تمهيد
بعد حادثة عاشوراء،
انتقلت قافلة الأسرى من
كربلاء إلى الكوفة والشام
وبعد ذلك إلى المدينة،
فنقلت الملحمة الحسينية
إلى أهالي هذه المناطق من
خلال الخطاب، الشعر،
إجابة المخالفين وإقامة
مجالس العزاء فتركوا بذلك
آثاراً كبيرة. ولم يكن
الأثر الذي تركه أبناء
وأخوات الإمام الحسين
عليه السلام في تجمع أهل
الكوفة والشام، بأقل من
أثر شهادة شهداء كربلاء.
وأما المحاور التي دارت
حولها العملية التبليغية
التي مارسها الأسرى فهي:
التعريف بالقيم الدينية،
وصف الرسول الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم
وانتساب أهل البيت إليه،
ذم الذين لم يتحركوا بعد
مشاهدة ظلم بني أمية، فضح
جرائم بني أمية والدفاع
عن الثورة الحسينية في
مقابل التحريفات التي
طالتها. وبعبارة أخرى
استفاد الأسرى من فرصة
لقاء أهالي هذه المناطق
أفضل استفادة، فعملوا على
توضيح الحقائق وفضح فساد
بني أمية.
العزاء في كربلاء
بدأت زينب الكبرى عليها
السلام العمل التبليغي من
كربلاء وذلك عندما بدأت
بالبكاء. وعندما وصلت
زينب عليها السلام إلى
جسد أبي عبد الله عليه
السلام تحدثت بعبارات
جعلت الصديق والعدو يبكي
مما يسمع فأقامت المأتم
في صحراء كربلاء. ينقل "عُروة
بن قيس الحنظلي" أن
زينب عليها السلام بدأت
تندب أخاها وتتحدث بصوت
حزين وتقول: "وامحمداه!
صلى عليك مليك السماء هذا
حسين مرمل بالدماء مقطع
الأعضاء وبناتك سبايا إلى
الله المشتكى وإلى محمد
المصطفى وإلى علي المرتضى"1.
إن هذا الندب هو بعينه
عمل تبليغي.
وعندما وضع الإمام السجاد
عليه السلام جسد الإمام
الحسين عليه السلام
الطاهر في القبر أخذ
يقول: "طوبي لأرض
تضمنت جسدك الطاهر، فإن
الدنيا بعدك مظلمة،
والآخرة بنورك مشرقة، أما
الليل فمسهد، والحزن
سرمد، أو يختار الله لأهل
بيتك دارك التي أنت بها
مقيم، وعليك مني السلام
يا ابن رسول الله ورحمة
الله وبركاته"2.
في أزقة الكوفة
كانت الكوفة بمنزلة قلب
العراق وكانت مركز حكومة
الإمام علي عليه السلام
مدة خمس سنوات وهي على
الدوام مكان تجمع الشيعة
ومجيء أهل البيت عليهم
السلام. وكان أهل البيت
قبل سنوات يعيشون فيها
باحترام وافر، ولكن الآن
تدخلها زينب عليها السلام
وأبناء علي عليه السلام
وهم أسرى.
صحيح أن ابن زياد عمل على
إيجاد جوٍّ من الضغط
السياسي على الكوفة بهدف
أن لا يستيقظ الشعب من
الثبات، فأعلن الحكومة
العسكرية. وفي هذه
الأثناء دخلت قوافل
الأسرى الكوفة.
على الرغم من أن زينب
الكبرى عليها السلام كانت
تعيش أجواءً مقلقة، إلا
أنها أرادت
الاستفادة من هذه الفرصة
على أكمل وجه. فبدأت
الحديث وعرّفت بنفسها،
لتغيِّر بذلك نظرة أهل
الكوفة ثم أخذت تذمّ
الحاضرين الذين كانوا
يبكون وهي تقول: "يا
أهل الكوفة يا أهل الختل
والغدر أتبكون فلا رقأت
الدمعة ولا هدأت الرنة"3.
تحدثت زينب الكبرى عليها
السلام بصلابة وقوة
وقاطعية حتى أن الراوي
يقول: والله لم أرى أفضل
من زينب في عفتها، تتحدث
بما تحدثت به وكأن هذه
الكلمات تجري على لسان
علي عليه السلام
4.
وكان لكلامها وقع على
الحاضرين فكانوا كالحيارى
يبكون من شدة الحزن
يعضّون على أصابعهم5.
كان كلامها كالصيحة
السماوية التي ملأت أجواء
الكوفة فتركت فيها آثاراً
عميقة.
قال حذيم بن شريك الأسدي:
"خرج زين العابدين
عليه السلام إلى الناس
وأومىء إليهم أن اسكتوا
فسكتوا، وهو قائم، فحمد
الله وأثنى عليه، وصلى
على نبيه، ثم قال: أيها
الناس من عرفني فقد
عرفني! ومن لم يعرفني
فأنا علي بن الحسين،
المذبوح بشط الفرات من
غير دخل ولا تراث، أنا
ابن من انتهك حريمه، وسلب
نعيمه، وانتهب ماله، وسبي
عياله، أنا ابن من قتل
صبراً، فكفى بذلك فخراً.
أيها الناس ناشدتكم بالله
هل تعلمون أنكم كتبتم إلى
أبي وخدعتموه، وأعطيتموه
من أنفسكم العهد والميثاق
والبيعة؟ قاتلتموه
وخذلتموه فتباً لكم ما
قدمتم لأنفسكم وسوء
لرأيكم، بأية عين تنظرون
إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، يقول
لكم: قتلتم عترتي،
وانتهتكم حرمتي، فلستم من
أمتي. قال: فارتفعت أصوات
الناس بالبكاء، ويدعو
بعضهم بعضاً: هلكتم وما
تعلمون"6.
لقد جعلت خطابات أهل
البيت وكلامهم، منهم في
قلوب الناس أشخاصاً بلغاء
فصحاء
شجعان فهزوا قلوب الناس
ورفعوا حجب الضلال وغيروا
آراء الناس وأرشدوهم إلى
قيمة هذه الثورة المقدسة.
كان يزيد عارفاً بالحالات
المعنوية والمقام العلمي
للإمام، لكنه ومع إصرار
الحاضرين وافق على ارتقاء
الإمام المنبر، نهض
الإمام وتحدث وأشار إلى
مجموعة من الفضائل:
1 - فضايل وخصائص أهل
البيت.
2 - إيثار وتضحية أهل
البيت في سبيل الله وعزة
الإسلام وتثبيت القيم
الإلهية.
3 - التعريف بنفسه وصلته
بالصالحين والمدافعين عن
الإسلام والتعريف
بالقاتلين والمنافقين
والناكثين.
4 - كيفية مقتل الإمام
الحسين عليه السلام
والجرائم التي ارتكبها
الأعداء في كربلاء.
5 - قصة أسر النساء
والأطفال والإتيان بهم من
العراق إلى الشام7.
تركت خطبة الإمام عليه
السلام تأثيراً كبيراً
على الناس. حيث اعتلى
المنبر وتحدث بحديث دخل
قلوب الناس. فسالت الدموع
وصاح الحاضرون. لقد عمل
الإمام السجاد عليه
السلام على تعريف الناس
بأهل البيت عليهم السلام
وأزاح الستار ليبين لهم
الفضائل التي يتحلى بها
أهل البيت عليهم السلام
8.
نتائج التبليغ في
الشام
1 - وجود حالة من التنفر
والغضب العام في الشام
بحيث لم يبقَ شخص إلا
ووبخ يزيد على فعله9.
ويقال أن سفير الروم الذي
كان حاضراً في مجلس يزيد،
هاله ما فعل يزيد بقتله
الإمام الحسين عليه
السلام وتملّكه الغضب
بحيث
أن
غضبه أزعج يزيد الذي أمر
الجلاّد بقتله10.
لم يتمكن يزيد من القضاء
على موجة الغضب التي
اجتاحت أهالي الشام ضده،
لذلك نهض أمام الجميع
وخطب وأقسم بالله أنه لم
يقتل الحسين عليه السلام
بل الذي فعل ذلك هو ابن
زياد. ووعد بجزاء للقاتل11.
2 - وصلت نتائج التبليغ
الذي لعبه أهل البيت إلى
مستوى التأثير على
الأمويين الخائنين في
الشام، مما جعل المعارضين
يزدادون يوماً بعد يوم.
أ ـ عندما شاهد يحيى بن
الحكم الأموي وهو من
أصحاب المواقع الهامة عند
يزيد، قافلة الأسرى ورؤوس
الشهداء، توجه إلى
الأمويين موبخاً وبين لهم
أنكم أوجدتم فاصلاً
كبيراً بينكم وبين رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم ورفض بعد ذلك
موافقتهم على أي شيء.
ووصل توبيخ يحيى إلى يزيد
الذي أسكته بالتهديد12.
ب ـ تبرأ معاوية الثاني
بن يزيد من والده بسبب
الجرائم التي ارتكبها وفي
النهاية استقال من
الخلافة13.
ج ـ وعندما جلست النسوة
الأسيرات المنزل بعد
الإمام السجاد عليه
السلام، استقبلتهم نساء
آل أبي سفيان بعيون تفيض
بالدمع وقبلوهم وجلسوا
ثلاثة أيام في عزاءهم14.
يقول الطبري لم تبقَ
امرأة من آل أبي سفيان
إلا وجاءت إلى الأسرى
تعزيهم15.
لقد ترك العزاء الذي أقيم
في منزل يزيد ودار
الإمارة آثاراً كبيرة إذ
قرر الناس الهجوم على
منزل يزيد وقتله16.
3 - غيّر يزيد من أسلوبه
وبدأ حركة انفعالية فيها
الكثير من التزوير وهذا
ما عمل أهل البيت عليهم
السلام على فضحه. وهنا
نشير إلى النماذج الآتية:
أ ـ حاول يزيد التوجه إلى
ابن زياد باللعن وقال في
الجواب على كلام عبد
الرحمن بن الحكم: لعن
الله ابن مرجانة أما
والله لو كنت صاحبه ما
سألني خلة إلا أعطيتها
إياه ولدفعت عنه الحتف
بكل ما قدرت عليه، ولو
بهلاك بعض ولدي17.
ب ـ أراد يزيد الخروج من
الجو المتزلزل الذي كان
يحيط به فتوسل أهل البيت
عليهم السلام فبدأ مراعاة
الإمام السجاد عليه
السلام وحرص على الظهور
مع الإمام أمام الحاضرين.
وقد أوضح ابن الأثير أن
يزيد كان حريصاً في الليل
والنهار على وجود الإمام
السجاد عليه السلام إلى
جانبه18.
ج ـ طلب يزيد من الإمام
السجاد عليه السلام أن
يطلب كل ما يريد وهو جاهز
لتلبية طلبه. فطلب الإمام
ثلاثة حوائج: أولاً:
مشاهدة رأس أبيه، ثانياً:
إعادة الأموال المسروقة
منهم، ثالثاً: إذا أراد
يزيد قتله أن يختار رجلاً
أميناً يرافق الأسرى إلى
المدينة. لم يوافق يزيد
على الطلب الأول وقال أنه
سيدفع بدل الأموال التي
سرقت وأما حول الأمر
الثالث فأوضح أنه لن
يقتله19.
د ـ بعد شهادة الإمام
الحسين عليه السلام كتب
يزيد إلى الرجال في
النواحي الأخرى أوضح فيها
أنه بريء من قتل الإمام
الحسين عليه السلام. وطلب
من محمد بن الحنفية
الحضور إلى دار الخلافة.
وعندما حضر، عزاه بمقتل
أخيه وأوضح له أن عبيد
الله كان غير عارف برأيه
وأنه قام بهذه الجريمة من
تلقاء نفسه.
هـ ـ أراد يزيد تلبية
طلبات الإمام السجاد عليه
السلام وحاول التعريف
بقاتلي شهداء كربلاء، إلا
أن كل واحد منهم كان يلقي
التهمة على الآخر. وعندما
أحضروا الشمر قال: إن
الذي قتل الحسين هو الذي
فتح أبواب خزائنه أمام
الجنود وهو الذي أرسلهم
إلى كربلاء. عند ذلك غضب
يزيد ولعنه وطلب منه
الخروج وقال: كنتم
تفتخرون بقتل الحسين
والآن تنكرونه20.
نحو المدينة
بعد ثلاثة أيام من
العزاء في الشام تحرك أهل
البيت نحو المدينة التي
كانت تمتاز عن الكوفة:
1 - فالمدينة هي مركز
الوحي ومركز حكومة رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم ومحل تبليغ الرسالة
وحركة أهل البيت عليهم
السلام التبليغية.
2 - للمدينة مكانة خاصة
عند المسلمين حيث يسافر
إليها المسلمون من كل
أقطار العالم لزيارة قبر
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم بعد أداء فريضة
الحج.
3 - كان أغلب المسلمين في
المدينة من صحابة رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم وأبناءهم لذلك كانوا
على علاقة عالية بذرية
الرسول وبالأخص الإمام
الحسين.
عاد الأسرى من النساء
والأطفال إلى المدينة حيث
أصبح بإمكانهم العمل بشكل
أفضل للوصول إلى أهداف
الإمام الحسين عليه
السلام المتعالية. وعندما
وصل الإمام السجاد عليه
السلام إلى مشارف المدينة
أرسل بشر بن حذلم يعلم
الناس بشهادة الإمام
الحسين عليه السلام، حيث
بدأ قراءة أبيات من
الشعر:21
يا أهل يثرب لا مقام
لكم بها
قتل الحسين فادمعي
مدرارُ
الجسم منه بكربلاء مضرّج
والرأس منه على
القناة يدارُ
خرج أهل المدينة نساءً
ورجالاً يبكون وأحاطوا
بخيمة الإمام السجاد عليه
السلام. هنا بدأ الإمام
عليه السلام الحديث فيهم
موضحاً ما جرى في كربلاء
وما تلا ذلك من الأسر.
لذلك أصبحث المدينة بعد
كلمات الإمام تعيش الحزن
والعزاء وعمّ الغضب من
الجهاز الحاكم الذي مارس
أقصى أنواع الظلم بحق أهل
البيت.
نتائج التبليغ في المدينة
1 - تحريك موج من الغضب
ضد النظام الأموي وقد
تبلور ذلك في وقعة الحرة،
لذلك تمكن أهل المدينة
عام 63 - من خلع يزيد
وكلفوا عبد الله الأنصاري
إدارة المدينة وأخرجوا
كافة بني أمية منها22.
2 - كاتب خواص المدينة
يزيد واعتبروا أن تعرضه
لأهل البيت عليهم السلام،
مصيبة كبيرة وحادثة أليمة
أصابت العالم الإسلامي.
غلام رضا كلى زواره
|