إنّ فريضة الحجّ معينٌ
غنيٌ بالأبعاد والآداب
المعنويّة والروحيّة،
وللإطلالة على هذه
الأبعاد المفضية إلى
أسرارها، نورد روايتين
تسلّطان الضوء عليها،
بادئين بروايةٍ عن الإمام
زين العابدين عليه السلام
المعروفة برواية الشبليّ،
وهي التالية:
نقل السيّد عبد الله سبط
المحدّث الجزائريّ في "شرح
النخبة": وجدت في عدّة
مواضع، أوثقها بخطّ بعض
المشايخ الذين عاصرناهم
مرسلاً، أنّه لمّا رجع
مولانا زين العابدين عليه
السلام من الحجّ استقبله
الشبليّ، فقال عليه
السلام له: حججت يا شبليّ؟
قال: نعم يا ابن رسول
الله، فقال عليه السلام:
أنزلت الميقات، وتجرّدت
عن مخيط الثياب، واغتسلت؟
قال: نعم، قال عليه
السلام: فحين نزلت
الميقات، نويت أنّك خلعت
ثوب المعصية، ولبست ثوب
الطاعة؟ قال: لا، قال:
فحين
تجرّدت عن مخيط ثيابك،
نويت
أنّك تجرّدت من الرياء
والنفاق والدخول في
الشبهات؟ قال: لا، قال:
فحين اغتسلت، نويت أنّك
اغتسلت من الخطايا
والذنوب؟
قال: لا، قال: فما نزلت
الميقات، ولا تجرّدت عن
مخيط الثياب، ولا اغتسلت!
ثمّ قال عليه السلام: "تنظّفت،
وأحرمت، وعقدت بالحجّ؟
قال: نعم، قال: فحين
تنظّفت، وأحرمت، وعقدت
الحج نويت أنّك تنظّفت
بنورة التوبة الخالصة لله
تعالى؟ قال:لا، قال: فحين
أحرمت، نويت أنّك حرّمت
على نفسك كلّ محرّم حرّمه
الله ـ عزّ وجلّ ـ؟ قال:
لا، قال: فحين عقدت الحجّ،
نويت أنّك قد حللت كلّ
عقد لغير الله؟ قال: لا،
قال له عليه السلام: ما
تنظّفت، ولا أحرمت، ولا
عقدت الحجّ!
قال له عليه السلام:
أَدَخَلْتَ الميقات،
وصلّيت ركعتي الإحرام،
ولبّيت؟ قال: نعم، قال:
فحين دخلت الميقات، نويت
أنّك بنيّة الزيارة؟ قال:
لا، قال: فحين صلّيت
الركعتين، نويت أنّك
تقرّبت إلى الله بخير
الأعمال من الصلاة، وأكبر
حسنات العباد؟ قال: لا،
قال: فحين لبّيت نويت
أنّك نطقت لله سبحانه بكلّ
طاعة وصمت عن كلّ معصية؟
قال: لا، قال له عليه
السلام: ما دخلت الميقات،
ولا صلّيت، ولا لبّيت!
ثمّ قال له عليه السلام:
أدخلت الحرم، ورأيت
الكعبة، وصلّيت؟ قال: نعم،
قال عليه السلام: فحين
دخلت الحرم نويت أنّك
حرّمت على
نفسك
كلّ غيبة تستغيبها
المسلمين من أهل ملّة
الإسلام؟ قال: لا، قال:
فحين وصلت مكّة، نويت
بقلبك أنّك قصدت الله؟
قال: لا، قال عليه السلام:
فما دخلت الحرم، ولا رأيت
الكعبة، ولا صلّيت!
ثمّ قال عليه السلام:
طِفْتَ بالبيت، ومسَسْتَ
الأركان، وسَعَيْتَ؟ قال:
نعم، قال: فحين سعيت،
نويت أنّك هربت إلى الله،
وعرف منك ذلك علاّم
الغيوب؟ قال: لا، قال
عليه السلام: فما طفت
بالبيت، ولا مسست الأركان،
ولا سعيت!
ثمّ قال له عليه السلام:
صافحت الحجر، ووقفت بمقام
إبراهيم عليه السلام،
وصلّيت به ركعتين؟ قال:
نعم، فصاح عليه السلام
صيحة كاد يفارق الدنيا،
ثمّ قال: آهٍ آهٍ، من
صافح الحجر الأسود فقد
صافح الله تعالى، فانظر
يا مسكين لا تضيِّع أجر
ما عَظَمَ حرّمته، وتنقض
المصافحة بالمخالفة،
وقَبْضُ الحرام نظيرُ أهل
الآثام.
ثمّ قال عليه السلام:
نويت حين وقفت عند مقام
إبراهيم عليه السلام،
أنّك وقفت على كلَّ طاعة،
وتخلّفت عن كلّ معصية؟
قال: لا، قال: فحين صلّيت
فيه ركعتين نويت أنّك
صلّيت بصلاة إبراهيم عليه
السلام وأرغمت بصلاتك أنف
الشيطان؟ قال: لا، قال له:
فما صافحت الحجر الأسود،
ولا وقفت عند المقام، ولا
صلّيت فيه ركعتين!
ثمّ قال عليه السلام له:
أَشْرَفْتَ على بئرِ زمزم،
وشرِبتَ من مائها؟ قال:
نعم، قال: نويت أنّك
أشرفت على الطاعة، وغضضت
طرفك عن المعصية؟ قال: لا،
قال عليه السلام: فما
أشرفت عليها، ولا شربت من
مائها! ثمّ قال عليه
السلام له: أسعيت بين
الصفا والمروة، ومشيت
وتردّدت بينهما؟ قال: نعم،
قال له: نويت أنّك بين
الرجاء والخوف؟ قال: لا،
قال: فما سعيت، ولا مشيت،
ولا تردّدت بين الصفا
والمروة! ثمّ قال:
أَخَرَجْتَ إلى مِنى؟ قال:
نعم، قال: نويت أنّك آمنت
النّاس من لسانك، وقلبك،
ويدك؟ قال: لا، قال: فما
خرجت إلى مِنى!
(ثمّ) قال له: أوقفت
الوقفة بِعَرَفة،
وَطَلْعت جبل الرّحمة،
وعرفت وادي نَمِرَة،
ودعوت الله سبحانه عند
المَيْلِ والجَمَرَات؟
قال: نعم. قال: هل عرفت
بموقفك بعرفة معرفة الله
سبحانه أمر المعارف
والعلوم، وعرفت قبض الله
على صحيفتك واطّلاعه على
سريرتك وقلبك؟ قال: لا،
قال عليه السلام: نويت
بطلوعك جبل الرحمة أنّ
الله يرحم كلّ مؤمن
ومؤمنة، ويتولّى كلّ مسلم
ومسلمة؟ قال: لا، قال:
فنويت عند نَمِرَة أنّك
لا تأمر حتى تأتمر، ولا
تزجر حتى تنزجِر؟ قال: لا،
قال: عندما وقفت عند
العلم والنمرات، نويت
أنّها شاهدة لك على
الطاعات، حافظة لك مع
الحفظة، بأمر ربّ
السماوات؟ قال: لا، قال:
فما وقفت بعرفة، ولا طلعت
جبل الرحمة، ولا عرفت
نمرة، ولا دعوت، ولا وقفت
عند النمرات!
ثمّ قال عليه السلام:
مررت بين العلمين، وصلّيت
قبل مرورك
ركعتين،
ومشيت بمزدلِفة، ولقطت
فيها الحصى، ومررت
بالمِشْعَرِ الحرام؟ قال:
نعم، قال: فحين صلّيت
ركعتين، نويت أنّها صلاة
شكر في ليلة عشر، تنفي كلّ
عسر وتيسِّر كلّ يسر؟ قال:
لا، قال: فعندما مشيت بين
العلَمين ولم تعدل عنهما
يميناً وشمالاً، نويت أن
لا تعدل عن دين الحقّ
يميناً وشمالاً، لا بقلبك،
ولا بلسانك، ولا
بِجَوارِحِك؟ قال: لا،
قال: فعندما مشيت
بمزدلِفة، ولقطت منها
الحصى، نويت أنّك رفعت
عنك كلّ معصية وجهل،
وثَبَتَّ كَلّ علم وعمل؟
قال: لا، قال: فعندما
مررت بالمشعر الحرام،
نويت أنّك أشعرت قلبك
إشعار أهل التقوى، والخوف
لله ـ عزّ وجلّ ـ؟ قال:
لا، قال: فما مررت
بالعلمين، ولا صلّيت
ركعتين، ولا مشيت
بالمزدلفة، ولا رفعت منها
الحصى، ولا مررت بالمشعر
الحرام!
ثمَّ قال عليه السلام له:
وصلت منى، ورميت الجمرة،
وحلقت رأسك، وذبحت هديك،
وصلّيت في مسجد الخيف،
ورجعت إلى مكّة، وطفت
طواف الإفاضَة؟ قال: نعم،
قال: فنويت عندما وصلت
مِنى، ورميت الجمار، أنّك
بلغت إلى مطلبك، وقد قضى
ربّك لك كلّ حاجتك؟ قال:
لا، قال: فعندما رميت
الجمار، نويت أنّك رميت
عدوّك إبليس، وغضبته
بتمام حجّك النفيس؟ قال:
لا، قال: فعندما حلقت
رأسك، نويت أنّك تطهّرت
من الأدناس ومن تبعة بني
آدم وخرجت من الذنوب،
كما ولدتك أمّك؟ قال: لا،
قال: فعندما صلّيت في
مسجد الخيف، نويت أنّك لا
تخاف إلّا الله ـ عزّ وجلّ
ـ وذنبك ولا ترجو إلّا
رحمة الله تعالى؟ قال: لا،
قال: فعندما ذبحت هديك
نويت أنّك ذبحت حنجرة
الطمع بما تمسّكت به من
حقيقة الورع، وأنّك اتبعت
سنّة إبراهيم عليه السلام
بذبح ولده، وثمرة فؤاده،
وريحان قلبه، وأحييت
سنّته، لمن بعده وقربه
إلى الله تعالى لمن خلفه؟
قال: لا، قال: فعندما
رجعت إلى مكّة، وطفت طواف
الإفاضة، نويت أنّك أفضت
من رحمة الله تعالى،
ورجعت إلى طاعته وتمسّكت
بودِّه، وأدَّيت فرائِضه،
وتقرَّبت إلى الله تعالى؟
قال: لا، قال له زين
العابدين عليه السلام:
فّما وصلت مِنى، ولا رميت
الجِمار، ولا حَلَقْتَ
رأسك، ولا أدَّيت نُسكَكَ،
ولا صلَّيت في مسجد الخيف،
ولا طفت طواف الإفاضة،
ولا تقرّبت، ارجع فإنّك
لم تحجّ!
فَطَفِقَ الشّبليّ يبكي
على ما فرّطه في حجّه،
وما زال يتعلّم حتّى حجّ
من قابل بمعرفة ويقين1.
والرواية الثانية، هي
المنسوبة للإمام جعفر بن
محمّد الصادق عليه السلام،
وهي التالية:
- إذا أردت الحجّ، فجرّد
قلبك لله تعالى من كلّ
شاغل، وحجاب كلّ حاجب،
وفوّض أمورك كلّها إلى
خالقك، وتوكّل عليه في
جميع ما يظهر من حركاتك
وسكناتك، وسلّم لقضائه
وحكمه وقدره، ودع الدنيا
والراحة والخلق، وأخرج من
حقوق تلزمك من جهة
المخلوقين، ولا تعتمد على
زادك وراحِلتِك، وأصحابك،
وقوّتك وشبابك ومالك،
مخافة أن يصيروا لك عدوّاً
ووَبالاً، فإنَّ من
ادَّعى رضا الله واعتمد
على شيء، صيّره عليه
عدوّاً ووَبالا، لِيعلم
أنَّه ليس له قوّة، ولا
حيلة، ولا لأحدٍ إلّا
بعِصمة الله وتوفيقه،
واستعدّ استعدادَ من لا
يرجو الرجوع، وأحسن
الصحبة، وراعِ أوقات
فرائض الله وسنن نبيّه
صلى الله عليه وآله وسلم،
وما يجب عليك من الأدب
والاحتمال، والصبر والشكر،
والشفقة والسخاء، وإيثار
الزاد على دوام الأوقات.
ثمّ اغسِل بماء التوبة
الخالصة ذنوبك، وأَلبس
كسوة الصدق والصفاء
والخضوع والخشوع،
وأَحْرِم من كلّ شيء
يمنعُك عن ذكر الله،
ويحجبُك عن طاعته، ولبِّ
بمعنى إجابةٍ صافية زاكية
لله ـ عزّ وجلّ ـ في
دعوتك له، متمسّكاً
بعروته الوثقى. وَطُفْ
بقلبك مع الملائكة حول
العرش، كطوافك مع
المسلمين بنفسك حول البيت.
وهرول هرولة من هواك
وتَبَرِّيَاً من جميع
حولك وقوّتك، فاخْرُج من
غفلتك وزلاّتك، بخروجك
إلى مِنى، ولا تتمنّ ما
لا يحلّ لك، ولا تستحقّه.
واعترف بالخطايا بعرفات،
وجدّد عهدك عند الله
بوحدانيّته. وتقرّب إلى
الله ذا ثقة بمزدلِفة،
واصعَد بروحك إلى الملأ
الأعلى بصعودك إلى الجبل.
واذبح حُنْجُرَتَيْ الهوى
والطمع عند الذبيحة.
وارمِ الشهوات والخساسة،
والدناءة والذميمة، عند
رَمْيِ الجمرات. واحلُقِ
العيوب الظاهرة والباطنة
بحلق رأسك. وادخل في أمان
الله وكنفه وسَتْرِه
وكَلاءَتِه، من متابعة
مُرادِكَ بدخولكِ الحرم،
وَزُرِ البيت متحقِّقاً،
لتعظيم صاحبه ومعرفة
جلاله وسلطانه، واستلِم
الحَجَرَ رِضىً
بِقِسْمَتِهِ وخضوعاً
لعزّته. وودِّع ما سواه
بطواف الوَداع. وصفِّ
روحك، وسرَّك للقاء الله
يوم تلقاه بوقوفك على
الصفا. وكن ذا مروّةٍ من
الله تَقِ أوصافك عند
المروة، واستقِم على شروط
حجّك هذا ووفاء عهدك،
الذي عاهدت به مع ربّك،
وأوجبته إلى يوم القيامة2.
|