تعتبر العائلة من وجهة نظر الإسلام
أهم وأول حاضنة لتربية الأبناء وتهذيب أخلاقهم، ففيها يتلقى الأبناء دروس الفضيلة
والمودة والخُلُق الحسن ويتعلمون الاجتناب عن الكذب والخيانة وفعل السوء، وعلى
الرغم مما يتركه المجتمع على مسيرة الإنسان من أثرٍ من خلال الأصحاب وزملاء العمل
إلا أن تأثير الأسرة يبقى أكبر وأكثر حساسية وأهمية.
إن مسؤولية العائلة من الأهمية بحيث إننا نقرأ في كتاب الله كيف يعلمنا أن ندعوه
لتحقيق ذلك في الوسط الخاص بالمؤمنين. قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ
أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾1.
ومن البديهي أن ليس المراد من الآية أن نجلس في الزوايا وندعو الله بذلك وإنما
علاقة أهل الإيمان بالله وارتباطهم به كاشفٌ عن شوقهم ورغبتهم الروحية في تربية
أبنائهم صالحةً، وإشارة إلى جهدهم واهتمامهم بذلك.
فعلى الناس أن تبذل قصارى جهدها في منح أبنائهم وزوجاتهم الرشد الفكري والإيماني
والأخلاقي والمعرفي ويفيضون عليهم من ينابيع المودة والعطف والرحمة ما استطاعوا ثم
يسألون الله تعالى أن يشملهم برأفته ورحمته ويُحسّن أحوالهم.
وفي آية أخرى يقول الله تعالى محذراً أهل الإيمان:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾2.
جاء في إحدى الروايات أنه عند نزول هذه الآية فإن أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم سألوه: كيف نقي عائلاتنا نار جهنم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
"تأمرهم بما أمر الله وتنهاهم عما نهاهم الله، إن أطاعوك كنت قد وقيتهم وإن عصوك
كنت قد قضيت ما عليك"3.
وفي حديثٍ آخر ينصح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين قائلاً: "ألا
كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راعٍ عن أهل بيته وهو مسؤول عنهم، فالمرأة
راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم"4.
ونقرأ في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام أن أفضل ميراث يورّثه الأهل لأبنائهم هو
الأدب والتربية الصالحة، فقد ورد عنه: "إن خير ما ورث الآباء لأبنائهم الأدب"5.
وورد في حديثٍ آخر: "علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم"6.
ومما ورد عن لسان إمامنا السجّاد عليه السلام في خصوص هذه المسألة الحساسة أنه كان
يقف على عتبة المولى تعالى ويطلب الاستعانة من القادر المتعالي فيقول: "وأعني
على تربيتهم وتأديبهم وبرهم"7.
مما تقدم يتضح أن الوالدين يشكلان مثلاً أعلى وقدوة مناسبة في تربية أبنائهم،
وعليهم أن يرسموا لأبنائهم صورة النموذج الصالح والمناسب والواعي
وتقديمها لهم
للاقتداء بها، فعن مولانا الباقر عليه السلام: "يحفظ الأطفال بصلاح آبائهم"8.
وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله ليفلح بفلاح الرجل المؤمن
ولده وولد ولده"9.
وعليه فإن اللبنة الأولى في التربية هي تزكية الوالدين أنفسهم، فالذي لا يتمتع
بالفضائل الأخلاقية ولا يراعى السلوك القويم لا يستطيع أن يهدي الآخرين إلى أرض
الطهارة والصفاء.
وتشكل مسؤولية اختيار الزوجة الأرضية التربوية والفكرية الأولى للأبناء من وجهة نظر
الإسلام، لأن مسؤولية التربية والوعي والعاطفة تقع على عاتقها، ومن هنا فإن
الروايات نهت المسلمين عن الزواج من النساء المحرومات من الوعي والتربية الصالحة
الكافية، وشددت الروايات على ضرورة اختيار الرجل المكان المناسب لنطفته؛ لأنّ هناك
جملة من الخصال ستنتقل حتماً بالوراثة إلى الأبناء.
ومن نماذج هذه الآيات والروايات في هذا الموضوع يقول الله تعالى:
﴿وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ
إِلاَّ نَكِدًا﴾10.
وفي أحد الأيام قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً بين الناس وقال:
"إياكم وخضراء الدمن، قيل يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في
منبت السوء"11.
وروى الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إياكم
وتزوج الحمقاء فإن صحبتها بلاء وولدها ضياع"12.
ومما لا شك فيه أن مراعاة هذا الأصل المهم له انعكاساته المهمة على كل من الرجل
والمرأة في الحياة الزوجية في جهات مختلفة، ويساهم في تقوية أواصر الأسرة ويخلق
فضاءً مساعداً لتربية الإنسان على الفضائل والتوفيق والوعي وعزة النفس وسواها.
فتربية الأبناء لها أصولها وقواعدها والتي بمراعاتها يمكنك أن تصل سريعاً إلى
الأهداف التي تتوخاها، وبناء عليه فإن الوالدين يستطيعان التغلب على المشاكل التي
تعترضهما، وأما مع عدم مراعاتها فإنه لا يمكن تحقيق أي من الأهداف المرسومة، بل على
العكس، فإن جملة من الاختلالات السلوكية والخسارات التي لا يمكن تعويضها أو جبرانها
ستحلّ بالأطفال.
فهناك مسؤولية ملقاة على الأهل تجاه أبنائهم وعليهم أن يسعوا جهدهم لاختيار السبيل
المناسب والكفيل بتقديم ابنٍ صالحٍ وسليمٍ للمجتمع.
وعلى الوالدين أن يتفاهما معاً على اختيار أفضل طريق في تربية الأبناء، وعليهما أن
يحترما وجهات نظر بعضهما البعض، وأن يجتنبا الجدال واللجاجة والاستئثار، وأن يجعلا
تفكيرهما في مستقبل أبنائهما والمسؤوليات الملقاة عليهم غداً، وذلك أنّ الجدال
واللجاجة بلا أي طائل من شأنهما أن يسلبا الأبناء الإحساس بالأمن، كما أنه إذا أحس
الأبناء أنّ الوالدين متضامنان معاً في تربيتهما فإنّ ذلك من شأنه أن يوصل هذه
العائلة إلى ساحل الأمن والسعادة.
مراحل التربية
من الضروري في موضوع تربية الأطفال الالتفات إلى المراحل العمرية التي يمرون بها ،
ففي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُقسّم فيها مراحل تربية الطفل إلى
ثلاثة أقسام تقع كل واحدة منها في سبع سنوات فيقول صلى الله عليه وآله وسلم:
"الولد سيدٌ سبعاً وعبدٌ سبعاً ووزيرٌ سبعَ سنين"13.
وفي تكملة هذا الحديث يؤكد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه يجب تهيئة
الطفل لتحمل أعباء وتكاليف الحياة الصعبة.
يقول الإمام علي عليه السلام: "ولدك ريحانتك سبعاً وخادمك سبعاً ثم هو عدوك أو
صديقك"14.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "الغلام يلعب سبع سنين ويتعلم الكتاب سبع سنين
ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين"15.
أولاً: مرحلة السيادة
عندما يبصر أي طفل من الأطفال النور فإنّ والديه يحمدان الله ويشكرانه، ويعتبران
كما يعلّمنا الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا المولود
رحمة إن كان بنتاً، ونعمة إن كان صبياً، ثم يقومان بالأذان في أذنه اليمنى
وبالإقامة في أذنه اليسرى حتى يحفظاه من شرّ الشيطان.
أ- الاسم الجميل: من حق الطفل على والديه أن يختارا له إسماً جميلاً، لأنّ رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن
أدبه"16.
وفي رواية رواها أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه عن جده أمير
المؤمنين عليه السلام يقول عليه السلام: "سموا أولادكم قبل أن يولدوا فإن لم
تدروا ذكر أم أنثى فسموهم بالأسماء التي تكون للذكر والأنثى، فإنهم أسقاطكم إذا
لقوكم في القيامة ولم تسموهم، يقول السقط لأبيه ألا سميتني وقد سمّى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم محسناً قبل أن يولد"17.
فالأسم هو الوجود الثاني للشخص، والإنسان يُعرّف في المجالس والمحافل العامة باسمه،
فمن الضروري أن يراعي الوالدون معايير الشرع المقدس والبصيرة والحكمة والعرف العام
في المجتمع ويختاروا اسماً جميلاً لأبنائهم.
فعن الإمام الباقر عليه السلام: "أصدق الأسماء واسمي بالعبودية وأفضلها أسماء
الأنبياء"18.
وبناءً عليه فإن الوظيفة الأولى للوالدين التي يجب عليهما القيام بها بدقة عالية هي
انتخاب اسمٍ مناسب لولدهما.
ب- حليب الأم
يساهم حليب الأم في وعي الطفل ويحفظه من الأمراض ويؤمن له الاستقرار النفسي، ويعتبر
حليب الأم أفضل الأغذية وأكثر سلامة وغنى للطفل، ولذلك اعتبره الإسلام الغذاء الأول
للطفل وحقه الطبيعي، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس للصبي لبن خير
من لبن أمه"19.
ج- اللعب
في السنة الرابعة من عمر الطفل يدخل مرحلة جديدة من حياته، ففي هذه الفترة الزمنية
تتضح له الكثير من المفاهيم ويتقمص فيها البعد النفسي له، ولذلك فعلى الوالدين
العناية به أكثر فأكثر في هذه المرحلة، ويعتبر اللعب أفضل ما ينشغل به الطفل من سن
الثالثة حتى السابعة وفي ذلك أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "دع
ابنك يلعب سبع سنين"20.
ويؤيد علماء التعليم والتربية هذه الوصية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بأنّ الألعاب، فضلاً عن أن الحركات تعطي البدن شكله عند الأطفال، فإنها تساهم في
توازن
حواسه واعتدال تمايلاته، كما أنها تمنع الكثير من السلوك السيِّئ والعنيف.
يساهم اللعب عند الأطفال في تنمية جهات متعددة كالابتكار والقدرات الذهنية والعقل
الخلّاق ويهيِّئ الطفل لحياة أكثر سعادة، كما أن القيم والمبادئ التي نادى بها
الإسلام كنصرة الآخر والاتحاد والجماعة والمعاملة الحسنة وغيرها يمكن للأولاد أن
يتعلموها أثناء فترة اللعب بشكل أفضل ويُدركوها بشكل أحسن.
نقاط لا بدّ من الالتفات إليها:
في فترة السيادة عند الأطفال أشار الأئمة الأطهار إلى جملة من المحاور التي يجب
الالتفات إليها:
أ - تمتع الأطفال بمزايا التعليم والتربية وتوجيههم نحو القيم السامية والأمور التي
تنسجم مع فطرة التوحيد ومعرفة الله، فعن علي عليه السلام: "إنما قلب الحدث
كالأرض الخالية كل ما ألقي فيها من شيء قبلته"21.
ب - في هذه المرحلة الزمنية يجب على الأطفال التعرف على الموازين الشرعية والمسائل
العقائدية والفرائض الإلهية.
ويؤكد أمير المؤمنين أنّ الطفل إذا أدرك السنوات الخمس وصار يميز بين يمينه ويساره
فعلّمه أن يتجه إلى القبلة ويسجد، وفي سنّ السادسة علمه الركوع والسجود، وفي سنّ
السابعة علمه كيف يغسل يديه ويصلي وفي سن التاسعة علمه الوضوء والصلاة بشكل كامل.
وعنه عليه السلام: "حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه ويعلمه القرآن"22.
فعلى الأهل أن يسلموا بهذا الواقع وهو أن الولد في هذه المرحلة من عمره تتكون
شخصيته وأن أي سلوك يتعلمه يبقى أثره غالباً في المراحل العمرية التالية
من عمره
ويختار طريقة تحت تأثير المبادئ والتعاليم التي تلقاها على يدي أبويه، فإذا حصل أي
خلل أو نقص أو سوء تعليم في هذه المرحلة فمن الطبيعي أن تكون مسيرة حياته بعيدة عن
الفضيلة والحق والصواب. وعلى الأبوين في هذه المرحلة أن يتعاملا مع الولد على أنه
موجود ذو قيمة عالية داخل الأسرة وأن يبتعدا عن مخالفته وأن لا يجعلا نصب أعينهما
تغذية بدنه فقط بل يساعداه على شق طريقه في الحياة ويرشدانه إلى الطريق الصحيح.
مع الأسف فإنّ بعض كبار السنّ يتعاملون مع الأطفال بجدية زائدة وبشيء من القسوة
ويحمّلونهم بعض التكاليف محدودة الصعوبة ويضعون لهم القوانين ويصدرون الأوامر
ويكثرون من تنبيههم وتحذيرهم ويهددونهم بالعقوبات علماً أن هذا النوع من المراقبة
والمحاسبة له أثره السلبي على أذهان الأطفال وحالتهم النفسية، وبناءً عليه وحتى لا
يُصاب الأطفال بمشكلات أخلاقية وسلوكية ، فعلى الوالدين الابتعاد عن الطريق الصعبة
والعنيفة والمراقبة الدقيقة والارتقاء إلى سلوك السبيل الذي من شأنه إيجاد شخصية
سليمة وعالمة لها ثقتها بنفسها وتجنح نحو الخير.
عين المحبة والعطف
في السنين السبع الأولى يعفى الطفل من التعليم الجدّي وتكون له حرية التعرف بشكل
أكبر ولا يجب تكليفه بالأعباء الثقيلة، وقالوا في هذا المجال: "إن الطفل في هذه
المرحلة من عمره ليس مكلف"، فالطفل على صغر سنه هو موجود له قيمته العالية ويجب
أن يكون عزيزاً ومحبوباً في أسرته، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال إرضاء عواطف الطفل
ما لم يكن محيط العائلة مفعماً بالمحبة والود والأمن، فالمحبة إحدى أهم نقاط النفوذ
إلى الأطفال، ومن خلالها يستطيع الأبوان أن يجعلا ابنهما تحت نظرهما ويحافظا على
مساره وفق الأصول والتعاليم
التي تضمن له شخصية حكيمة وواعية، وأن يبقى بعيداً عن
السقوط في مهاوي الفساد والرذيلة.
إن لإبراز المحبة أثراً كبيراً في موضوع التربية السليمة حتى ورد عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: "نظر الوالد إلى ولده حباً له عبادة"23.
وفي حديث آخر عن رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثروا من قبلة أولادكم
فإن لكم بكل قبلة درجة في الجنة مسيرة خمسمائة عام"24.
إن إظهار المحبة واللطف للأطفال بمنزلة الغذاء الروحي لهم، والتي يحتاجها الأطفال
بشكل مستمر، ويجب أن تكون هذه المحبة بشكل صريح وعلني بحيث لا توجد أي شك أو تردد
عند الأطفال، كما لا يجب التميز بين الأبناء في إظهار المحبة لأن ذلك من شأنه أن
يوجد بعض الانحرافات والإحساس بالحقارة عند الآخرين، وأن أيّ شخص لا يرتوي من لطف
ومحبة وحرارة العائلة فإنه من الطبيعي أن يفتش عنها خارج العائلة، وينجذب للكلام
المعسول والكاذب والتملق الذي يجده في الخارج، وبالتالي فإن استمرار الوضع على هذا
المنوال من شأنه أن يوصل الأطفال إلى المصائب والأزمات والأماكن التي لا تحمد
عقباها.
فالأطفال الذين يعانون من المشاكل هم غالباً من الذين فقدوا المحبة والعطف في محيط
عائلاتهم ولا يشملهم شعاع اللطف والحنان، فهؤلاء يسعون ليثبتوا وجودهم بشكل آخر
ويستبدلوا محيط العائلة بمحيطٍ ينشدون فيه محبة الآخرين، هؤلاء الأطفال المحرومون
من اللطف والمحبة هم ضحايا جهل العائلة وعدم محبتها ، وهم بأمس الحاجة إلى لفت نظر
الآخرين إليهم والشعور بالثقة والتي بها يرضون أنفسهم من خلال سلوك بعض الطرق
الملتوية التي سرعان ما تسبب لهم الكثير من المشاكل الاجتماعية.
من الطبيعي أن دور الحضانة والحليب المتوفر للعموم لا يمكن أن تحلَّ مكان ابتسامة
الوالدين الصادقة ولا تراعي مصلحة الطفل الخاصة، يقول الدكتور الكسيس كارل: إن
الأمهات اللواتي ينقطعن عن أطفالهن وهم ما زالوا في مهد الطفولة لينشغلن بأعمال
إدارية وفنية وغير ذلك هؤلاء الأمهات هنَّ السبب المباشر في إطفاء شعلة المحبة في
العائلة، وسرعان ما يقترب الأطفال من قضايا كثيرة أخرى يتلمسون بها شعاع المحبة
واللطف.
إن الرشد العاطفي هو ذلك المرتكز الذي يملك أهمية خاصة على كيفية الحالات الخصائص
العاطفية وله أثره الكبير في الرشد الجسمي والرشد الذهني والاجتماعي، فالأطفال
الذين يتمتعون بالمحبة والعطف في عائلاتهم وتُشبع حاجاتهم الفطرية بشكل مناسب تراهم
دائماً في حالةٍ من السرور والابتسامة والطاقة النفسية اللافتة ويقومون بأعمالهم
بكل هدوء وسكينة، وتظهر استعداداتهم التي بالقوة في ميادين الحياة المختلفة، وبشكل
عامّ فإن الخصائص العاطفية السامية للأطفال الصغار لها تأثيرها الواقعي في بناء
حالة الوعي وتشكل شخصيته وطباعه، فعند تأمين الحاجات العاطفية للأطفال بالشكل
المطلوب فإنه يعزز عنده ثقته بنفسه وإحساسه بقيمته وينظر إلى الحياة بطريقة ايجابية
وينهض في مواجهة تحديات الحياة بشكل قوي ويسعى في قضاء حاجاته بالشكل المناسب.
ويقع اللعب مع الطفل في مقدمة الغذاء العاطفي وقد أكّدت التعاليم الإسلامية على ذلك
، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان له ولد صبي صب"
فإن اللعب مع الولد فضلاً عن كونه يغرقه باللذة والسرور فإنه يعطيه المزيد من
العاطفة والحميمية ويقوّي لديه الإحساس بالقيمة والاعتماد على النفس.
مرحلة الإطاعة
في السنة السابعة من عمر الطفل تبدأ بالظهور جملة من التغييرات على المستوى البدني
والنفسي، فعلى المستوى الذهني يصل الطفل إلى مستوى من الرشد يستطيع من خلاله أن
يميز الصح من الخطأ والجميل من القبيح.
يؤكد علماء النفس - وبالدليل الحسي - أن الأطفال من سنّ السابعة حتى الرابعة عشرة
يعيشون حالة من العجز الجسدي والروحي بمعنى أنهم يرون أنفسهم أكثر طاعة لمن هم أكبر
منهم ويتبعون تعاليم الوالدين، وتراهم ينقادون بكل تسليم على المستوى السلوكي لهم،
بل ويشعرون بحالة من اللذة عند إظهار التبعية والانقياد، وعلى أساس هذه الوقائع
التي رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأطفال التي تتراوح أعمارهم بين
السابعة والرابعة عشرة اعتبر أن هذه المرحلة العمرية هي مرحلة الطاعة والاقتداء،
كما يبدأ في هذه المرحلة التعليم والتربية بشكل جدّي لذلك فإن الأطفال يدركون هذه
الطاعة وهم في الصفوف الأولى من المدرسة.
ولما كانت هذه المرحلة العمرية يظهر فيها الرشد الذهني وازدياد قدرة الحفظ وتفتح
الاستعدادات والميل نحو الحياة الاجتماعية والشوق لاكتشاف المجهولات وبعض الحالات
الأخرى، فإنّ هذه المرحلة تعتبر المرحلة الفُضْلَى لتلقي الفضائل وتعلُّم المبادئ
الأخلاقية والصفات الحميدة، وفي هذه المرحلة العمرية يميل الطفل نحو التربية بشكل
أفضل. وبناءً عليه يجب الاهتمام الزائد بالأولاد من أجل إعطائهم أكبر قدر من
الاستقامة والثبات والسكينة، وفي حال لم تتوفر التربية الأخلاقية والعاطفية
والفكرية في هذه المرحلة بشكل دقيق وبالصورة الصحيحة فسيؤدي ذلك إلى ظهور مشاكل
كثيرة في مرحلة الشباب لا يمكن علاجها أو التغلب عليها.
في هذا المقطع من عمر الأطفال فإن كلّاً من المدرسة والمنزل يجب أن يضع
خطة واضحة
وجيدة للتربية، ففي البيت يتلقى الطفل الروابط الفردية والعاطفية بشكل أكبر، بينما
يتلقى في المدرسة الأبعاد الاجتماعية والمنطقية، وعليه فإن كلّاً من المدرسة
والمنزل يساهمان في إيجاد الأرضية اللازمة لبناء الرشد عند الأطفال ويكمل كلٌّ
منهما عمل الآخر.
بالنسبة للتكلم والتحدث مع الأطفال ففي هذه المرحلة يجب أن يكون الطفل مستمعاً
جيداً ومن الضروري أن يكون متحملاً وصبوراً، ولا يجب توبيخ الأطفال وعقابهم لأن ذلك
يكسرهم من الناحية النفسية بل يجب تحفيزهم ودعمهم من أجل توفيقهم وجعلهم أكثر
سماعاً وحتى لا يُصاب اعتمادهم على أنفسهم بأي أزمة نفسية.
ومن الأخطاء التربوية المهمة التي تخدش شخصية الطفل وتسلبه الشعور بالقيمة والأمن
مقارنته بالأطفال الآخرين وتعييره بنجاح بعض الأطفال الذين هم من عمره وتوقع الأمور
غير الواقعية منه وعدم الالتفات إلى التفاوت الطبيعي بين الأشخاص، وكذلك فإن كان
الولد يتمتع بذهنية عالية واستعدادات كبيرة وقدرات ذهنية جيدة فلا يجب إظهار ذلك
أمام الطفل أو أمام الآخرين لأن ذلك من شأنه أن يضعف فعاليته وتُصاب فجأة بالركود
وشيئاً فشيئاً يُصاب بالغرور وينعكس ذلك على شخصيته بشكل سلبي.
مرحلة الوزارة:
كما أشرنا سابقاً فإنّ المرحلة العمرية الممتدة من سن الرابعة عشرة إلى سنّ الواحدة
والعشرين أسماها الأئمة الأطهار عليهم السلام باسم مرحلة الوزارة، والولد في هذه
المرحلة يصبح مستعداً لتحمل المسؤولية والقيام بالأعباء الثقيلة للأسرة، ويجب على
الوالدين هنا فتح مجال مشاركة هؤلاء الأبناء في المشاركة في شؤون المنزل لأن هؤلاء
الشباب من حقّهم أن يعطوا فرصة إظهار وجهات
نظرهم والتعبير عن أفكارهم وعدم نسيان
مشاورتهم وإظهار الوالدين الاحترام لعواطفهم وأحاسيسهم ومدح سلوكياتهم وحالاتهم
النفسية إلى حدٍ ما، وعندما يشعر الأبناء في هذه المرحلة بالرغبات والميول والحقوق
المقدسة لهم فعلى الأهل أن لا يستبدوا معهم في إدارة الأسرة ولا يلجأوا إلى الجدال
واللجاجة والخصومة معهم، فإن ذلك يساهم في تأمين الاستقلال الفكري لهم وإحساسهم
بالسعادة والسكينة أكثر فأكثر.
وعلى الوالدِين أن ينسجم سلوكهم مع كلامهم وهذا أصل مهم يؤكد عليه الإمام الصادق
عليه السلام بقوله: "كونوا دعاة الناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاة بألسنتكم"25،
وبذلك يعلم الوالدون أبناءهم أن يسلكوا سبيل الفضيلة والخصال الحميدة ، كما أن
التناقض بين القول والعمل يوقع الولد في حيرة واضطراب وخلل على المستوى التربوي.
فعلى الأبوَيْن أن يسعيا ليكونا قدوة ونموذجاً لأبنائهما على المستوى التربوي وأن
يتصفا بالصفات الجميلة ويروجا للخصال الحميدة والعادات الجيدة حتى ينعكس ذلك في
سلوك أبنائهما، وألا يكتفيا بالوعظ والتذكير، فالوالدان يجب أن يحرصا على مطابقة
قولهما لعملهما وأي أمر يريدان أن يعلّماه لإبنهما عليهما أن يتصفا به أولاً وأن أي
خلل في ذلك سيؤدي إلى نتائج معكوسة.
وعلى الوالدِين أن لا ينسوا أنه يجب عليهم تشخيص نوع الهداية التي ستكون من نصيب
الولد، وأن ينقلوا إليه كلَّ ما لديهم من خير، وهذا ما نقرأه في كلمات الأئمة
الأطهار عليهم السلام ويوصي به علماء التربية، أنه إذا أراد الأبوان أن يكون ابنهما ولداً
طاهراً وعفيفاً صالحاً فلا سبيل لذلك إلا سلوك الأبوين نفس هذا الطريق المستقيم.
وبشكل عام إن الوالدَيْن إنما يريدان مجرماً فاسداً فيما لو كان سلوكهما مع بعضهما
البعض ليس جيداً وسوف يقيم هذا الولد علاقة بالأولاد الفاسدين والعنيفين. ومن أولى
المسائل الفاسدة والمدمرة التي يلجأ إليها الولد هو شربه للمواد المخدرة، ويعتقد
العلماء والباحثون العلميون أنه في حال تعاطي الوالدين للمواد المخدرة فإنه ينتج من
ذلك حالة من البرودة داخل الأسرة وضعف الروابط العاطفية وتظهر بعض العوارض الناشئة
عن التعلم السيِّئ وتسود الحياة غير المرتبة وغير المنظمة ويشعر الأهل بالخجل
والندم كما وينجر الأبناء نحو ارتكاب الجريمة والفساد، فالأهل هم أفضل نموذج وقدوة
للأبناء ففي حال قابل الأهل السلوك الطبيعي والفطري للولد بشكل غير مناسب وقدموا له
الإجابات غير الملائمة والخائفة أو تعاطوا معه بخشونة وعاملوه بشكل سيِّئ ففي
الواقع سوف تتشكل وتظهر عند الأولاد الأرضية المناسبة للانحراف الروحي والعاطفي
والفكري، ولا يجب أن يغيب عن ذهن الأهل أنهم مسؤولون عن مستقبل أبنائهم وأن مسيرة
أبنائهم سواء كانت في المسيرة العلمية والمعنوية والاتصاف بالفضائل والصفات الحميدة
أم كانت خلف قضبان السجون والاتصاف بالجريمة والخيانة فإن كلّاً منهما إنما هي حاصل
ونتيجة تربية وجهد الأهل داخل الأسرة.