مقدمة
في الخامس من جمادى الأولى من العام الخامس أو السادس للهجرة1.
كان بيت النبوة في انتظار مولود جديد ليضع قدميه في هذا العالم. وصلت اللحظة
المنتظرة، فانتشر خبر يبعث على السرور ففاح عطر الولادة الميمونة في أزقة وشوارع
المدينة. أطلق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على المولودة الجديدة اسم "زينب"
لتعود به الذكريات إلى ابنته زينب التي توفيت قبل ذلك.
بعد ذلك كان الحديث عن الفضائل والمناقب والكمالات الإنسانية للسيدة زينب حتى أصبحت
هذه الكمالات حديث العام والخاص وقد ذكر لها أكثر من 60 لقباً. بعض هذه الألقاب
عبارة عن: نائبة الزهراء، مليكة النساء، سيدة العقائل، الفصيحة، البليغة، الكاملة،
العابدة، الفاضلة، العارفة، الصابرة، وعظيمة البلايا2.
أشار المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني المعروف بالكمباني في قصيدة مشهورة له إلى
فضائل وألقاب تلك المرأة العظيمة نذكر منها بعض الأبيات:
مَاْ وَرِثَتْهُ من نبيِّ الرَّحْمَةِ
جوامعَ العِلمِ أصول الحكمة
سرُّ أبيها في علِّو الهمَّةِ
والصَّبْرُ في الشدائدِ المُلِمَّةِ
ثباتُها يُنْبئ عن ثَباتِه
كَأَنْ فيها كلُّ مَكُرمَاتِه
لها من الصبر على المصائبِ
ما جَلَّ أن يُعَدَّ في العجائب
إن تلك السيدة العظيمة، التي واجهت في حياتها الكثير من الأحداث والمصائب، ودعت
الدنيا في النصف من رجب عام 62 للهجرة عن عمر 56 سنة والتحقت بديار الحق3.
وبما أن شخصية السيدة زينب عليها السلام تقارنت مع الصبر والاستقامة أمام المصائب
إلى مستوى أطلق عليها "أم المصائب" و"أم العزائم"، لذلك سنحاول في
هذا المختصر توضيح بعض المطالب حول صبرها واستقامتها وسنذكر بعض النماذج عن ذاك
الصبر والاستقامة.
آثار الصبر على المصيبة
إن من أهم وأبرز الأصول الأخلاقية في الإسلام، الصبر والاستقامة في مواجهة
الصعوبات. أشارت الروايات إلى ثلاثة أنواع من الصبر، الصبر على المصيبة، الصبر في
مقابل المعصية والصبر في مقام العبادة والعبودية. وبما أننا نتحدث في هذا المقال
حول الصبر على المصائب، لذلك سنشير إلى بعض آثار هذا النوع من الصبر.
1- سرّ الانتصار
يقول الله تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ﴾4.
واجه المسلمون في صدر الإسلام الكثير من المشكلات والصعوبات وتعرضوا للكثير من
الأذى على أيدي المشركين، وكان منهم من هو غير قادر على تحمل هذه الصعوبات ففقد
صبره. في الآية الشريفة يخاطب الله تعالى الرسول والمسلمين ويحدثهم حول مصير قوم
بني إسرائيل ويذكرهم بما جرى، وفي ذلك دعوة للصبر والثبات وليبشرهم بأن النصر سيكون
حليف الصابرين، وإذا كان قوم بني إسرائيل قد تعرضوا للأذى على أيدي الكفار
والمشركين، فقد انتصروا بعدما تحملوا الصعوبات وقاوموا الأعداء، وفي النهاية وهب
الله البعض منهم مقام الإمامة.
وعلى هذا الأساس تحدثت الآية الشريفة حول أمرين باعتبارهما رمزين للنصر: الأول هو
الإيمان واليقين بالآيات الإلهية والثاني هو الصبر والاستقامة.
جاء في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا
حتى يُقرّ الله له عيناً في أعدائه مع ما يَدَّخر في الآخرة"5.
2- الثواب الأخروي
عندما واجه المسلمون المشكلات والمصائب في مسألة الهجرة، نزلت الآية الشريفة:
﴿إِنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾6.
إن عبارة "يوفى" في الآية الشريفة وهي من مادة "وفى" والتي تعني
الإعطاء الكامل هذا من جهة ومن جهة أخرى عبارة "بغير حساب"، تشير إلى أن للصابرين
أرفع الأجر والثواب عند الله تعالى. الشاهد على هذا الكلام الحديث المعروف للإمام
الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: "إذا نشرت
الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان"7.
ثم تلى الآية الشريفة:
﴿إِنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
3- الافتخار والرفعة عند الامتحان الإلهي
يخضع جميع الناس بدءاً من الأنبياء إلى الآخرين، للامتحان الإلهي ليتمكنوا بذلك من
إخراج استعداداتهم إلى ساحة الفعل والوصول إلى قمة الكمال والسعادة. لذلك يُمتحن
الناس بطرق متعددة، منها الخوف والجوع والخسارة المالية والروحية، وأمّا الذي يتمكن
من الخروج من الامتحان منتصراً فسينال السعادة المطلوبة. إنّ "الصبر والاستقامة
يمكنهما أن يكونا سلاحاً فاعلاً ومؤثراً في مسيرة المشقّات والصعوبات التي يواجهها
الإنسان وتساعدانه في طي مسيرة الكمال والوصول إلى السعادة.
يقول الله تعالى:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا
أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ *
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾8.
البلاء للأولياء
من جملة السنن الإلهية إرسال البلاء والمشقات للأولياء والأنبياء ويمكن القول بناءً
على الروايات أنه كلما ازداد إيمان الشخص، ازدادت المرارات والصعوبات عليه. وفي هذا
المجال العديد من الروايات، حتى إنّ الكتب الروائية أفردت باباً تحت عنوان "شدة
ابتلاء المؤمن". من جملة الروايات في هذا الباب ما نقل عن الإمام الصادق عليه
السلام: "إنما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه"9.
من جهة أخرى فإن التاريخ يشهد على هذا الأمر حتى إنّنا نرى وبوضوح أنّ
أولياء الله
تعالى ومن جملتهم زينب الكبرى وأبوها وأمها وأَخَواها كيف تعرضوا لأنواع المصائب
والابتلاءات وكيف قدموا نماذج في الصبر في مواجهتها.
قد يخطر السؤال الآتي في الذهن: لماذا أنزل الله تعالى البلاء لأوليائه كالأنبياء
وأوصياء الرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام
والسيدة الزهراء المرضية عليها السلام وزينب الكبرى عليها السلام وهم المقربون إليه
مع العلم أن الكثير من أسوء الناس يعيشون في الرفاه والنعمة؟
الجواب: إنّ النعم الظاهرية والمشقات ليست جميعها معياراً للحسن والقبيح. المهم
كيفية تعاطي الإنسان مع هذه الأحداث، فإذا تعامل الإنسان بشكل حسن مع هذه الأمور
وصل من خلالها إلى السعادة وكانت حسنة بالنسبة إليه، وإذا وصل إلى الشقاء كانت
قبيحة له. يقول الشهيد مطهري في هذا الخصوص: "ليس الفقر شقاءً مطلقاً وليست
الثروة سعادة مطلقة، فكم كان الفقر سبباً لتربية وكمال الإنسان، وكم كانت الثروة
سبباً في الشقاء والنكبة!... ويشتمل هذا القانون على العديد من الأمور من أمثال
الصحة والمرض، العزة والذلة وكافة المصائب الطبيعية. إنّ النعم وكذا الشدائد
والبلايا هي مواهب، لأنه يمكن الاستفادة منها جميعها بشكل عالٍ وكبير. ومن الممكن
أن تكون جميعها بلاءً وشقاء، لأنه يمكن التنزل والسقوط من خلالها"10.
آثار وفوائد البلاء
إنّ الأحداث التي تبدو في الظاهر بلاءً وشقاءً، تحمل في الباطن آثاراً وفوائد، لذلك
كان أولياء الله راضين بالبلاء يرددون نداء "رضى برضائك"، لا بل لا يعتبرون
البلاء بلاءً لأنهم ينظرون إليه بعين الجمال، ومن هنا نجد السيدة زينب عليها السلام
وبعد تحمل المصائب والمشقات التي انهالت عليها وعلى أهل بيتها،
تقول: "ما رأيت
إلا جميلاً"11.
لذلك من المناسب في هذا المقال التعرض لفوائد البلاء لنتمكن من خلال التأسي بالسيدة
زينب عليها السلام، من مشاهدة الجمال المكنون في البلاء مما يساهم في الانجذاب نحو
الجمال الإلهي المطلق.
1- جرس انذار
بما أنّ الدنيا وزينتها الظاهرة قد تخدع الإنسان فينشغل بنفسه ويبتعد عن ذكر الله
وطاعته، ومن هنا عندما يبتلي الله الإنسان فقد هيَّأَ له الأرضية لليقظة من الغفلة،
عند ذلك يشاهد المرارات والآلام الموجودة في الدنيا وزينتها فيتجه نحو الحقّ تعالى.
في إحدى السنوات واجه المسلمون القحط وقلة الماء، فخرج الإمام علي عليه السلام
لأداء صلاة الاستسقاء وفي الطريق خاطب المرافقين: "إنَّ الله يبتلي عباده عند
الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب ثائب مقلع
ويتذكر متذكر"12.
2- محو الذنوب
قد يخطيء بعض المؤمنين أحياناً فيرتكبون المعاصي. أما الله تعالى ـ الذي هو
بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم ـ فيرسل البلاء لتطهيرهم من المعاصي وبالتالي لا يترك حسابهم
إلى يوم القيامة. يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "الحمد لله الذي
جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم لتسلم بها طاعاتهم ويستحقوا عليها ثوابها"13.
3- أساس السعادة
إن البلاء والشقاء هما سبب وجود السعادة عند الإنسان، لأن السعادة مكنونة
في باطن
البلايا والمصايب، وكما يقول الله تعالى:
﴿فَإِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾14.
من جملة القوانين الموجودة في الطبيعة أنّ حجر المعدن ما لم يتعرض لحرارة قوية لا
يخرج منه الذهب الخالص. ثم إن هذا القانون يصدق على الإنسان أيضاً، يقول الله
تعالى:
﴿ لَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾15.
يقول الأستاذ مطهري في تفسير الآية الشريفة: "يجب أن يتحمل الإنسان المشقات
ويقاسي الصعوبات ليحصل على وجوده الذي يليق به. إن التضاد والتعاند هما سبب
التكامل، ومن خلالهما يقطع البشر الطريق نحو الكمال"16.
كتب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف يوبخه
لمشاركته في مجلس الأشراف. وقد خاطبه قائلاً: "ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً
والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً"17.
من هنا وبما أنّ أولياء الله هم أحباب الله، لذلك هم في معرض البلاء أكثر من غيرهم،
وكما يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله إذا أحب عبداً غته بالبلاء غتاً"18.
ثبات وشجاعة زينب من وجهة نظر الآخرين
عندما نتصفّح أوراق التاريخ يتضح لنا أنّ زينب عليه السلام قد تعرفت على البلاء
والمشقات منذ صغرها وكانت في كل مصيبة وبلاء مثالاً للصبر والتواضع والحركة في
الاتجاه الذي يرضاه الله تعالى. لذلك كان هذا الأمر سبباً في كونها نموذجاً للثبات
والشجاعة، من هنا نجد علماء المسلمين أعم من السنة والشيعة قد دونوا
عبارات المدح
والثناء على هذه السيدة العظيمة. مثال ذلك، يقول ابن الأثير وهو من مؤرخي السنة
الكبار: "وكانت زينب امرأة عاقلة لبيبة جذلةً... وهو يدل على عقلٍ وقوة جنانٍ"19.
وكذلك يقول جلال الدين السيوطي وهو من المفسرين: "وكانت لبيبة جذلة عاقلة لها
قوة جنان"20.
ويقول العلامة المامقاني وهو من علماء الشيعة: "وهي في الصبر والثبات وحيدة".
مصائب زينب عليها السلام على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام
عن قدامة بن زائدة، عن أبيه قال: قال علي بن الحسين عليه السلام: بلغني يا زائدة
أنك تزور قبر أبي عبد الله أحياناً؟ فقلت: إن ذلك لكما بلغك. فقال لي: فلماذا تفعل
ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا
والواجب على هذه الأمة من حقنا؟ فقلت: والله ما أريد بذلك إلا الله ورسوله، ولا
أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه، فقال: والله إن ذلك لكذلك
فقلت: والله إن ذلك لكذلك يقولها: ثلاثاً وأقولها ثلاثاً فقال: أبشر ثم أبشر ثم
أبشر فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب المخزون إنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا،
وقتل أبي عليه السلام... وتبينت ذلك مني عمتي زينب بنت علي الكبرى فقالت: مالي أراك
تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع، وقد أرى سيدي
وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مضرّجين بدمائهم مرمّلين، بالعراء مسلّبين، لا
يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد ولا يقربهم بشر كأنهم أهل بيت من الديلم
والخزر فقالت: لا يجزعنك ما ترى فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله إلى جدك وأبيك
وعمك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم
معروفون
في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم
المضرجة وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو
رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه
وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً وأمره إلا علواً فقلت: وما هذا العهد؟ وما هذا
الخبر؟ فقالت: حدثتني أم أيمن21
أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زار منزل فاطمة عليها السلام في يوم من
الأيام فعملت له حريرة صلى الله عليها وأتاه علي عليه السلام بطبق فيه تمر، ثم قالت
أم أيمن: فأتيتهم بعس فيه لبن وزبد، فأكل رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين
عليهما السلام من تلك الحريرة وشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشربوا من
ذلك اللبن، ثم أكل وأكلوا من ذلك التمر بالزبد ثم غسل رسول الله يده وعلي يصب الماء
فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه ثم نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظرا عرفنا فيه
السرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً ثم وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه
يدعو، ثم خرَّ ساجداً، وهو ينشج فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثم رفع رأسه
وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين
وحزنت معهم، لما رأينا من رسول الله وهبناه أن نسأله حتى إذا طال ذلك قال له علي
وقالت له فاطمة: ما يبكيك يا رسول الله لا أبكى الله عينيك؟ وقد أقرح قلوبنا ما نرى
من حالك؟...
ثم قال جبرئيل: يا محمد إنّ أخاك مضطهد بعدك، مغلوب على أمتك، متعوب من أعدائك، ثم
مقتول بعدك، يقتله أشر الخلق والخليقة، وأشقى البرية نظير عاقر الناقة، ببلد تكون
إليه هجرته، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده، وفيه على كل حال يكثر بلواهم، ويعظم
مصابهم، وإن سبطك هذا ـ وأومأ بيده إلى الحسين عليه السلام ـ
مقتول في عصابة من
ذريتك وأهل بيتك، وأخيار من أمتك بضفة الفرات، بأرض تدعى كربلاء، من أجلها يكثر
الكرب والبلاء، على أعدائك وأعداء ذريتك، في اليوم الذي لا ينقضي كربه، ولا تفنى
حسرته، وهي أطهر بقاع الأرض، وأعظمها حرمة، وإنها لمن بطحاء الجنة.
فإذا كان ذلك اليوم الذي
يقتل فيه سبطك وأهله،
وأحاطت بهم كتائب أهل
الكفر واللعنة، تزعزعت
الأرض من أقطارها، ومادت
الجبال، وكثر اضطرابها
واصطفقت البحار بأمواجها،
وماجت السماوات بأهلها،
غضباً لك يا محمد ولذريتك
واستعظاماً لما ينتهك من
حرمتك، ولشر ما يتكافى به
في ذريتك وعترتك، ولا
يبقي شيء من ذلك، إلا
استأذن الله عزَّ وجلَّ
في نصرة أهلك المستضعفين
المظلومين الذين هم حجة
الله على خلقه بعدك...
ثم قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم:
فهذا أبكاني وأحزنني.
قالت زينب: فلما ضرب ابن
ملجم لعنه الله أبي عليه
السلام ورأيت أثر الموت
منه قلت له: يا أبه
حدثتني أم أيمن بكذا
وكذا، وقد أحببت أن أسمعه
منك، فقال: يا بنية
الحديث كما حدثتك أم
أيمن، وكأني بك وببنات
أهلك سبايا بهذا البلد
أذلاء خاشعين، تخافون أن
يتخطفكم الناس، فصبراً
صبرا، فوالذي فلق الحبة
وبرأ النسمة ما لله على
ظهر الأرض يومئذ ولي
غيركم وغير محبيكم
وشيعتكم...22.
إشارة إلى مصائب زينب
عليها السلام
كانت تلك السيدة العظيمة
في مقام عالٍ على مستوى
الفضائل الأخلاقية حتى
إنّها حملت اسم عقيلة بني
هاشم. ومع أنّ زينب عليها
السلام تحمل هكذا مقام
ومنزلة
وعلى رغم وصايا
الرسول الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم حول أهل
البيت عليهم السلام فقد
تعرضت للكثير من الظلم
حيث قيّدت العالم بصبرها
وتواضعها وثباتها.
وإذا كان تعداد مصائب
زينب الكبرى عليها السلام
وإدراك الفجائع التي لحقت
بها طوال حياتها بشكل
عميق، أكبر من هذا
المقال، إلا أنّ الإطلالة
على بعض مصائبها، لتكون
درساً لنا نتعلم منه
الأخلاق والتهذيب وتزكية
النفس. وقد عمل أحد
المؤلفين على إعداد فهرس
لبعض مصائب تلك السيدة
العظيمة23،
نشير هنا إلى البعض منها
في بعض المراحل.
أ- مرحلة الوالد والوالدة
يظن البعض أنّ مرحلة
طفولة زينب عليها السلام
أفضل مرحلة في حياتها إلا
أنها ترافقت مع الكثير من
الآلام والمشقات. في
البداية كان فراق رسول
الإسلام صلى الله عليه
وآله وسلم وبالتالي فقد
فقدت زينب الحضن الدافيء
الذي كان يضفي عليها هدوء
واطمئنان الروح، وبعد ذلك
كانت تعيش آلام أمها لحظة
بلحظة، تلك الآلام التي
كانت بمثابة مرحلة سوداء
في تاريخ البشرية وكانت
عاراً على جبين المسببين
لن يمحى حتى نهاية
التاريخ.
كانت زينب عليها السلام
تعيش آلام أمها، لذلك
كانت تندفع للبكاء وكأن
الضربة التي أصابت
الصديقة الطاهرة وكسرت
ضلعها قد كسرت ضلع زينب
وكأن كل بلاء نزل على
الزهراء قد نزل على زينب،
وقد بقيت هذه المصائب مع
تلك البنت الصغيرة، ومع
ذلك فلم تنتهِ الأمور هنا
بل انهالت المصائب عليها
الواحدة بعد الأخرى فكانت
شهادة السيدة الزهراء
عليها السلام والتي كانت
أكبر المصائب التي نزلت
على زينب عليها السلام.
بعد شهادة والدتها، شاهدت
زينب الآلام التي عاشها
والدها علي عليه السلام
وشاهدت وحدته وما عاناه
من أبناء زمانه حتى كانت
شهادته على يَدَيْ أشقى
البشر، فكانت الشهادة
بمثابة المصيبة الكبيرة
التي نزلت على زينب والتي
لا يمكن التعويض منها.
بعد ذلك لم يعد هناك أي
ملجأ لزينب فكانت تشعر
بالغربة، ومع ذلك كانت
عظيمة المقاومة والثبات.
ب- مرحلة الإمام الحسن
عليه السلام
استمرت مصائب زينب بعد
شهادة والدها وبداية
مرحلة خلافة أخيها الإمام
الحسن المجتبى عليه
السلام. كان صعباً لديها
أن تشاهد الناس ضعاف
الإيمان يرتقون المنابر
ليسبوا والدها الذي كان
رفيق ووصي وخليفة رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم بالحقّ. ثم كانت
غربة أخيها الحسن، حيث لا
وفيَّ ولا صاحبَ وهذا ما
كان يعذب قلب زينب. وقد
وصلت المصائب في هذه
المرحلة إلى الأوج عند
انتشار خبر مسمومية
الإمام الحسن عليه
السلام، لا بل الأصعب من
ذلك مشاهدتها النبال
تنهال على جسد أخيها عند
الدفن24.
ومع كل ذلك كانت المصائب
تنهال على أهل بيت رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم.
لقد شاهدت زينب عليها
السلام في حادثة كربلاء
تلك الصعوبات والمشقات
والابتلاءات التي كان
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قيل أخبر بها
من قبل. عاشت زينب عليها
السلام في حادثة كربلاء
أكثر أيام حياتها مرارة،
هذه الأيام التي قيل في
وصفها "لا يوم كيومك
يا أبا عبد الله".
عندما كانت زينب عليها
السلام تشاهد عطش النساء
والأطفال وشهادة الأبناء
والإخوة وأبناء الإخوة،
وعندما تهيَّأ أخوها
للنزول إلى ساحة المعركة،
عند ذلك كأن العالم كله
قد سقط على رأس زينب،
وعندما عاد الحصان من دون
فارسه، أصبحت زينب أكثر
نساء العالم تعرضاً
للمصائب.
وإذا كان فقد الأحبة يعذب
قلب زينب عليها السلام
إلا أنها بدأت مشواراً
جديداً ومؤلماً مع قافلة
الأسرى التي انطلقت من
كربلاء إلى الكوفة ومن
الكوفة إلى الشام عدا عن
مرض الإمام السجاد عليه
السلام. وقد ترافق هذا
السفر مع أحداث مؤلمة
وقاسية من جملتها: حمل
الرؤوس المقطوعة على
الرماح، ضجيج الأطفال
اليتامى من شدة الألم
والتعب، مرض الإمام
السجاد عليه السلام الذي
كان يتحرك مع القافلة
بصعوبة، هتك حرمة حرم
رسول الله، فرح أهل
الكوفة... والمئات من
الفجائع والمصائب الأخرى،
هذه المصائب التي تكفي
الواحدة منها للقضاء على
الإنسان، أما زينب عليها
السلام فقد بقيت مع كل
تلك المصائب كالجبل
الراسخ، تخطب خطباً تزلزل
أركان الظلم والظالمين
وتبين حقائق ثورة الإمام
الحسين.
إن شدة بلاء زينب عليها
السلام لا تترُكُ أيَّ
مجال للشكّ في مقامها
وعظمتها، ألم يتحدث أبوها
عليّ عليه السلام من قبل
قائلاً: "إن أشدّ
الناس بلاءً النبيون ثم
الوصيون ثم الأمثل
فالأمثل"25.
|