شكلت
الحضارة والثقافة
الغربيتان في بلدنا، ومنذ
بداية ظهورهما وبروزهما
وانتشارهما، مقولة للبحث
واختصت بجزء مهمّ من
الكتابات والحوارات. وصل
الحديث عن الثقافة
والحضارة الغربية إلى
الأوج في عهد الحركة
الدستورية وما بعدها.
وادعى أصحاب هذه الحضارة
أنّ الحركة الصناعيّة
الغربيّة هي الجنّة
الموعودة، وأنّ تلك
المجتمعات هي المدن
الفاضلة. من هنا بدأت
مجموعات السياسيّين
والتجّار والسوّاح و...
تتوافد على تلك البلاد
وذلك بسبب الحملة
اإعلامية الغربيّة
الواسعة على الرغم من
العلم والرؤى البسيطة
والقليلة. فكلّ ما كانوا
يشاهدونه، كانوا ينظرون
إليه بعين الجمال حيث
أضحت ثقافتهم الخاصّة
خالية من كافّة أشكال
الجمال.1
لقد أُصيب الذين توافدوا
على الغرب بالبهتان
والحيرة فانكروا أنفسهم
فأصبحوا يعتقدون أنّ
الأوروبيين أفضل منهم
وأنّ أوروبا أفضل من
أرضهم.
وبعد دخول التكنولوجيا
والبضائع الأوروبية إلى
إيران دخلت معها أخلاقهم
وثقافتهم التي أدخلت
الأفكار والعقائد شيئاً
فشيئاً، فضاقت الأجواء عن
الكثير من الآداب
الإجتماعيّة وأنماط
الحياة، وتهافت المفكّرون
وطلبة العلوم على الحضارة
الغربية حتّى إنّهم كانوا
يتصوّرون أنّ الثقافة
الغربية هي الوحيدة
الكفيلة بسعادة
البشريّة.
روَّج العديد من أتباع
الثقافة الغربية لأفكارها
وأصبح الإيراني الباحث عن
الحضارة يبحث عنها في
الغرب إذ أصبح ينبغي عليه
أن يكون غربيّاً من رأسه
إلى أسفل قدميه، ومن جملة
ذلك في الخطّ واللغة
والآداب الإجتماعيّة2.
لم يكتف بعض مدعي التنوير
بهذا، بل تركوا كلّ ما
يمتّ بصلة إلى تاريخهم
الماضي حتّى لو كان
باعثاً على الفخر،
فازدادت دائرة الاعتقاد
بالغرب والابتعاد عن
الثقافة الذاتية، ولم
يبقَ أيّ مكان للفكر
الدينيّ في هذه الحركة
الجديدة حتى إنّهم قالوا:
إن سرّ التطوّر الصناعيّ
الغربي يعود إل ابتعادهم
عن المذهب والثقافة
اللّذين كانا في الماضي،
ونحن كذلك إذا أردنا
الحضارة، يجب علينا أن
نتخلّى عن اعتقاداتنا
وسنننا القديمة والتخلّص
من كلّ قيد وبند. وقد
لاقت هذه الرؤية دعماً من
قبل الحكومات العميلة
للغرب في إيران، وأدّى
الأمر في النهاية إلى
أنواع من المواجهة بين
الدين والثقافة الوطنية.
يُعتبر الأستاذ مطهّري من
جملة المفكّرين الذين
هالتهم هذه الظاهرة
المهاجمة، ولم يكن بعيداً
عن مسؤوليّاته ورسالته
حيث وقف أمامها بكلّ وضوح
وشفافية.
درس الأستاذ مطهّري الغرب
وحضارته بشكل عميق وقيَّم
مبادئه الفلسفية
والاجتماعية بعيداً عن
الأحكام المسبّقة، وتحدّث
إلى المجتمع حول مختلف
زوايا تلك الحضارة. إنّ
الدراسة والبحث في رؤى
الأستاذ مطهّري يمكنهما
أن يؤدّيا اليوم دوراً
مفيداً ممّا يضفي نوعاً
من الفعالية والحركة على
المثقّفين وأهل الفكر.
صحيح أن الغرب قد شهد
اليوم تحوّلات واسعة، ومع
ذلك فالحضارة الغربية
اليوم هي مظهر من مظاهر
الحضارة الصناعية التي
ظهرت بصورة جديدة. يؤكّد
الشهيد مطهّري أنّ للغرب
وجهين: الوجه الإيجابيّ
الذي يجب الاستفادة
منه والوجه السلبيّ الذي يحمل
الفساد، وبحثنا يتركز حول
الوجه الثاني للغرب.
يعتقد الشهيد مطهّري أنّ
الغرب يستحقّ المدح في
الوجه الأوّل. فالإسلام
هو دين الإنصاف
والواقعية، وهو ينظر
باحترام إلى قيم وحقوق
الناس مهما كانوا، وإذا
شاهد ما هو ذو قيمة ويمكن
الإستفادة منه عند أعداء
الإسلام، كان يمتدح ذلك.
قدّمت الحضارة الغربيّة
للبشر إبداعات جديدة في
مجال العلوم الإنسانيّة
والتجريبيّة، رفعت من
أمامه العديد من الصعوبات
والمشكلات. ثمّ إنّ هناك
بعض أشكال التقدم في
الغرب هي نتيجة أعمالهم
وجهودهم، وهناك أشكال
أخرى حصل عليها الغرب من
خلال الجهود المستمرّة
وتارة عبر طرق غير صحيحة
من جملتها الاقتباس من
مدارس وأديان وشعوب أخرى
أمثال الإسلام والمسلمين،
ثمّ يحاولون أن يقدّموا
ذلك لنا من جديد. يشير
الأستاذ مطهّري عند
الحديث عن المسألة الأولى
إلى عناوين أهمّها النظم
والتنظيم واتباع القانون
والانضباط في الأعمال3،
والاهتمام بالتعليم
والحساسية في مسألة
الصحّة والنظافة العامّة4،
واحترام الكبار في السنّ5،
والعمل على التقدّم
بالحياة البشرية والتجربة
والتخصّص6
و... حيث ينبغي على
المسلمين النظر إلى
الغربيين في هذه الأمور
بعين الاحترام ومن ثَمَّ
الاقتداء بهم فيها:
"يُضرب المثل بالأوروبيين
في الصراحة والنظم ولا
يجب علينا أن ننكر ذلك
لأنهم أعداء لنا
﴿وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُواْ﴾7.
إنّ إخفاء فضائل العدوّ
وعدم الإعتراف بها لا
يؤدي إلى إيجاد فضيلة
فينا. لا
بل على العكس
(ذكر فضائلهم) يؤدي إلى
العبرة والغيرة عند
المسلمين"8.
أمّا
المسير الثاني الذي أوصل
الغرب إلى الصناعة
والتكنولوجيا فكان على
أثر معارضة رؤية الكنيسة
الدينية والعلاقة بين
الإنسان والله ومحاربة
عقلانية أرباب الكنيسة.
يعتقد الأستاذ أنّ الحركة
العقلانية ومحاربة الجمود
والجهل اقتبسه الغرببيون
من الإسلام. وللإنسان في
الإسلام مكانة عالية. إذ
بإمكانه الصعود إلى الأوج
بتلك الأجنحة، وبالتالي
بإمكانه أن يصنع لنفسه
عالماً جميلاً وأن يبنى
هذا العالم على أساس
العقلانية.
للعقل في الإسلام مكانة
عالية، والعقل هو المعيار
الوحيد لفهم الاعتقادات
الأساسيّة أمثال التوحيد
والنبوّة. وهو واحد من
مصادر التشريع إلى جانب
الكتاب والسنّة، وهو حجّة
وسند9.
إنّ قافلة العقلانية التي
كانت منشأ الكثير من
البركات في الغرب، قد
ظهرت من حضن الإسلام
والحضارة الإسلامية قبل
أن تظهر من الثقافة
الأوروبية، حيث لم تحمل
أوروبا في إنجازاتها
العلمية والثقافية
الماضية (القرون الوسطى)
سوى محاربة الإبداع
والعقلانية10.
أما المسلمون فكانوا
لقرون طويلة قادة قافلة
العلم والحضارة حيث نشأ
بين المسلمين علماء لا
نظير لهم. أدّى صدام
الثقافات أثناء الحروب
الصليبية إلى أن يستيقظ
الغربيون من سباتهم حيث
أدركوا نقائصهم فبدأوا
حركتهم بالالتحاق بقافلة
العلم والبحث. ما يؤسف له
أنّ المسلمين الذين كانوا
لمدّة عشرة قرون من
السابقين والمتقدّمين في
العالم على مستوى
الحضارة، قد غرقوا في
القرون الأخيرة في سبات
عميق، فنسوا تاريخهم. لا
بل أضحت أوروبا التي
ساهمت في هذا السبات من
أبرز المستفيدين منه حيث
بدأت هذه الحركة العلمية
والصناعية. يعتقد
الأستاذ
مطهّري أنّ الحضارة
الغربية في الصور
المتقدّمة: أي الاهتمام
بالعلم والصناعة والنظم
وروحية الحريّة
والعقلانيّة والقيم
البشريّة الأخرى ذات
الجذور الدينية، جديرة
بالاستفادة، وهي في
الحقيقة عبارة عن تبادل
ثقافيّ إنسانيّ يقع في
مصلحة المسلمين، وهي
تقليد صحيح ومشروع11.
ولكن ما كان يقلق الأستاذ
هو الوجه الخفي للحضارة
الغربية.
عمل الغرب، وخلافاً
للصورة العلمية
والصناعية، أن ينهض على
حساب الآخرين، وأن يروّج
لثقافته وقيمه عن طريق
إزاحة الثقافات والقيم
التي تعارضه والتوجّه نحو
العولمة. لقد عمل الغرب
المستعمر وبعد التخطيط
والتبليغ الواسعين
وبأساليب خاصّة على توجيه
الأذهان نحو مقولة أنّ
كلّ ما هو حسن وصالح إنما
هو نتيجة ما قدّمه الغرب،
وبالتالي فكلّ المذاهب
والمدارس ما هي إلّا
مذاهب ومدارس متأخّرة
ومتخلّفة، ولم تحاول
سَوْق البشرية نحو
التحضّر. إنّ الانتصارات
المتتالية التي حقّقتها
الدول الغربية في مجال
العلم والصناعة، والأهمّ
من ذلك انتصارها في الحرب
العالمية الأولى وانهيار
الدولة العثمانية حيث
لاقى الأمر ترحيباً
واسعاً عند المفكّرين
العرب والإيرانيين، زادت
من محبوبية الأنظمة
العربية التابعة للغرب
ومهَّدت الطريق لقبول
القيم والمدارس الناشئة
من الثقافة الأوروبية:
"إنّ انتصار الدول
المتحدة في الحرب
العالمية التي رافقت
انتصار الديمقراطية
والليبرالية الغربية،
زادت من محبوبية الأنظمة
السياسية عند المفكرين في
آسيا. كان المفكّرون
هؤلاء ينظرون إلى
الاستقلال السياسيّ على
أنه مجرّد وسيلة للتقدم
في سبيل الوصول للتغرّب
الأوروبيّ وقبول قيم
الحضارة الأوروبية"12.
لم يكتفِ المتغرّبون
المسلمون في الدول
الإسلامية باتباع الغرب،
بل ذهبوا أبعد من ذلك حيث
بدأوا يوجّهون التهم
للدين والمذهب بأنهما غير
فاعلين: الإسلام عاجز عن
مرافقة الحضارة البشرية
الجديدة! وكان البعض يعيش
على أمل أن يمتلك ما
امتلكه الغرب. حاولوا
إيجاد نوع من المواءمة
بين الإسلام وما يدّعيه
الغرب ويعتقد به وما يشكل
أساس حركته ففسّروا
الآيات والروايات بشكل
يجعلها متلائمة مع
القوانين والضوابط
الغربية. كانوا يتركون
تعاليم وقوانين أحكام
الإسلام التي لا تتماشى
مع القوانين الغربية
والتعاليم الرائجة
والمقبولة عند الغربيين،
أو أنهم كانوا يعرضونها
بشكل أبتر حتّى إنّهم
كانوا يدّعون: أنّ تلك
القوانين والتعاليم
متعلِّقة بالمجتمع
البدائيّ في صدر الإسلام!
إنّ هذا المرض الناشىء من
قصر النظر، كان يعمّ
الدول الإسلاميّة. حاول
بعض مدَّعي الفكر
والمتظاهرين بالعلم تفسير
آيات القرآن الكريم
برأيهم ليبينوا من خلال
ذلك أنّ الآيات الشريفة
تنكر الحجاب الإسلاميّ
للنساء، وبذلك كانوا
يدعمون البرنامج
الإلحاديّ لرضا خان13.
وقد نُشر في مصر عشرات
الكتب المعارضة لأحكام
الإسلام وتعاليمه14.
كان الحبيب بورقيبة، رئيس
جمهورية تونس، يتمسّك
بمقولة أنّ الإسلام يدعم
حريّة الفكر وكذلك التطور
والتقدّم ليدّعي بأنّ
العباءة كحجاب لا تتلاءم
مع التقدّم والتطوّر،
فأعلن وبشكل رسميّ وصريح
عام 1960م عن كشف الحجاب.
كان بورقيبة يشير إلى أنّ
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم كان لا يصوم في
الأسفار التي كانت بقصد
الحرب، ليقول بعد ذلك:
البناء والعمل اليوم في
حكم الجهاد ويجب على
العمّال ألّا يصوموا. كان
يعتبر فهمه للدين من أكثر
القراءات قيمة15.
كان الأستاذ
الشهيد
يستشعر خطر هذه الأفكار
الهدّامة على فكر وروح
المجتمع الإسلاميّ فكان
يحذّر الجيل الصاعد من
صورة الحضارة الغربية
هذه، ويبيّن لهم ضرورة
عدم الوقوع في شراكها،
وكان يعمل على نقد وتقييم
الإعلام الأوروبي من خلال
مقارنة إعلامهم بعملهم16.
كان الأستاذ يؤكّد على
ضرورة مواجهة ظلمات
التغرّب والتحريف التي
كانت تتسع وتنتشر يوماً
بعد يوم: الإسلام دين
جامع يمتلك برنامجاً
لكافّة احتياجات البشرية
الحالية والمستقبلية
ومصرّاً في قوانينه
وتعاليمه على العزّة
والكرامة والحقوق
الأساسيّة للناس، وكان
يقول: "نحن لسنا بحاجة
لأفكار الآخرين المنسوخة
والبالية".
إنّ تقليد الغرب بهذا
الأسلوب ليس لا يدفعنا
إلى الأمام فقط، بل يقضي
على عزّتنا وشوكتنا17
وقد ابتليت الأمم التي
استسلمت للغرب ولحقت به،
بعدم المروءة، وحرموا من
عزتهم وحرمتهم.
من جملة الصور السلبية
للحضارة الغربية من وجهة
نظر الأستاذ مطهّري على
النحو الآتي:
أ-
محاربة الدين: يعتقد
الأستاذ مطهّري بعدم وجود
ارتباط وعلاقة منطقية بين
الرنسَّانس (عصر النهضة)
في أوروبا وبين الإلحاد.
وكما شهدت تلك البلدان
وجود مفكّرين غرباء عن
الدين وبعيدين عنه أمثال
بيكون ورسل، كان هناك
مفكّرون معتقدون بالله
أمثال آنسلم وديكارت.
نعم، كان هناك أشخاص
ركبوا أمواج الحركة
العلميّة والتجريبيّة في
أوروبا، وأمسكوا بزمام
ركاب هذه السفينة، وكانت
تفصلهم مسافة كبيرة عن
الله فربطوا، إمّا عمداً
أو عن طريق الخطأ، بين
التطوّر الصناعيّ
والاجتماعيّ وبين النزعة
الماديّة. رفض قادة
الحركة الصناعيّة في
الغرب الدين، لا بل
وأدانوه,
لأنه بنظرهم
عبارة عن قوّة رجعية
معارضة للعلم ومخالفة
للديمقراطية، وأوضحوا أنّ
العلمانية هي الحالة
الواقعية للحضارة
الغربية:
"إنّ هذه الحرب الثقافية
العظيمة التي استمرّت
لأكثر من قرنين قد انتهت
بالتدريج بانتصار المدنية
والثقافة الصناعية. وظهرت
معها المدارس غير الدينية
والمؤسّسات الدنيوية،
وتراجع الدين في الدول
الصناعية على وجه العموم.
وجهت مجلة التايم سؤالاً
على غلاف عدد نيسان 1966:
هل مات الله؟18"
لم يكن الغرب، وخلافاً
لما يدّعي، علمانياً
ومروّجاً للحكومات غير
الدينية فقط، بل كان
معادياً للدين، وقد أفرد
في حضارته الموجودة
مكاناً لمحاربة المذهب
والمؤسّسات الدينية.
أَظْهَرَ الغرب أنّ الدين
يحول دون تقدّم المجتمع
وفي أيّ مكان حكمت فيه
النهضة، تمّ إخراج الدين
من دائرة الحكومة
والسلطة. صحيح أنّ أعمال
الكنيسة والخشونة التي
امتاز بها القساوسة كانت
مؤثّرة على مستوى النظرة
السلبية لقادة الرنسَّانس
نحو المسيحية19،
إلّا أنّ هؤلاء القادة قد
عمّموا الكراهية والعداء
على كافّة الأديان. لقد
أصبح التعصّب للتجربة
بديلاً من شعار عدم
العصبية ومحاربة التحجّر.
فلو أخذنا فرنسيس بيكون،
على سبيل المثال، الذي
كان يردّد شعار الإنسان
والعلم والتجربة والذي
جعل خلوّ البحث من الغرض
من شروط التحقيق والوجه
الذي تمتاز به الحضارة
الغربية الجديدة، كان في
موقع العمل يتحدّث من
منطلق الإنسان المتعصّب
والحاقد الذي يتهجّم على
دين الإسلام، من دون دليل
وبرهان، لا بل كان يتحدث
بعبارات واهية ويقول:
"الإسلام دين
يقوم على الإكراه وهو
يمنع أتباعه من التفكير"20.
هذا الشخص إمّا أنه جاهل
بالإسلام والقرآن وهو
الذي كان يمنع الناس من
التقليد الأعمى حيث كان
يقيّم أفكاره على أساس
العقلانية والتفكير، أو
أنه كان يتحدّث بتلك
العبارات انطلاقاً من
التعصّب والعداء. إنّ
الذي يسعى إليه سياسيّو
الحضارة الغربية اليوم،
محاربة الإلهيات المخلصة،
وبما أنّ الإسلام هو أهمّ
الأديان التوحيدية الذي
جعل من خلاص ونجاة البشر
أكبر وأبرز اهتماماته،
فقد جعلوه في مقدّمة
الأمور التي يعادونها، مع
العلم أنهم يعترفون
باحترام عبادة الأصنام
والمذاهب البدائية21.
الغرب المعاصر يبذل كلّ
جهوده للدفاع عن الأنظمة
المعادية للدين، وقد جعل
من قضيّة مواجهة الإرهاب
وسيلة لمحاربة الإسلام.
طبعاً الغرب جاهز للحياة
والمواءمة مع الإسلام
الذي لا يرفض الشرك
والإلحاد واستثمار
الإنسان: يقول الشهيد
مطهّري بعد إشارته إلى
الظروف الحاكمة على
العالم بعد الحرب
العالمية الثانية:
"إنّ السياسة الحاكمة على
العالم أو على نصف
العالم، تريد للإسلام أن
لا يموت وأن لا يعيش، بل
أن يبقى في حالة نصف حيّ
ونصف ميت. لقد انقسم
العالم إلى معسكرين:
الشرق والغرب. يتفق هذان
المعسكران على أمرين:
الأول: مسألة ألمانيا،
والثاني: مسألة الإسلام.
أمّا فيما يتعلّق
بألمانيا، فصحيح أنهما
يبحثان في الظاهر حولها،
إلا أنهما في الباطن
متفقان على عدم السماح
للشعب الألماني
بالحياة... وهكذا هو
الحال بالنسبة للإسلام.
خلاصة الأمر أنّ معسكر
الشرق يعتقد بضرورة
القضاء على الإسلام من
الأساس، بينما يتجه
المعسكر الغربيّ للاحتفاظ
به في حالة نصف حياة ونصف
موت"22.
ب-
تدنّي الأخلاق: من
جملة المسائل الأخرى التي
اعتبرها الشهيد مطهّري
منشأ الكثير من الأزمات
الفردية والاجتماعية، هي
أساس الفكر الأخلاقي
والمبادىء القيمية لهذه
الحضارة. يعتقد الأستاذ
مطهّري أنه وبغضّ النظر
عن وجود بعض النظريات
المقبولة في بعض المدارس
الأخلاقية الغربية أمثال
أفكار ونظريات ديكارت
و... فإنّ الحضارة
الغربية تدور حول محور
المعايير التي لا تعتقد
بكرامة الإنسان، بل تذهب
به إلى مكان أدنى من
مستوى الحيوان. أصبح
الإنسان في هذه المدارس
فاقداً للذات والهوية،
وابتعد عن أصله وطينته.
إنّ الحريّة التي يصرّ
عليها الغرب، لا يقصد
منها الحريّة المعنوية
وتنمية الشخصيّة وإعطاء
الإنسان حقّه الفطريّ
والإلهيّ. بل تدور الحرية
حول محور الأهواء
النفسانيّة وإعطاء المجال
لتحقّق كافّة الاحتياجات
النفسية والجسمية للفرد.
هذه الحرية هي نتيجة رؤى
فرويد حول الإنسان، أو
أنّ جذورها تقود إلى
أفكار ميكيافيلي ونيتشه
حول العالم والإنسان.
تجتمع هذه الأفكار حول
مسألة واحدة، وهي أن
يستفيد الإنسان،
الاستفادة القصوى من
العالم وأن يتّجه نحو
الثروة والسلطة. انتشرت
مدرسة ميكيافيلي
الأخلاقية السياسية في
أوروبا في القرن الخامس
عشر الميلادي، وكان يعتقد
أنّ المواطنين يجب أن لا
يكونوا ملتزمين بالمعايير
الأخلاقية الرائجة عند
الأديان فيما له علاقة
بالحكومة والقيادة، وأمّا
الأشخاص الذين تمكّنوا من
الإتيان بأعمال عظيمة،
فلم يفيدوا العمل الصالح
بشيء، حتى إنّهم تلاعبوا
بالبشر. وبما أنهم كانوا
يعتمدون الحيل كالثعالب،
لذلك خدعوا الناس ومارسوا
كلّ شرورهم:
"القائد
الذكيّ، يجب أن لا يكون
وفياً لمواثيقه عندما
يكون الأمر ضارّاً له حيث
لا يبقى أي دليل لالتزامه
وتقيده"23.
أشار الأستاذ مطهّري
وأثناء دراسته عقائد
فلاسفة الغرب حول
الإنسان، إلى
مسألة أنّ
من جملة الأسس والقواعد
الأخلاقية في الغرب،
مدرسة السلطة التي كان
لها وجود قبل سقراط وقد
حاربتها المسيحية، إلّا
أنّها عادت للظهور من
جديد في عصر النهضة. تقول
المدرسة الأخلاقية
لميكيافيلي ذات الجذور
السياسية
"الأصل في
السياسة، السيادة وكلّ
شيء جائز في هذا الطريق:
الكذب، الخداع، المكر
والخيانة".
ويضيف ميكيافيلي:
"عُرضت هذه المدرسة
لاحقاً باعتبارها أخلاقاً
عامّة وكانت النتيجة أصل
السلطة في الأخلاق"24.
تعتبر الأديان الإلهية
أنّ الحقيقة هي أساس
كافّة الأشياء وإذا كانت
الأديان تشجّع على العلم
والمعرفة، فلأن العلم
وسيلة للوصول إلى
الحقيقة. إنّ تلك الحقيقة
هي أمر معنوي وأعلى من
الأمور المادية والمصالح
الشخصية للإنسان. وفي
الجواب عن سؤال: "هل
العلم أعلى أم المال"؟
كان جواب الأديان
باستمرار أنّ العلم هو
الأعلى.
"أمّا "بيكون"
الذي كان لنظرياته
الفلسفية دورٌ وتأثيرٌ في
الحركة الصناعية الغربية،
فكان جوابه أنّ العلم
المفيد والأساسي هو الذي
يوسّع من دائرته في
الطبيعة، وهو الذي يحرّك
الوسائل في سبيل رفاه
الإنسان. أمّا اعتبار
العلوم النظرية من وجهة
نظر بيكون، فهو يساوي
قدرة الإنسان على إنتاج
العمل والمساعدة في
الرفاه الدنيوي للإنسان.
وبعبارة أخرى، العلم
المقدّس هو الذي يخلق
السلطة للإنسان ويُظْهر
له أسرار ورموز الطبيعة
ويؤمّن له المزيد من
الرفاه"25.
حاول الأستاذ مطهّري
تحليل آراء بيكون واعتبر
أنّ آراءه قدمت خدمة
كبيرة للبشرية على مستوى
تحريك العلم في مسير
اكتشاف الطبيعة واستفادة
الإنسان
من الأرض، إلّا
أنّها أدّت إلى وجود
خسائر أيضاً حيث أنزلت
العلم من مقامه الرفيع
والمقدّس.
كان بيكون يقول:
"العلم لأجل السلطة وفي
خدمتها، والمعرفة لأجل
القدرة، وبذلك جعل العلم
أسير السلطة وهنا اجتمع
طريق بيكون ومسير
ميكيافيلي ونيتشه:
"تقوم حركة الكون اليوم
على أساس أنّ العلم بشكل
عامّ في خدمة السلطة. لم
يكن العلم في أيّ وقت من
الأوقات كما هو اليوم
أسير أصحاب السلطة
والقوّة وفي خدمتهم، لا
بل إنّ علماء العالم
الأوائل هم أكثر الأشخاص
أسارى. إنّ أكثر الأشخاص
علماً، أينشتاين على سبيل
المثال، ولكن من كان يخدم
علم أينشتاين؟ كان في
خدمة روزفيلت، كان
أينشتاين عبداً عند
روزفلت ولم يكن باستطاعته
أن لا يكون كذلك"26.
أمّا الرؤى الأخلاقية عند
نيتشه التي تركت آثاراً
كبيرة في الحضارة
الغربية، فكان لها من
وجهة نظر الأستاذ مطهري
دورٌ كبير أيضاً في نشر
الأنانية والظلم. لَخّص
نيتشه قيمة الإنسان في
القوّة والسلطة، واعتبر
أنّ طينة الكون الطبيعية
تقوم على أساس إنتصار
الأقوياء على الأدنى من
ذلك. وإذا أراد الإنسان
السير مع الطبيعة، فما
عليه إلّا أن يربّي جيلاً
من الأقوياء وبالتالي
إخراج الضعفاء من ساحة
الحياة. يعتقد نيتشه أنّ
الدين هو صناعة الضعفاء،
ويخالف في ذلك عقيدة
ماركس الذي كان يعتقد أنّ
الدين هو صناعة الأقوياء.
يعتقد نيتشه أنّ الضعفاء
صنعوا الدين للقضاء على
الأقوياء. يعتبر نيتشه
أنّ الأخلاق التي روّج
لها سقراط وبوذا والمسيح،
هي أخلاق العبودية، وأمّا
حوار المساواة والأخوّة
والاعتراف بحقوق النساء
والمغلولين، إنما هو سبب
الفقر والانحطاط. يعتقد
نيتشه أنّ هؤلاء
لا
يشكّلون أيّ قيمة، ويجب
القضاء عليهم، لا بل يجب
حذف الله والآخرة والمحبة
والعطف والليونة من
الثقافة البشريّة, لأنّ
منشأ العطف على الآخرين
هو العجز، ومنشأ التواضع
الحقارة27.
ينقل الشهيد مطهّري عن
العلّامة إقبال اللاهوريّ
الذي عَرَف الغرب بشكل
صحيح وكان صاحب نظريات في
فلسفة الغرب، قوله:
"يفتقد الغرب أيديولوجية
صناعة الإنسان والأساس
الأخلاقيّ اللائق".
إنّ الفلسفات والمذاهب
الأخلاقية الغربية لا
توصل الإنسان إلى الكمال،
ليس هذا فحسب، بل تأخذ به
إلى الحضيض. إنّ الأوروبي
الذي يتحدّث عن الإنسان
وحريته، وقف ولقرون
متمادية وبوساطة القوّة
حائلاً أمام تقدّم
الآخرين ولم تتضمّن
شعاراته الخادعة سوى
الخداع:
"إنّ مثاليّة
أوروبا لم تظهر على صورة
عامل حيّ في حياتها على
الإطلاق، وكانت النتيجة
وجود الأنا الضائعة التي
بدأت تبحث عن ذاتها في
الديمقراطيات المتعارضة
مع بعضها البعض، التي
كانت تستثمر الدراوشة
لمصلحة الأقوياء. اقتنعوا
بما نقول من أنّ أوروبا
اليوم هي أكبر مانع في
طريق تقدّم الأخلاق"28.
يذكّر الأستاذ مطهّري
بممارسات الغرب اليوم،
ويذكّر بمسألة:
يتّبع الغربيون اليوم
طريق أجدادهم ويثبتون
ثقافة محورية الأنا في
تلك الديار. إنّ الفساد
والخشونة في الدول
الغربية ليسا إلّا وليد
الإنحراف في مدارسهم
الفكرية التي نشأت من
فلسفاتهم غير الدينية:
"هذه هي الروح
الأوروبية. أمّا منشور
حقوق الإنسان الذي
يقدّمونه، إنّما هو لخداع
الآخرين. التربية
الأوروبية والأخلاق
الأوروبية الحقيقية، هي
أخلاق ميكيافيلي ونيتشه"29.
إنّ اهتمام المجتمع
الصناعيّ الغربيّ
بالتقدّم الماديّ والسرعة
في الإنتاج والمصرف
وإخراج الدين والقيم
الأخلاقية من المجتمع،
ترك العديد من الآثار
السلبية حيث يحقّ لنا
الادّعاء أنّ أيّ منطقة
في العالم لم تكن بأمان
منه وبذلك نكون غير
مبالغين. من جملة ذلك:
1- غربة الإنسان عن أخيه:
من جملة النتائج المشؤومة
لحضارة أوروبا، أزمة
العواطف والمحبة
والأحاسيس الطاهرة
والعلاقات العائلية. إنّ
للإنسان أحاسيس عديدة
وتتفتح استعدادات الإنسان
وروحه في ظلّ الإتصال
الجمعيّ والعائليّ. إنّ
التربية والعاطفة والمحبة
والصفاء العائلي وارتباط
الأقارب ببعضهم، تهيِّئ
الأرضية لنموّ الأحاسيس
الطاهرة في المجتمع
الأكبر. كانت المرحلة
المتقدّمة على الحضارة
الصناعية عبارة عن مرحلة
ثبات العائلة. وكان ما
يزال للحنان والعطف
مكانهما، وكانت قداسة
الوالد والوالدة ما تزال
تلقى أهمية خاصّة. وكان
الناس أكثر قرباً إلى
بعضهم البعض، وقد ساهم
الدين في سلامة الأجيال
وزرع في الأذهان أعمق
المحبة والالتزام نسبة
إلى بعضهم الآخر، وكانت
تربط الناس ألطف وأشرف
العلاقات.
إنّ السرعة في التطوّر
والتقدّم والاستفادة قد
غلبت كلّ شيء. وبدل أن
يعمل الإنسان للاستفادة
من الآلة في سبيل نشر
القيم المفيدة، أصبح
عبداً لها. وعمت فلسفة
الإنتاج لأجل المصرف
والمصرف لأجل الإنتاج كلّ
الأماكن، فشارك الجميع في
هذا السباق الذي لا هدف
له. أمّا أوّل الأمور
التي جرى التضحية بها في
هذه الحالة، فهي قوّة
العائلة ومحبتها وعطفها.
في هذا النمط من الحياة
أصبح المرضى يستريحون في
المشافي بدل المنزل،
وأصبح الطفل يودع الحضانة
والكبار دار العجزة.
وأمّا الزوج والزوجة
فأصبحا يعيشان بعيداً عن
بعضهما في الغالب. وأصبح
الأبناء غرباء عن الآباء.
فتزلزلت تربية الأجيال،
وعاش الأطفال
بعيداً عن
حضن العائلة الدافئ.
ولأنّ الأمّ عاشت في مكان
فاقد للمحبّة، فلن تتمكّن
من إعطائها لأطفالها. كلّ
ما تقدَّم عبارة عن أزمات
بدأ مفكرو الغرب يشعرون
بظهورها وانتشارها وخطرها30.
كتب الشهيد مطهّري في
دراسة نتائج الحضارة
الغربية هذه:
"الأمهات لا
يشعرن بالمحبة المطلوبة
تجاه أبنائهنّ. وهكذا
الأبناء بالنسبة إلى
الأمّهات والآباء
وبالنسبة إلى الأخوة مع
بعضهم البعض، فكيف
بالجيران والمواطنين؟"31.
أكّد الأستاذ مطهّري أنّ
فقدان العاطفة الإنسانية
في العالم قد ساهم في
وجود مسألة المجاعة
الموحشة في العالم الثالث
وزاد من مقدار الموت
الناشىء من عدم العدالة
والتمييز العالميّ.
تشهد الإحصاءات على صحّة
كلام الأستاذ. يعتبر
الخبراء أنّ التكاليف
العسكريّة التي تُصْرف في
نصف يوم في العالم، كافية
لتأمين الاعتبار الكامل
لبرامج محاربة المالاريا
في الأمم المتحدة. ويكفي
ثمن دبابة متطوّرة واحدة
في بناء ألف صفّ لثلاثين
ألف تلميذ أو لتأمين طعام
لثمانية ملايين شخص في
يوم واحد. وإنتاج طائرة
حربية واحدة يكفي لبناء
أربعين ألف صيدلية في
القرى. مع العلم أنّ
الفقر المطلق وصل في دول
العالم الثالث، إلى
ثمانمائة مليون شخص، وعدد
الأشخاص الذين يعانون من
نقص في الغذاء وصل إلى
خمسمائة مليون، ويشهد
العالم حالات قحط وغلاء
كبيرين في مناطق من
أمثال: أفريقيا و... وفي
كلّ يوم يموت ثلاثون
طفلاً لعدم وجود المياه
الصحيّة والغذاء الكافي32.
تعترف الدول الصناعية وما
وراء الصناعية بأنّ جزءاً
مهمّاً من النموّ
الاقتصاديّ
فيها يعود إلى
المصادر الرخيصة واليد
العاملة في العالم
الثالث. تعمد الدول
الغنية إلى إتلاف الموادّ
الغذائية الفائضة تلافياً
لعدم هبوط الأسعار وتمتنع
عن إرسالها للدول المصابة
بالقحط. يُصرف في العالم
حوالي ملياري دولار
لإطعام الكلاب والقطط
ويتلف الفائض بينما يموت
الجياع الواحد بعد الآخر33.
إنّ حالة عدم عطف البشر
على بعضهم البعض نشأت من
الفلسفة الحاكمة عليهم
ومن خفوت القيم الدينية
في المجتمعات. لقد ساهمت
الفلسفات الدنيوية أمثال
أفكار بيكون ونيتشه و...
التي روّجت للإنسان
القويّ وصاحب الثروة، في
اتجاه البشرية نحو مقولة
أنّ العلم والثروة يجب أن
يخدما السلطة في العالم،
فكان يتمّ التخلّي عن كلّ
تعلّق يعارض هذا الهدف،
وهنا يقول فرويد: إنّ
قيمة كلّ تضحية وإحساس
إنساني، هو النتيجة غير
الواعية والروحيات غير
العقلانية للإنسان حيث
يجب على الإنسان التخلّص
منهما. الواضح أنّ هكذا
رؤية لن تحمل من النتائج
سوى ما نشهده اليوم.
2- تفكّك العائلات:
يعتقد الأستاذ مطهّري أنّ
من نتائج الفلسفات
الغربية الدنيوية، تفكّك
العائلة الأخطر من غربة
الأفراد عن بعضهم البعض.
إنّ طهارة المرأة والرجل
وعفة وعصمة النساء من
أبرز شواخص الأديان
السماوية وقد أوصت كافّة
الأديان الإبراهيمية
الناس بالالتزام على
المستوى الأخلاقيّ
والجنسيّ، لا بل حدّدت
هذه الأديان عقاباً
لتخطّي حدود القيم
الإنسانية. لقد ساهمت حكم
وأساليب أتباع الأنبياء
وطوال التاريخ في سلامة
الحياة البشريّة، وضمنت
الاستقرار والشعور
بالأمان لدى الأجيال.
لقد أدّت أصداء بعض
الأفكار التي كان لها دور
في عصر النهضة الأوروبي
في تزلزل بنيان
المجتمعات، فكُسر سور
العفّة العامّة. واعتُبر
إلتزام وتقيّد العائلة
بالرابط الشرعيّ نوعاً من
الأسر، وحُذفت ضرورة نسبة
الأبناء إلى الآباء من
القانون.
أمّا فلسفة الأخلاق
الرائجة اليوم في الغرب،
فلا تعبّر عن منهج كانت
ويونغ الأخلاقيّ، بل ما
يجري الترويج له هو ذاك
البعد الذي رَوّج له
فرويد فاعْتُبر الإنسان
مجموعة الغرائز والميول
المادية الصرفة، فالإنسان
عاجز عن تخطّي حدود
الغرائز، وينبغي عليه
الوصول إلى مرتبة الكمال
في إشباع غرائزه ليمكنه
التخلّص من السجن
الداخليّ والقضاء على
عقده النفسيّة.
وأمّا بناءً على المنهج
الأخلاقيّ الحديث عند
براترند راسل فيجب في
الأخلاق الجنسيّة عدم
وجود بعض الأحاسيس أمثال
الخجل والعفاف والتقوى
والغيرة في الإنسان!34
الواضح أنه في ظلَّ هذه
الأفكار:
"يجاز للإنسان أن
يتخلّى عن المسؤولية، وأن
يكون قاصراً ومقصّراً في
ارتكاب أيّ نوع من
المعاصي, لأنّ كلّ ما
نقوم به هو بأمر من
اللاوعي، أن نجعل أنفسنا
بعيدين عن المسؤولية وعن
نتائج أعمالنا"35.
يتحدّث مفكّرو العالم
وبوضوح: مع أنّ هناك
نظريات كثيرة في مجال علم
النفس التي ظهرت في
أوروبا، إلّا أنّ أفكار
فرويد بقيت ولسنوات طويلة
كالدم في عروق المجتمعات
الغربية التي تركت آثاراً
عديدة.36
اليوم ومن الناحية
الاجتماعية، وفي العديد
من الدول التي لحقت
بالحياة الغربية، فإنّ
الزوجية غير ضروريّة
بالمعنى الرائج في الدول
الإسلامية، فازداد الطلاق
وازداد وجود الأبناء غير
الشرعيين37.
وعلى هذا الأساس
وبالتقارن مع رواج
الحريات الغربية ازدادت
أنماط الحياة طبق الأسلوب
الغربيّ، وراجت شعارات
المساواة بين الجنسين
والاستفادة الأداتية من
المرأة، وارتفعت معدّلات
الطلاق والأبناء الفاقدين
للمعيل... ووصلت أكبر
الأزمات العائلية
والأخلاقية إلى الأوج،
ليس بين الطبقات غير
المتعلّمة فحسب، بل بين
المجموعات التي ابتعدت عن
الثقافة الإسلامية الذين
اقتربوا من نمط الحياة
الغربية.
اليوم أصبح العالم يدرك
وبالتدريج أهمية الوصايا
الأخلاقية والحركات
الوقائية التي أوجدها
الإسلام للمواجهة وتنظيم
البرامج الاجتماعية عند
أتباع الحضارة الغربية،
وذلك على مستوى سلامة
المجتمع. وكلّما جرى
الاستفادة من هذه
الأساليب بشكل صحيح، وصلت
العائلة إلى الأمن
الضروريّ والمناسب:
"من جملة
الأشياء التي تساهم في
ثبات العائلة وبيئتها،
مسألة معاقبة الزناة،
وهذا هو سبب تزلزل أسس
العائلة في أوروبا
وضعفها، وكلّما اقترب
مجتمعنا اليوم من اتباع
الغربيين، اتجهت العائلة
نحو التزلزل والضعف"38.
إنّ إبتعاد الإنسان
الغربي عن الأهداف
الدينية والقيم
الأخلاقية، لم يحقّق له
الراحة الدنيوية لا بل
الأكثر من ذلك، إذ قضى
على هدوئه الروحيّ
والنفسيّ. صحيح أنّ
الغربيّ لم يتمتّع
بالرفاه الذي يعيشه
اليوم، فهو مجبور على
متابعة العمل وبذل
المجهود للالتحاق
بالقافلة الصناعية والنعم
والثروة المسرعة. وقد
ساهمت الشهوات المتنوّعة
في وجود الإسراف
والمنافسة والعداء. وأدى
الإلتحاق بعربة التقنية
إلى أن لا يبقى أي مجال
لاحتياجات الإنسان
الروحيّة.
3- الأمراض العصبيّة
والنفسيّة: لم تساهم
التقنيّات والاختراعات
الصناعيّة الجديدة في
تلبية احتياجات الإنسان
الأساسيّة، بل زادت من
دائرة الصعوبات والمشاكل،
فأصبحت الإدارة
الإجتماعية والاقتصادية
للمجتمع أكثر تعقيداً
وصعوبة. وإذا جعلت
التقنية الإنسان غير
محتاج من بعض الجهات، فقد
أوجدت عنده ثبات
الإحتياجات الأخرى. وإذا
تمكنت التكنولوجيا والطبّ
التقني المتطوّر من علاج
بعض الأمراض وشفاء بعض
الآلام، فقد ساعدت في
وجود أمراض جديدة،
وبعبارة أخرى وبدل أن
تكون الآلة لخدمة
الإنسان، أصبح الإنسان
خادماً لها. تحدّث
الأستاذ حول هذه الظاهرة
تحت عنوان "أزمة الآلة
وأمراض الحضارة"
فالسرعة الكبيرة لعدم
الإبتعاد عن الآخرين، جعل
حياة الإنسان خالية من
الأهداف والمقاصد، وكلّما
تطوّر المجتمع في البعد
الصناعيّ، كانت أرقام
الانتحار تتصاعد وتزداد
أعداد المبتلين بالأمراض
العصبية والاختلالات
النفسيّة.
"تشير الإحصاءات إلى أنّ
الانتحار أكبر في الدول
المتقدمة وأكثر من
الناحية الصناعية
والمتقدمة في الرفاه
المادي. وتبيّن التحليلات
أنّ السبب في ذلك ليس سوى
الخلاء المعنوي وعدم
الإشباع الروحي... وتبين
تلك الإحصاءات في تلك
الأماكن على وجه الخصوص
أنه كلّما ازداد التطور
والرفاه المادي تزداد
الأمراض العصبية
والاختلالات النفسيّة...
وقد أطلقوا على هذه
الأمور اسم أمراض الحضارة"39.
ويؤكّد الأستاذ مطهّري
أنّ المقصود من نقد هذا
البُعْد من الحضارة
الغربية، ليس معارضة
الرفاه والتطوّر والتقدّم
الصناعيّ ولا ندّعي أنّ
الرفاه يؤدّي إلى وجود
الاختلال النفسيّ ولا
نرغب في تسويغ الفقر في
العالم غير الصناعي، بل
الفقر والحرمان من جملة
المفاسد الكبيرة التي يجب
أن نعمل للقضاء عليها.
وكلامنا هو أنّ الحضارة
البعيدة عن الدين والقيم
الأخلاقية والمعنوية تحمل
معها المصائب والفجائع.
إنّ السرعة في الوصول إلى
الصناعة وعدم التخلف عن
الآلة، يؤدّيان إلى وجود
علاقات غير عادلة في
المجتمع، إذا ترافق مع
عدم الإهتمام بالقيم
الأخلاقية، ويزيدان من
الحرص والطمع والشعور
بالتغلّب والتفوق على
الآخرين، وإلى المنافسة
الفاسدة. أمّا الحياة
الطاهرة فهي في ظلّ
الإيمان بالله والإلتزام
بالقيم المعنوية.
4- الاستعمار والاستثمار:
من جملة النتائج
الواضحة للحضارة الغربية،
استعمار واستثمار الشعوب
غير الغربية. إنّ
الاعتقاد بمسألة المنفعة
والالتزام بمدرسة القوّة،
لا يؤدّي سوى إلى استعمار
واستثمار الآخرين. الغرب
يَنْفُذ ويتسلّط على كلّ
مكان بهدف الحصول على
الموادّ الأوليّة
للمصانع. في الماضي اعتدى
الغرب على أمريكا
اللاتينية وأفريقيا
وآسيا، واليوم يتبع
أساليب جديدة لنقل العقول
ورساميل العالم الثالث
إلى أوروبا وأمريكا.
يعتقد بعض الجاهلين
والمخدوعين أنّ الاستثمار
والاستعمار مقولتان
مختلفتان عن الحضارة
الغربية، ثمّ إنّهم
يفرقون بين ذلك وبين
الحضارة الجديدة في
الغرب، ويطلقون عنوان
الجهّال على من يعتقد
بأنّ الاستعمار من جملة
وجوه الحضارة الغربية.
ويعتقد الأستاذ مطهّري
أنّ استعمار الغرب للعالم
الثالث يعود إلى رؤيته
الفلسفية وإلى النظرة
القيمية إلى العالم
والإنسان. الثروة الغربية
هي نتيجة المصادر
الصناعية والزراعية
الأوليّة التي تمّ الحصول
عليها من العالم الثالث
وأمّا جذور الاستعمار فهي
تعود إلى الرؤية الكونية
والفكر الاستكباريّ
للغرب.
"إنّ استثمار واستعمار
الناس هما من نتائج
الحضارة الغربية ويحصل
ذلك على أثر الابتعاد عن
الدين والمبادىء
الأخلاقية"40.
ويوضح الأستاذ مطهّري أنّ
الليبرالية هي من أهمّ
أوجه المدنية الغربية،
وهي تعني حرية الإنسان في
تربية نفسه وحريته في
الفكر والعمل. الإنسان في
هذا التعريف قد تخلى عن
قيود التكليف، وأمّا
الناظر إلى سلوك الإنسان،
فليس التعبّد بالدين وليس
احترام القيم الإنسانية
الخالدة، بل الخوف من
التزاحم مع مصالح
الآخرين، بالأخص الخوف من
ردّات فعل الأكثرية
المنافسة، وهذا الذي أدّى
إلى الإمتناع عن الإعتداء
على حقوق الآخرين. الواضح
أنه إذا فُقد الخوف من
الله من داخل الإنسان
وإذا لم يتمكّن الإنسان
من تقديم تعريف واضح
للحقّ والباطل، وإذا أنكر
الإحترام الذاتي
والإنساني للآخرين، هذا
الإنسان سيعتدي على حقوق
الآخرين إذا ما توفّرت له
السلطة والحاكميّة:
"الإنسان من وجهة نظر
فلاسفة الغرب عبارة عن
موجود ذي ميول وطلبات
عديدة، وهو يعيش على هذا
النحو. هذه الميول هي سبب
الحرية في العمل. أمّا
الذي يحدّ الحرية فهو
حريّة الميول عند
الآخرين. ولا يوجد أي
ضابطة أو إطار آخر يمكنه
الحدّ من حرية الإنسان
وميوله"41.
وأمّا نتائج النزعة
الإنسانية والمدرسة
الوجودية التي روّج لها
أمثال سارتر هي هذه
الأمور. مدرسة النزعة
الإنسانية تروّج لأصالة
الإنسان في مقابل أصالة
الطبيعة وأصالة الله هي
تعتقد بضرورة الإبتعاد عن
القيم الخارجية المفروضة
على الإنسان أمثال الله
والدين والعقل والطبيعة.
يعتقد هؤلاء أنّ معيار
الحقّ والباطل، السيِّئ
والحسن، والخير والشرّ،
هو ما يقتضيه سلوك
الإنسان واحتياجاته. وإذا
كانت النزعة الوجوديّة
تعتقد بعدم الإستعانة
بالمصادر المقدّسة حيث
إنّ ذلك لا معنى له في
نظرياتها، وإذا كانت
تعتقد أنّ الحرية المطلقة
هي محور كافّة الأشياء،
فلماذا كان بناء هذه
المدرسة يقوم على أساس
أصالة المادّة والحسّ؟
تُقسم أعمال الإنسان طبق
هذه الفلسفة إلى نوعين:
إمّا أن يبحث الإنسان عن
الحقائق المادية التي
تسمّى الخير حيث يأمر
العقل بقبولها، أو أن
يبحث عن أعمال أمثال
الفضيلة والجمال وهي أمور
لا يمكن أن تدخل في دائرة
الخير الماديّ والأعمال
العقلانية. تُسمّى هذه
الأمور بالقيم. القيم
ليست شيئاً بحدّ ذاتها،
وليس لها هوية خارجية، بل
الإنسان هو الذي يخلقها
وذهنه هو الذي يعطيها
المعنى.
إنّ القيم الإنسانية في
هذه المدرسة ليس لها قيمة
أعلى من الاعتبار والأمور
الوضعية والموهومة
والأعمال الاعتبارية
والوضعية التي يستخدمها
الإنسان في الوسائل
ومقدّمات العمل وليس في
الهدف42.
الواضح عندما لا يعتقد
الإنسان بأيّ أمر مقدّس
سوى ما يصنعه، تصبح القيم
عنده غير ذات معنى, فلا
يمكنه الإيثار لا بل يؤذي
الآخرين من أجل راحته.
تعتقد هذه المدرسة
بالحرية المطلقة، والواضح
أنّ الحرية المطلقة توصل
الإنسان إلى الإنحراف
والفساد والاعتداء على
حقوق الآخرين. ومن هنا،
فالوجودية توصل إلى
الفساد وتهيِّئ الأرضية
له43.
إنّ حرية الإنسان هي من
حقوقه الأساسية، وهي من
القيم الإلهية المتعالية
ومن جملة فلسفات بعثة
الأنبياء تخليص الإنسان
وإيصاله إلى الكمال
والجمال.
الإنسان في الإسلام،
وخلافاً لفلسفة سارتر،
ليس حرّاً وبعيداً عن كلّ
قيد وشرط. صحيح أنّ
الإنسان أفضل الموجودات
ولكنّه جزء من الخلق،
وليس شيئاً مختلفاً وغير
متجانس مع الخلق. الإنسان
مصنوع الله، ويجب عليه ان
يدفع عنه كلّ ما يمنعه من
الوصول إلى الله، وقد جاء
الأنبياء لتحريره على
المستوى الإجتماعي عدا عن
الداخل وبالتالي نقله من
محورية الأنا إلى محورية
الله والحقيقة المطلقة.
إنّ هذه الحريّة تلقي على
الإنسان المسؤولية
والالتزام، وتفتح فيه
بذور الإيثار
والتضحية
فيما يتعلّق بالنوع
الإنسانيّ. إنّ هذه
الحرية والشخصية الداخلية
لا يمكن الوصول إليهما عن
طريق العلم والسلطة, نعم،
لو لم يكن هناك شخصية
داخلية، لتمكّنت الوسائل
والأدوات من إغراقه في
الأنانية.
"جاء الأنبياء ليقدّموا
للإنسان الحرية
الإجتماعية بالإضافة إلى
الحرية المعنوية، والحرية
المعنوية هي صاحبة القيمة
قبل أيّ شيء آخر. ليست
الحرية الإجتماعية هي
المقدّسة فقط، بل الحرية
المعنوية مقدّسة أيضاً،
ولا يمكن الوصول إلى
الحرية الإجتماعية من دون
الحرية المعنوية... لا
يمكن تأمين الحرية
المعنوية سوى عن طريق
النبوّة والأنبياء والدين
والإيمان والكتب
السماوية"44.
يذكر الشهيد مطهّري بعد
دراسته المدارس الفلسفية
الغربية: صحيح أنّ بعض
فلاسفة الغرب اقتربوا من
الأفكار الإسلامية, ولكن
هناك العدد الكبير من
فلاسفة الغرب الذين ادعوا
العمل لنجاة الإنسان من
أسر السماء والآلهة
فجعلوه أسيراً للأرض،
وبنوا مدارسهم وفلسفاتهم
بعيداً عن التعاليم
المتعالية وقيم الأديان
الإبراهيمية بالأخصّ
الإسلام.
ويحلّل الأستاذ معتبراً
أنّ الفكر الذي أنتج
النظريات والحياة
الغربية، يقوم على أساس
نسيان الله ونسيان الذات
والغفلة عن القيم
والاستعدادات الإنسانية،
والاعتماد على بُعْد واحد
من حياة الإنسان، ولذلك
اعتبر الإنسان الغربي أنّ
الخلقة أمر عبثي وأن ليس
هناك من هدف سوى التكاثر
والإستفادة القصوى من
الدنيا.
كتب الأستاذ عن قول أحد
المفكّرين وهو غاندي في
شرح نتائج الحضارة
الغربية الجديدة:
"الغربيّ عاجز عن شيء
واحد وهو التأمّل في
باطنه. هذا الموضوع
بمفرده كافٍ لإثبات عبثية
الحضارة الغربية الكاذبة"45
تحمل مسألة الحرية
المطلقة وغير المقيدة
بأيّ قيد وشرط والبعيدة
عن حاكمية الله ونسيان
الذات، هذه النتيجة وهي
أنّ الغرب يشعر بالحرية
في الجناية والخباثة وهو
لا ينظر سوى إلى نفسه في
الوصول إلى الأهداف
التوسعية. أمّا المفكّرون
الذين شاهدوا مظاهر
الحضارة الغربية عن قرب،
فقد أدانوا هذا الوجه
الخفيّ للمدنية وقدّموا
ملفّات كبيرة للجرائم
والجنايات والخسارات التي
أدخلتها الحضارة
الأوروبية والأمريكية إلى
البشرية.
أمّا المهاتما غاندي وهو
من الهند، فقد دعا الناس
إلى مشاهدة الصورة
العارية للحضارة الغربية
من خلال الإشارة إلى عمل
الغرب في بلده عندما كان
تحت الاحتلال البريطاني.
وقد شاهد غاندي ظلمات
وعبثية المدنية الغربية
في أفريقيا الجنوبية
والهند. تحدث غاندي في
رسالة "هند سوارج"
عن الحضارة الجديدة تحت
عنوان "العيب الكبير"
الذي يلخّص هدف الحياة في
الأمور المادية فقط. فلا
مكان هناك للأمور
المعنوية والعشق والإيثار
والتضحية. وأمّا إذا جرى
الحديث عن هكذا مفاهيم
فهو من باب خداع الآخرين.
يقول بوضوح: إنّ هكذا
حضارة هي قبر المساكين،
وهذه الحضارة أسوأ من
الغربيين أنفسهم, على
أساس أنّ الغربيين ليسوا
شريرين أو سيئين بالذات,
بل هم مرضى حضارتهم. كتب
حول الحرب العالمية
الثانية:
"تشير الحرب الأخيرة إلى
الماهية الشيطانية
للحضارة التي تحكم أوروبا
اليوم. لقد نُقضت كافّة
قوانين الأخلاق العامّة
على أيدي الفاتحين و باسم
الشرف. لم يبقَ أيّ نوع
من الكذب قبيحاً عند
الحاجة. إنّ وراء كافّة
الجرائم
تقبع الدوافع
المادية. أوروبا ليست
مسيحية بل هي تعبد
الشيطان..."46.
لقد هجم الغرب على الدول
الضعيفة وأغار على العالم
الثالث تحت شعار الحرية
والديموقراطية والدفاع عن
حقوق النساء وإحياء
العالم وإيصاله إلى
المدنية و... حتّى وصل
الأمر بالغربيين إلى عدم
الانزعاج من جرائم الجيوش
المهاجمة سوى القليل
منهم، فاعتبروا ذلك
ضرورياً لإيصال الشعوب
الأخرى إلى الحضارة:
"في نفس العصر الذي كانت
تُكتب فيه مقدّمة على
الإقتصاد السياسيّ، كان
الفرنسيون يقتلون 45 ألف
شخص في ماداغشقر في يوم
واحد. بعد أن دعا الجيش
الفرنسي الأشراف والأعيان
و العديد من المدنيين
الفرنسيين لمشاهدة عاصمة
الجزائر عن قرب, قام بقصف
هذه العاصمة ثمّ احتلها
وأسر أمّة بأكملها"47.
أمّا المشاركون في هذه
المجازر، فليس الأحزاب
الديمقراطية والتي تدّعي
الحرية فقط، بل كانت قد
سبقتها الاشتراكية
والشيوعية، وقبل ذلك
أصحاب رؤوس الأموال حيث
وضع الجميع أيديهم مع
بعضهم البعض للتطاول على
ثروات الشعوب. وأمّا
الإختلاف فكان حول تقسيم
هذه الثروات فقط. لم يحصل
نزاع حول صاحب هذه
الثروات، بل كان النزاع
في أنها يجب أن تكون
بأيدي الرأسمالية أو
الإشتراكية. بذلك أطلق
الأستاذ مطهّري على
الإشتراكية والرأسمالية،
شفرتي المقصّ48.
واعتبر أنّ أساس الحضارة
الغربية هو المادية
والاعتداء حيث أخفوا
أنفسهم تحت لواء الحرية
والمدنية.
لقد ثبّت الغرب أركانه
على أسس جعلته لا يفكر
إلّا بمصالحه. وإذا كان
في الأمس يحتلّ أراضي
الآخرين علناً فاليوم
يقضي على البشرية بسكين
الحرية والمدنية. الغرب
المستعمر يريد الحرية له
فقط وليس للآخرين.
كتب الأستاذ مشيراً إلى
جرائم مدّعي حقوق الإنسان
الفرنسيين في الجزائر
ووحشية الأمريكيين في
فيتنام: "لقد كان جورج
بيرو في يوم من الأيام
قائداً للإشتراكية
الفرنسية، وعندما أرادوا
منح الجزائر الاستقلال
انتقل إلى المنظمات
المجرمة معترضاً على
منحهم الإستقلال..."49.
"هؤلاء هم أنفسهم الذين
كانوا في يوم من الأيام
يبلّغون ضدّ الإسلام
ويرفعون الإنجيل في
أيديهم على أنه كتاب
المحبة، فاليوم... يلقون
كلّ يوم عشرات الأطنان من
المحبة على فييتنام. هذه
هي المحبة التي حدّثهم
بها الإنجيل!! لقد تحولت
هذه المحبة لتصبح قنابل
حتى إنها أصبحت قنابل من
النابالم التي تحرق
الأطفال والنساء والعجزة
عند نزولها..."50.
اعتبر الأستاذ مطهّري في
إحدى خطبه الحماسية أنّ
الجرائم الصهيونية في
فلسطين هي من جملة برامج
الدول الغربية حيث يقتلون
المسلمين باسم حقوق
الإنسان ويقول: إنَّ أيدي
البريطانيين والأمريكيين
هي وراء اليهود. ونحن
المسلمين علينا المسارعة
لمساعدة إخوتنا
الفلسطينيين وأن نُظْهر
عزتنا الدينية ونوجّه
جواباً قاطعاً لأمريكا
وحفيدتها إسرائيل. أمّا
الذي جرّأ الغرب علينا
فهو إهمال وتساهل الشعوب
والدول الإسلاميّة"51.
وأمّا عن أدوات الاستعمار
للتسلّط على المسلمين:
فقد حذّر الأستاذ مطهّري
الجيل المعاصر مراراً
وتكراراً من أهداف
الطامعين ومن طرق نفوذ
الاستعمار في الدول
الإسلامية، وهي عين الطرق
التي يتبعونها الآن، ومن
جملة ذلك:
1- التفرقة: من جملة
أساليب أعداء الإسلام
الفاعلة، وضع المسلمين في
مواجهة بعضهم البعض. وهم
يبدعون أساليب جديدة كلّ
يوم. لقد استعان
المستعمرون بالجهل وعدم
الوعي الديني عند
المسلمين، فجعلوا الفرق
الإسلامية تسيء الظنّ
ببعضها البعض فامتنعت عن
مساعدة بعضها.
يُعتبر إقبال اللاهوري من
جملة الشخصيات الكبيرة في
العالم الإسلاميّ، وهو من
الذين وجّهوا ضربة كبيرة
لصورة أوروبا وبريطانيا
في نضاله السياسي ونشره
للوعي. راج في إيران وفي
أوج النضال الذي قاده
الشعب الهنديّ ضدّ
بريطانيا أنه ناصبي وقد
أهان الإمام الصادق عليه
السلام. أرادوا من خلال
ذلك أن يسيء بعض بسطاء
الشيعة في إيران الظنّ
بهذه الشخصية الكبيرة.
يبين الأستاذ مطهّري
حقيقة الأمر، إنّ جعفر
وصادق اللذين أهانهما
إقبال، لم يكونا الإمام
الصادق عليه السلام، بل
الأوّل هو جعفر البغالي
والثاني هو صادق الدكني.
هذان الشخصان تعاونا مع
أعداء الإسلام أثناء
الحرب بين المسلمين
والبريطانيين، وكانا
بمثابة خنجر في ظهر
الثورة الإسلامية، وقد
خانا القادة المسلمين
والوطنيين، وبذلك تمكّن
الاستعمار الغربي من
التسلّط على الهند لمدّة
ثلاثمائة عام. لقد عمل
المستعمرون على اغتيال
شخصية إقبال وجعل السنة
والشيعة يسيئون الظن
ببعضهم البعض، فحرّفوا
كلامه52.
أثناء الحرب بين العرب
وإسرائيل عام 1347 هـ.ق.
(1967)، كان علماء الشيعة
يوجّهون الناس إلى خطر
اليهود ويدفعونهم لمساعدة
إخوانهم الفلسطينيين
واللبنانيين. تحدّث
الشهيد مطهّري حول هذا
الخصوص وحذّر الناس من
خطر
استعمار واحتلال
الأراضي الإسلامية وأعلن:
أنّ الجرائم الأوروبية في
المنطقة لا سابقة لها ولم
يكتفِ ربائب أمريكا
بالأراضي المحتلّة، بل
كانوا يطمعون بالبلاد
الإسلامية الأخرى. من
واجبنا مساعدة إخوتنا
المظلومين. لقد ساهمت هذه
الحركة الثورية في وجود
إحساس بالتضامن والتعاطف
بين شيعة إيران حيث أعلن
الناس استعدادهم للمساعدة
المادية والمشاركة
بالنضال إلى جانب الأخوة
الفلسطينيين واللبنانيين.
تحرّك عملاء الاستعمار
للقضاء على هذه الحركة
الإسلامية. لذلك بدأوا
بثّ الشائعات وحاولوا
الترويج لمسألة أنّ
الشهيد مطهّري سنيّ، وذلك
بهدف التقليل من تأثير
خطاباته، وبالتالي تحويل
التضامن الإسلامي إلى نوع
من الفرقة.
يقول الشهيد مطهّري في
الجواب على الشائعة التي
رَوَّج لها السافاك ضد
حسينية الإرشاد التي كانت
في ذاك الزمان مركزاً من
مراكز ثورته:
"الآن
أصبحت حسينية الإرشاد
مذنبة لأنه جرى فيها في
يوم من الأيام البحث حول
الفلسطينيين: أيها الناس!
هبوا لمساعدة
الفلسطينيين. هناك عدد من
اليهود يحمل الحقد ضد
حسينية الإرشاد، وجواسيس
إسرائيل كثر في هذا
البلد... وهم لا يتركون
يوماً! إلا ويروِّجون
للشائعات ضدّ حسينية
الإرشاد... هم يحقدون على
حسينية الإرشاد ولا
يتركون يوماً لا يبّثون
الشائعات ضدّها. أنا لا
أريد منكم شيئاً إلّا أن
تفتحوا أعينكم، اعلموا
أنّ عناصر اليهود كثر في
هذا البلد وفي كافة
البلاد الإسلامية.
جواسيسهم وأموالهم تعمل
باستمرار"53.
اعتبر الأستاذ أنّ الوحدة
بين المسلمين من أهمّ
واجبات الأمّة الإسلامية،
وأكّد على ضرورة اجتماع
علماء ومثقفي المسلمين
لدراسة مسألة التضامن
والنضال الإسلامي ضدّ
المستعمرين:
"إنّ أكثر
الاحتياجات الإسلامية
والضرورية، هي اتحاد
وتضامن الفرق والملل
الإسلامية، بالأخصّ في
الأوضاع الحالية حيث يقوم
الأعداء بالهجوم من كافّة
النواحي مستعملين مختلف
الوسائل ومحاولين إحياء
الخلافات القديمة واختراع
خلافات جديدة..."54.
2- إثارة الفوارق
القومية: ظهرت
القومية في شكلها الحالي
في العالم، في بداية
القرن التاسع عشر
الميلادي في ألمانيا
وكانت عبارة عن ردّة فعل
مقابل الثورة الفرنسية
الكبيرة.
إنّ هذا الاصطلاح في فكر
مؤسّسي الغرب, أي الناس
الذين اجتمعوا في قالب
حدود جغرافية معينة وعرق
وسابقة تاريخية وثقافة
خاصة، هو بمثابة واحد لا
ينفك عن بعضه ويشتمل على
منافع ومصالح خاصة وكل من
كان يفتقد هذا الشاخص،
كان غريباً وعدواً55.
وجد هذا الشعار أتباعاً
حقيقيين في الغرب
واستُفيد منه في العالم
الثالث في برهة من الزمان
باعتباره أداة للتضامن
الوطني في النضال ضدّ
الأجانب. لقد استولى
الاستعمار على هذا الموج
الثقافي والاجتماعي،
فحرفه عن مسيره، فكان
بيده بمثابة أداة طيعة
لإيجاد الفرقة بين الشعوب
والأعراق، وبالأخصّ
الشعوب الإسلامية وعمل
على تعظيم ماضي الشعوب
وإعطاء الأهمية للأبطال
القوميين، لينال مراده
على مستوى الاعتقادات
والأديان والمذاهب
الحاكمة في هذه البلاد.
لقد كان المثقّفون
المتغرّبون من أوائل
الذين روّجوا لهذه
البضاعة. في هذه اللعبة
الجديدة، عاد الإيرانيون
لذكريات مرحلة الحكومات
الحخامنشية والساسانية
وعاد العراقيون لذكريات
حضارة بابل والمصريون إلى
عصر الفينيقيين
والفراعنة
وصنعوا من كلّ قضية وسيلة
لإيجاد الفرقة بين
الشعوب. والجميع يدرك أنّ
السيّد جمال كان من أبرز
نماذج ودعاة الوحدة
الدينية، وقد أمضى عمره
في هذا الطريق، ولكن وبعد
وفاته اختلف المسلمون في
نسبته لأي البلاد, مع
العلم أنّ السيّد جمال
اعتبر أنه ابن الإسلام
تلافياً لأيّ جدال قد
يحصل حول نسبته إلى بلد
معين دون آخر.
كتب الشهيد مطهّري حول
محاولات الاستعمار هذه:
"لم يجد
الاستعمار وسيلة توصله
إلى أصل "فرِّق تَسُدْ"
من لفت انتباه الشعوب
والأمم الإسلامية إلى
قوميتهم وملتهم وعرقهم
فجعلهم يغرقون في
الافتخارات الوهمية. كان
يقول للهندي أنت صاحب
السابقة الفلانية وأنت
كذا وكذا. وكان يقول
للتركي اعمل على إيجاد
حركة الشباب الترك..."56.
لقد عملت طلائع الاستعمار
الغربي وبهدف إبعاد
الإيرانيين عن الإسلام،
على إيجاد برامج عديدة
للتعظيم من الآثار
المتبقية عن الملوك
والحكومات السابقة على
الإسلام، وكذلك عملوا على
التقليل من عظمة الإسلام
والحضارة الإسلامية مقابل
الحضارة الإيرانية
القديمة. في هذا الإطار،
عمل نظام الشاه على إيجاد
حفل عامَ 1350 هـ.ق.
بمناسبة مرور 2500 عام
على الشاهنشاهية، وفي
العام 1355 هـ.ق. أوجد
حركة سريعة غيّر بموجبها
تاريخ الإسلام واستبدل به
تاريخ الشاهنشاهية.
وتمكّن بذلك من إبعاد
الأذهان والأفكار عن
التاريخ الهجريّ وتقريبها
من الأنظمة الشاهنشاهية
الرجعية. وقد هيأت مجموعة
من الجهات الأرضية لقبول
هذه الحركة الرجعية
أمثال: الكتّاب
المأجورين، كتّاب البلاط،
الفنانين غير الملتزمين،
الصحافة التابعة بوساطة
المقالات والأقلام57.
بدأ الشهيد مطهّري حملة
التوعية وذلك بهدف القضاء
على آثار أمواج الإعلام
والحملة الشاملة التي شرع
بها النظام البهلوي
التابع. وقد قام بدور
مؤثّر على مستوى إزالة
الآثار المخربة للأعداء،
وذلك بوساطة كتاباته
ومحاضراته حول ماهية هذه
الموجة الجديدة، وحول
العلاقات المتقابلة بين
إيران والإسلام. يعتبر
الأستاذ أنّ الدافع
الأساس للاستعمار من وراء
هذه الحركة الثقافية هو
إبعاد المسلمين عن بعضهم
البعض، وذلك ليسهّل
احتلالهم وأكّد على أنّ
تضامن واتحاد الشعوب
والمذاهب الإسلامية هما
من أبرز طرق محاربة
الاستعمار:
"إنّ رواج الفكر القومي
والوطني والذي يُطلق عليه
اصطلاحُ "ناسيوناليسم"
وظهوره على صور عديدة:
القومية العربية، القومية
الإيرانية، القومية
التركية، القومية الهندية
وغير ذلك في الدول
الإسلامية، كان بناءً على
وسوسات الاستعمار ومن
تبليغاته، وهكذا كانت
أيضاً سياسات تشديد
النزاعات الطائفية وتقطيع
البلاد الإسلامية على
صورة دول صغيرة ومتنافسة،
وكلّ ذلك كان لأجل القضاء
على الفكر المعادي
للاستعمار أي إتحاد
الإسلام"58.
3- تغريب المسلمين عن
الثقافة والحضارة
الإسلامية: من جملة
محاولات الاستعمار
المشؤومة، تغريب المسلمين
عن ثقافتهم وتراثهم
القيّم بهدف السيطرة
عليهم. لقد عمل
المستعمرون بمساعدة
المؤرّخين وعلماء
الاجتماع والجغرافيا
والمستشرقين والفنانين
و... على الترويج لبعض
الأفكار وإدخالها إلى
أذهان المسلمين ومنها أنّ
هذا التاريخ والحضارة
التي هي من تراث أجدادهم،
ليسا شيئاً سوى التوحّش
والتخلّف، وأن ليس في
أيديهم ما يفتخرون به.
وأمّا إذا أرادت الشعوب
الوصول إلى المدنية
والتقدّم، فما عليها إلّا
الحصول على الثقافة
الغربية وقبول ثقافة ولغة
تلك البلاد. والأكثر
تمدّناً وحضارة هو الذي
يستعين بمنتوجاتهم
المادية والصناعية59.
وما لم تشعر الأمّة
بالغربة من ذاتها، وما لم
تُخْدع بثقافة وصناعة
الغربيين، وما لم تشعر
بالحقارة بالنسبة إلى
الدين والمذهب، فلا يمكن
للعدوّ أن يطمع بها وأن
يهزمها. "... ممّا لا شكّ
فيه أنّ الاستعمار
الثقافي هو أخطر أنواع
الاستعمار العديدة، فهل
يمكن استعمار شعب من
الناحية السياسية
والاقتصادية قبل استعماره
فكريّاً. وإذا كان
المطلوب الاستفادة من
الشخص يجب بداية سلبه
شخصيته. يجب جعله يسيء
الظنّ بما يملك، ويجب
ترغيبه وتشجيعه على ما
يقدّمه الاستعمار..."60.
في أيّ مكان حلَّ
الاستعمار، راجت العبثية
واحتقار ثقافة ذاك الشعب.
لقد حَرّف عمال بريطانيا
الكتب التاريخية الهندية
لتسويغ احتلالهم وتحدّثوا
عن حكومات الهند المسلمة
بكلّ ما يؤدّي إلى
الاحتقار والإهانة61.
وبما أنّ المسلمين نهضوا
قبل غيرهم لمحاربة
المستعمرين، لذلك كان
هجوم المستعمرين على
الثقافة الإسلامية قبل
غيرها. يقول أحد نوّاب
السلطنة في إحدى حكومات
الهند أثناء مرحلة
الاستعمار البريطاني،
وقبل بداية المسلمين
النضال ضدّ الإنكليز:
"الهدف الأوّل لنا هنا،
القضاء على المسلمين,
لأنّ المسلمين بطبيعة
الحال، أعداء لنا,
والهنود ليسوا كذلك"62.
في العقود الأخيرة بدأ
عملاء الغرب والمرعوبون
منه بإيجاد حالة بين
الناس من خلال مقالاتهم
وفنونهم، وذلك بهدف دفعهم
للالتفات إلى الغرب
والاهتمام به، ومن ثَمّ
تشجيعهم على التخلي عن
آدابهم وعاداتهم وأن
يقبلوا ما قبله الغرب
ويرفضوا كلّ ما رفضه، وأن
يحبوا من يحبه الغرب وأن
يقرأوا الآثار التي يرغب
الغربيون قراءتها. وكلّ
ذلك من علامات الحياة
الجديدة والخروج من
الرجعية
والظلام
والانطلاق نحو عالم
الضياء والعالم الجديد!
الأسوأ من ذلك محاولات
هؤلاء إفهام الناس أنّ
تخلّف المسلمين إنما يعود
لالتزامهم الآداب
الإسلامية. وأمّا إذا رغب
الشخص عدم العودة إلى
الوراء فما عليه إلا عدم
تحديث نفسه بالبركة
والعزّة التي قدمتها
الثقافة الإسلامية، وقد
كتبوا: "إنّ الثقافة
الإسلامية وكلّ ما يذكّر
بالحضارة الإسلامية، لم
يحقق للناس سوى الركود
وسوء الحظّ".
وعندما كان المستعمرون
يريدون إبعاد الأذهان عن
جرائمهم وخبائثهم كانوا
يقدّمون أنفسهم على أنهم
أصحاب الصلح والسلام
والتسامح، كما كانوا
يتحدّثون عن الإسلام على
أنه دين الخشونة! لذلك
كتبوا: لا يوجد في
الإسلام مسألة باسم
التسامح والمداراة،
والمسلمون هم مظهر
الخشونة والخراب،
والإسلام قد نهض بوساطة
السيف والدم، وفي أيّ
مكان وجد فيه الإسلام كان
يقضي على الآثار الثقافية
للشعوب. روّجوا للعديد من
الشائعات، من جملتها أنّ
الهجوم العربي على إيران
ومصر أدى إلى إتلاف
مكتبات كبيرة هناك. يعتبر
الشهيد مطهري أنّ هذه
الأمور هي من أعمال
الشيطان المستعمر، ثمّ
بيّن بالدليل التاريخي
القاطع عدم صحّة هذه
الادعاءات. إنّ هذا الغزو
الثقافي الغربي هو من
جملة برامج الغرب
المستعمر بهدف القضاء على
الحضارة الإسلامية. وإذا
أراد المستعمر النجاح في
الأعمال السياسية
والاقتصادية، عليه الهجوم
على ثقافة الناس وبالتالي
جذب الأذهان إليه لتسيء
الظنّ بثقافتها ودينها.
الحقيقة أنّ الانجليز هم
الذين روّجوا لقضية إحراق
المكتبات وذلك بهدف أن
يسيء الشباب المسلم الظنّ
بإسلامهم:
"لقد حدد الاستعمار
واختبر بشكل دقيق أنّ
الثقافة التي يعتمد عليها
المسلمون والايديولوجية
التي يعتقدون بها هي
الثقافة والأيديولوجية
الإسلامية. لذلك يجب
تخلية الناس من ذاك
الاعتقاد ليسهل سوقهم نحو
النماذج الغربية. وهل
هناك وسيلة لذلك أفضل من
أن يلقوا إلى الشباب أنّ
الرسالة التي تعتبرونها
رسالة نجاة وسعادة، يقوم
قادتها بالهجوم على الدول
الأخرى ويقومون بأكثر
الأعمال وحشية وهذا هو
النموذج"63.
درس الشهيد مطهّري
السابقة النفسية
والتاريخية لمحاولات
الاستعمار الغربي هذه،
فخلص إلى نتيجة مفادها
أنّ المسيحيين عارفون
بأفضلية وقوّة الحضارة
الإسلامية، هذا من جهة
ومن جهة أخرى فُهم كانوا
يحملون حقداً في قلوبهم
على المسلمين نتيجة
الحروب الصليبية، ولذا
فقد أطلقوا الحرب النفسية
على المسلمين والإسلام
وبدأوا الترويج للشائعات
ضدّهم وقد عَبّر بعض
المسيحيين في القرون
الأخيرة عن خجلهم من هذه
الحركات الخبيثة. ومن
جملة الذين أظهروا خجلهم
جان ديون بورت الذي ألّف
كتاب "عذر التقصير إلى
محمّد والقرآن".
لقد روّج الاستعمار
لمسألة إحراق المكتبات
وردّدها بعض عملائهم في
إيران أمثال بور داود
الذي اعتبرها حادثة
تاريخية. وبما أنّ حادثة
إحراق المكتبات من صناعة
الاستعمار، لذلك كان يرفض
نقدها وأن يطّلع الناس
على تفاصيلها، لا بل كان
يمارس نفوذه في السلطة
ليمنع توضيحها. وقد منعت
السلطات الأمنية
الإيرانية الأستاذ مطهّري
من توضيح حقيقة إحراق
المكتبات. كتب الأستاذ في
هذا الشأن:
"العناوين التي تطرح عادة
في حسينية الإرشاد، تطبع
إعلاناتها في الصحف. ومع
أنّ الإعلان عن بحث إحراق
المكتبات في إيران ومصر
أُرسل إلى الصحف، إلا
أنها لم تنشره، وبعد
السؤال اتضح أنّ رجال
الشاه والسافاك منعوا
ذلك"64.
4- مقولة الفصل بين الدين
والسياسة: من جملة
الأمور المهمّة التي عمل
عليها الاستعمار منذ
القديم، إبعاد الدين
والتديّن عن ساحة النشاط
السياسيّ والاجتماعيّ.
كتب المنظّرون التابعون
للقوى العظمى وقالوا: إذا
كان الدين حسناً ويؤدّي
إلى الصلاح، فهو يؤسّس
للعلاقة الشخصية بين
الإنسان والله فقط، ولا
يجب أن يكون له دخالة
بالعلاقات الاجتماعية.
ويجب على الناس اللجوء
إلى الخبراء والمتخصّصين
لتأمين احتياجاتهم
الأساسية ويجب ارشادهم
إلى مَنْ يمتلك برامج
دقيقة للحياة البشرية
المعاصرة وهو الغرب.
يذكّر الأستاذ مطهري
بحياة السيّد جمال الدين
الاسترآبادي ويقول: إنّ
أهمّ الأعمال التي قام
بها السيّد في محاربة
الاستعمار، التبليغ
للاتحاد بين الدين
والسياسة, لأنه كان يعتقد
بأنّ تطبيق الأبعاد
السياسية والاجتماعية في
الدين هو الذي يؤهّل
لمحاربة الاستعمار وإفشال
مخطّطاته: "هو... رجل
كان يبلّغ للاتحاد بين
الدين والسياسة وقد
أَفْهَم المجتمع الإسلامي
أنّ الفصل بين الدين
والسياسة هو خديعة صنعها
السياسيون في العالم.
السياسة في الدين بالأخصّ
في الدين الإسلاميّ هي من
أكثر الأجزاء عزّة. وأمّا
فصل السياسة عن الإسلام
فيعني فصل أحد أعَزّ
الأجزاء عن جسده"65.
أيّد الأستاذ مطهّري
الدقّة التي أظهرها
السيّد جمال واعتبر أنّ
محاولات الاستعمار
للترويج للعلمانية تثبت
صحّة أفكاره. عندما قطع
الغرب العلاقة بين الدين
والمجتمع فقد قضى بذلك
على أهم رسالة في الدين،
وقد أُجلس على رأس السلطة
الواقعة تحت استعماره
أشخاص جعلوا من محاربة
الدين أوّل اهتماماتهم،
وبدل أن يكون أمثال
السيّد جمال ومدرس في
الصدارة، رفع أمثال
آتاتورك ورضا خان إلى
السلطة.
يعتقد الأستاذ مطهّري أنّ
العدوّ أخذ يروّج للتجديد
الإفراطي بهدف أن يصبح
الدين في مقام الإنزواء
وبالتالي إبعاده عن
السياسة، وإذا كانت
المجتمعات البشرية تواجه
مشاكل ثابتة وجديدة
باستمرار ولكلّ مجموعة من
هذه المشاكل حيث يقع على
عهدة العارفين بالإسلام
والمجتهدين الجامعين
للشرائط، دراسة المسائل
والأحداث الواقعة وتقديم
إجابات لها. إلّا أنّ
المسيئين كانوا يحولون
دون ذلك ويرفضون إجابات
مفسّري الدين, لذلك بذلوا
جهودهم للحؤول دون انتشار
الفكر السليم بين
المسلمين، وهذا يعني
الإبقاء على حالة التخلّف
عند المسلمين,66
من جهة أخرى عمل هؤلاء
ومن خلال الإعلام، على
إظهار أنّ الإسلام عاجز
عن تقديم إجابات
لاحتياجاتهم الأساسية إلا
أن يُعْمل على إعادة
النظر فيه، أو القول إنّ
أحكام الإسلام نافعة
لمرحلة الظهور الماضية،
وأمّا تأمين متطلّبات
الإنسان المعاصرة فهي
بحاجة إلى قوانين أخرى.
لذلك نراهم يروّجون
للشبهات التي طالت عناوين
أمثال الحجاب والمرأة
والإرث والقِصاص والربا
و...
يعتقد الأستاذ مطهّري أنّ
الفقه الشيعيّ، فقه غني
وكامل يمتلك إجابات عن
كلّ الأسئلة والمجتمع
الإسلاميّ ليس بحاجة
للحلول التي هي من نوع
الحلول التي قدمها
المجددون أمثال محمّد
عبده في الفقه,67
لأنّ تلك الإجابات قد
دُوّنت في الغالب من دون
الالتفات إلى فقه أهل
البيت، وأما الفقه العلوي
الذي تركه الإمام الصادق
عليه السلام، فلم يتركنا
من دون إجابات.
واليوم يروّجون لكلّ
مسألة جديدة بهدف مواجهة
الإسلام الأصيل تحت عنوان
مقتضيات الزمان:
"مقتضيات الزمان، كالحرية
من الكلمات التي كان لها
مصير مشؤوم في الشرق،
واليوم هي أداة استعمارية
كاملة للقضاء على الثقافة
الشرقية الأصيلة
والترويج
للروح الغربية. فكم هي
السفسطات التي حصلت جرّاء
ذلك؟ وكم هي المصائب التي
حملتها معها هذه الصورة
الجميلة؟"68.
5- الترويج للفساد
والفحشاء: إنّ سلامة
العائلة وعفّة وعصمة
النساء والرجال هي أكبر
رأسمال لدى المسلمين
وأكبر مانع أمام نفوذ
الاستعمار إلى البلاد
الإسلامية. لقد مهّد
الاستعمار الغربي لدخوله
البلاد الإسلامية فروّج
للفساد والفحشاء. لم يكن
طرح مسألة النزعة
الأنثوية وحرية النساء في
البلاد الإسلامية لأجل
الدفاع عن حقوق النساء،
بل لأجل الاستفادة
الأداتية من المرأة
والترويج لإشباع الميول
والأهواء النفسانية عند
الشباب, لأنّ الجيل
الشابّ هو الذي يفكّر
بالحرية وبالمسائل
الاجتماعية، وهو الذي
يشكّل خطراً على
الاستعمار. لذلك عمل
المستعمر على الترويج
للأهواء والعلاقات
الجنسية اللامشروعة،
وبذلك يتمكّن من سوق
الشباب نحو أزمة كبيرة،
وهذا يدعو إلى نسيان
الاحتياجات الأساسية. من
جهة أخرى عمل المستعمر
ومن خلال الترويج
للاستفادة الأداتية من
المرأة على فتح أسواق
كبيرة, لأنّ المرأة تقوم
بدورٍ كبيرٍ على مستوى
رواج المصرف والحفاظ على
سوق الرساميل وتغيير
العلاقات الاجتماعيّة.
يعتقد الشهيد مطهّري أنّ
رواج ثقافة الفساد
والانحراف من أبرز عوامل
سقوط الحضارة الإسلاميّة
في الأندلس. لقد عمل
الأوروبيون المسيحيّون
على الترويج للرذيلة بين
المسلمين، فسلبوا منهم
الغيرة والمروءة الدينية،
ثمّ استغلوا غفلة
المسلمين وانشغالهم
بأهوائهم لينفّذوا مآربهم
ويقضوا عليهم حيث قتلوا
من المسلمين أعداداً
كبيرة تمكّنوا من خلالها
من إنهاء وجود المسلمين
في تلك البلاد.
"... إنّ الخطّة التي
رسمها المسيحيون لاحتلال
الأندلس (إسبانيا
الحالية) وإخراج المسلمين
منها هي: تأمين الأصدقاء
والخدم ووسائل الانحراف
لهم. لقد وقفوا البساتين
لصناعة شراب للمسلمين.
وسيروا بناتهم الجميلات
والجذّابات في الشوارع
ووفّروا كلّ وسائل بروز
الشهوات فماتت روح
الإيمان والمروءة. وبعد
ذلك تمكّنوا من إعمال
السيف بين المسلمين. وقد
طبّق الاستعمار الغربيّ
هذا البرنامج أخيراً في
الدول الإسلامية"69.
أكّد الأستاذ مطهّري بعد
إفشائه مخططات الاستعمار
في المجتمع الإسلامي وفي
إيران قبل الإسلام على
أنه: وجدت الأهداف
الاستعمارية على أثر
انتشار بيوت الفساد،
ورواج الأفلام المبتذلة
والصور المهيّجة وأبطال
السينما والروايات التي
تدور حول الأمور العشقية
والجنسية. لقد هيّأ جيش
الفساد هذه الأرضية لحضور
القوى الغربية إلى الدول
الإسلامية, فلا شيء
كالفحشاء يمكنه القضاء
على الغيرة الدينية
والوطنية وعلى روح
الشهامة والمروءة. لقد
روّج الغربيون لهذه
الأمور لإبعاد أذهان
الشباب عن مسألة مصادرة
المنابع المادية
والإنسانية وإبعادهم عن
مفهوم العدالة
الاجتماعية، وجعلهم
يعيشون حالة اللامبالاة
من احتلال إسرائيل للبلاد
الإسلامية70.
"في الغالب فإنّ هذه
الأغراض في عصرنا هي
أغراض استعمارية. يريدون
للفحشاء أن تزداد بين
الناس, فلا شيء يؤثر
كالفحشاء في إضعاف مروءة
الناس. إذا أردتم إبعاد
أذهان الشباب في بلد عن
القضايا الأساسية...
القضايا الأساسية التي
تهدّد مصالح المستعمر،
فالطريق إليه، هو بيع
أكبر مقدار من المشروب،
وزيادة بيوت الفحشاء وأن
تكون المرأة في كلّ
مكان..."71.
يعتبر الأستاذ الشهيد أنّ
من بين المستعمرين
الغربيين، فإن أمريكا هي
أمّ الفساد، وهي أخطر من
منافسيها الآخرين، وأمّا
برامجها الثقافية
والاجتماعية فهي من جملة
العوامل المؤثّرة في
القضاء على كرامة وشرف
الشعوب وإذا حاولنا
الإطلالة على الممارسات
الأمريكية في الدول التي
اعتمدت الثقافة
الأمريكية، سنصل إلى
نتيجة وهي أنهم في كلّ
مكان وضعوا أقدامهم فيه،
وُجد الفساد والفحشاء،
فمارسوا خططهم الاقتصادية
والاجتماعية تحت هذا
الغطاء: "الأمريكيون
يمتلكون برنامجاً عامّاً
لإفساد الدنيا بأكملها.
وأمّا برامجهم فهي
التالية: أكثروا من
الفحشاء، يَرْتَحْ بالكم
من الناس"72.
وإذا أردنا إثبات صحّة
كلام الأستاذ، فلا يجب أن
نذهب بعيداً عن المنطقة.
بل إذا لاحظنا أنّ انتشار
الفساد والفحشاء والأشرطة
الصوتية المبتذلة وانتشار
مراكز الرقص والاختلاط
بين الشباب والبنات،
وكذلك ازدياد مراكز
القمار والشراب في إيران
قبل الثورة، كلّ ذلك يشير
إلى البرامج الأمريكية
لإفساد الجيل الشابّ.