إنّ الحديث عن
التمدّن
الإسلاميّ - بدون
البحث عن مساهمة
الحوزات الدينيّة
فيه - حديث ظالم
وغير تامّ،
لطالما كانت
المراكز العلميّة
هي الركائز
الأساسيّة لنهضة
المجتمعات
الإسلامية
وحيويَّتها، وكان
لها الدور الأوّل
والأساس في إرساء
المدنيّة ورقيّ
الناس ووعيهم.1
ومن هنا فإن صعود
هذه القوانين
وهبوطها هو الذي
كان يرسم رقي هذه
المجتمعات
وانحطاطها.
وعليه فإنّه من
الضروريّ أوّلاً
أن نعرف ما هو
التمدّن؟ وما هي
العلامات
والمعايير التي
وضعها العلماء
والخبراء لفهم
معنى التمدّن؟.
وفي أيّ برهة من
التاريخ
الإسلاميّ كان
التمدّن فاعلاً
وجليّاً؟ وفي أيّ
برهة كان التمدّن
ضعيفاً ولم يظهر
أي أثر له؟
وبالتالي أيٌّ من
هذه المسارات
والمنعطفات في
مسارات هذا
التمدّن لائقة
بالاتّباع، وأعطت
له الاستمرارية
وهذا البقاء
الواسع والمنير؟
وإضافةً إلى ذلك،
ما هي الأدوار
التي أوجدتها
الحوزات الدينيّة
التي لطالما كانت
مصباح الأمة
وضياءها في حركات
بناء هذا التمدّن
والتي كانت مورد
افتخار كبير على
طول التاريخ
الإسلامي؟ وأيٌّ
من هذه المراكز
العلميّة كان لها
الدور الفاعل في
إعادة صناعة
التمدّن
الإسلاميّ؟ وكيف
نستطيع أن نواكب
مسيرة
التمدّن
التي سبقنا
الآخرون إليها
وبالتالي يرجع
المسلمون
ليتبوَّأوا
موقعهم العالميّ
من جديد؟
اعتبرت قافلة
علماء التمدّن
البشريّ أنّ
التوجّه للعلم
والثقافة،
القانون، البناء،
النظام والدولة،
الحرية والرعاية
الاجتماعية،
اللغة، التنظيم،
الإبداع، من
الأنماط
والمعايير
الأساسية
للمدنيّة
والمجتمع
الإنسانيّ
والسليم2.
وعدّ العلماء
الباحثون أنّ
العصر الذهبيّ
للمسلمين كان
خلال كلّ المراحل
التاريخيّة
الطويلة، وخصوصاً
من القرن الثاني
حتّى الرابع
الهجريّ، واعتبر
الكثيرون منهم
أنّ هذا العصر
الذهبيّ للتمدّن
الإسلاميّ استمرّ
حتّى العهد
الصفويّ، وأنّه
كان يشكّل علامة
كبرى في تشكيل
عصب المدنيّة3.
إنّ القوانين
العلميّة كانت من
الماضي وحتّى
الآن هي رائدة
المدنيّة،
وبالمقارنة مع
النهضات الأخرى
والأسباب
الاجتماعيّة
والجغرافيّة كان
لها الدور
الأساسيّ في رسم
حركة التاريخ
والمجتمع، وإنّ
العلماء هم الذين
كانوا حملة مشاعل
التمدّن في إيران
واليونان وروما
والإسلام والثورة
الصناعيّة في
أوروبا.
في التمدّن
الإسلاميّ كانت
الحوزات الدينيّة
هي المرجعيّة
لكلّ الدراسات
والأبحاث
العلميّة وكانت
تُدرّس مختلف
العلوم التي
تحاكي حاجة
المجتمع، فإلى
جانب الفقه
والإلهيّات كانت
العلوم
التطبيقيّة
كالطبّ والهندسة
والرياضيّات
والفلك و......
وتعتبر من الدروس
والبرامج
الأساسيّة
للحوزات، وومنها
تخرّج علماؤنا
الكبار أمثال
الشيخ الطوسيّ
وابن سينا
والفارابي وابن
مسكويه والخواجة
نصير والشيخ
البهائيّ وملّا
صدرا وغيرهم من
أصحاب الأيادي
البيضاء في
الحوزة الدينيّة
من الذين قدّموا
للمجتمعات أكثر
العلوم قيمةً
وقدراً.
وممّا لا يرقى
إليه الشكّ،
فضلاً عن أن يكون
مكاناً للنقاش
والجدل، أنّ
المسلمين كانوا
رواد العلم
والمعرفة
والتعليم
والتجربة.
فمن القرون
الهجريّة الأولى
كانت المدن
الإسلاميّة
الكبرى أمثال
بغداد، نيشابور،
بخارى، الريّ،
الأندلس في
مقدّمة الأماكن
السامية التي
يقصدها أهل العلم
والمعرفة لنيل
المعارف والتعرّف
على مختلف
القوانين
العلميّة. وكانت
تعجّ بالمكتبات
الكبرى المليئة
بمختلف أنواع
الكتب والدراسات
والرسائل
العلميّة.
ففي ميدان
الكتابة يُعدّ
المسلمون من
مبتكري وصانعي
هذا التمدّن
والسبّاقين إليه،
فقد كانوا في
قمّة هذا
الميدان، وكانوا
أكثر استخداماً
للورق بين الأمم
والشعوب، وكانوا
ينقلون الورق من
الشرق إلى الغرب4.
وهذه الرحلات
العلميّة لكبار
العلماء
والباحثين جعلت
من المجتمعات
الإسلامية رائدة
الثقافة والعلم.
في عام 200 هجريّ
أتى إلى نيشابور
أكثر من أربعة
وعشرين ألف شخص
من أهل العلم
وأصحاب الأقلام
والعارفين
بالحديث
والمحدّثين، من
أجل سماع وكتابة
كلمات الإمام
الرضا عليه
السلام5،
وكلّ ذلك يدّلل
على توجّه الناس
للعلم وارتباطهم
بالمعرفة
وعلاقتهم الوثيقة
به من خلال ضبط
وتوثيق الكلام
المفيد والنافع.
وإنّ الأهداف
والمبادىء
الخاصّة والسامية
والآفاق الواسعة
للتعلّم والتعليم
في التمدّن
الإسلاميّ تركت
آثاراً مضاعفة في
بناء المدنية
وركائزها في
المجتمع.
ومن جملة هذه
الأهداف
والمبادئ:
1- محوريّة الله:
فالتعليم
والتعلّم من أجل
الله يأتي في
طليعة أركان
المدنيّة
والتمدّن في
الحوزات
الدينيّة، فلا
يتلقّى طلّاب
العلوم الدينيّة
العلم من أجل
المال والشهرة،
بل من أجل
الاطّلاع
والمعرفة, لأنهم
يعتقدون أنّ
العلم
الذي
يتعلّمه الإنسان
من أجل المال
والشهرة فإنه
يتلقّاه بدون
حماس أو همّة،
وهذا يسبّب
الإهانة والجهل،
ومن باب المثال
جاء في التاريخ:
عندما وصل نبأ
إنشاء المدارس
الرسميّة إلى
علماء ما وراء
النهر وأنّ هذه
المدارس تعطي بعض
الدعم والمساعدات
المقدّمة من
الدولة للطلّاب،
وأنّ كثيراً من
الناس دخلوا هذه
المراكز طلباً
لليسر والمال
فإنّ أهل العلم
أقاموا للعلم
مأتماً وقالوا:
إنّما يعمل في
طلب العلم أصحاب
الهمم العالية
والنفوس الزكيّة
من أجل الوصول
إلى شرف العمل
وكماله، أمّا
الآن وقد وضعوا
أجرة وبدلاً
ماليّاً للتعليم
والتربية فإنهم
قضوا على هذه
الهمّة وضيعوا
هذه النعمة، وهذا
سيؤدي إلى
الإهانة وانسداد
باب العلم6.
وقد كان أهل
التقوى والمعرفة
من الأساتذة
يوصون الطلاب أن
يختاروا لسكنهم
مدرسة من المدارس
الموقوفة للعلم،
ويعتبرون أنّ ذلك
أقرب للتقوى
وأبعد عن البدع،
كما أنّهم كانوا
يوصونهم باجتناب
المدارس التي
بناها أهل الظلم
واجتناب أموال
الشبهة وكثرة
الوسائل ومتاع
الدنيا7.
كان هؤلاء
الأساتذة يعلّمون
الطلّاب الخلوص
لله وينقلونهم من
وسط الكمّ
والكثرة الطالبة
للعلم إلى جواهر
علميّة يودعونها
في كنف التقوى
والخوف من الله.
أحد كبار علماء
مدينة سمنان
واسمه (سهراب)
بقي طالباً
ملازماً لابن
الهيثم عالم
الرياضيات
المعروف في القرن
الرابع الهجريّ
مدة ثلاث سنوات،
وكان ابن الهيثم
يأخذ منه كل شهر
مبلغ مئة دينار،
وعندما أتمّ
الدراسة أعاد ابن
الهيثم لسهراب
كامل المال الذي
كان قد أخذه منه،
وقال له: إنّ
هدفه من هذا
العمل تعليمه
الإخلاص في تعليم
العلم8.
2- احترام
الأساتذة
والعلماء الكبار:
وتعتبر العلاقة
الوثيقة التي
تربط الطالب
بالأستاذ من
خصائص التمدّن
الإسلاميّ والتي
تتميّز بها
المراكز
والمجمعات
العلميّة،
فالأستاذ قريب
دائماً من الطالب
وهو يعامله كأحد
أبنائه، كما أنّ
الطالب ينظر إلى
الأستاذ كوالدٍ
له، فهو يعترف
بحقّه ويقدّم له
الاحترام
والتقدير
الكبيرين، أضف
إلى ذلك الشحنة
المعنويّة التي
يمدّ الأستاذ
الطالب بها والتي
يحرص الأستاذ أن
يرقى بالطالب إلى
القمّة في سلّم
الكمال
الإنسانيّ.
وأمّا سبب انجذاب
الناس إلى هذه
المراكز فهو
كونها مفعمة
بالمحبّة والصفاء
والصداقة، وإنّ
تعلّق الطلّاب
بهذه المراكز
التربويّة أيضاً
واتخاذها أسوة
لهم منشؤهما ذلك
التعامل الأخويّ
والشفّاف والصفاء
والمروءة التي
تميّز أساتذة هذه
المراكز، والتي
يفوح أريج عطرها
على مساحة
المجتمع
الإسلاميّ
الكبير.
ومن باب المثال
كتبوا:
قام البعض بعرض
بعض النسخ
المكتوبة على
الفيلسوف المعروف
خسرو شاهي - بعد
أن أصبح مشهوراً
وأستاذاً في
مدرسة دمشق -
فأخذ واحدة منها
على الفور
وقبّلها ووضعها
على رأسه، وقال:
أثناء مطالعتي
هذا الكتاب تبيّن
لي أنّ هذه
النسخة مكتوبة
بخطّ أستاذي ابن
الخطيب، وهذا
التوقير بسبب ذلك9.
وفي قصّة أخرى:
تلقّى أحد فقهاء
بغداد رسالةً
فقبّلها وقال:
إنها بخط أستاذي
الفخر
الرازيّ10.
ففي ميدان
التعاليم الدينية
يكنّ الطلّاب
الاحترام الكبير
للأساتذة،
ويتأدّب الطالب
أمام أستاذه
بالآداب السامية،
فينظر إليه
باحترام، ويركع
قربه تواضعاً
ولا
يشير إليه بيده،
ويمتثل كلامه ولا
يُحزنُه ولا
يغمّه ويراعي
حرمته في السرّ
والعلن.
وكان الأستاذ
بدوره يشجّع
الطلاب الذين
يعتبرهم كأبنائه
على التعلّم
والسير والسلوك
في خطّ الحقّ
والصلاح11.
3- حريّة
التعلّم: في
التمدّن
الإسلاميّ لكلّ
شخص حقّ التعلّم
على خلاف طريقة
الساسانيّين
وغيرهم، حيث كان
العلم محصوراً
بطبقة الأمراء
والدَّهاقين فقط،
وباب العلم مفتوح
أمامهم بحريّة
كاملة، في حين
أنّنا نرى في
فترات التمدّن
الإسلاميّ، كان
الكثير من
العلماء والقضاة
والحكّام وأئمة
الجمعة
والوزراء... من
طبقة المزارعين
وأهل القرى وطبقة
عامّة الناس من
المجتمع.
وللمرأة أيضاً
حقّ التعلّم في
التمدّن
الإسلاميّ، وقد
لمعت أسماء
الكثير من النساء
العالمات في
فترات مختلفة من
التاريخ
الإسلاميّ في
ميادين العلم
والأدب
وغيرها12.
4- العقلانيّة
والحكمة: من
جملة النظريات
المهمّة التي
ساهمت في صناعة
ركائز التمدّن
الإسلاميّ والتي
كان لها دورٌ
عالٍ ومتفوّقٌ
على غيرها من
أنواع التمدّن هو
تركيز أنصار
الدين وحملة
مشاعل التمدّن
الإسلاميّ على
التفكير والتعقّل
والحكمة والوعي،
مضافاً إلى
الأهمية الكبرى
التي أعطاها
التمدّن
الإسلاميّ
لروحيّة الإيمان
والأخوّة وكشف
الحقائق والسعي
للوصول إلى
الواقع والحقيقة.
وكان أتباع أهل
البيت والمعتزلة
من رواد هذه
الميزة في العلم،
وفي الطرف
المقابل وقف
الأشاعرة الذين
عطّلوا دور العقل
وجعلوا حركته في
مدار مقفل،
واتخذوا من سيرة
القدماء والسلف
أصلاً لعلومهم،
ورفضوا إعطاء حقّ
النقد والبحث
والتحليل لما ورد
عنهم.
أمّا المسلمون
العقلاء فقد
ساهموا مساهمة
بارزة في صناعة
الثقافة وتقدّم
العلوم في العالم
وقدّموا رؤية
مهمّة في هذا
المضمار، ومن
خلال هذا الإيمان
رأى هؤلاء أنّ
رسائل القرآن
والأحاديث يجب أن
تتقدّم وتتطوّر
من خلال التكامل
والإرتكاز على
دعائمَ ثلاث هي:
العقلانيّة
والتقليديّة
والفكر
الإبداعيّ.
ووفق هذه النظرة
تمَّ تشريع الدين
على أساس الأهداف
والمصالح
الإلهيّة، وكانت
الحقيقة والسعادة
والكمال
الإنسانيّ تشعّ
من كافّة هذه
القوانين
والدساتير
الإلهية لترسم
للإنسان طريق
السلامة الذي لا
تشوبه شائبة،
وعليه فأيّ قانون
لا يُراعي هذه
المصالح
الأساسيّة ولا
يوافق عليه العقل
فإنه لا يمكن أن
يكون جزءاً من
الشريعة، ولم
يوافق المفكّرون
أمثال هشام بن
الحكم ويونس بن
عبد الرحمن
والشيخ المفيد
والسيّد المرتضى
على تجميد دور
العقل وتعطيل
عمليّة التفكير،
وهؤلاء اشتهروا
باسم العدليّة
ووضعوا كافّة
المقولات من
دائرة النقد
وغربلوا كافّة
الروايات وأخضعوا
كافّة الأبحاث
التاريخية لميزان
العقل والمنطق
وفصلوا الجيّد
منها عن السيِّئ 13.
ونشر العلماء هذه
المبادىء في
كافّة الميادين
والحقول العلميّة
بهدف البحث
والتحقيق والوصول
إلى الحقيقة،
وأخرجوا التعصّب
والأمور
الخرافيّة وضيق
النظر من الميدان
العلميّ.
كان الفلاسفة
والحكماء من
أنصار هذه
المجموعة أيضاً،
ففي الواقع فإنّ
الروح العقلانيّة
أحد أهمّ عناصر
حماية التمدّن
الإسلاميّ والتي
أرسى دعائمها
كتابات الفلاسفة
الكبار أمثال
الفارابي وابن
سينا وابن
مسكويه، واكتمل
تحريرها على يدي
الخواجة نصير
الدين الطوسيّ
وملّا صدرا.
إنّ الروح
الفلسفيّة
والنقديّة وتمييز
الصحيح من الخطأ
في مختلف العلوم
هما اللذان أرسيا
بنيان المدنيّة
الإسلاميّة
وحَمَيا العلوم
الدينيّة على طول
القرون السابقة
في وجه أمواج
الغزو العلميّ،
وهما اللذان وقفا
بثبات في وجه
أمواج الأفكار
المخالفة، فأخذوا
المسائل الجيّدة
منه وأبعدوا
المسائل غير
السليمة من أوساط
الحوزة العلميّة.
وكان أبو الحسن
العامريّ أستاذ
ابن مسكويه من
أنصار هذا الفكر
القائل بضرورة
تلازم الأحكام
الدينية مع العقل
في التشريع، كما
ينبغي أن يكون
لهذه النظريّة
حضورها الكامل في
ميدان الفلسفة
والدين، وقد قال
البعض: "إنّ
القول إنّ العلوم
الدينية ليست سوى
بعض المصطلحات
المتفق عليها
كلامٌ ناقص ولا
أساس له".
ووفقاً لهذه
النظريّة فإنّ
ماهيّة الأمور
الإيمانيّة
والعبادات
والتجارات ماهيّة
عقلانيّة، ومنذ
اليوم الذي عَمرت
الأرض بالإنسان
كان الدين
ضروريّاً
للإنسان، والعقل
السليم لا يرى من
الحكمة أن يترك
العقلاء العبادة
والتعبد، وفي
الواقع فإنّ
النظرة العقلانية
تقضي أن الدين
وضع القوانين من
أجل حلّ مشكلات
الناس.
كان الفيلسوف
العامريّ يعتقد
أنّ الدين الصحيح
والصافي والعقل
البعيد عن
الأوهام يفتحان
الطريق واسعاً
لحلّ مشكلات
البشر، وانطلاقاً
من نظرته فإنّ
الحقائق الدينيّة
والحديث والتاريخ
لا يمكن أن تكون
مفيدةً وذات أثر
بدون التلازم مع
العقل، كما أنّ
العقل لن يؤدّي
دوره بدون
التلازم مع
النصّ.
عدّ العامري
النتائج التالية
من بركات إعمال
العقل:
1ـ الاستئناس
بكمال الفضائل
الإنسانيّة عند
تناول أيّ حقيقة
من الحقائق.
2ـ الإحاطة
بالحكمة الإلهيّة
مع التفكير بحكمة
الله في التدبير.
3ـ القدرة على
تقييم القضايا
بمعيارية
البراهين
والتخلّص من
الإتباع التقليدي
والاقتداء بالفرق
التي لا حدود
علمية لها14.
واقتفى الفلاسفة
المسلمون الآخرون
أمثال شيخ
الإشراق الخواجة
نصير وفلاسفة
حوزة أصفهان
أمثال
الميرداماد،
فندرسكي، وخاصّة
ملّا صدرا آثار
من سبقهم في هذا
الطريق.
فقد كان ملّا
صدرا من أركان
المعتقدين بصناعة
الثقافة من خلال
المزاوجة
والتوأميّة بين
العقل
والنقل15،
وتصدّى للضربات
القاسية التي
تعرّض لها العقل
على يدي خصوم
العقل أمثال أبي
الحسن الأشعريّ،
وساهم في رقيّ
المجتمع
الإسلاميّ وسيره
المعتدل، وبرهن
أنّ العقلانيّة
هي محور التمدّن
الإسلاميّ في
مواجهة شلّ هذا
الدين وتدميره،
وبقي هذا المشعل
المضيء يزهو
بآلاف الفقهاء
والمتكلّمين
والفلاسفة الذين
زادوه جمالاً،
وما زال نوره
مشعّاً حتّى
اليوم.
وأعطت هذه
الحريّة الفكريّة
في المحيط العلمي
أن يختار
الباحثون
والعلماء الأستاذ
والكتب الدراسيّة
بطريقة غير
محدودة ويستطيعون
الاستفادة من
العلوم المناسبة
التي يدرسونها من
أيّ شخصٍ كان.
وتطوّر هذا
الاتجاه
العقلانيّ في
التمدّن
الإسلاميّ إلى
الحدّ الذي أصبح
فيه العلماء
المسلمون ينشدون
العلم والحكمة
بكلّ شوق وحماسة
في أيّ مكان،
ويركعون بتواضعٍ
أمام أيّ أستاذ.
وفي عهد النهضة
الفلسفيّة في
القرن الثاني
استفاد المسلمون
من أجزاء من كتب
الحكمة
اليونانيّة
القديمة وقام
علماء من
المسيحيين
واليهود بترجمتها
إلى العربيّة.
في القرن الرابع
والخامس الهجريّ
حيث الحياة
الفكريّة في
أوجها في مدينة
بغداد، استفاد
المسلمون من
علماء غير مسلمين
فدرس الفارابي
ويحيى بن عديّ
الفلسفة على أيدي
الفيلسوف نسطوري،
والفيلسوف أبي
بشر متى بن يونس.
كما درس
الفارابيّ المنطق
على المسيحيّ
يوحنا بن ميلان.
واستنار اليهود
والمسيحيّون
بعلوم الأساتذة
المسلمين، ففي
مجلس يحيى بن
عديّ في بغداد
كان يشارك أتباع
مختلف الديانات،
فكان وهب بن يعيش
والمسيحي أبو
الخير داود من
أعضاء هذا المجلس
المبارك16.
هذا التبادل
العلميّ والفكريّ
ساهم في نضج
العلوم الإسلامية
وخلق علاقة متينة
بين الإسلام
والأقليّات
الدينيّة، ففي
عهد آل بويه أعلن
أكثر من 24 ألف
زرادشتي إسلامهم
في مدينة
شيراز17، وفي
مختلف مراحل
التمدّن
الإسلاميّ استفاد
الكثير من علماء
الحكمة
والرياضيّات من
حريّة البحث التي
أرسى قواعدها
الدين
الإسلامي18.
كذلك كان هناك
علاقات وتبادل
علميّ بين علماء
السنّة والشيعة،
فكان هناك الكثير
من علماء الشيعة
يدرّسون طلاباً
من الفرق الأخرى،
وبالعكس فقد كان
الكثير من
الأساتذة السنّة
طلابهم من
الشيعة، ومن هذه
النجوم المضيئة
في ميدان العلوم
الخواجة نصير
الدين الطوسيّ
الذي كان الكثير
من طلابه من
الشافعية
والحنبلية
والحنفية
وطلّاباً من فرق
آخرى، وكانوا
يلازمونه
ويتقرّبون منه
للاستفادة من
مقامه العلميّ
الشامخ.
في أحد أسفار
الخواجة إلى
مدينة تبريز
التقى بالقاضي
البيضاويّ مفسّر
القرآن وأحد كبار
مذهب الشافعيّة،
وقد كتبوا عن هذا
اللقاء أنه وأمام
جمع من الناس أخذ
الخواجة بركاب
القاضي بكلّ
تواضع حتى يُركبه
مكانه، فسأله
الناس عن سبب
تواضعه تجاه
القاضي فقال: كان
يخطر ببالي
دائماً أنّ هذا
الخُلُق يصدر عني
تجاه الكبار،
وهنا لاحظت أنه
لا يوجد أحد يليق
بهذا الخُلُق مني
سوى القاضي،
ولذلك صدر عني
هذا التواضع
تجاهه19.
ودرس عالم
التاريخ "علم
الدين حنفي"
على يدي الخواجة
نصير الدين20،
وكان الخواجة
ينحاز لعلماء
المذاهب والفرق
الإسلاميّة وكان
يفوّض لهم العمل
والتدريس في
الحوزة التي يشرف
عليها.
في تلك الفترة من
التمدّن
الإسلاميّ وصلت
الحريّة الفكريّة
وحقّ البحث إلى
حدٍّ أصبح فيه
طالب العلم يقرأ
صحيح البخاري
ويحصل على إجازة
في نقل الحديث في
الوقت الذي يدرس
فيه كتاب نهج
البلاغة عند
أستاذ آخر21،
وكان الطلّاب غير
المسلمين يتلقّون
دروسهم عند
الأساتذة
المسلمين أمثال
كمال الدين
موصلي، وهذا
التواصل والتبادل
العلميّ ساهم في
إيجاد أرضية
لانتقال هذه
العلوم والمعارف
إلى العالم
الغربيّ22.
وهذا التواصل
والتبادل العلميّ
كان موجوداً بين
المسلمين
والآخرين في عهد
الصفويّين
والقاجاريّين،
ففي زمان فتح علي
شاه استعان
الملّا أحمد
بعلماء اليهود
وعلماء
المسيحيّين
للإجابة عن
الشبهات العلميّة
لهنري مارتين،
واستطاع من خلال
جلسات بحث
جماعيّة كانت
تُقام حول الكتب
المقدّسة أن
يقدّم إجابات
مفيدة
لمارتين23.
4- المناظرات
العلميّة:
تعتبر الحرية
الفكريّة في
الحوزة من أبرز
مظاهر التمدّن
الإسلاميّ، لذلك
كانت تسعى وتؤكّد
دائماً على ضرورة
إقامة هذه
المباحثات
والمناظرات
العلميّة بين
الفرق
الإسلاميّة،
وبالخصوص في
القرن الثاني
الهجري الذي كان
سوق الحوارات
والمناظرات في
المحافل العلميّة
والمساجد في
أوجها. وكان
أصحاب الفكر
يشاركون في
مناظرات هذه
المحافل للدفاع
عن آرائهم ووجهات
نظرهم. وقد شارك
الإمام الصادق
عليه السلام
وأتباعه في
المئات من
المناظرات التي
أثمرت عن اتباع
الكثيرين من
المخالفين لفكر
الإمام عليه
السلام
24.
واستفاد الإمام
الرضا عليه
السلام من مناخ
هذه الجلسات
المتنوّعة فناظر
أئمّة المذاهب في
الحجاز وخراسان،
وكانت هذه
المناظرات سبباً
في التحاق الكثير
من أصحاب الفكر
بطريق الحقّ
وإنارة الطريق
أمامهم لتمييز
السبيل الصحيح من
الخاطىء25.
وكانت تقام
المناظرات
الكلامية بين
المسلمين
والآخرين بحسب
القواعد الصحيحة
والعقلائية
والآداب المتبعة
في المجتمع
المتمدّن، فقد
كانت هذه
الحوارات تتميز
بالجمال والأدب
والفائدة وبعيدة
من الحدّة
واللجاجة،كما
أنها كانت بعيدة
عن التفاخر،
وكانت تساهم في
رفع الغموض
والشبهات بشكلٍ
مقبول، وفي العهد
الفاطمي في مصر
كانوا يقومون
بإعداد مباحثات
علميّة بين
المسلمين
والمسيحيّين،
وهذه الحرية
الفكرية على خلاف
ما كتبه "آدام
متز" بأنها
مستقاة من المذهب
الإسماعيلي26،
وإنما كانت تنهل
من معين الثقافة
والتمدّن
الإسلاميّ وهي
استمرار لسيرة
المسلمين
الماضين.
وكان العالم
إسماعيل بن عبّاد
وزير فخر الدولة
الديلميّ يشارك
بشغف في هذه
المناظرات وقد
ناظر في أحد
المجالس رأس
الجالوت أحد كبار
علماء اليهود حول
فرادة القرآن
وإعجازه وانتصر
عليه27.
وناظر عيسى بن
زرعة أبو الخير
أحد كبار علماء
اليهود، وناظر
أيضاً المسعوديّ
المؤرخ المعروف
أبا كثير
اليهوديّ في
الأردنّ وفلسطين
في موضوع نسخ
الشرائع، وناظر
كذلك ابن أبي
الثناء في الرقّة
عن الخلق
والإنسان، وكان
للعامريّ في هذا
الموضوع حوارات
طويلة مع
المجوس28.
وفي بداية القرن
الرابع الهجريّ
كانت المناظرات
كثيرة بين ابن
قبّة الرازي
وكبار المتكلمين
المعاصرين، ومن
جملة الأسئلة
والأجوبة
والأبحاث التي
وردت المكاتبات
التي تمت بينه
وبين أستاذه أبي
القاسم البلخي
والتي تضمنت
الكثير من البحث
والنقد وتبادل
وجهات النظر،
ونتج من ذلك عدّة
رسائل لطيفة
ولامعة حول موضوع
الإمامة29.
ومن هذا المضمار
لا يسعنا إلّا أن
نذكر الحوارات
العلمية بين أبي
العلاء المعري
والسيّد المرتضى
حول موضوع الخلق
والاعتقاد
بالدين،
والمناظرات
المتنوّعة للشيخ
المفيد مع أئمة
المذاهب، ولا
ننسى مناظرات
أحمد بن سيار
وورثاني حول
موضوعات الحرية
واختيار الإنسان
والإمامة
والقيادة30.
في عهد
الحمدانيّين كانت
مدينة حلب ساحة
من ساحات
المنافسة العلمية
المعروفة للعلماء
والأدباء، وكان
العلماء يقيمون
المناظرات بحضور
سيف الدولة
الحمدانيّ، وفي
هذا امجلس يُذكر
المناظرة
المشهورة بين أبي
علي الفارسي
والمتنبي31.
ولمّا كان مبدأ
المناظرة من أهمّ
عناصر ازدهار
الفكر وتقدّم
العلوم الفكرية،
نرى أنّ علماء
الدين خصّصوا
محافل خاصّة
لتنظيم هذه
المناظرات.
فقد خصّص الشيخ
المفيد أشهر
علماء الشيعة في
بغداد مكاناً
خاصّاً من منزله
في ناحية "رباح"
في بغداد لإقامة
المناظرات
العلمية.
وكان يتردّد إلى
منزل السيّد
المرتضى أصحاب
الآراء والعقائد
المختلفة
ويطرحونها بحرية
كاملة في حوارات
ومناظرات مفتوحة.
وكذلك كان يتردّد
إلى منزل ابن أبي
طيّ أهل الرأي
والفكر لإقامة
الحوارات
العلمية32.
وخصّص عضد الدولة
في السرايا
مكاناً قريباً
منه للفلاسفة
والحكماء من أجل
إقامة الحوارات
العلمية فيه،
وكان أبو علي
مسكويه من
الأعضاء
المعروفين لهذه
المجموعة، وفي
هذا المناخ
العلمي الحرّ
تمّت كتابة كتاب
"تجارب الأمم"،
باسم عضد
الدولة33.
وفي عهد
السامانيين أيضاً
كانوا يولون
اهتماماً بمسائل
البحث والنقد
العلمية. فكان
الحكام والملوك
السامانيون
يشاركون في حلقات
البحث العلمية
التي كانت تقام
أيام الجمعة في
مدينة بخارى. وقد
حضر في إحدى هذه
الجلسات أكثر من
عشرة أشخاص من
الأسماء اللامعة
بين الأدباء
والفقهاء أمثال
أبي الحسن
اللحّام، ابن
مطران، أبي نصر
الهرثمي، أبي
القاسم الدنيويّ،
أبي علي
الخواقي34.
واستمرّت هذه
اللقاءات
والمكاتبات على
هذا المنوال إلى
ما بعد القرن
السابع
الهجريّ،
ومنها مكاتبات
شهاب الدين
الحكيم والفخر
الرازيّ35،
وكان التبادل
العلمي بين ابن
ميثم والخواجة
نصير الدين جزءًا
من هذه اللقاءات
والحوارات36.
6- الدراسات
الدينية
المقارنة:
تعتبر الدراسات
الدينية المقارنة
من ركائز
العقلانية والبحث
عن الحقيقة في
التمدّن
الإسلاميّ.
فقد كان هشام بن
الحكم ومؤمن
الطاق الذي كان
معاصراً له من
أوائل الذين
قاموا بدراسات
مقارنة لآراء
المخالفين في
أهمّ الحقول
الخلافية في ذلك
الزمان كالإمامة
والإدارة، ثمّ
فتحت الآفاق بشكل
أوسع بعد ذلك
فكان كتاب
(الإنصاف) لابن
قبّة الرازيّ
وكتاب
(الاستيفاء) لأبي
سهل النوبختيّ
و(الآراء
والديانات) لأبي
محمد النوبختيّ
من أهمّ الكتب
التي كتبت في
مجال مقارنة
المذاهب والآراء،
ومنها كذلك كتاب
(المقالات
والفرق) لسعد بن
عبد الله
الأشعريّ، فضلاً
عن العديد من
التقارير الطويلة
والمسهبة التي
عرضت لآراء الفرق
ومعتقداتهم في
الحوزة الدينية
الإسلامية.
وكان المسعوديّ
العالم الكبير في
ميداني التاريخ
والجغرافيا من
أهمّ الذين قرأوا
الأديان بشكل
واسع ومقارن وكتب
عن الفرق
والمذاهب في
العالم الحديث،
وكذلك فقد تعرّض
لآراء غير
المسلمين أيضاً
في كتابه
التاريخيّ (مروج
الذهب)37.
وكان لأبي ريحان
البيرونيّ قدمٌ
ثابتة في مجال
الأديان المقارنة
والذي اعتمد مبدأ
المشاهدة
والاستقراء في
استكشاف أحوال
ومعتقدات الملل
الأخرى، ففي سفره
إلى الهند والذي
صحبه فيه محمود
الغزنويّ تعلّم
البيرونيّ اللغة
الهندية أوّلاً
وتعرّف على
اصطلاحاتهم
الثقافية ثمّ قرأ
وطالع كتبهم
وفكرهم.
كتب البيرونيّ في
مقدمة رسالة
(تحقيق ما
للهند): لم أكتب
هذه الرسالة
للجدل وإنما هدفي
عرض آراء الآخرين
بتجرّد تامّ،
وأقول إنّه من
وجهة نظري إذا لم
يتعرّف المرء على
آراء الآخرين
ونظرياتهم عن قرب
وبشكل مباشر،
فإنه لا يستطيع
أن يحكم ويميّز
بين الصحيح
والخاطىء.
وكتب البيرونيّ
أنه قال للأستاذ
أبي سهل في
المجلس الذي كان
يعقده لبيان
إفلاس أفكار
المعتزلة:
إنّ الذين يقيمون
حوارات مع
الأعداء
والمخالفين
غالباً ما كانوا
يتحلّون بخصوصية
القرب والتواصل
من الآخر في مجال
مناقشة المذاهب
التي نلتقي معها
في بعض الأصول،
أو أيّ فرقة من
فرقه وبيان
بطلانها والكشف
عن أخطائها.
أمّا في مجال
مناقشة الأديان
الأخرى والتي لا
يوجد فيها مساحة
مشتركة في الأصول
فقال: إنّ اكتشاف
هذه الأديان
البعيدة أكثر
صعوبة، ومعرفتها
ستبقى غامضة
ومبهمة38.
وفي نفس المكان
يذكر البيرونيّ
عن الفيلسوف
الإيرانيّ
المشهور أبي
العبّاس أنه كان
يقرّر كلمات
أصحاب الآراء
المخالفة في
كتابه لكيلا
يظلمهم ويحكم
عليهم مسبّقاً.
ثمّ كتب: إنّ أبا
سهل كان يؤيّد
هذه النظرية،
وإنّ كلّ ما
أعرفه عن الديانة
الهندية وكتبته
في كتابي من أجل
أن يستضيء بها كل
من يريد إقامة
مباحثة معهم أو
يريد أن يخالطهم.
وكان لأبي الفتح
الشهرستاني
الباحث في
الأديان والمذاهب
في العالم أيضاً
عدّة أبحاث في
مجال الأديان
والمذاهب
العالمية، ففي
كتابه (الملل
والنحل) عرض
كافّة المذاهب
الفلسفية
والمذاهب
المرتبطة بالوحي
وكافّة فروعها
وفرقها، وترك
التقييم بعد ذلك
كلّه على عهدة
القارىء، كما أنه
اتهم فرق الشيعة
في عدّة مقاطع من
تقاريره بالوقوع
في الخطأ وعدم
الرجوع إلى
المنابع العلمية
الأصيلة، لكن
يبقى هذا الكتاب
بشكلٍ عامّ من
الكتب الفريدة في
ذلك العصر والذي
لا سابقة له في
هذا المضمار39.
وكتب أبو المعالي
العلويّ كتاب
(بيان الأديان)
الذي شرح فيه
الأديان والمذاهب
في العصر
الجاهليّ
والإسلاميّ
مستفيداً من
المصادر المختلفة
التي كُتبت قبله
في نفس
المضمار40.
وكتب الحسنيّ
الرازيّ - وهو من
علماء القرن
السادس الهجري -
بطريقة نثرية
رائعة تقريراً
مفصّلاً عن الملل
والمعتقدات
المعاصرة
والماضية في
كتابه (تبصرة
العوامّ)41.
وفي القرن العاشر
وما بعده، قام
بعض الكتّاب
الهنود المسلمين
أمثال أبي الفضل
غلامي ومحمد
دارشكوه مع بعض
العلماء الهنود
بترجمة أجزاء من
الكتب الفلسفية
الهندية وتعرّف
المسلمون على
المعتقدات
الدينية
لجيرانهم42.
وكذلك فإنّ علماء
الجغرافيا
المسلمين أمثال
اليعقوبيّ،
السطخريّ، أبي
دلف، ابن حقل،
المقدسيّ، ابن
خردادبه، ابن
البلخيّ،
السمعانيّ، كانوا
يملكون وعياً
كبيراً حول كافّة
الأوضاع السياسية
والمذهبية لكثيرٍ
من البلاد
المتنوّعة في
العالم.
هؤلاء الرحالة
الذين حملوا
أمتعتهم على
أكتافهم والأقلام
بأيديهم وتحمّلوا
أعباء ومشقات
السفر وجالوا
بصعوبة في بلاد
الشرق والغرب
أناروا بعملهم
العالم
الإسلاميّ43،
وكتبوا تقارير
مفصّلة عن تاريخ
وجوانب هذه
الملل، وكانوا
أعلاماً في
الثقافة والتمدّن
الإسلاميّ،
وساهموا في تغيير
الكثير من
المعارف
والمعتقدات وبثّ
النضج والوعي في
الأفكار بشكل
عامّ، وكتب
الكثير من
المفسّرين
والفقهاء
والمتكلّمين
مقالات طويلة في
آراء الآخرين
بدون إخلال أو
تعصّب أو أحكام
مسبَّقة، ثمّ
عرضوا عقائدهم
بعد ذلك، وقد جرى
على هذا المنوال
في الكتابة الشيخ
الطوسيّ والشيخ
المفيد والسيّد
الرضيّ والسيّد
المرتضى والشيخ
الطبرسيّ ومئات
الأشخاص الآخرين
من فطاحل العلم
والأدب.
كان الشيخ
الطوسيّ يعرض
ويبيّن آراء
المخالفين إلى
حدّ أنّ
المعتقدين بتلك
المذاهب والفرق
وأصحاب الرأي
فيها إذا أرادوا
بيان أمرٍ ما،
فإنهم لا يشرحونه
بأفضل مما يوضّحه
الشيخ الطوسيّ.
يقول الشيخ عبد
الحميد سليم
الحنفيّ رئيس
علماء الأزهر:
"سواء
عندما كنت مفتياً
للديار المصرية
أو بعد ذلك عندما
كنت عضو لجنة
إفتاء الأزهر
فإني كنت كلّما
أردت الذهاب إلى
دار الفتوى كنت
قبل ذلك أطالع
كتاب المبسوط
حتماً"44.
وسار الفخر
الرازيّ على نفس
المنوال أيضاً في
كتابه (المأخذ)
حتى إنّه وُجّهت
له بعض الملاحظات
على هذا الصعيد.
"كان يعرض شبهات
المخالفين للمذهب
بأجمل بيان ثمّ
يطرح عقيدة أهل
السنّة بشكل
ضعيف"45.
وهذا الأمر جعل
البعض يتّهم
الشيخ الرازيّ
بالتشيّع، لكنّ
الآخرين أجابوهم
أنّ هذا الأمر له
علاقة بقواعد
البحث العلميّ
فقط.
7- ارتباط
النظريّة بالعمل:
يعتبر مبدأ
ارتباط النظرية
بالعمل من أهمّ
خصائص القوانين
العلمية في
التمدّن
الإسلاميّ، فقد
أيّد بعض
الفلاسفة غير
المسلمين نظريّة
أنّ الإنسان
العاقل لا يتعلّم
من أجل إنجاز بعض
الأعمال الجميلة
وإنما يتعلّم من
أجل رفع وحشة
الجهل وإشعار
نفسه السعادة،
وبالتعبير
المعاصر نتعلم
العلم من أجل
العلم.
وأيّد بعض
العلماء الآخرين
نظرية تجربة
العلم، وعدّ
هؤلاء العلم
الديني وحده من
العلوم التي
كانوا يوصون
الناس بتعلّمها
أمثال علم
الإلهيات.
وكان لكلّ نظرية
من هاتين
النظريتين
أتباعها من
العلماء
المسلمين،
واستمرّ الجدال
بينهما من خلال
المقالات العلمية
التى جهد البعض
لإثبات أنّ العلم
ليس فقط من أجل
العمل بل إنّ
تعلم العلم من
أجل استخدامه
والاستفادة منه
في هداية وتقدّم
الحياة، كما
اعتبر البعض
الآخر أنّ
الأعمال المفيدة
والنافعة للناس
وحدها هي الأعمال
التي ترتكز على
أبحاث علمية
محكمة وثابتة.
وفي مقام الردّ
على نظرية العلم
لأجل العلم كتب
أبو الحسن
العامريّ:
"...
في عقيدتنا فإنّ
أيّ شخص وأين
كانت وجهة نظره
عليه أن يجيب عن
السؤال الكبير
الآتي وهو: لماذا
كان العلم منشأ
العمل؟ ولماذا
العمل هو كمال
العلم وتمامه"؟
في الحوزات
القديمة، كانت
العلوم كلّها
تدرّس ضمن فلكين:
الدين والدنيا،
وكانت هذه العلوم
المرتبطة ببعضها
تتطوّر وتتقدّم،
ففي جانب
الإلهيات كانت
تدرس الجغرافيا
والرياضيّات
والجيولوجيا
وكيفية إدارة
المدن، كما أنّ
علماء مسلمين
برعوا في علوم
الطبّ والزراعة
والصناعة، وكانت
لهم نظريّات
علمية ومتقدّمة،
كان العلماء
المسلمون رُوّاد
الكثير من العلوم
المتطوّرة اليوم
في عالم
الغرب،
وتمّ تسجيل
ابتكاراتها
الأولى على أيدي
المسلمين، ويعترف
بذلك كلّ من يروي
التاريخ بطريقة
منصفة
وعادلة46.
وعندما يتعرّض
المجتمع لأيّ
مشكلة سواء من
الناحية العلمية
أو العملية، كانت
الحوزات تعقد
الجلسات العلمية
ومجموعات التحقيق
والبحث من أجل
تسليط الضوء على
هذه المسألة،
ويقوم الخبراء
والمتخصّصون
بتقديم النظريّات
التي تساهم في
حلّ هذه المشكلة.
ومن باب المثال:
1ـ مشكلة توزيع
المياه في
خراسان:
يتوفّر في خراسان
الآلاف من مجاري
المياه الباطنية،
وفي القرن الثالث
حدثت عدّة خلافات
بين الناس حول
أحكام هذه
المجاري ومبادىء
تقسيم المياه
وحدود القنوات،
وقام العلماء
بتشكيل جلسات
مشاورات علمية
أثمرت عن حلّ هذه
العقدة. كتب
كرديزي في كتاب
(زين الأخبار):
"في
أيام عبد الله بن
طاهر تنازع الناس
حول مسألة مجاري
المياه، ولمّا لم
يرد شيء في كتب
الفقه وأحاديث
الرسول حول هذا
الأمر، قام عبد
الله بجمع كافّة
علماء خراسان
وبعض علماء
العراق ووضعوا
كتاباً حول أحكام
مجاري المياه"47.
2ـ مواجهة المواد
المخدّرة: في
القرن الثالث
انتشر استعمال
الموادّ
المخدّرة، ولمّا
لم يكن هناك أيّ
نصّ أو رواية
واضحة في هذا
الخصوص فإنه وقع
اختلاف شديد بين
الناس، وما لبث
أن انتشر بيع
الأفيون في
خراسان، فاجتمع
علماء وفقهاء ما
وراء النهر
وبحثوا في حليّة
وحرمة هذه
الموادّ، وفي
النهاية أصدروا
حكماً بالإجماع
بحرمة هذه
الموادّ
المخدّرة...
وأصدروا فتوى...
في أيّ مكان يتمّ
العثور على باعة
أو مستخدمين لهذه
الموادّ
المخدّرة، يجب
اتخاذ أشدّ
العقوبات
بحقّهم48.
وتركت هذه الفتوى
تأثيراً مقبولاً،
ولم يجرؤ بعد ذلك
أحد على الاقتراب
من الأفيون
والبنج لمدّةٍ
طويلة. وفي العهد
الصفويّ استخدم
الناس التنباك
للترفيه ولم
تستطع الدولة
ضبطهم، فعقد
العلماء عدّة
جلسات حواريّة
حول ضرر التنباك
وأصدروا مجتمعين
فتوى بضرر
استعمال التنباك
وحرمته49.
3ـ الدفاع
العقلانيّ عن
الدين: في
أوائل القرن
الثامن الهجريّ
وفي أيّام الغزو
المغوليّ حدث أنّ
بعض أفراد جنود
المغول كانوا قد
اعتنقوا الإسلام
حديثاً، وفي تلك
الأثناء كان فريق
من الفرق
الإسلاميّة التي
وقع الخلاف
بينهما حول بعض
المسائل الفقهية،
كان كل منها يذكر
الآخر بكلام
سيِّئ وبذيء ممّا
ترك انعكاساً
سيّئاً على نفوس
أولئك المغول
الحديثي الإسلام،
وقاموا بترك
الإسلام أمام هذه
الفرق.
أحسّ العلّامة
الحليّ بالخطر،
فطرح هذه المسائل
مورد الخلاف في
حوارات مفتوحة
داخل محفل شارك
فيه العديد من
علماء الفرق
والمذاهب
الإسلامية، وفي
هذه الجلسة قام
العلّامة الحليّ
بالاستدلال على
رأي أهل البيت من
هذه المسائل
وأنهى الخلاف
الفقهيّ
القائم50.
4ـ مجلس بغداد:
في القرن التاسع
الهجريّ وفي أيام
حكم قره قويونلو،
برز استعداد
المجتمع لتطبيق
الأحكام
الإسلامية، وكان
من الضروريّ
تعيين موقع وحدود
الكثير من
الأحكام الشرعية
والاجتماعية
كمبدأ القضاء
وإقامة الحدود
والحكم وصلاة
الجمعة الجماعة
وجعلها أكثر
شفافية ووضوحاً،
وبهذا الخصوص نظم
ابن فهد الحليّ
مع تلميذه محمّد
بن فلاح مباحثة
في
حوزة الحلّة،
كما شارك ابن فهد
في الجلسات التي
دعا إليها
الميرزا الموقّر
في بغداد وتناول
البحث فيها
الموضوعات الآنفة
الذكر51.
النشاط
العلميّ في العصر
الصفويّ
في العهد الصفويّ
كان للعلماء
مشاركة فاعلة في
مختلف الميادين
الاجتماعية. فكان
كبار علماء
الحوزة يتصدّرون
لأيّ مشكلة سواء
من الناحية
النظرية أو
العملية وكانوا
يباشرون ساحة
العمل بأنفسهم.
1ـ في أيام الملك
سليمان الصفويّ
أقام الشيخ علي
خان زلكنه جلسة
لتحقيق صلاة
الجمعة شارك فيها
الكثير من
العلماء وأصدر
المجتمعون رسالة
تتضمّن آراء
الشيخ زلنكه.
2ـ تحقيق حول
الخراج والأحكام
الشرعية المرتبطة
به والأمور
المالية للأراضي
المفتوحة عنوة.
3ـ تحقيق مسألة
الاعتكاف وإحياء
الليل في ليالي
الاعتكاف.
4ـ تحقيق حول
حلّية وحرمة شرب
التبغ والتنباك.
5ـ تحقيق حول
مسألة الغناء
والموسيقى.
6ـ جلسة تحقيق
لكتاب "كشف
الغمّة" لمؤلّفه
أبي الحسن
الإربليّ، وهو من
الكتب القيمة في
القرن السابع،
وتمّ تصحيحه
ونشره.
7ـ أقام العلّامة
الكبير محمّد بن
علي الأردبيليّ
جلسة شارك فيها
أكثر من ثلاثين
عالماً معروفاً
من أجل كتابة
الكتاب النفيس
(جامع الرواة).
8ـ مسألة تعيين
يوم ولادة أمير
المؤمنين عليه
السلام.
الحوزة ودورها
التأسيسيّ للقيم
والآداب
الإسلاميّة
إنّ التقدّم
الثقافيّ وتمدّن
أيّ أمّة من
الأمم يظهران من
خلال وفرة
المجموعات
العلمية في مجال
الروابط
الاجتماعية
وكيفية التعامل
مع الآخر والسعي
من أجل عزة
وكرامة الأمة
والمسؤولية في
مواجهة
الاعتداءات
ومقاومة الجهل
و...
تعتبر الصحّة
والنظافة
والتعامل اللائق
مع السجناء
ومساعدة الفقراء
والمحتاجين ورفع
التخلف وعدم
التبعية والقيم
الأخرى من أهمّ
معايير تمدّن
الأمم وصلاح
الحكومات. ومن
أقبح الأفعال
التي قام بها
الغرب في القرون
الأخيرة أنه أساء
تقديم ثقافة
المسلمين وتمدنهم
وسخّر إعلامه
لتصوير المسلمين،
وخصوصاً
الإيرانيين، على
أنهم شعوب بلا
ماضٍ وأنهم أعداء
الآخر وأن
عقائدهم مجموعة
من الخرافات
وقالوا: إنّ هذه
العادات السيّئة
هي من رواسب
ثقافتهم الدينية.
كتب (جيمز موريه)
رابط السفارة
البريطانية في
طهران سنة
1239هـ. ق كتاباً
بعنوان (حاجي
بابا) تناول فيه
الإيرانيين
بطريقة غير منصفة
ووجّه مجموعة من
الإنتقادات
اللاذعة والسامّة
متعامياً عن
الأمور الجميلة
والقيم الإنسانية
للإيرانيين،
فهؤلاء ينظرون
بعين ضيّقة بحيث
لو أنّ شخصاً
بعيداً عن
الثقافة
الإسلامية قرأ
كتاب (حاجي بابا)
فإنه يعتبر هؤلاء
القوم أغبياء
ويعتقدون
بالخرافات
وبعيدين كل البعد
عن القوانين
الإنسانية52.
ومن خلال نظرة
إلى الثقافة
الإسلامية
والإيرانية التي
تعتبر اليوم في
مقدّمة الثقافات
الرائجة في
المجتمع نرى
بوضوح أنّ الخصال
السيّئة أقلّ
وجوداً في
المجتمعات
الإسلامية قياساً
إلى الثقافات
والمدنيات
الأخرى، ولو نظرت
إلى شعوب العالم
كافّة هل ترى
شعباً يرفع راية
الإيثار والمحبة
والصفاء والأخوّة
وإكرام الضيف
ومساعدة الفقراء
والمعوزين غير
الشعوب
الإسلامية؟
فعلى طول التاريخ
كانت الشعوب غير
الإسلامية تتمتّع
بحريّة في البلاد
الإسلامية أكثر
من الحرية التي
يدّعونها في
أوروبا،
فالمسيحيون
واليهود عاشوا
إلى جانب
المسلمين بكلّ
سلام وكان لهم
حضورهم في مواقع
اقتصادية وسياسية
عالية53، وحتى
في عهد الحروب
الصليبية فإنّ
المسيحيين الذين
كانوا يقطنون
البلاد والمدن
الإسلامية
وجوارها وقفوا
بملء رغبتهم إلى
جانب المسلمين
يحملون معهم
الآلام والمتاعب
أكثر مما كانوا
يقفون لإعانة مَن
هم من أتباع
دينهم54، وعلى
خلاف المبادئ غير
الإنسانية
للأوروبيين عندما
هاجموا بلادنا
واحتلّوا مدينة
القدس فإنّ
المسلمين وبعد
انتصارهم عليهم
عاملوهم بكلّ
أخوّة ومحبّة.
وفي العهد
الصفويّ
والقاجاريّ كان
يعيش الآلاف من
اليهود
والمسيحيين إلى
جانب الإيرانيين،
وإلى ما قبل قيام
دولة إسرائيل
الغاصبة فإنّ
المدن الإيرانية
كأصفهان وهمدان
ومشهد والريّ
كانت تعتبر من
أهمّ المدن التي
يقطنها
اليهود55،
وعليه فإنه لا
مجال للمقارنة
بين حريّات
الأقليّات
الدينية في
أوروبا وحريّات
غير المسلمين في
إيران.
وذكر الرحَّالون
من خلال تجوالهم
وإقامتهم في
البلاد الإسلامية
أنّ القيم
الإنسانية
كالصدق
ومحبة الخير
للآخرين من
الخصال الحميدة
عند المسلمين.
كتب ناصر خسرو
وهو رحالة من
القرن الرابع عشر
في وصف سوق مصر:
"إنّ أهل
السوق في مصر
صادقون في
أقوالهم عند
بيعهم لأيّ متاع،
وإذا كذب أحد على
أحد المشترين
فإنه يُشهّر به
باعتلائه جملاً
ويعلّق له جرس في
يده ويُطاف به في
المدينة فيقرع
الجرس وينادي:
أنا قلت الكذب
وأنا نادم
على
ذلك وكل من يقول
الكذب فجزاؤه
اللوم
والتأنيب"56.
كتب ابن بطّوطه
الرحّالة المشهور
في القرن الثامن
الهجري والذي
أمضى ثلاثين سنة
في السير والسفر،
عن المحبة
ومداراة الناس
وحسن التعامل
معهم، وفي توصيفه
لأحد المراكز
العلمية في النجف
قال: "دخلت من
باب الحضرة إلى
إحدى المدارس
الكبرى التي كان
يسكنها بعض
الطلّاب الصوفيين
الشيعة، وفي هذه
المدرسة إذا قدم
أحد المسافرين
فإنهم يقومون
باستقباله حتى
ثلاثة أيام
ويقدّمون للضيوف
الطعام المؤلّف
من الخبز واللحم
والتمر مرّتين في
اليوم"57.
وشرح آداب وعادات
أهل الشام فتحدّث
بتعجّب عن انتشار
ظاهرة الوقف
ومساعدة العجزة
والتي من جملتها
وقف لتجهّز
المتاع للبنات
الفقيرات من أجل
الزواج، وقف
لتحرير العبيد
ومساعدة
المتخلّفين، وقف
لشق الطرقات، وقف
لتحسين ظروف
الأطفال
والجواري.
وشكّلت إيران
حلقات مهمّة من
حلقات التمدّن
الإسلاميّ نظراً
للغنى الثقافي
والإنساني
والأخلاقي الذي
تتمتّع به على
مستوى العالم.
الرحّالة الفرنسي
(شاردن) أمضى
مدّة طويلة في
إيران في العهد
الصفويّ، ويعدّد
في مذكراته بعض
الخصائص المشهورة
عن الشعب
الإيراني فيعدّهم
من روّاد علم
الفلسفة والأخلاق
والحكمة، ومن
مؤسّسي كلّ
العلوم والقيم،
فكتب قائلاً:
"يتقدّم
الإيرانيون على
بقيّة الأمم
والشعوب في أصول
الأخلاق، وبما
أنهم يعتقدون
اعتقاداً راسخاً
بقدرة وحكمة الله
وقضائه وقدره
لذلك تراهم
بمنتهى التسليم
إزاء كافّة
الابتلاءات
والمصائب والآلام
التي تصيبهم،
ويمكن القول
أيضاً: إنّ هذه
الفضائل
الأخلاقية
الإنسانية هي
ركيزة الكثير من
الصفات السامية
كالصبر والقدرة
والوسطية وغيرها
من أخلاق هذا
الشعب، ثمّ إنّ
تجلّي هذه الصفات
والفضائل السامية
ترك أثراً عالياً
في ترك الطمع
والجشع في
نفوسهم، وجعلتهم
أكثر رقةً ومحبةً
وإحساساً
بالآخرين"58.
والتحقيقات
التاريخية
للمؤرّخين
الحياديين تؤكّد
على مسألة مهمّة
وهي أنه ينبغي
التشكيك بما كتبه
المؤرّخون الأرمن
عن ثقافة
الإيرانيين في
العهد الصفوي،
والتي نشروها في
كلّ العالم59.
في البلاد
الإسلامية تعيش
الشعوب إحساساً
عالياً بشخصيتها،
ولا مكان للذلّ
والهوان عندهم،
ففي العهد
الصفويّ في إيران
لم يكن هناك وجود
للتسوّل
والاستجداء، كما
أنّ الناس كانت
تنفر من بعض
الفقراء الذين
يبذلون ماء
وجوههم بالتسوّل.
كتب شاردن:
"إنّ شعوب المشرق
تختلف عن الشعوب
الأوروبية التي
لا تحمل ثقافة
إعطاء الصدقات،
كما أنه لما كانت
حياة الناس في
المشرق حياةً
عادية لا يوجد
فيها متطلّبات
الحياة الثانوية
والكمالية، لذلك
ترى أنّ نسبة
الفقراء وعددهم
قليل جداً في
مجتمعاتهم"60.
والتقارير
التاريخية شاهد
على نظافة المدن
والناس في عهد
التمدّن
الإسلاميّ، ففي
الوقت الذي كانت
فيه الصحّة
والنظافة في
أوروبا ليست
بالمستوى المرضي
فإنّ المدن
الإسلامية كانت
تحوي آلاف
الحمّامات
العمومية، وكانت
الطرقات مفروشة
بالحجارة وكانت
الناس تعيش في
بيئة صحيّة
وسليمة61.
هذه الثقافة
الإسلامية
والآداب المدنية
إنما كانت ببركة
تعاليم الإسلام
والأساتذة
والمبلّغين
الموقّرين
والعلماء ذوي
الفضل في الحوزات
العلمية، وببركة
علماء الدين
الذين كانوا إلى
جنب الناس دائماً
ويؤدّبون الناس
من خلال القول
والعمل، ويبثّون
فيهم المحبة
والأدب وأخلاق
الحياة المدنية.
وكان هؤلاء
العلماء يعظون
الناس ويقدّمون
لهم النصح
والحكمة من خلال
الكلمة الطيبة
والأسلوب الجميل،
ويعرفون لهم
الأمثال ويأتون
بالشواهد
التاريخية وسير
الماضين، ويبثّون
لهم دقائق الأمور
الأخلاقية
وتفاصيل الحياة
الاجتماعية،
فكانت هذه
المواعظ لها
تأثيرها السحريّ
بين الناس فتشعل
فيهم الأمل
ويتحلّون بالصبر
والقناعة
والتواضع والصفح
وعشرات الخصال
السامية الأخرى
التي شكّلت ركائز
المجتمع
الإسلامي، وعلى
طول التاريخ فإن
الذين تربوا في
أحضان الحوزات
العلمية تركوا
آلاف الكتب
والرسائل المفيدة
والقيّمة والتي
كتبت بلغة لطيفة
ولها انتشارها
الواسع بين
الناس.
وتعتبر المواعظ
الفلسفية للخواجة
الطوسيّ والشيخ
مصلح الدين سعدي
وأبي سعيد أبي
الخير والخواجة
عبد الله
الأنصاري و... من
أجمل الآثار
والمؤلّفات التي
ساهمت في صناعة
الثقافة، وكانت
المواعظ
المستوحاة من
القرآن والسنّة
كالماء الزلال
الذي يقع على
الأرواح العطشى
فيرويها ويعطي
الأمل والفرح
لأصحاب القلوب
الحزينة
والمتعبة.
وكان العلّامة
سعدي يدرّس فضائل
الإيثار والشهامة
وغيرها من
المفاهيم التي
كانت غائبة
وغريبة عن أذهان
الناس، وكان
لدرسه صدىً
مميّز، فقد كان
الناس يعتبرونه
أخاً لهم، وكان
يحمل آلامهم وكان
بينهم مصلحاً
يستقبل مشاكلهم
ويعمل على حلّها.
وفي العهد
الصفويّ تركت
جملة من الكتب
أثراً بالغاً في
نشر القيم والتي
أهمّها كتاب
(روضة الأنوار)
للسبزواري
وكتابات الشيخ
البهائيّ
والعلّامة
المجلسيّ وآغا
جمال الخوانساريّ
وآخرين.
وكان كتاب (روضة
الأنوار) تكملةً
لسلسلة الكتب
التي صُنفّت في
إطار الحكمة
العملية من ضمن
المجموعات التي
دُوّنت في
الثقافة والتمدّن
الإسلاميّ، وقد
تناول السبزواريّ
في هذا الكتاب
الأهداف السياسية
والاجتماعية
المرتكزة على
الأصول الأخلاقية
مستفيداً من هدي
القرآن والحديث
وتجارب الأمم
السابقة، وعرّف
الناس والحكّام
سبيل الوصول إلى
هذه الأهداف
ومواجهة كافّة
أشكال الذلّ
والإنحطاط62.
وشكّل كتاب
(معراج السعادة)
للعلّامة النراقي
نموذجاً مميّزاً
في فضاء صناعة
القيم منذ العهد
القاجاريّ وإلى
أيامنا هذه،
والنكتة المهمّة
في هذا الكتاب هي
أنه تحدّث عن
رسالة العلماء في
النصيحة، وسلوك
الملوك، نصيحة
الملوك، تهذيب
الأخلاق، القصص
التاريخية، بلغة
فنية مبيّناً
المعاني السامية،
ثمّ عقّب بعد ذلك
بالحديث عن النهي
عن المنكر
والطريقة
المناسبة لإعطاء
هذا الدواء المرّ
للحكّام.
ففي بعض المراحل
من التاريخ
الإسلامي كانت
الناس تنظر إلى
الحكّام على أنهم
مالكو أموال
الناس وأرواحهم،
ولم يكن أحد يجرؤ
على الحديث
أمامهم بشكل
مباشر ودون حجاب،
وكانوا يعاملون
الناس بطريقة
فظّة وقاسية،
وكانوا بعيدين
كلّ البعد عن
الحقّ وفعل
المعروف، وفي هذا
السياق كان من
الطبيعيّ استخدام
وسائل أخرى
كالقصّة والشعر
والهجاء والتي
تعرّفك كيف تميّز
بين أصناف الناس
قتقرّبك من أهل
الخير من الناس
وتبعدك عن الناس
السيّئين.
"في هذه الظروف
والأحوال حيث لا
يوجد أيّ مصلحة
أو نفع من إثارة
غضب الملك والصدر
الأعظم وباقي
أصحاب السلطة كما
لا يجرؤ أحد على
إرشاد هؤلاء
المغرورين إلى
طريق الخير
والعدالة، قام
أهل المعرفة
والنظر بكتابة
وقراءة الكثير من
القصص المعبّرة
لإرشاد العتاة
والجبابرة من
خلالها إلى ضرورة
ترك القتل والظلم
والاعتداء على
الناس"63.
ودرّس علماء
الدين الكثير من
المواعظ
والمبادىء
الإنسانية
كالمحبة والصداقة
وذلّلوا المتاعب
أمام العجزة
والفقراء وكانوا
في طليعة من
يخدمون الناس
ويهتمّون
بالفقراء
اهتماماً خاصّاً
ويهملون أصحاب
النفوذ وأهل
الحكم.
وكان لزهد الشيخ
المفيد وبساطة
عيشه أثرٌ طيّبٌ
في الناس وفي عضد
الدولة الديلميّ
في التعامل برحمة
مع رعيته64.
وحثّ أبو ريحان
البيروني الأمراء
على العلم والفكر
من خلال تحلّيه
بالعلم والعمل
والتضحية
والقناعة65.
وساهم أبو سعيد
النيشابوري من
خلال كرمه
ومروءته واهتمامه
بالناس في
التأثير في أصحاب
القدرة لنصرة
الفقراء
والاهتمام
بشؤونهم:
كان أبو سعيد
صاحب كتاب "شرف
المصطفى" عالماً
زاهداً وورعاً
جال في العديد من
المدن طلباً
للعلم، وضحّى
بروحه وماله في
سبيل الفقراء
والغرباء عن
وطنهم، وبنى
بيتاً للمرضى
وأعطى أمراً
لأصحابه برعايتهم
من الناحية
الصحية وتوفير
الطعام لهم66.
ولفتت نظر
الدكتور بروكش
سفير ألمانيا في
المعهد الناصريّ
الحياة البسيطة
والعفوية للحاجّ
السيّد أسد الله
المجتهد
الأصفهانيّ، وأنه
كيف يمكن لهذا
العالم الديني
الذي يقطن بيتاً
حقيراً أن تنجذب
إليه قلوب الناس
وأن ينشر المحبة
واللطف في
المجتمع، وكيف
يأتي الناس جماعة
من كلّ المحافظة
إلى داره ويقفون
صفاً ليعرضوا
عليه حاجاتهم
ويطلبوا منه
الدعاء.
يقول الإمام
الخمينيّ قدس سره
في مقام حديثه عن
دور المربّين في
الحوزات ودور
بساطة العيش
والأخلاق الواعية
في ثقافة وصلاح
عامّة الناس:
"كنت أذهب في
عطلة الصيف
أحياناً إلى
مدينة (محلات)،
وكنت أشعر أثناء
وجودي هناك أنّ
أهل محلات
يمتازون كثيراً
من سواهم من
الناس، وأنهم
حريصون على
التديّن جدّاً،
وبعد التدقيق
فهمت أنّ تلك
المنطقة كان
يرتادها علماء
فضلاء، فالعلماء
الذين كانوا هناك
يتقنون أعمالهم
ووظائفهم، وهم من
خيرة العلماء
تحصيلاً وعملاً،
ولذلك فإنّ الناس
اهتدوا بهديهم
فكانوا أفراداً
صالحين".
تدوين القانون
ونظام الحياة
الاجتماعية
يعتبر وجود
القانون من خصائص
قيام المجتمع
المتمدّن لا
سيّما القوانين
المرتبطة بالحياة
الاجتماعية،
فالجميع يريد
الاستفادة من
كافّة المواهب
والثروات
الطبيعية من أجل
خدمة الناس ومن
أجل الوصول إلى
حياة سليمة وآمنة
تُحفظ فيها
حقوقهم، ويمارسون
أعمالهم في جوٍّ
من الأمن والأمان
وعدم الضغط
النفسيّ.
ومن الواضح أنه
في أيّ مجتمع
إنساني يُفقد فيه
الأمن وتنهار
مبادىء العيش
والوجود أن يتجه
هذا المجتمع نحو
الطمع وعدم
القناعة، وتستعر
فيه نار الخوف
والفتنة، ومن هنا
كان لا بدّ أن
تكون حدود
القوانين واضحة
تماماً ومعلومة
ويعلن عنها: إنّ
تجاوز هذه الحدود
من أيّ شخص كان
هو تعدٍّ على
حقوق الآخرين.
"فالقانون مجموعة
من القواعد
والأنظمة
المقرّرة من
الجهات التي لها
مصداقية وقدرة في
العالم، وعلى
كافّة الأشخاص
الذين يعيشون تحت
سيطرة هذه القدرة
الالتزام
بالتكاليف
والحدود
والمسؤوليّات
المعينة"67.
فالجميع يجب أن
يعيش تحت ظلّ
القانون، ولا
ينبغي أن يكون
مرور الوقت سبباً
لشيخوخة هذا
القانون وعدم
نفعه، كما أنه
ينبغي أن يحافظ
على ضمانة تنفيذه
وألّا تعميه
التحوّلات التي
تصيب الإنسان
والعالم.
فالإسلام هو
مجموعة من
القوانين التي
وُضعت من أجل
إدارة كافّة
تفاصيل الحياة
الفردية
والاجتماعية
للإنسان، والتي
إذا طبّقت بطريقة
صحيحة فإنّ من
شأنها أن توصل
الإنسان إلى
السعادة.
وأثبتت التجربة
أنه بمقدار ما
تحافظ المجتمعات
الإسلامية على
هذه الأنظمة
بمقدار ما تكون
حياتها سعيدة
وسليمة.
فتطبيق القوانين
والأنظمة الدينية
يساعد على تثبيت
ركائز التمدّن
الإسلاميّ، وهو
أهمّ الأسس في
بقاء هذا الدين
وخلوده.
ففي الأيام
الأولى التي قام
فيها رسول الله
صلى الله عليه
وآله وسلم ببناء
المجتمع الديني
في المدينة عمد
إلى تدوين
القانون الأساسيّ
من أجل تنظيم
المجتمع والمنع
من أيّ تفكّك
اجتماعيّ أو هرج
ومرج، وهذا ما
عرف فيما بعد
باسم وثيقة
المدينة.
وقد شرحت هذه
الوثيقة وبيّنت
بشكل واضح حقوق
كافّة المواطنين
والسكّان والذين
يعيشون في ظلّ
قدرة الإسلام
فبيّنت قواعد
الصداقة والأخوّة
والصلح ومساعدة
الآخر، المواجهة
الجماعيّة، السعي
الجماعيّ للقضاء
على الحالات
الشاذّة،
المواجهة مع
أركان الفساد،
نبذ الخلافات،
البناء بإحكام
ومعالجة الخلافات
القديمة
والمستمرّة بين
الأوس والخزرج.
وشرحت الوثيقة
مبادىء كيفيّة
تعامل المسلمين
مع المسلمين
والمسلمين مع
النصارى واليهود
وجمعت كافّة
القبائل والفرق
تحت علم واحد هو
الدين، وأن يعمل
الجميع لحفظ
الأمن والوحدة
والسعي لإحلال
الصلح والأخوة،
وقد عرّفت هذه
الوثيقة وظائف
المسؤولين وأفراد
المجتمع فرداً
فرداً، والتي
ينبغي على
الجميع
احترامها وأن
يدافعوا جميعهم
عن حقوق
المجتمع68.
ومن خلال تدوين
هذه القوانين
أرسى الرسول
الأكرم بنيان
المجتمع المدنيّ
بكلّ مهابة وجلال
وشيّد نموذج
المدنية وأضاء
مشعل التمدّن في
سماء مدينة النبي
صلى الله عليه
وآله وسلم، وكان
لعظمة هذا
التمدّن الإسلامي
وسلامتة الأثر
الكبير في سرعة
الفتوحات في
العالم.
وبعد النبيّ صلى
الله عليه وآله
وسلم كان الحكّام
المسلمون
اللائقون بهذا
المقام يسنّون
القوانين
والأنظمة
الاجتماعية
إقتداءً بسيرة
النبي وإلهام هذا
الرجل العظيم
ويثبتون هذه
الركائز شيئاً
فشيئاً ويحفظونها
من الانهيار.
وعند الشيعة
يُعتبر وضع
القوانين من أهمّ
وأوضح ركائز بناء
التمدّن
الإسلاميّ في عصر
الأئمّة عليهم
السلام، وكذلك
فإنّ هذه المهمّة
تقع على عاتق
العلماء والفقهاء
الأكفاء، وفي
الوسط الشيعيّ
والسنّيّ بذل
العلماء والفقهاء
جهوداً كبيرة
خلال مختلف
العهود على كتابة
المؤلّفات
الخاصّة بالأنطمة
والقوانين
ووضعوها في تصرّف
أهل الحكم
والسلطة، وسعى
هؤلاء العلماء في
مؤلّفاتهم
لاعتماد المعايير
الشرعية والدينية
في سنّ قوانين
المجتمع69.
وبقي العمل على
هذا المنوال خلال
عهود متنوّعة من
التمدّن
الإسلاميّ بحيث
لو اعترض أحدهم
أيّ مشكلة نظرية
أو إبهام في
قانون ما، فإنّ
علماء الدين
كانوا يتصدّون
لذلك ويكتبون
رسالة خاصّة بهذا
الخصوص، أو تُعقد
الجلسات
والمشاورات
العلمية لذلك
وتقوم برفع
الإبهام وفتح
الطريق لخدمة
الناس.
يذكر كاتب "تاريخ
قم" مجموعة
من النماذج
المختلفة عن
مشاورات العلماء
والخبراء حول
مسألة تقسيم
الأراضي وأخذ
الأموال والضرائب
من الناس، ومن
جملة ما كتب: أنه
في زمان حكومة
علي بن عيسى وعلى
أثر توزيع
الأراضي
الزراعية
في منطقة الجبل
أكّد على الأمر
التالي: تمّ
تغيير القانون
المتعلّق بسنن
الخراج وبالتالي
فإنه من الضروريّ
أن تؤخذ الضرائب
من الناس وفق
مقتضيات العصر
وبحسب الزمان
والمكان وتناسب
مساحة الأراضي.
ثمّ تمَّ إطلاع
كافّة العاملين
ومأموري جباية
الخراج على
الموعظة الحسنة
والكلمة الطيبة
التي يجب أن
يعاملوا الناس
بها، ومن ذلك ما
نقله أبو بكر
الصولي: "إنّ
التكليف عند أخذ
الخراج ألّا يتمّ
التعامل مع أحد
بقسوة أو عنف أو
ضرب، بل يؤخذ منه
الأقمشة والمتاع
والوسائل والآلات
والملابس عوضاً
عن الدرهم
والدينار، وروي
عن أمير المؤمنين
عليه السلام أنه
كان يتقاضى
الخراج من أهل
الصناعات مما
يصنعون فالأبر من
صانعي الأبر
والأقمشة من
صانعي الأقمشة
والحبال والخيطان
من صانعيها، أو
أي شيءٍ مما
يملكون، وكان لا
يأخذ الأمور
المحرمة كالخمر
والخنزير، بل
يتقاضى الخراج من
البقر
والغنم"70.
كتب القاضي نعمان
العالم المحبوب
والملمّ بسياسة
الدولة الفاطميّة
كتاباً باسم
(دعائم الإسلام)،
ويحتوي هذا
الكتاب على
الأنظمة
والقوانين
الدينية وخصوصاً
سيرة الإمام عليّ
عليه السلام.
وفي عهد آل بويه
بذلت جهود ومساعٍ
لافتة للنظر من
أجل كتابة
القوانين وبناء
المجتمع بشكل
عادل، ودُوّنت
أكثر الأبحاث
والرسائل في هذا
العهد في أبواب
الحكومة وسبل
وقواعد إدارة
الناس وكيفية
التعامل والتبادل
مع الآخر71.
وفي بداية عهد
المغول، كانت
القوانين
والأنظمة المرعية
الإجراء صعبة
وقاسية. ولكن تمّ
إعادة النظر بهذه
القوانين
واستبدالها
بالقوانين
والأنظمة
الإسلامية
وخصوصاً في عهد
الغزو المغولي،
فقد وصل المجتمع
إلى حدّ العدالة
وتمّت الموافقة
على قانون يقضي
بمواجهة الفسق
والفجور والهرج
والمرج بشدّة،
ووضُعت القوانين
لإدارة الأمور
المالية وأخذ
الضرائب والمنع
من مقاطعة دفع
هذه الرسوم، كما
وُضعت القوانين
للأحوال الشخصية
والزواج والطلاق.
والأهمّ من ذلك
كلّه وُضعت
قوانين متنوّعة
تتعلّق بالوحدة
وتمت الموافقة
عليها من أفراد
الناس. إضافةً
إلى ذلك فقد
وُضعت قوانين
ترتبط بأعمال
الناس سواء في
المناطق المسكونة
أو الصناعية72.
وكان القادة
العسكريون يأتون
من شرق البلاد
الإسلامية إلى
أعمالهم ليقرّروا
القوانين
العسكرية، وعانى
هؤلاء في البداية
من بعض المواجهات
مع الناس للحدّ
من الهرج والمرج
وعدم وجود
قوانين، إلّا أنه
وبعد فرض بعض
الضرائب المالية
شعر الناس بأهمية
القوانين وأصبحوا
يرغبون بتنفيذ
الأنظمة
والقوانين
القرآنية لتمهيد
الأرض لحكومة
الإمام المهديّ
عجل الله تعالى
فرجه الشريف73.
وبدأ هؤلاء
القادة العسكريون
فور انتصارهم
بالقيام بسلسلة
من الأعمال
المتناسبة مع
الشعارات التي
رفعوها وفق
المعايير
الإحتماعية التي
تضمن قوّة وسلامة
هذه الحكومة، ومن
جملة هذه
الأعمال: وضع
ضوابط النظام
الماليّ، إبطال
نظام الحوالات،
القضاء على حالات
استغلال المواقع
والاستفادات غير
المشروعة، إصلاح
الفساد والحدّ من
الخلل والإضطراب
الاجتماعي، وضع
نظام لتسهيل
الوصول إلى ديوان
الأشراف لمتابعة
الأعمال، و.....
وكانت الزعامة
المعنوية
والمرجعية
الفكرية لهذه
المجموعة من
علماء الشيعة
بعهدة الشيخ حسن
الجوري والشهيد
الأوّل.
كتب إبن بطوطة
حول خطّة الشيخ
حسن الجوري
المرتبطة بحركة
القيادات
العسكرية: "كان في مدينة
مشهد طوس شيخٌ
رافضيٌّ من فضلاء
علماء الشيعة،
وكان يُسمّى
الشيخ حسن، وكانت
أعماله مورد
تأييد الناس
وقبولهم مما
جعلهم ينتخبونه
لخلافتهم، وكان
يوصي القادة
العسكريين بالعدل
والكرم، وقد
استتبت قوانين
العدالة واتخذت
رونقها في تلك
الناحية إلى
الحدّ الذي كان
الشيخ حسن يرمي
بالقطع الذهبية
والفضية المفقودة
على الأرض فلا
يمسّها أحد ما لم
يظهر
صاحبها"74.
وكان من زعماء
قادة الجيوش
الخواجة علي
المؤيّد الذي
اشتهر بالعدل
والإنصاف وأراد
تطبيق فقه
الإسلام وإدارة
المجتمع
الإسلاميّ وفق
مباني القوانين
والأنظمة
الدينية.
وسعى الخواجة علي
المؤيّد لاستقطاب
علماء وفقهاء
الشيعة للدراسة
في خراسان، وذلك
لإضفاء بعدٍ
فقهيٍّ تحت مظلّة
مبادئ هؤلاء
العلماء
وأخلاقهم.
وفي هذا الاتجاه
دعا الشهيد
الأوّل وهو من
علماء وجبل عامل
ليناصره في هذا
العمل، وليسافر
إلى خراسان إذا
كان بإمكانه ذلك.
وأجابه الشهيد
الأوّل بكتابة
كتاب اللمعة الذي
يحتوي على 52
باباً في البرامج
الفردية
والاجتماعية
والمسائل
السياسية
والاجتماعية
وأرسله له إلى
خراسان75.
وفي عهد الصفويين
الذين حكموا
قسماً كبيراً من
بلاد المسلمين،
كانت تُطبّق
أحكام الإسلام،
وساهم علماء
الدين في تقوية
أركان الملوك
وبذلوا جهوداً في
إرساء القوانين
ومواجهة أعداء
الدولة.
وفي بداية عهد
الملك إسماعيل
كان هناك حاجة
لنظام جامع وشامل
يشتمل على كافّة
العلاقات
السياسية
والاجتماعية
ويعتمد دستوراً
لكلّ العاملين.
ولبى العلماء هذا
الأمر بحماسة،
وفي النهاية
اقترح القاضي نصر
الله زيتوني
كتابة كتاب
"قواعد الأحكام
في معرفة الحلال
والحرام" الذي
كتبه العلّامة
الحلّي وضمنه
التعاليم
والقوانين
والأنظمة وفق
مدرسة أهل البيت
عليهم السلام،
واتخذ الملك
قراراً باعتباره
جزءاً من
الدستور. هذا
الكتاب يعتبر
سلسلة كاملة في
الآداب والأنظمة
الإسلامية والتي
من ضمنها آداب
الحكم والحكومة.
ومضافاً إلى كونه
كتاباً جامعاً
فقد بيّن الفتاوى
والقوانين
بعبارات قصيرة
وواضحة، وبشكل
عامّ فقد لبّى
الحاجة الماسّة
لوضع قانون يمكن
الرجوع إليه في
ذلك الزمان76.
ومضافاً إلى ما
ذُكر أورد
العلّامة الحلّي
في نهاية الكتاب
وصية لابنه كانت
قانوناً ودستوراً
عملياً للجميع
وشكّلت رسالة
قيّمة لكلّ
العاملين الجدد
في النظام.
وفي هذه الوصيّة
وبالإضافة إلى ما
أوصى به ابنه من
العبادة والدعاء
لله، فإنه أفرد
باباً خاصّاً
للنظر في حياته،
ومما ورد في هذا
الكتاب نذكر هنا
بعض الوظائف
المرتبطة
بالحكّام: التصدي
للبدع وإبطالها،
التعامل مع الناس
برحمة، أن يحاسب
الحاكم نفسه
دائماً وفي كلّ
مكان، الدفاع عن
المظلوم لا سيّما
الأيتام والأيامى
ومعاملتهم وفق
المبادئ
الإنسانية
وأخلاقيات العطف
والرحمة77.
وفي عهد الملك
طهماسب دخلت
إيران في مرحلة
الدولة ذات
القانون، فطلب
الملك من العلماء
تبيين هذا
القانون بشكل
أوسع ومناصرة
وتأييد القوانين
والأنظمة
الدينية.
وبالإضافة إلى
علماء إيران
ساهمت مجموعة
كبيرة من علماء
جبل عامل
المشهورين فتمّ
إيضاح وتبليغ هذه
القوانين
والدساتير، كما
تمّ وضعها
وتنظيمها في
كافّة أرجاء
إيران، وأصبح
واضحاً عند
الجميع أنّ مرتبة
القانون تأتي في
رأس الهرم وأنّ
الجميع تحت سقف
القانون. وكتب
المحقّق الكركي
الذي كان من
روّاد هذه الحركة
دستوراً للعاملين
في الدولة يضمن
به سلامة ووحدة
تنفيذهم لأنظمة
الشريعة، وسلّمه
إلى القوّة
القضائية78.
وفي عهد ناصر
الدين شاه حدثت
مواجهة بين علماء
الدين وأزلام
النظام القاجاريّ
أدّت إلى التخاصم
بسبب عدم وجود
القوانين وتفشّي
الهرج والمرج في
الحكومة القائمة،
ولم يكن علماء
الدين ليسمحوا
لهم بالتمادي
والتطاول في
أعمالهم، وطالبوا
بتطبيق وتسييل
وإجراء البرامج
الدينية، وساعد
بعض العلماء في
تدوين القوانين
الاجتماعية
الإسلامية
بالإضافة إلى بعض
الكتابات مثل
(جواهر الكلام)
و(عوائد الأيام)
الذي سلّط الضوء
على أبواب خاصّة
في الحاكم
ووظائفه ودوره
وغير ذلك...
وكتب الشيخ
الأنصاري كتاب
(المكاسب) لإيضاح
بعض المباني
الاقتصادية
والاجتماعية في
الإسلام وتربية
طلّاب من أهل
المعرفة
والتدبير.
وكتب كاشف الغطاء
كتابه النفيس
(تحرير المجلّة)
الذي تمّ نشره،
وشرح فيه بعض
القوانين
والأنظمة التي
أوردها بعض علماء
العهد العثماني
ضمن كتاب
(المجلّة)، وأوضح
مبدأ أهل البيت
في النقاط
المشتركة
والخلافية79.
أمّا الشيخ علي
الأسترآباديّ وهو
من طلّاب صاحب
الجواهر، فقد
تناول موضوع
القوانين
والأنظمة
الإسلامية بطريقة
جديدة لاقت اتفاق
الجميع وقدّمها
إلى البلاط من
أجل تحقيقها
والعمل بها، لكنّ
عاملي البلاط
الذين يميلون إلى
التقليل من
الأمور التي تفرض
عليها القيود
والحدود لم
يتجاوبوا معه
وامتنعوا عن
استقبالها.
وكتب المدرّس
التبريزيّ في
تقريراته عن
أعمال الشيخ علي
شريعتمدار في
البحث والتحقيق:
كان الجامع
الناصري يشتمل
على الفقه
العمليّ الذي
ينضوي تحته كافّة
الأبواب الفقهية
بالإضافة إلى
الأحكام الشرعية
السياسية، التي
تتعلّق بسياسة
المدن ووظائف
الحاكم والرعية
تجاه بعضهما
البعض، ووظائف
كلّ صنف نسبة إلى
الصنف الآخر،
وكان مراده أن
يعتمد قانوناً
رسميّاً للبلاد
يُعمل به في
كافّة الأرجاء،
لكن لما لم
يتوافق مراده
المقدّس مع مراد
البعض من أصحاب
الآراء الفاسدة
والأهداف
اللادينية
فعارضوه ومنعوا
من تنفيذه80.
واختارت الحوزة
العلمية طريق
التصدّي
والمواجهة، فقام
علماء الدين
ينشدون الإصلاح
وتنظيم القوانين
الاجتماعية بوضع
القوانين وبثّها
للذين لا يريدون
إجراء القوانين،
وتطوّر هذا
التصدّي إلى
المواجهة فسقط
للحوزات الدينية
الشهداء الأوائل
على طريق الإصلاح
حتّى تمّ في
النهاية تدوين
قانون المشروطة
المعروف.
القضاء أساس
حماية القانون
يُعتبر القضاء من
الركائز المهمّة
في حماية القانون
ومنع الناس من
التطاول على حقوق
الآخرين، فوظيفة
القوة القضائية
في المجتمع
الإسلامي هي
مراقبة تنفيذ
القوانين بشكلٍ
صحيح في المجتمع
وإقفال الطريق
أمام الانحراف
والتمرد،
وبالإضافة إلى
قبول المحاكم
الإسلامية لبعض
قوانين الأمم
المتقدّمة التي
وصلت عبر الأديان
السماوية وبذل
العقلاء جهوداً
في هذا المضمار،
فإنها سنّت بعض
الأنظمة
والدساتير التي
تحافظ على حقوق
السكّان، فعلى
سبيل المثال فإن
يكن هناك وجود
لأصل اسمه
المسؤولية
المدنية للجرم في
أصول المحاكمات
عند المخاصمة في
العالم: "يعتبر
الإسلام أول من
بنى هذا المفهوم
الحقوقيّ، وإذا
اقترف شخص أيّ
جرم فإنّ ذلك
يستلزم جزراً
مالياً على
الآخرين،
فالمسؤولية
المدنية توضح
وتشخّص هذا الضرر
الماليّ، ويُعتبر
هذا التفكير
الحقوقي الخاصّ
من المبادئ التي
وضعها وسنّها
القضاء
الإسلاميّ"81.
ويُنتخب القضاة
من وسط العلماء
الذين وصلوا إلى
حدّ الكمال في
العلم وفهم
القوانين
الإسلامية
واستفادوا من
التجربة والخبرة
والشجاعة
والمزايا الأخرى
لحلّ التخاصم.
في التمدّن
الإسلاميّ كانت
فئة القضاة من
الذين يتمتعون
بمرتبة عالية في
العلم والقدرة
بغضّ النظر عن
بعض القضاة الذين
لم يكونوا
منصفين، إلّا أنّ
القضاة بشكل عامّ
كانوا من أصحاب
القدرة والشجاعة
والإنصاف ولا
يميّزون بين
الأغنياء
والفقراء في
أحكامهم، وفي
التمدّن
الإسلاميّ نرى
الكثير من القضاة
يسوقون بعض
الحكّام إلى قاعة
المحاكمة كغيرهم
من السكّان
العاديين.
في التمدّن
الإسلاميّ هناك
الكثير من القضاة
أمثال القاضي حفص
بن غياث الذي وقف
بكلّ شجاعة
وصلابة في وجه
رغبات حاشية
المنصور
الدوانيقي في
بغداد، ولم يستطع
أحد أن يمنعه من
النطق بالحقيقة،
هذا القاضي عاش
في هذه الدنيا
فقيراً ورحل عن
هذا العالم
عزيزاً82.
في العهد
الإسلامي شهدت
الأندلس أيضاً
نظاماً قضائياً
مستقلاً وقوياً،
فكان القضاة
أمثال القاضي
سليماني الغافقي
هم الذين يراقبون
ويدققون في
مجريات
كافة
الأحداث وكانوا
يقولون للحكام
بكل وضوح: نحن لا
نقبل أي تدخل أو
توصية من أحد
وليس لأحدٍ حق
النفوذ علينا سوى
قاضي القضاة83.
وفي عهد الدولة
الفاطمية في مصر
كانت الأمور
كلّها تحت نظر
القاضي، وكان
كافّة العاملين
في الأمور
السياسية
والمالية وأصحاب
المقامات
التنفيذية يرفعون
إليه تقاريرهم
العملية ويجيبون
عن كافّة الأسئلة
الموجّهة إليهم
من القوّة
القضائية.
كان علي بن
النعمان أوّل من
لُقّب في مصر
بـ(قاضي القضاة)،
وكان قد كتب في
نظامه القضائيّ:
كلّ الأمور خاضعة
لمراقبته في
النظام القضائيّ
في مصر، كانت
كافّة الآراء
والدساتير تُدوّن
وتُسجّل وتودع في
مكاتب خاصّة84.
وفي عهد حكومة
السامانيين، نظّم
السامانيون في
مختلف أرجاء
البلاد ديواناً
خاصّاً لإدارة
المنطقة، ويشتمل
هذا الديوان على
مكاتب عديدة
لمختلف الوظائف
والمراجعات، وفي
هذا المكان يوجد
مكانٌ خاصٌّ
للقضاء، وكان
الأمراء
السامانيون
يختارون أفراداً
من بين الفقهاء
المعروفين بالعلم
والتقوى لمراقبة
وتدقيق الدواوين
والمكاتب الأخرى.
ومن القضاة
المشهورين
والمعروفين
بالعدل والإنصاف
ووضع القوانين في
مدينة بخارى،
القاضي سعيد بن
خلف البلخي، وهو
الذي نظّم تقسيم
المياه المبعثرة
في مدينة بخارى
ومنع اعتداء
أصحاب النفوذ
والقدرة من
التعدّي على حقوق
الفقراء
والمزارعين
وغيرهم.
يقول أبو ذرّ
البخاريّ وهو من
أعرف العلماء:
كثيرون الذين
كانوا يحاولون أن
يقدموا له رشوة
بطريقة مخفية أو
ما شابه، لكنّ
هذه الشخصية لم
تتلوّث بأيّ شيء،
بل كان عدله
وإنصافه يظهر
أكثر فأكثر يوماً
بعد يوم.
وكذلك القاضي أبو
الفضل المرزوي
أيضاً الذي لم
يتناول أيّ ذرة
حرام من
أحد، وفي
عهده عمّ العدل
والإنصاف على
يديه85.
وفي عهد آل بويه
كان القضاة
يملكون سلطة
مستقلّة في ميدان
عملهم في مراقبة
أمور البلاد
والحدّ من الفساد
والتمرّد ولم
يعطوا لمسؤولي
القوى التنفيذية
حقّ التدخّل في
أعمال المحاكمات
ووضع القوانين:
طلب القائد
العسكري أسفار بن
كردويه من عضد
الدولة أن يقول
للقاضي: إذا
استشهد أحد ان
يزكّيه ويقرّ له
بالعدالة ويتقبل
شهادته. أجابه
عضد الدولة: هذا
الأمر ليس من
شأنك، عملك أنت
أن تتحدّث في
الأمور العسكرية
أمّا اعتباره
عادلاً وشهادته
مقبولة فهذا أمر
مرتبط بالقاضي،
ولا يحق لي ولا
لك التحدث بهذه
الأمور86.
وكذلك كان هناك
تفتيش خاصّ وواضح
في حال عصيان أحد
القضاة، ويُعاقب
المنحرف منهم
عقاباً شديداً
ويطرد من عمله.
ففي عهد قضاء
الصاحب بن عباد
كتب رسالة قضائية
للقاضي عبد
الجبّار مؤلّفة
من 700 سطر شرح
فيها قوانين
العمل ومبادئ
المحاكمات وشرح
بعض الموارد
الغامضة في
القانون، وكان
لهذه الرسالة
المحكمة من
الأهمية ما جعلها
دستوراً استفاد
منها كافّة
العاملين والقضاة
في الدولة
الإسلامية87.
وفي عهد السلاجقة
كانت دائرة عمل
القضاة واسعة،
فعُهد إلى إدارة
الأمور القضائية
الأوقاف والأموال
المجهولة المالك
وإدارة المدارس
وإدارة الأمور
الحسبية، وفي ذلك
العهد بذل القضاة
المقتدرون جهوداً
لمنع وصول
الفقراء إلى
التسوّل
والخيانة، وقاموا
بمواجهة الظلم
والتزييف بكلّ
قوّة واقتدار.
جاء في رسالة
السياسة للخواجة
نظام الملك:
وكانت سلطة
القضاة تفوق سلطة
الملك، ومقامهم
ومنزلتهم ينبغي
أن ترقى إلى حدّ
الكمال، ولهم حقّ
الأمر
بالمعروف
والنهي عن
المنكر، ومن
قوانين المملكة
أنه يجب على
الملك وأعوانه
تقوية القاضي،
ونتيجة لذلك يسود
العدل ويندر وجود
الفقراء
والمحتاجين88.
وكان العلماء
الشجعان حماة
القانون في أيام
المغول وتيمورلنك
وما بعد ذلك،
وكانوا يقفون
بقوّة في وجه من
يريد كسر
القانون، وعلى
سبيل المثال نذكر
العالم أبا بكر
التاييدي والعالم
مسيح الدين ساوه
من العلماء
الأتقياء ومحبي
أهل البيت ومن
أهل الشجاعة
والعزم، وكانا
يناشدان الحكام
لمنع أي ظلم أو
اعتداء89.
وفيما يرتبط
بالمؤسّسات
القضائية، ففي
عصر التمدّن
الإسلاميّ تمَّ
إنشاء عشرات
المؤسّسات كديوان
المظالم، وديوان
الأمور الحسبية
والقاضي
العسكريّ، وديوان
النقابة، وكان
لكلّ واحدة من
هذه المؤسّسات
حقّ المراقبة في
الأمور القضائية
الخاصّة بها.
علماء الحوزات في
خدمة الرعاية
الاجتماعيّة
والأمن العامّ
تعتبر الرعاية
الاجتماعية
والعدالة والأمن
من المعايير
الأساسية
للمدنية،
فالمجتمع الذي لا
يعيش الأمن يسوق
الناس إلى
الجلّاد أو إلى
البيئة الفاسدة
وآثارها من الفقر
والتعب ومشقّة
الإبتعاد عن
الله، فالإسلام
والقادة المسلمون
وفّروا الأمن
والرعاية
الاجتماعية
والعدالة للناس
وساروا بهم تحت
مظلّة عدالة
الله، فكان ذلك
سبباً في رغبة
الإيرانيين
والروم والهنود
في اعتناق
الإسلام.
كتب دينويا
وهو أحد كبار
المفكّرين
والمؤرّخين في
الهند:
"كان للإسلام
دورٌ بارزٌ في
صناعة التمدّن في
الهند، من خلال
إعلانه المساواة
بين البشر،
فالتمدّن الهنديّ
كان يقسّم الناس
إلى عدّة طبقات
لكلّ واحدةٍ منها
امتيازاتها
الخاصّة، وبعض
الطبقات محرومة
من الحقوق
أساساً،
ودخل
الإسلام من خلال
مقولته بإلغاء
الطبقية في
مواجهة مع النظام
الطبقيّ، ويمكن
قراءة نتائج هذه
المواجهة في كتب
التاريخ، ولا
يمكن لأحد أن
يدّعي أنّ
الإسلام خرج
مهزوماً من هذه
المعركة، وفضلاً
عن أنّ عمل
المجاهدين
المسلمين الذين
كانوا يمتشقون
سيوفهم فإنهم
وَطِئوا بأقدامهم
أرضنا وجالوا في
البلاد قريةً
قرية يشرحون
للناس ويبينّون
لهم التعاليم
والأصول الفطرية
للدين الإسلاميّ90.
وتذوّق الناس
نعمة هذه المدنية
في الإسلام حيث
كانت أمواج
الرعاية
الاجتماعية
والأمن تتلاطم
خلال فترات طويلة
من تاريخ
المسلمين. وفي
عهد حاكمية الدين
نسبيّاً في
الماضي وصلت حالة
الأمن في الطرقات
والمدن إلى الحد
الذي تجوب فيه
القوافل التجارية
والعلمية العالم
الإسلامي من
الشرق إلى الغرب
بحريّة كاملة،
وكانت تتّصل
البلاد ببعضها
البعض من قرطبة
إلى مصر وما وراء
النهر وبغداد على
خطّ واحد91.
وكانت الرعاية
الاجتماعية
النسبيّة ورخص
أسعار السلع من
نتائج إدارة سلطة
المسلمين
والتطبيق الصحيح
للقوانين
والمراقبة القوية
للقضاء.
ورد في تقرير من
مصر قي القرن
الرابع: "كانت
دكاكين باعة
الأقمشة والصيرفة
وغيرهم حتّى
الذهب والجواهر
والنقد والقماش
المزركش والمقصّب
لا يجلس فيها
أحد، ولم يكن أحد
يخشى السلطان أو
أعوانه وجواسيسه،
بل كان رهانهم
على عدل السلطان
وأنه لا يُظلم
أحد عنده وعلى
عدم طمع الناس
بمال الآخر"92.
في عهد آل بويه
حيث كانت العلاقة
قويّة بين الدين
والحوزة وصل
الأمن
والسلام
إلى أوجه وازدهرت
الزراعة، وببركة
وجود العلماء
شُيّدت
المستشفيات وكان
الأطبّاء يعالجون
الناس من الأمراض
البدنية
والنفسيّة بكلّ
راحةٍ وطمأنينة.
"في عهد عضد
الدولة كانت
بغداد آمنة وكانت
الدولة تمهل
الناس في دفع
الضرائب، وألغت
الضرائب عن قوافل
الحجّاج، وعاش
الناس في بحبوحة،
ودعمت الدولة
الفقراء والفقهاء
والأدباء، وفي
هذا المجال نذكر
أنّ العلماء لم
ينعموا يوماً كما
شهدوا ذلك في عهد
آل بويه93،
وحفر الصاحب بن
عبّاد الوزير
العالم لآل بويه
الأنفاق واستخرج
المعادن
واستخدمها في
أعمال جميلة
ومفيدة"94.
وسنّ الصاحب بن
عبّاد قانوناّ من
أجل تهيئة فرص
العمل للناس
ومنعاً للبطالة
وهجرة الأدمغة
يقضي أنه في حال
وجود أفراد من
أهل الخبرة
والكفاءة فإنه
يتمّ توزيعهم على
المواقع والمناصب
المناسبة
واللائقة بهم،
ويمنع على أيّ
عامل أن يمارس
أكثر من عملٍ
واحد ـ وبهذا قضى
على إشكاليّة
البطالة عند
الفئة المتعلّمة95،
وهذا القانون
الإيجابي
والمناسب كان
مورد إعجاب مدراء
وقادة كبار في
الدول الأخرى،
ومنهم الخواجة
نظام الملك96،
والذين كتبوا
التاريخ قالوا
إنه في عهد
السلطان سنجر عاش
الناس في ظلّ
دولته 60 عاماً
من الرعاية
الاجتماعية، وفي
ظلّ إعانة ونصرة
العلماء أمثال
أبي الحسن مديني97
ووزارة أبي طاهر
القميّ، ونال
العلماء والناس
ومحبّو أهل البيت
ما يتمنّون من
الدعم والمؤازرة98.
ورفع أبو جعفر
باني عهد
الصفاريين لواء
العدالة، ومرّ
الرحّالة العالم
أبو دلف أثناء
تجواله على بلاد
سيستان وألقى
دروساً في تلك
الديار في شرائط
الإقتصاد الناجح
وجالس هناك
العلماء أمثال
أبي سليمان
السجستاني وأبي
تمام النيشابوري99.
وكان ذكر العالم
فخر الدين موصلي
على كلّ لسان
ببركة الجلسات
المهمّة التي كان
يقيمها مع
العلماء أمثال
ابن طقطقة الذي
كان عالماً
شيعيّاً
وسياسيّاً
لامعاً، وألّف
كتاباً في
التخطيط وإدارة
الحكم للحكّام
المسلمين.
خطة أساتذة
الحوزات في أمن
ورفاهية الناس في
عهد المغول
أحدث غزو المغول
للبلاد الإسلامية
دماراً كبيراً
تاركاً الكثير من
القتلى
والمشرّدين،
وحوّل القرى
والبلدات والمدن
الإسلامية إلى
خراب وأطلال،
وسُفكت دماء
الملايين من
الناس بدون ذنبٍ
أو جريرة، وشُرّد
الناس وفقدت
عائلات بأكملها
تحت وطأة سيوف
أولئك الوحوش
مصّاصي دماء
الشعوب والفاقدين
للحدّ الأدنى من
الأخلاق
والإنسانية،
وأضحت البلاد
صحراء قاحلة.
كثيرون هم الذين
تحدّثوا عن
الأسباب والدوافع
التي دفعت هؤلاء
القوم للقيام
بهذه الغارات
الوحشيّة وسفكهم
للدماء، هل
أحضرهم أحد من
بلاط العباسيين
للقضاء على
الإسماعيليين؟ أو
أنّ السبب هو
الهرج والمرج
والانقسامات
الداخلية وعدم
وجود القوّة
المركزيّة
للدولة، بالإضافة
إلى جور وظلم
الحكّام وتحولهم
إلى ملوك طوائف؟
أو أنّ هناك
أسباباً عديدة
ومتنوّعة تراكمت
شيئاً فشيئاً
حتّى أوصلت
البلاد إلى هذه
الفاجعة
الإنسانية
الكبرى؟
لكنّ المهمّ في
الأمر أنّ كبار
علماء الشيعة
المعروفين بالعلم
والكياسة
والتدبير
والعارفين بدورهم
شقّوا طريق
التغيير في صفوف
هؤلاء المجرمين
الذين كان
يمسك
بزمامهم مجموعة
من القتلة
الفاقدين
للإنسانية.
الخواجة نصير
الدين الطوسيّ
ومن خلال علمه
وبصيرته واتكاله
على الحقّ استطاع
أن يبعث الحياة
والأمل في هذه
القلوب الصمّاء
القاسية مما أثار
تعجّب العقلاء
آنذاك.
فبعد أن كان
المغول كالسيل
الهادر لا يأتون
على شيءٍ إلا
ويدمرونه ويكملون
طريقهم أصبحت هذه
الأمواج الهادرة
بفضل الحكمة
والوعي والتدبير
والسير معهم خطوة
بخطوة تهدأ شيئاً
فشيئاً، ثمّ
بدأوا بفرض بعض
القيود والشرائط
عليهم مما قّلل
من تخريبهم
البلاد وإرعابهم
للناس، وظهر
التشيع في وسط
هذه الصحراء
الواسعة يبني
ويغير بصعوبة إلى
أن ظهر عهدٌ جديد
من التمدّن
وتطهّرت الساحة
من كلّ الفساد
الذي أصابها.
وهذا الإنجاز
الكبير لا يمكن
قياسه وفهمه
وإدراك أهميته
وعلّوه إلى الحدّ
الذي يمكن معه
القول: لو أنّ
الله لم ينعم على
الإسلام والعالم
الإسلامي وإيران
بالخواجة نصير
الدين الطوسيّ
فإنه ليس واضحاً
أيّ مصير سينتظر
الإسلام وأيّ
بلاءٍ سيحلّ به.
فعندما وصل
المغول إلى مشارف
أبواب مدينة
بغداد نشروا
الرعب في كلّ
مكان، وراح الناس
يركضون من جانبٍ
إلى آخر بقلوبٍ
يائسة وخائفة
ومرتعبة يطلبون
الأمن من أسياف
هؤلاء القتلة
وخناجرهم
الفتّاكة.
وآلت المدينة إلى
السقوط، وأثار
بعض المقرّبين من
الخليفة الشغب
والضوضاء كالكاتب
وأمثاله مما سرّع
سقوط حكم عدّة
قرون لبني
العباس، ولم
يقدّم أحد يد
المساعدة للخليفة
عن رغبةٍ أو
حماسة حتّى أولئك
المتضرّرين منهم،
لاسيّما أنصار
أهل بيت العصمة
عليهم السلام،
ولم يقم أولئك
الغيارى بأيّ
حركة مواجهة ضدّ
المغول.
وبدأ الهجوم،
وبدأ الخواجة
نصير الدين عمله
وتوعيته الناس،
واستطاع في
المواقع التي كان
كلامه نافذاً
ومسموعاً فيها أن
يمنع الكثير من
الدمار وقتل
الناس وسلبهم
أموالهم كما منع
نهب ثروة ثقافية
كبيرة وساهم في
تحرير الكثير من
الأسرى الذين
وقعوا بأيديهم.
نقلوا: أنه وقع
في الأسر في أيدي
المغول عزّ الدين
عبد الحميد
المعروف بابن أبي
الحديد شارح نهج
البلاغة وأخوه
موفّق الدين،
وهما من كبار
علماء أهل السّنة
وتمّ نقلهما خارج
بغداد ليتمّ
تسليمهما إلى
الجلاّد.
أصابت الوزير ابن
العلقميّ الحيرة
والاضطراب فذهب
إلى الخواجة نصير
الدين الطوسيّ
وأوصل له الخبر،
فذهب الخواجة إلى
هولاكو وركع
أمامه على ركبته
على طريقة المغول
وقال له: أقتلني
أنا بدلاً من
هذين الأسيرين،
فما كان من
هولاكو إلا أن
احترم إرادة
الخواجة وأطلق
سراح الأسيرين100.
ونُقل: أنه كان
من عداد الأسرى
السيّد محيي
الدين البغدادي
وهو أستاذ في
المدرسة
المستنصرية في
بغداد، هذا
السيّد كتب وحرّر
ما فعله المغول،
وبعدها جاء إلى
مدرسة الخواجة في
مدينة "مراغة"
وتتلمذ على يديه،
ثم عمل قاضياً
بعد رجوعه إلى
بغداد101.
وكذلك نجت المدن
العراقية الأخرى
كالحلّة والكوفة
وكربلاء والنجف
بفضل معرفة
العلماء ودرايتهم
وذكائهم، فقد قام
علماء الحلة،
وحقناً لدماء
الناس، بتقديم
مجموعة من
الاقتراحات أفضت
إلى توقيع وثيقة
مع المغول وقّعها
السيّد مجد الدين
داوودي والشيخ
حسن المطهر
الحلّي والد
العلّامة الحلّي
قضت بإرسال اثنين
من العلماء
لإقامة المباحثات
العلمية إلى بلاط
المغول، وهذه
المباحثات أبقت
مدينة الحلّة
بأمان102.
وكذلك فإنّ مدينة
كاشان ومحيطها
بقيا بأمان من
بطش المغول
وغزواتهم
بفضل
رعاية "بابا
أفضل كاشاني"
وهو صهر الخواجة
نصير الدين103.
وفي هذا الوسط
كانت تُحكى
وتُسمع الحكايات
الكثيرة عن
المغول وعن تدبير
الخواجة وخدمته
للناس.
"كانت قوّات
المغول عندما
تحتلّ أيّ منطقة
فإنها تنتقل منها
ولا تقيم فيها
كسباً لاطمئنان
الناس بكافّة
طبقاتهم، وذات
مرّة كانت مجموعة
من المغول برئاسة
أحد قادة المغول،
وفي رواية أنه
كان ابن هولاكو
في طريقها من خطّ
زوارة - أردستان
متجهةً إلى مدينة
يزد، أو أنها
كانت عائدة من
ذلك الطريق،
وعندما وصلوا إلى
"زوارة"
وقفوا في محطّة
استراحة داخل
غابةٍ يقصدها
الناس من الرجال
والنساء للعمل
والتنزّه، فوقعت
عين القائد
المغولي على
امرأةٍ فوقع في
حبّها على الفور
وأراد أن يأخذها
معه، لكن المرأة
امتنعت منه فأراد
أخذها بالقوّة،
فما كان من أهالي
زوارة -
وكما يروي
القصة سادات
الطباطبائي- إلّا
أن هبّوا للدفاع
عن شرفهم
وتعاركوا معه مما
أدّى إلى نجاة
المرأة وقُتل
المغولي عن طريق
الخطأ.
أُصيب أهالي
"زوارة"
بالخوف
والاضطراب،
وقاموا على الفور
بتهيئة ما
يحتاجونه من طعام
ووسائل استعداداً
لمحاصرة
"زوارة"،
وعندما وصلت
قوّات المغول إلى
قريتهم قادمةً من
أصفهان أو من
قريةٍ قريبة من
زوارة طلباً
للإقتصاص وللثأر
لدماء القائد
المقتول، طلب
سادات الطباطبائي
إحكام القبضة على
أسوار المدينة
حمايةً للناس،
واستمرّت محاصرة
القرية والمواجهة
مع المغول مدةً
طويلة إلى أن نفد
الطعام وتهدّمت
أسوار المدينة
وبرجها وجدرانها
وآلت المدينة إلى
السقوط بيد
المغول، فقام
الأهالي قاصدين
الخواجة نصير
الدين طلباً
للمساعدة والنجاة
بأرواحهم من
القتل الجماعيّ
الحتميّ.
وكان الخواجة في
ذلك الوقت يشغل
منصب وزير أو
متولّي كافّة
أوقاف إيران،
وكان أحمد بن
رستم الأصفهاني
وكيلاً عنه في
مدينة "زوارة"
في ذلك الحين،
فأرسل إليه
رسالةً للأهالي
المحاصرين جاء
فيها: "في
الأماكن التي لم
يُقتل فيها أحد
من المغول كان
المغول يقتلون
كلّ الناس، أمّا
في مدينة زوارة
فقد اجتمعت ثلاث
جرائم: الثأر
للشرف والتمرّد
وقتل ابن الملك،
وعليه فإنّ
الحصار سيبقى
قائماً وليس هناك
أيّ أمل بالنجاة،
وإنّ الجميع عرضة
للذبح بشفرات
سيوفهم بلا رحمة
ليكونوا عبرةً
للآخرين، وعليه
فلا أمل بالنجاة
من خلال المقاومة
واستمرار التحصن
كما لا أمل
بتسليم أنفسهم
وأبنائهم. وفي
هذه الحالة ومن
أجل الخروج من
هذا الحصار فمن
الأفضل حفر أنفاق
طويلة باتجاه
الصحراء، وأثناء
الإنشغال بالقتال
ليخرح الجميع على
شكل مجموعات من
الأنفاق ويفرّوا
باتجاه الصحراء
ويتفرقوا في
أطراف العالم.
"وطبقاً لرأي
الخواجة قام
الناس بحفر نفق
طويل من الجهة
الشمالية لزوارة
والتي لا تبعد
كثيراً عن تلال
ريكستان الحصباء
المجاورة لهم،
وقاموا أوّلاً
بإرسال النساء
ثمّ الأطفال ثمّ
الشباب إلى
الخارج ثم
تفرّقوا في
الصحراء كما أشار
عليهم الخواجة
نصير الدين"104.
ثمّ إنّ علماء
الدين الربّانيين
لم يجلسوا على
الأطلال المهدّمة
للقرى والبلدات
التي دمّرها
المغول، ولم
يتحوّلوا الى
مشرّدين، بل
كانوا يهبّون
وبكلّ بطولة
لإعادة البناء
والإعمار
مستفيدين حتى من
قدرات مؤسّسات
المغول.
ومن جانب آخر
فإنهم بدأوا ببذل
جهود واسعة في
تعليم هؤلاء
الوحشيين الذين
لا علاقة لهم
بالتمدّن والآداب
والثقافة والسنن،
ثقافة وآداب
سكّان المدن
وإرشادهم إلى
تعاليم الشريعة
الإسلامية
السمحاء حتّى
يشربوا جرعةً من
معينها الصافي
فيخرجون من
طبيعتهم الدموية
الى عالم
الإنسانية.
ولا شكّ أنّ
جهوداً جبّارة
بُذلت في هذا
المضمار حتى
أينعت الثمار
وقُطع لجام
الوحشية منهم
وتروّضوا
واكتسبوا الثقافة
والتمدّن
الإسلاميّ من
إيران.
وإنّ هذا التغيير
الجذري والمعجزة
الكبيرة إنما
كانا بفضل
الأيادي البيضاء
والتدبير السليم
للخواجة نصير
الدين، ثم إنّ
الخواجة نصير
الدين الذي كان
يتمتع باحترام
رفيع لدى المغول
بذل جهوداً كبيرة
في الليل والنهار
ضمن بعدين
أساسيين:
1- الهداية
المعنوية
2- ترميم الدمار
وعلى صعيد بُعد
الهداية المعنوية
ذكرنا نكات كثيرة
أن الخواجة نصير
الدين بفضل
معرفته العميقة
بكافة جوانب
الإسلام وعلمه
الواسع إضافةً
الى ذكائه وحسن
تدبيره ونظره
الحادّ استطاع أن
يتقدّم خطوةً
خطوةً ليفتح
فجوات من النور
في تلك القلوب
القاسية لهؤلاء
القوم التعساء.
أمّا على صعيد
النهضة العمرانية
وترميم الدمار
فإنه ومع مضي
الوقت تحوّل
هؤلاء القوم إلى
أنصار الشعب
الإيراني وأضحوا
جزءاً من
عائلاتهم وركعوا
أمام نوافذ النور
المشع وراحوا
يتفرجون على دنيا
الإسلام الجميلة
والعالية.
وتغلّبت إيران
على تلك الصدمة
النفسية التي
أصابتها واتجهت
نحو ترميم الدمار
وإصلاح قنوات
الريّ وتحسين
الزراعة
والصناعات
اليدوية وإدخالها
مجال العمل من
جديد.
وكان علماء الدين
هم روّاد هذه
النهضة وبالخصوص
الخواجة نصير
الدين الطوسيّ،
وكانت الخطوة
الأولى التي قام
الخواجة بها هي
إرجاع المهجّرين
والمشرّدين إلى
مدنهم وديارهم،
واستفاد الخواجة
من الخبراء
والعقلاء في
عملية إرجاع
المشرّدين إلى
قراهم وديارهم
ومن جملتهم
العالم الحكيم
فخر
الدين لقمان
الذي أوكل
الخواجة إليه
مهمّة إرجاع
الناس من الصحراء
إلى أرض الآباء
والأجداد105.
وكان سادة مدينة
"زوارة" من جملة
الذين عادوا من
التشرّد، سواء من
مناطق قريبة أو
بعيدة، إلى أرض
الآباء والأجداد،
وهؤلاء أصبحوا
بعد رجوعهم وجهاً
لوجه في مقابل
أولئك الذين
استولوا على
منازلهم وتصرّفوا
بأملاكهم أثناء
غيابهم، وبالتالي
فقد وقعت بعض
النزاعات بين
سادة "زوارة"
الذين هم أصحاب
الأرض وبين بعض
المهاجرين إليها
حول المياه
والأراضي. وقد
ورد في تقرير
أُرسل للخواجة
بناءً على رواية
محلية:
أثناء سفر
الخواجة من
"مراغة" إلى
"زوارة"
لتنظيم عملية
تقسيم المياه
والأملاك وصل إلى
قصبة اردستان من
أجل تقسيم مياه
قنوات "أرونه"
وهي مقسم
المياه لبعض
القرى القريبة
والبعيدة التي
تستفيد من مائها،
فقام بهندسة
وتنظيم ما بقي من
نصيب "أرونه" من
المياه ثم أتمّ
عمل كافّة
التفاصيل الصغيرة
والتي هي في غاية
الدقّة
والحساسية، ومن
هناك رجع الى
آذربايجان106.
وفي عهد حكومة
(غازان) والتي
كان يسيطر عليها
العلماء تمَّ
الكثير من
الإصلاحات
المهمّة في
البلاد، لا سيّما
على صعيد انتشار
الأمن السياسي
الاقتصادي كأمن
الطرقات ومواجهة
الفساد الإداري
والفسق والحفاظ
على ثقة السوق
بين المسؤولين
الحكوميين
والناس.
وفي هذا العهد
شجّعت الدولة
الناس على
استصلاح الأراضي
البور وغير
المستصلحة
لإحيائها، وقدّمت
لهم تسهيلات بهذا
الخصوص: أخذ
قروض، حرية بيع
الإنتاج، و....
وكان لهذه الخطوة
أثرٌ كبيرٌ في
تحسين الزراعة،
وكتبوا عن هذا
الأمر:
"بعد
صدور هذا الحكم
قام الجميع من
العوامّ والخواصّ
بزراعة الأراضي
البور، وبعد فترة
قصيرة أصبحت
الكثير من هذه
الأراضي مستصلحة
ومأهولة ونَعِم
الناس بالرعاية
الاجتماعية
واليسر وأصبحت
النعم أكثر من أن
تُحصى"107.
وفي عهد السلطان
"محمّد خدا
بنده" أصبحت
الشرائط أكثر
سهولة، والذي كان
محبّاً للعلم
وكان يجالس
العلماء وكانوا
بدورهم يدعونه
إلى الإسلام
وتطبيق أحكامه،
تمّ إصلاح الكثير
من الدمار من
خلال دعم علماء
الدين للحكومة
وتولّيهم لبعض
المناصب كالوزارة
وإمامة الجمعة
ورئاسة الأوقاف
و....تمّ في هذا
العهد إنشاء
مدارس مهمّة
وعمّت الزراعة
كافّة المدن،
وأنشأ الأنهار
وأجرى المياه
فيها وازدهرت
بغداد بالتمور
والخضار وأصبحت
واحة غنّاء، وعاش
الناس في هدوء
ورفاهية وكانوا
يرغبون ببقاء
دولته108.
وفي عهد وزارة
"رشيد الدين فضل
الله" الذي
كان عالماً
ومحبّاً للعلم
إزدهرت تبريز
وأضحت جنة غنّاء
وسوقاً للاقتصاد
والثقافة، وأوكل
إعمار منطقة
زنجان إلى
"كمال الدين
قوساني" الذي
كان عاشقاً للعلم
ومفكّراً فذّاً
وخبيراً في
الأمور الزراعية
وإدارة الشؤون
الإجتماعية109.
وكذلك كان الناس
ينعمون بالراحة
والرعاية
الاجتماعية في
المناطق الأخرى
التي كانت تحت
رقابة وإدارة
العلماء
الأقوياء.
وممّا كتبوا عن
طريقة وأسلوب ابن
القوام أحد علماء
الشام الأتقياء
(توفي: 658):
"كان أبو بكر
رجلاً زاهداً
وكان مهتمّاً
بموضوع المصالحة
العامّة بين
الناس، وعمل
بيديه من أجل
إنشاء نهر جديد
في (بالس)، فقام
مع جمعٍ من
أتباعه بحفر
القناة والقيام
بكافّة الأعمال
اللازمة لذلك،
وكان يعتبر أنّ
العمل وتحصيل
المال واجبٌ على
كلّ المؤمنين
والسالكين طريق
الله، كما أنه
كان يعتبر أنّ
البطالة أمرٌ
قبيح وغير مقبول110".
وبعد استقرار عهد
حكومة "سربداران"
(وهم مجموعة من
الفدائيين الذين
قاموا بحركة
ثورية ضد النظام
وحكموا فترة ثمّ
تمّ سجنهم
وإعدامهم بعد ذلك
) في خراسان التي
كانت تزاوج بين
الدين والدولة
سعت الدولة
للقيام بإصلاحات
اجتماعية وتحسين
الزراعة
والعمران، وأنشأ
الخواجة "علي
جشمي" (توفي:
749) مؤسّسة
عسكرية للحفاظ
على أمن المجتمع،
وكانت الضرائب
تجبى بطريقة
منظّمة بعيداً عن
الهرج والمرج،
وأقفل طرق
الإستفادة غير
المشروعة وموارد
الفساد والسرقة،
وأوجد نوعاً من
الثقة والإطمئنان
بين المسؤولين
والناس، وتطورت
صناعات البضائع
المحلية وتمّ دعم
ترويجها. وفي هذا
الخصوص كتب
المؤرخون:
"وكانت الرعية
تعيش بحال من
الرعاية
الاجتماعية
والإكتفاء الذاتي
لمتطلّبات الحياة
وكانت الخزائن
عامرة
بالأموال...111".
وفي عهد حكومة
"علي المؤيد"
أولى الرعاية
الاجتماعية قيمةً
خاصة، وكان
يستنير بآراء
العلماء وأثمرت
سياساته
الاقتصادية
والاجتماعية
أمناً ورفاهية
للعموم.
وفي عهد السلطان
"حسين
بايقراء" وضع
العلماء
المؤثّرون
والعاملون
بفعالية تصميماً
لإعمار خراسان.
ومن عرفاء القرن
التاسع كان
الخواجة
"أحرار"،
الذي كان يعيش
حياةً بسيطة
وعادية وكان لا
يحبّ الإسراف
والتكلّف في
التجمل، وكان لا
يجيز لنفسه أن
يغدق العطاء على
أقربائه
والمقرّبين منه،
وكان من أهل
الشجاعة
والإقدام، عمل مع
محبيه في ميدان
الزراعة لكسب
معاشه وبذل
جهوداً في
استصلاح الأراضي
وزراعتها إلى أن
استصلح ما يقارب
ألف وثلاثمائة
مزرعة ووفّر فرص
عمل لآلاف
الأشخاص.
وكان "أبو
سعيد كوركان"
يقوم بجباية
الضرائب من
سمرقند وبخارى
بطلبٍ من
الخواجة، وفيما
بعد من كافّة
بلاد ما وراء
النهر112،
وفي عهد
الصفويّين كان
الرفاه والأمن
والهدوء في إيران
تفوق كافّة
الأطراف الأخرى،
مع أنّ بعض أعمال
الملوك لم تكن
تحظى بتأييد
وموافقة علماء
الدين، إلّا أنّ
ضرورة المحافظة
على كيانية الدين
والتشيّع ونشر
العدالة
الاجتماعية جعلا
الحوزات تساهم
بمساعدة الحكّام
ومنع الظلم
والتعدّي قدر
استطاعتها،
وساهمت في توعية
رجال السلطة
وإيصالهم إلى
ربوع الإيمان
والتديّن، وفي
عهد الصفويّيين
كان الحكّام أقرب
من الدين
والعلماء، وكانوا
أكثر محبةً لخدمة
الناس وأكثر
نجاحاً في توفير
الرعاية
الاجتماعية لهم.
وكان الشيخ
"عبّاس الصفويّ"
الذي تربطه محبة
وأنس خاص بالشيخ
بهاء الدين
العامليّ مثالاً
في مساعدة
المحتاجين، فكان
يتنكّر ويدخل وسط
الناس ويستمع إلى
مشاكلهم
وأوجاعهم، وكان
يُشجّع أصحاب
الثروات أن
يساعدوا الفقراء
لتحسين أحوالهم
الماليّة، ومن
خلال تخطيطه
وتدبيره أحيا
إيران وصنع
التمدّن في كافّة
أرجائها.
وعن سيرته كتب
شاردن: "في آخر
أيّام حياته كانت
إيران تنعم
بالثروة والعمران
والأمن، وكانت
التجارة ناشطة
على كافّة الحدود
مع الممالك
الأخرى. وكان
الناس ينعمون
بأفضل العيش من
طعامٍ وشراب
ولباس ووسائل
الحياة المختلفة
في كافّة أرجاء
إيران. ففي الوقت
الذي كان أكثر من
نصف سكّان بلدنا
(فرنسا) يعانون
من البطالة كانت
أفقر نساء إيران
تضع الزينة
والحليّ في
أيديهنّ
وأرجلهنّ،
وتُشاهد القطع
الذهبية الكبيرة
حول أعناقهنّ.
وباعتقادي أننا
نجافي الحقيقة
والإنصاف إذا
قلنا إنّ حكومة
إيران كانت حكومة
استبدادية وبعيدة
عن التمدّن113.
وبشهادة السوّاح
والمتجوّلين فإنّ
الأمن والاستقرار
في ذلك العهد كان
لا نظير لهما،
وكانت مسؤوليّة
الحفاظ على الأمن
والمنع من قطع
الطرقات في المدن
والبلدات على
عهدة العمّال،
ولهم الحقّ في
توقيف الناس
واستنطاقهم
والتحقيق معهم،
وكان العسكر
يقومون بحماية
أموال الناس في
معسكرات خاصّة
وفق التدريب
العسكريّ
والتربية
الروحيّة لعلماء
الدين، وتحت
إشراف القضاء
والمحاكم
العسكريّة.
جاء في تقرير
كتبه أحد
الرحّالة في معرض
المقارنة بين
الجنود
الإيرانيّين
والأوروبيّين في
المعسكرات:
"على خلاف الشعوب
الأوروبيّة كان
جنود الملك
يتمتّعون
بالمبادئ النبيلة
والأخلاق الرفيعة
بحيث إذا مرّت
فرقة من الجيش من
أمام الناس فإنهم
لا يفرّون منها
بل يقبلون بكل
بشاشة ويجلبون
لهم الطعام
والهدايا
المختلفة،
ويسألون الله
النصر لهم بكلّ
رضىً وسرور، وما
ذلك إلّا لأنهم
كانوا يعلمون أنّ
جنود الملك لا
يعتدون ولا
يظلمون أحداً114.
وإضافةً إلى
الأمن الإجتماعي
الذي كان ركناً
من أركان تقوية
التجارة والسياحة
فقد كانت الزراعة
في صدارة
الاهتمامات،
فأُقيمت السدود
الكبيرة والغابات
الواسعة بفضل
جهود العلماء
أمثال الشيخ
البهائيّ، ونقرأ
على صعيد إعادة
إحياء منابع
الأنهار من أجل
إعمار وتأهيل
مدينة أصفهان:
"كان تقسيم
المياه
والإستفادة منها
من أهمّ الأعمال
التي تمّت وفق
الأصول العلمية
والقواعد
الطبيعية لحركة
المياه، وكان
تقسيم مياه
الأنهار
المستحدثة عملاً
نموذجيّاً
وراقياً والذي
ابتدأ من أيام
الملك "طهماسب"
واستُكمل في أيام
الملك عبّاس
الصفويّ وفق
النظريات العلمية
للشيخ البهائيّ"115.
وكان العلماء
يشرفون مباشرةً
على نظام المحاكم
وتنفيذ قوانين
العدالة
الاجتماعية
وتطبيق أحكام
الإسلام بقوّة،
ويعاقبون
العاملين الذين
يتجاوزون
القوانين والقضاة
المرتشين بقسوة.
سفراء الفكر وفكر
السفراء
كانت الدول
الإسلامية تنتخب
سفراءها
والمتحدّثين
الرسميين باسمها
من العلماء أهل
العلم والفضل
والحكمة وذلك
للحفاظ على أمنها
وقدراتها في
مواجهة الأجانب،
وكان هؤلاء
العلماء يحظون
بمقامات عالية
بحيث يقومون بحلّ
الخلافات الواقعة
بين الحكّام
المسلمين ويشدّون
أواصر اللحمة
بينهم ويقفون
موقف الثابت
المقتدر في مقابل
الأجانب. وكانت
العلاقة قويّة
ومتينة مع
الحكّام المسلمين
بفضل بركة وجود
العلماء الأذكياء
والمعروفين
وخصوصاً بين دولة
آل بويه الشيعية
ودولة السامانيين
السنيّة الحنفية116.
وكذلك فإنّ
العلاقة بالروم
قامت على مبدأ
الإحترام وعدم
التعرّض لكرامات
الآخر.
وكان "أبو أحمد
الموسويّ" ( 400
هـ ) نائباً عن
السادات في زمن
آل بويه، وكان من
أرفع قيادات
الشيعة على
المستوى الدينيّ
والسياسيّ، وكان
معتمداً لتنظيم
العلاقة والتواصل
بين آل بويه
والحمدانيين،
وأنجز مهمّات
جليلة على هذا
الصعيد.
وكان "أبو أحمد"
يملك نفوذاً
وتأثيراً قويّاً
أيام قوّة
الخلافة في
بغداد، وكان
الخلفاء يستفيدون
منه لإطفاء سعير
الفتنة بين
الشيعة والسنّة117.
واستفاد عضد
الدولة من مكانة
القاضي "أبو
بكر الباقلاني"
في السفارات
الخارجية فقد كان
عالماً وأديباً
ومتحدّثاً
وذكيّاً، واستطاع
حماية مصالح
الدولة الإسلامية
في مقابل
الأجانب.
كتب ابن عبري عن
أحداث سنة 371
هـ:
"في هذه السنة
أرسل عضد الدولة
القاضي أبا بكر
الباقلّاني
سفيراً إلى بلاد
الروم، وهناك
أشاروا على
القاضي أنه يجب
أن تنحني وتُقبّل
الأرض بحضور
القيصر، لكنّ
القاضي رفض ذلك،
فأمر القيصر
بتقصير باب
الدخول حتى ينحني
القاضي اضطراراً
عند دخوله
وبالتالي فإنه
يُعظّم القيصر
قهراً، لكنّ
القاضي فهم الأمر
فأدار ظهره للباب
وانحنى بعكس باب
الدخول ودخل الى
القاعة متراجعاً،
ولما أصبح داخل
القاعة أدار وجهه
للقيصر ومشى إليه
مباشرةً118.
وأجرى "عز الدين
الحسيني" لقاءات
مع أمراء
المسلمين ممثلاً
السلطان
"سنجر"
السلجوقيّ الذي
كان يجلّ أهل
العلم من السفراء
ويحترمهم، والذين
أقاموا له علاقات
جيدة وحميمة مع
الجيران. وفي عهد
المغول استفادت
الدولة من
العلماء الواعين
وأهل النظر
السديد للحدّ من
سفك الدماء وكانت
تعتمد
عليهم في
إقامة الوساطات
وإيصال الرسائل
في القضايا
السياسيّة
والأمور
المتعلّقة
بالحرب.
ومن باب المثال
جاء في أحد
التقارير عن جهود
السيّد "تاج
الدين جعفر"
(700) وهو من
العلماء الأتقياء
والمحبوبين في
شيراز: "إن
الله تعالى دفع
بلاء الأعداء عن
هذه المدينة بفضل
يمن وبركة ودعاء
هذا السيّد
الجليل، وإنّ
بقاء رؤوس
الحكّام مرفوعة
إنما كان بفضل
تميّزه وحسن
معاملته، فقد كان
من عادته وخصاله
أنه إذا رأى
قتالاً في أيّ
مكان أن يبادر
إلى الإصلاح بين
الطرفين وكان
يُقابل الإساءة
والإهانة بالرأفة
والحِلم"119.
وفي القرن التاسع
كان الخواجة
"أحرار" يملك
نفوذاً
اجتماعيّاً
وعرفانيّاً في
بلاد ما وراء
النهر، وامتلك
مكانة خاصّة عند
رجال السلطة
الذين كانوا لا
يرون مناصاً من
الامتثال
لقراراته
وأوامره، وأعطته
هذه المكانة
الدينية فرصة
القيام بدور
الوسيط للحدّ من
الخلافات بين
الطوائف والدول.
وفي سنة 890 وفي
أيام حكومة
"أبو سعيد
كوركان"
وعندما أراد جيش
المغول دخول
سمرقند قام
الخواجة ووقف في
الميدان وأجرى
معهم حوارات
طويلة ساهمت في
نجاة المدينة من
القتل والدمار،
وأفضت وساطته إلى
منع الجيش
المغوليّ من دخول
المدينة120.
وفي العهد الصفوي
كان العلماء
الحكماء
الممثّلون
الرسميّون للدول
الاسلاميّة سبباً
في شموخ هذه
الدول وعزّتها،
ووضعوا حدّاً
ونهاية موفّقة
للكثير من
النزاعات
القائمة.
وقام أبو سعيد
الأصفهانيّ
والشيخ محبّ
الدين، وهما من
العلماء
الأتقياء، بتمثيل
الملك إسماعيل في
البلاد الأخرى،
وأجروا محادثات
وحوارات مع قادة
هذه الحكومات121.
وفي هذا السياق
وفي سنة 1020 في
عهد الملك عبّاس،
قام القاضي
السيفي بزيارة
اسطنبول لوضع حدّ
لبعض الخلافات
القائمة بين
إيران
والعثمانيين، وفي
هذا السفر كان
بصحبة القاضي
السيفي القاضي
معزّ الأصفهانيّ
ومولانا السلطان
حسين والقاضي
المؤمن والحكيم
عبدي من العلماء
المرموقين،
بالإضافة لأكثر
من مئة شخص من
أهل الخبرة
والمعرفة، وكان
الهدف:
إنّ زعماء
الحوزات الدينية
يؤكّدون أننا
مأمورون بحفظ
الثغور وصيانة
أوضاع المسلمين
استناداً إلى هدي
الشريعة الغرّاء
ومنهج الأمّة
الوسط الذي هدانا
الله إليه، ولذلك
ورد في إحدى
الموادّ التي
اتفق عليها
الطرفان على
ضرورة العمل
لإنهاء التخاصم
والتنازع وإصلاح
ذات البين،
وتقوية الإسلام
وكسر لواء الكفر
والظلام ورفاهيّة
أوضاع المسلمين
وفق مقتضيات
الشرع122.
وهذه الهيئة حملت
للخليفة
العثمانيّ
الهدايا النفيسة
والتقت به، وقامت
بجولات طويلة من
المباحثات
والحوارات تناول
فيها الطرفان
شتّى المسائل
الخلافية بين
الشيعة والسنّة
وتبديد سوء
التفاهم القائم
بينهما،كما دارت
حوارات حول
المسائل
السياسيّة
والجغرافية بين
البلدين اتفق
الطرفان على قرار
المصالحة التامّة
ووضع هذا القرار
موضع التنفيذ،
وعاد الوفد إلى
دياره مكلّلاً
بالنجاح.
وقام العلماء
بدور الوسطاء بين
سلاطين الدولة
العثمانية وبينهم
وبين القاجاريّين
من خلال اللياقات
السياسية
والعسكريّة التي
يتمتّعون بها،
واستطاعت عائلة
كاشف الغِطاء من
خلال المكانة
المرموقة التي
تتمتّع بها عند
السلاطين
العثمانيين
والإيرانيين من
حقن دماء
المسلمين، وإنهاء
الحصار عن بعض
المدن، وإقرار
الصلح والسلم
والأخوة بين
المسلمين123.
الحوزة والتمدّن
الحديث
قيل: إنّ التاريخ
بيّن الدور
الفاعل للحوزات
وعلماء الدين في
صناعة التمدّن في
ميادين مختلفة من
العلم والثقافة
والاقتصاد، وفي
ساحات صراع
متنوّعة قدّموا
فيها للمجتمع
أفضل الخطط
وأرقاها وأكثر
بيانات العمل
قوّةً وإحكاماً.
ويمكن القول إنّ
قافلة المدنية
المفعمة بالسلام
والمحبة والأخوّة
والمعنويّات
العالية لم تكن
لتشهد النور لولا
جهود علماء الدين
والحوزات
وقيادتهم لهذه
المسيرة، وقدرتهم
على مواصلة
تحرّكهم في وجه
الحركات
والتيّارات
المناهضة للمدنية
بدون عوائق مهمّة
تُذكر.
في العقدين
الأخيرين كان بعض
أتباع البلاط
القاجاريّ وبعض
أتباع البلاط
البهلويّ يعزفون
على هذه النغمة:
إنّ الأنظمة
والقوانين
الدينية وتدخّل
المتحدثين باسم
المذهب في الشؤون
الاجتماعية هي
التي منعت شيئاً
فشيئاً من حركة
التمدّن الصناعيّ
إلى بلادنا،
وبالتالي فإنّ
علماء الدين هم
الذين منعونا من
الاستفادة من
تجارب الغرب من
خلال فتاوى تحريم
الاستفادة من
إنجازات الغرب
واختراعاته.
وبكلمةٍ أخرى
فإنّ إعراض الناس
عن ثقافة
الأجنبيّ كان
سبباً في حرمان
هذه الشعوب من
الالتحاق بركب
العلم والمعرفة124.
وفي الإجابة
نقول: أين خالف
علماء الدين أيّ
إنجاز صناعيّ أو
بشريّ مفيد
للآخرين؟ وتحت
أيّ أصل من أصول
الدين تندرج
تحريمات علماء
الدين وفضلاء
الحوزات الدينية؟
وكيف كانت الحوزة
على مستوى العلوم
والمعارف
الصناعية
الحديثة؟
في الماضي وحتّى
أوائل العهد
القاجاريّ كانت
العلوم التي هي
مورد حاجة الناس
تدرّس في الحوزة
على أنها واجب
كفائيّ، وتخرّج
من الحوزات أهمّ
علماء الرياضيّات
والفقهاء
والحكماء، وكان
العلماء يؤكّدون
في كتبهم وفي
أحاديثهم مع
الناس على ضرورة
العمل وبذل
الجهود من أجل
الوصول إلى
الإكتفاء الذاتيّ
على المستوى
السياسيّ
والاقتصاديّ،
وكانوا يلقون
اللوم على أهل
البطالة وأهل
الجمود الفكريّ.
ومن باب المثال
فإنّ الملا أحمد
النراقي، وهو من
حكماء وعرفاء
العهد القاجاريّ،
لم يكن الوحيد
الذي كان يعمل
بكلّ وعي
وعقلانية في سبيل
الله وتكامل
الإنسان، ولم يكن
ليمنع أحداً من
الاستفادة
الصحيحة من
إنجازات الآخرين،
بل قام بحركةٍ
وبذل جهوداً
كبيرة كانت محلّ
تقدير وثناء من
أجل استقلال
البلاد
والاستغناء عن
الآخرين. وكان له
مواجهات رائعة مع
الأعداء في
ميادين العمل
الجماعيّ والحياة
الجماعيّة وتذليل
الصعاب وحلّ
المشاكل
الاجتماعيّة.
"الإنسان وبحسب
تكوينه مدنيّ
بطبعه، وعليه أن
يعمل ويسعى
لتحصيل قوت يومه
ووسائل حياته،
كما أنه عليه أن
يعيش في مجتمع
ليتمكّن من
مواجهة الأعداء
ويوفّر لنفسه
الغذاء والدواء
والمسكن، ومن
الطبيعيّ أن
يتعرّض أيّ
إنسان، خلال
عمله، لمشاكل
اجتماعية، وأن
يتّكل على
الآخرين لحلّها،
وهذا ما يدفع
المجتمع نحو
التقدّم والرقيّ125.
ومثل هذا الشخص
لا يمكن أن
نعتبره معارضاً
لرقيّ المجتمع
وتكامله، فإنّ
أمثال الملّا
أحمد النراقي لم
يقبلوا أن تكون
الحضارة هي تعطيل
القدرات المحلّية
والاهتمام
بالقدرات
الأجنبيّة، ولا
يقدّم أيّ
إمكانات لدفع
العمل الفرديّ
والجماعيّ داخل
البلاد، ويصرف
نظره عن
الابتكارات
والاختراعات
المحلّية، بل
ويطلب من
الآخرين
أن يسبّبوا لهم
المشاكل
والتعقيدات.
ومثال آخر:
السيّد محمّد
الطباطبائيّ، وهو
من تلامذة
الميرزا
الشيرازيّ كان
يُحفّز الناس
ويدفعهم لمواكبة
العصر والاستفادة
من الابتكارات
البشرية
والاكتشافات
الحديثة التي
دخلت دنيا
الوجود، وكان
يُشجّع الطلاب
على تعلّم اللغات
الأجنبيّة
والاطّلاع على
الحقوق الدوليّة،
وقد أسّس مدرسةً
لتدريس أساليب
التعليم الحديثة
عام 1317 هـ.ق126.
وفي الفترة التي
سبقت وعاصرت زمان
المشروطة فإنّ
هناك المئات من
الرسائل العلمية
التي كتبها أهل
الحوزات حول
ضرورة الرجوع إلى
التمدّن
الإسلاميّ، وبقيت
حوزتا إيران
والنجف متمسّكتين
بمواكبة العلوم
الدينية
لاحتياجات
الإنسان الحديثة127
ودراسة العلل
والأسباب التي
أدّت إلى التخلّف
السياسيّ
والاقتصاديّ عن
العالم الغربيّ،
وكان أعلام
الحوزة من خلال
توجيهاتهم
وإشاراتهم يدفعون
المجتمع للحاق
بركب التقدّم
الصناعيّ
للبشريّة.
وقبل ذلك كلّه
كان مشروع دار
الفنون الذي
طرحته الحوزة
العلمية والذي
قدّمه العالم
بالفنون وتلميذ
صاحب الجواهر
الشيخ علي
الاسترآبادي إلى
الدولة لكي
تتبنّى هذا
المشروع وتقوم
بإنشائه، لكنّ
الدولة رفضت
المشروع128،
وقلّصت التجاوب
مع هذا النوع من
المشاريع الواردة
من الحوزة، وكان
لذلك التأثير بل
السبب المباشر
لفصل العلوم
الشرعيّة عن
العلوم
التطبيقيّة،
والذي أوصل
الأمور في
النهاية إلى أنه
بدل أن يكون هذان
العلمان سبباً
لنهضة المجتمع
وقوّته فإنّ
إنفصالهما كان
سبباً لركود
المجتمع وتراجعه
وعدم توفر الأمور
اللازمة
والضروريّة فيه.
وأقبل العلماء
شيئاً فشيئاً
ليكونوا طلائع
الصناعات
الحديثة، وفي هذا
السياق نذكر
مشاريع الحاجّ
"ملّا صادق"
أحد مجتهدي قمّ
المقدّسة لتوسيع
شبكة سكة الحديد
بين طهران وقمّ
وإحياء الأراضي
الميتة وتشجير
الصحارى وترخيص
أسعار البضائع
وإيجاد فرص عمل
للعاطلين عن
العمل والذي
يُعدّ ذلك كلّه
من أعماله
وآثاره.
وأعلن علماء
تبريز ومشهد عن
استعدادهم
للمساعدة في
توسعة شبكة سكك
الحديد129،
وتمّ إنشاء أوّل
مصنع على يد شخصٍ
من أهل الدين
والإلتزام، صديق
العلماء وأنيسهم
وصاحب الهمّة
العالية المدعو
الحاجّ "محمّد
حسين الأصفهاني"،
ومما يجدر ذكره
أنّ السيّد
"جمال الدين"
كان نزيلاً في
ضيافته في تلك
الأثناء.
وكان له الفضل
بطباعة الطبعة
الأولى من كتاب
بحار الأنوار
للعلّامة
المجلسيّ، وكان
من أوائل الذين
عملوا بجدّ
لإنشاء أوّل مصنع
في طهران، وتمّ
على يديه إنجاز
صناعة الزجاج
والحرير
والصناعات
الصينية وتأمين
الكهرباء لمدينة
طهران130.
أمّا سرّ التحريم
أمّا أسباب تحريم
بعض البضائع
الأوروبية التي
أطلقها علماء
وفضلاء الحوزة في
العهد القاجاريّ
فإنه لا يرجع إلى
الرفض الأعمى أو
التعلّق بالأمور
القديمة
والمواجهة
العلنية مع
الأشياء الجديدة،
وإنما له بعده
وأفقه الأعلى
ويكمن في النطرة
السوداء وسوء
الظنّ تجاه
التمدّن الغربي،
ففي الواقع إنّ
الإنتشار الواسع
لبيع وشراء هذه
البضائع الأجنبية
يمثّل مواجهة
لهذا الإستعمار
وآثاره المدمّرة،
ومواجهة ثقافة
هذا الاستعمار من
خلال دخول هذه
البضائع إلى
مجتمعاتنا.
ثمّ إنّ علاقة
الغرب بالإسلام
وإيران كانت
دائماً من خلال
سعي هذه الدول
لتحصيل امتيازات
خاصّة لهم،
واللهث خلف
استغلال الشعوب
والسيطرة
الاقتصادية
وتدمير القيم
وإجراء عقود
الكسب والترويج
غير المشروط.
ورغم الزيارات
المتكرّرة
للعلماء
الإيرانيين إلى
أوروبا فإنّ
الاستفادة من
ميدان الصناعة
كانت قليلة ولم
تحقق أيّ إنجاز
يُذكر، وما ذلك
إلّا للوصول في
النهاية إلى
الإنجذاب إلى
الفكر الغربيّ
الساطع، وليصبح
الغرب مركز
الاطّلاع
والمعرفة وحامل
لوائها في
المجتمع،
وبالتالي فيكون
أقوى على نقل
أفكاره العلمانية
والثقافات
المبتذلة
والإلحادية إلى
إيران131.
وكان العالم
الجليل والواسع
الاطّلاع السيّد
"جمال الدين"
من الذين رأوا
الغرب وتعرّفوا
على أعماله عن
قرب والذي يعتبر
- مع الاحترام
الشديد لبعض
الابتكارات - أنّ
ثقافة الغربيين
هي التوحّش، وأنّ
الإنسان الغربي
إنسان لا يعرف
القيود ولا يحمل
أيّ ثقافة، وأنّ
قدرته ونفوذه في
القضاء على
الشعوب الأخرى
واتساع رقعة
الفقر والبؤس عند
الآخرين ونهب
ثرواتهم وذلك
لبناء المدن
الكبرى والبنايات
العالية والقصور
المزخرفة التي لا
نظير لها وتوفير
رفاهية عالية
لشعوبهم.
إنّ الإنسان
الغربيّ جلب
الويلات الكبرى
وارتكب جنايات
مفجعة بحقّ
الآخرين تحت لواء
الحريّة والحضارة
والصداقة:
"إذا أخذنا كافّة
إبتكارات البشرية
العلمية وكافّة
محاسن التمدّن
الموجودة اليوم
عند أهل التمدّن
وضاعفناها
أضعافاً ووضعناها
في كفّة ميزان
ووضعنا في الكفة
الأخرى كلّ
الخراب والدمار
والحروب التي
سبَّبها التمدّن
سنرى أنّ الكفّة
الثانية ترجح على
كفّة التمدّن،
وفي هذه الحالة
فإنّ التمدّن لم
يجلب إلّا الجهل
والفقر والتخلّف
والنهاية
المتوحّشة
للإنسان، وعليه
فإنّ هذا التمدّن
جعل الإنسان أسوأ
حالاً من
الحيوان"132.
وإضافةً إلى
أخطار وآفات
ثقافة الحضارة
الغربية يأتي
دخول البضائع
الأجنبيّة من
طرفٍ واحد إلى
بلادنا بدون
تصدير البضائع
الإيرانية، ممّا
سبّب ركوداً في
سوق الصناعات
الداخلية، ثمّ
إنّ امتلاء
الأسواق بالبضائع
الأوروبية ساهم
في إفلاس مصانع
الأقمشة والنسيج
وبالتالي ذهاب
الشباب غير
العاملين للعمل
في الشركات
الأجنبية وانتقال
العملة الإيرانية
إلى جيوب
أصحابها، وعندما
رأى العلماء
نافذو البصر هذه
الآثار
الاقتصادية
السيّئة عقدوا
جلسةً للتباحث في
الأمر، ولمّا لم
تفضِ الوسائل
الإيجابية إلى
نتيجة عمد هؤلاء
العلماء إلى
الإستفادة من
سلاح الوسائل
السلبية.
كتب الميرزا
الشيرازيّ في
جواب استفتاء
الشيخ فضل الله
النوريّ حول
البضائع
المستوردة وذلك
قبل ثلاث سنوات
من قضيّة
التنباك: هذا
المورد المذكور
هو من باب
السياسات
والمصالح
العامّة،
والتكليف في هذا
الباب بعهدة أهل
النفوذ والقدرة
من المسلمين
الذين ينبغي
عليهم سدّ
احتياجات الناس
بكلّ عزمٍ وقوّة
وتهيئة كلّ ما
يحتاجونه، لكنّ
ما نرجوه اليوم
هو ترك هذه
الأمور التي لا
تناسب أهل هذا
الزمان والتي
أصبحت عادةً عبر
الأزمنة
المتعاقبة، وأن
يمنع الحاكم نفسه
ورعيته من تملك
مادّة السكّر
وغيرها من
الموادّ.(كانت
مادّة السكّر
تُستورد من
الخارج)
وكان تحريم
التنباك أهمّ
فتاوى التحريم،
ومنشأ الفتوى أنّ
شركة أجنبية حصرت
بيع وشراء
التنباك في إيران
بها، ثمّ اتسع
هذا الحصر ليشمل
سوق الهند
الشرقيّة بهذه
الشركة الأجنبية،
والتي كانت تعمل
على تحقيق مجموعة
من الأهداف
الثقافيّة
والسياسيّة تحت
لواء التجارة،
فالتفت الميرزا
الشيرازيّ
إلى
خطورة سيطرة هذه
الشركة الأجنبيّة
على الاقتصاد
الإيرانيّ وأصدر
فتواه بتحريم بيع
وشراء واستعمال
التنباك.
أثارت هذه الفتوى
الناس ثم قام
العلماء بتبيين
الأبعاد
السياسيّة لهذه
الفتوى واستنهاض
روحيّة الناس
للوقوف في وجه
الظلم واعتراضهم
على الحضور
الأوروبيّ
وتدخّلهم في شؤون
المسلمين، وهذا
الأمر كان دليلاً
واضحاً على قدرة
المرجعيّة على
حماية المصالح
الوطنية
والدينية.
ونقرأ عواقب هذه
الفتوى من عيون
الأجانب
البعيدين، فقد
كتب سفير روسيّا:
"إذا كتب هذا
الرجل المُطاع أي
الميرزا
الشيرازيّ بياناً
يُحرّم فيه نقل
الأمتعة والعتاد
من أوروبا إلى
إيران ويؤكّد أن
استعمالها خطأ
فادح، وأنّ ما
يحتاجه المسلمون
هو توفير هذه
البضائع من داخل
البلاد، فإنه
يسدّ أبواب
التجارة الكبرى
من كافّة الدول
الأوروبية إلى
بلاد المسلمين"133.
ثمّ إنّ نهضة
الناس وتحرّكهم
ضدّ المعاهدة
التي أُبرمت مع
شركة الريجي
أكَّد على خطورة
التخاصم بين
علماء الدين
والخارج.
إنّ حكم الميرزا
الشيرازيّ ضدّ
شركة الريجي أسّس
للوصول إلى
الاستقلال
الاقتصاديّ ونفي
سلطة الأجانب،
وقطع العلاقات
المرتبطة
بالمصالح الطبقية
أو الفئوية،
وكتبوا في ذلك:
"وأدّت فتوى
الميرزا إلى
تهييج التجّار،
فقام بعضهم من
أجل تطبيق الفتوى
بحرق بضائعهم
الكاسدة ووقفوا
جميعاً موقفاً
موحّداً حفاظاً
على مصالحهم،
فكتب الميرزا الى
الشاه رسالةً
يبين فيها مجريات
الأمور ويحذّره
من العواقب
السيّئة لقراره134."
وفي السنوات التي
تلت الحادثة دخل
الروس والإنكليز
إلى البلاد من
باب التجارة
وأحدثوا ممرّاً
لهم إلى الأسواق
فأطلق زعماء
الطائفة أمثال
الأخوند
الخراسانيّ
وعبدالله
المازندرانيّ
تنبيهاً إلى
الناس وإعلان
الجهاد
الاقتصاديّ
ومضاعفة السعي
على خطّ الإنتاج
وتخفيض العمل
بالبضائع
الأجنبية، للقضاء
على نفوذهم وضرب
سيطرتهم التي لا
تستهدف إلا صناعة
الفقر والبؤس
لعامّة الناس:
"إلى الآن لم
يتمّ الحكم
بتحريم استعمال
البضائع الروسيّة
على عامّة
المسلمين ريثما
يتمّ استكمال بعض
الملاحظات وكافّة
مقدّمات هذا
الحكم، وإلى ذلك
الحين نحن صامدون
في موقعنا إلى أن
يتّضح لعامّة
الشعب الاسلاميّ
الغيور وأتباع
خاتم الأنبياء
صلى الله عليه
وآله وسلم
ويعلمون يقيناً
كرأي العين أنّ
استخدام البضائع
الأجنبيّة في
البلاد
الاسلاميّة يعني
- في كلّ الأحوال
- ضياع ثروة
الأمّة وتدمير
الثروات
الطبيعيّة
الداخليّة، وشيوع
الفقر والبؤس بين
الناس وتسلّط
الكفّار على
المسلمين،
وبالتالي ضياع
الكيان الإسلاميّ
وسقوط استقلاله،
وعند ذلك سيصل
الدور إلينا.
ونسأل الله أن
يجعل الجميع من
زعماء وعلماء
وأمراء وتجار ذلك
نصب أعينهم
وينطلق الجميع
بكلّ عزمٍ وإرادة
للمسارعة إلى
العمل والتسابق
مع الآخرين لنيل
الفوز بلطائف
ساحة الجهاد
الاقتصاديّ الذي
له درجة الجهاد
ومنزلة الشهادة
مع صاحب العصر
والزمان عجل الله
تعالى فرجه
الشريف135.
وفور ظهور الضرر
والخسارة على بعض
التجار من هذا
الباب قام
العلماء وطلبوا
من بقيّة التجار
وأهل السوق تقديم
المساعدة
لإخوانهم
المتضرّرين.
وجاء برواية
أخرى:
وأفتى علماء
شيراز لأهل
القوافل
التجاريّة بعدم
إدخال البضائع
الروسيّة
والإنكليزيّة من
ناحية الجنوب إلى
إيران، وعدم
التعامل مع
الجنود الإنكليز
المستقرّين في
جنوب البلاد
حفظاً لمصالح
بلادهم وعدم
مساعدتهم وإعلام
الدولة بفصل
مصالحها عن مصالح
الأجانب، وعدم
التراجع قيد
أنملة عن
الاستقلال
الداخليّ
والخارجيّ
لإيران.
... حتّى لا تكون
أعراض المسلمين
وكرامتهم مرهونة
بيد الكفّار، وأن
يضحّوا بأرواحهم
الغالية في سبيل
الدين المقدّس،
وأن يرفعوا
أصواتهم بالنداء
ليملأ الآفاق:
إمّا الموت وإمّا
الاستقلال136.
وهدّد ثقة
الإسلام
المحلّاتي، وهو
من علماء محافظة
فارس، بإقامة حدّ
التعزير الشرعيّ
على كلّ من يخالف
هذه الفتوى.
وأجاز الشيخ
المحلّاتي
استقدام البضائع
التي هي مورد
حاجة ماسّة في
الداخل من الدول
المحايدة، وذلك
منعاً لحدوث أيّ
اضطراب داخل
السوق الإيرانيّة137.
فمثلاً، بعد
اتفاقيّة استقدام
الشاي من
تركمنستان، وصل
النفوذ الروسيّ
الذي كان يسير
سيراً صعوديّاً
الى حدٍّ بات
يتعرّض لضغوطات
اقتصادية قويّة
ممّا، استدعى
تدخل الحكّام
المحلّيين
لنجدته، وفي هذا
السياق كانت فكرة
البنك الروسيّ
للقروض الذي سعى
الى تحقيق نفس
الأهداف التي
تتبنّاها شركة
الهند الشرقية.
وكان علماء
أصفهان في طليعة
هؤلاء، فأفتى آقا
نجفي أصفهاني في
أوج التهديد
الروسيّ لإيران
بالاجتياح
العسكريّ بحرمة
التعامل مع البنك
الروسيّ، وحرمة
بيع وشراء
البضائع
الروسيّة،
موجّهاً بذلك
ضربةً قاسية
للحيثية
السياسيّة
والاقتصاديّة
لروسيّا.
وفي إعلانٍ آخر
وقّعه ثلاثة عشر
عالماً من كبار
العلماء لفت نظر
الناس إلى ضرورة
التوجّه
والالتزام
بالنقاط الآتية:
1- ضرورة كتابة
الوظائف والأحكام
الشرعيّة على
الأوراق
الإيرانيّة، وعدم
إمضاء الوظائف
المكتوبة على
أوراق غير
إيرانيّة.
2- عدم إقامة
الصلاة على
الأموات الذين
تمّ تكفينهم
بقماش غير
إيرانيّ.
3- لُبس الألبسة
الإيرانية.
4- عدم المشاركة
في الدعوات التي
لها طابع
التشريفات
والبذخ.
5- عدم احترام
مدخّني التنباك
والنظر اليهم
بخفّة واستحقار138.
ثمّ إنّ التفكير
بالاكتفاء
الذاتيّ وضع
الميرزا
الشيرازيّ
مؤشراته وعلاماته
العريضة قبل ثلاث
سنوات من قضيّة
تحريم التنباك،
وبعد سبع سنوات
على تحريم
التنباك كان لذلك
آثار موضوعيّة في
المجتمع، وبرز
ذلك من خلال
تشكيل شركة
أصفهان
الإسلاميّة والتي
تأسّست بجهود آقا
نجفي أصفهاني
وآقا نور الله
أصفهاني ثمّ
انتشرت فروعها في
داخل البلاد
وخارجها، وجاء في
أسس تشكيل هذه
الشركة ضرورة
الاستقبال الواسع
للعلماء
والاستفادة منهم،
وتوسيع إنتاج
البضائع الداخلية
وخاصّةً إنتاج
الأقمشة
والاستفادة
القوية من
الوسائل والموادّ
الخام الإيرانية،
واستطاعوا، على
طول السنين بعد
ذلك، بناء مصانع
متنوّعة وتوفير
فرص العمل لآلاف
العمّال، وفي تلك
الأيام استغنى
الشعب الإيرانيّ
والشعوب
الإسلامية عن
الإستفادة من
البضائع
الأجنبيّة.
|