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أماً وأبا
وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقال عمر بن سعد: أشهد
أنك لمجنون ما صحوت قط،
أدخلوه عليّ، فلما أدخل
حذفه بالقضيب، ثم قال: يا
مجنون أتتكلم بهذا الكلام،
أما والله لو سمعك ابن
زياد لضرب عنقك
324.
"وروى هلال بن نافع قال:
إني لواقف مع أصحاب عمر
بن سعد، إذ صرخ صارخ:
أبشر أيها الأمير، فهذا
شمر قتل الحسين، قال:
فخرجت بين الصفّين، فوقفت
عليه، فإنه ليجود بنفسه،
فوالله ما رأيت قتيلاً
مضمخاً بدمه أحسن منه ولا
أنور
وجهاً، ولقد شغلني نور
وجهه وجمال هيئته عن
الفكر في قتله، فاستسقى
في تلك الحال ماءً فسمعت
رجلاًً يقول له: والله لا
تذوق الماء حتى ترد
الحامية فتشرب من حميمها،
فقال له الحسين عليه
السلام :
"بل أرد على جدي رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم وأسكن معه في داره،
في مقعد صدق عند مليك
مقتدر، وأشرب من ماءٍ غير
آسن، وأشكو إليه ما
ارتكبتم منّي وفعلتم بي".
قال: "فغضبوا بأجمعهم حتى
كأن الله لم يجعل في قلب
أحدٍ منهم من الرحمة شيئاًً،
فاحتزوا رأسه وإنه
ليكلمهم فعجبت من قلّة
رحمتهم، وقلت والله لا
أجامعكم على أمرٍ أبداًً"
325.
سلب الإمام عليه السلام
ورضّ جسده الشريف بحوافر
الخيل!
ثم أقبلوا على سلب الحسين
قميصه، وسراويله، وعمامته،
وسيفه
326، فالذي أخذ
قميصه صار أبرص وامتعط
شعره!... والذي أخذ
سراويله، صار زمناً مقعداً
من رجليه! والذي أخذ
عمامته فاعتم بها صار
معتوهاً! وأخذ نعليه
الأسود بن خالد لعنه الله،
وأخذ خاتمه بجدل بن سليم
الكلبي بعد أن قطع إصبعه
عليه السلام مع الخاتم،
وهذا أخذه المختار بن أبي
عبيد الثقفي فقطع يديه
ورجليه وتركه يتشحّط في
دمه حتى هلك، وأخذ قيس بن
الأشعث قطيفة له عليه
السلام كانت من خزّ، كان
يجلس عليها، فسمّي لذلك "قيس
قطيفة"
327، وأخذ درعه
البتراء عمر بن سعد، فلما
قُتل عمر وهبها المختار
لأبي عمرة قاتله، وأخذ
عمر بن سعد سيفه، ولكنه
ليس ذا الفقار، فإن ذلك
كان مذخوراً ومصوناً مع
أمثاله من ذخائر النبوة
والإمامة
328.
ثم انتهبوا رحله وإبله
وأثقاله
329، ثم أغاروا
على خيم النساء فأحرقوها
وهم ينادون: أحرقوا بيوت
الظالمين !!! بينما
النساء تفر مذعورات من
خيمة إلى أخرى، ثم عمد
أوباش أهل الكوفة إلى سلب
النساء ونهب ما عليهن من
حليّ وحلل، ونهبوا ما في
الخيام من متاع
330.
ثم نادى عمر بن سعد في
أصحابه: من ينتدب للحسين
فيواطئ الخيل ظهره وصدره!
فانتدب منهم عشرة، وهم:
إسحاق بن حويّة الذي سلب
الحسين عليه السلام قميصه،
وأخنس بن مرثد، وحكيم بن
طفيل السنبسي، وعمر بن
صبيح الصيداوي، ورجاء بن
منقذ العبدي، وسالم بن
خثيمة الجعفي، وواحظ بن
ناعم، وصالح بن وهب
الجعفي، وهاني بن ثبيت
الحضرمي، وأُسيد بن مالك،
لعنهم الله تعالى، فداسوا
الحسين عليه السلام
بحوافر خيلهم حتى رضّوا
صدره وظهره
331.
وبعد سبع وخمسين سنة
332 من عمره الشريف، وفي
اللحظة التي استشهد فيها
مذبوحاً ظمآناً، ارتفعت
في السماء في ذلك الوقت
غبرة شديدة مظلمة، فيها
ريحٌ حمراء، لا يُرى فيها
عين ولا أثر، حتى ظنّ
القوم أن العذاب قد جاءهم،
فلبثت بذلك ساعة، ثم
انجلت عنهم"
333.
وروى الشيخ الصدوق (رضوان
الله عليه) والشيخ
الكليني (رضوان الله عليه)
أيضاً، عن الإمام الصادق
عليه السلام أنه: "لما
ضُرب الحسين بن علي عليه
السلام بالسيف، ثم ابتُدر
ليُقطع رأسه، نادى منادٍ
من قبل رب العزة تبارك
وتعالى من بطنان العرش
فقال: ألا أيتها الأمة
المتحيّرة الظالمة بعد
نبيّها، لا وفّقكم الله
لأضحى ولا فطر. قال: ثم
قال أبو عبد الله عليه
السلام : لا جَرَم والله،
ما وفّقوا ولا يوفّقون
أبداًً حتى يقوم ثائر
الحسين عليه السلام
334.
ولم ينج، من أصحاب الحسين
عليه السلام وولد أخيه
وأولاده، إلاّ علي، زين
العابدين عليه السلام ، وعمر بن الحسين عليه
السلام ، وقد كان بلغ
أربع سنين
335. وذهب بعض
المؤرخين إلى أن محمّد بن
الحسين عليه السلام كان
في قافلة الأسرى
336.
وأما أولاد أخيه، فقد قيل
إن عمر بن الحسن عليه
السلام من شهداء الطف،
337 ولكن ابن الجوزي قال:
"واستصغروا أيضاً عمر بن
الحسن بن علي عليه السلام
فلم يقتلوه وتركوه"
338.
وأما الحسن بن الحسن
المثنى، فقد قاتل، كما
تقدم، فأصابته ثماني عشرة
جراحة، وقطعت يده اليمنى
ولم يستشهد
339، إذ وقع
فأخذه خاله أسماء بن
خارجة
فحمله
إلى الكوفة وداواه حتى
برئ وحمله إلى المدينة
340. ويقال إن ابا بكر بن
علي عليه السلام لم يُقتل
لمرضه
341.
ولم يسلم من أصحاب الإمام
الحسين عليه السلام إلا
رجلان، أحدهما المرقع بن
ثمامة الأسدي، بعث به عمر
بن سعد إلى ابن زياد
فسيره إلى الربذة، فلم
يزل بها حتى هلك يزيد،
وحينما هرب عبيد الله بن
زياد إلى الشام، إنصرف
المرقع إلى الكوفة،
والآخر عقبة بن سمعان،
مولى للرباب بنت امرئ
القيس الكلبية، وهي أم
سكينة بنت الحسين، أخذوه
بعد قتل الحسين عليه
السلام ، فأرادوا ضرب
عنقه، فقال لهم: إني عبد
مملوك، فخلوا سبيله
342.
|