تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿وَأَنفِقُوا
مِمَّا جَعَلَكُم
مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾1.
الهدف:
الاشارة في بعض القوانين
العامة التي أشار إليها
القرآن الكريم في نظام
العلاقات المالية.
المقدَّمة
بعث الله تعالى الأنبياء
عليه السلام ليقوم الناس
بالقسط، والقسط هو
العدالة الإجتماعية
والسياسية والإقتصاديّة,
لأنّ العدل هو حياة
الأحكام ودستور المجتمع
الصالح.
وقد اهتمّ الإسلام
بالمسائل المالية وتوجيه
وتعديل حركة المال في
أيدي الناس وفي الأسواق
اهتماماً بالغاً، فلقد
حرّم كلّ ألوان الظلم
والطغيان الإقتصادي ضمن
برنامج مالي شامل،
وصولاً إلى العدالة
الإقتصادية المرجوّة،
ورفضاً لأشكال التبعية
الإقتصادية، وعملاً بمبدأ
التكافل الإجتماعي، ولذلك
كانت مقولة القرآن
الكُبرى في هذا المجال،
هي:
﴿إِنَّ
اللّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ﴾2.
محاور الموضوع
1- المال أمانة الله عند
الناس:
قال تعالى:
﴿وَآتُوهُم
مِّن مَّالِ اللَّهِ
الَّذِي آتَاكُمْ﴾3.
لما كان الإنسان مالك
المال ملكيّة اعتبارية
ملكاً لله تعالى (إنّا
لله)، فإنّه وما يملك
لله، أي أنّ المالك
الحقيقيّ هو الله سبحانه،
وملكيّة الإنسان للأشياء
والأموال والأمتعة ملكية
مجازية توكيلية، بحسب ما
أعطاه الله له وجعله في
يده، وفي ضوء هذه النظرة
فإنّ الأموال وسائر
الثّروات ما هي إلا ودائع
وأمانات عند الإنسان،
ويُطلق عليها في بعض
الروايات بـ(العارية)،
أي أعارها الله للإنسان،
متى ما شاء استردّها.
يقول سبحانه:
﴿وَأَنفِقُوا
مِمَّا جَعَلَكُم
مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾4.
وبلحاظ الاستخلاف
والأمانة، تكون حصّة
المجتمع – فيما أشارَ
إليه القرآن من أنصبة
الزكاة وغيرها – مكفولة،
لأنّ كل إنسان في المجتمع
الصالح يستحضر قوله
تعالى:
﴿وَالَّذِينَ
فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
مَّعْلُومٌ
*
لِّلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ﴾5،
ويتفاعل معه، ويتذكّر
قوله سبحانه:
﴿لَن
تَنَالُواْ الْبِرَّ
حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا
تُحِبُّونَ﴾6،
ويتعاطى معه بإيجابيّة.
2- حماية المال من
السفهاء:
قال تعالى:
﴿وَلاَ
تُؤْتُواْ السُّفَهَاء
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي
جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ﴾7.
أيّ توظيف غير سليم للمال
هو سفاهة، فالمجتمع
مُطالَب بسلامة تداول
الأموال وعدم التفريط بها
في السّفاسف والتّرّهات
والأعمال غير المشروعة
والإسراف، لأنّ الثروة
المالية طاقة من طاقات
بناء المجتمع وتطويره،
وأيُّ هدرٍ لها تضييع
لفرص البناء والنماء،
ولذلك فالمال مسؤوليّة
ويجب أن يُحمى ممّن لا
شعور لديه بالمسؤولية.
يقول الإمام الصادق عليه
السلام: "إنّ من بقاء
المسلمين وبقاء الإسلام،
أن تصير الأموال عند مَن
يعرف فيها الحقّ ويصنع
المعروف، وأنّ فناء
الإسلام وفناء المسلمين
أن تصير الأموال في أيدي
مَن لا يعرف فيها الحق
ولا يصنع فيها المعروف"8!
3- الكسب المشروع:
قال تعالى:
﴿وَرِزْقًا
حَسَنًا﴾9.
وقال سبحانه:
﴿فَامْشُوا
فِي مَنَاكِبِهَا
وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾10.
جاء "الرِّزق الحسن"
في القرآن في مقابل
"الكسب غير المشروع"
أو المُحرّم، كصنع
المسكرات من التمر
والعنب. والرزق الحسن هو
كلُّ كسب حلال أراد الله
للإنسان أن ينتفع به
بيعاً وشراءً ومتاجرةً
واستيراداً وتصديراً، وهو
من حيث المساحة أوسع
نطاقاً - بما لا قياس معه
- من المكاسب المُحرّمة،
وفي كلمة "من رزقه"
في الآية من سورة الملك
دلالة أو إشارة إلى
الانتفاع بالرِّزق الحسن
الحلال المشروع، وإلّا ما
كان نسبه تعالى إلى نفسه،
فضلاً عمّا تندب إليه
الآية من التسبّب والكسب
وعدم الإتِّكال والتواكل.
سُئل النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: "أيّ كسب
الرجل أطيب؟ قال: عملُ
الرجل بيده، وكلُّ بيعٍ
مبرور"11.
4- المُحافظة على المال
العامّ:
قال تعالى:
﴿إِنَّ
اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن
تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا﴾12.
أموال الدولة أو ما
يُسمّى بالمال العامّ، هو
حقّ المواطنين، فلا يجوز
التجاوز عليه بأيّة حيلةٍ
أو أيّ عنوان، فلقد دخل
(عمرو بن العاص) ليلةً
على الإمام علي عليه
السلام وهو في بيت
المال، فطفئ السِّراج
وجلس في ضوء القمر، ولم
يستحلّ أن يجلس في الضوء
(ضوء السراج) من غير
استحقاق، خاصّة بعد أن
علمَ أنّ عمرو بن العاص
أتاهُ في موضوع لا يخصّ
بيت المال، ولذلك تجد بعض
الصالحين يدفع شيئاً من
المال لقاء استفادته من
المال العامّ كبراءة
ذمّة، بل يُقدِّم التعويض
لأيّ تلفٍ أو ضياعٍ كان
هو المُتسبِّب فيه.
5- الإقتصاد في المعيشة:
قال تعالى في صفة عباد
الرّحمن:
﴿وَالَّذِينَ
إِذَا أَنفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ
يَقْتُرُوا وَكَانَ
بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾13.
الإقتصاد في المعيشة يعني
التجمّل في حالي التقتير
والإسراف، وبمعنى آخر
فإنّ الإقتصاد لا يعني
البخل، وإنّما هو (حُسن
التدبير)، لأنّه الحسنة
بين السيِّئتين، وهو
ممدوح فردياً، وكما في
قوله تعالى:
﴿وَلاَ
تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ وَلاَ
تَبْسُطْهَا كُلَّ
الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ
مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾14.
كما هو ممدوح جماعيّاً
بحسب الإشارة الواردة في
الصفات الحميدة لعباد
الرحمن الذين يُمثِّلون
(المجتمع الصالح).
وقد ورد عن الإمام الصادق
عليه السلام مقولته
الإقتصادية المهمّة في
هذا الباب: "ضمنتُ لمن
اقتصد أن لا يفتقر"15.
وأُثِرَ عن الإمام عليّ
عليه السلام قوله:
"التدبير نصف العيش"16.
وفي المحصِّلة، فإنّ
الإقتصاد في المعيشة، أو
الحكمة في الإنفاق، أو
الإعتدال في الإستهلاك،
يُحقِّق للمجتمع مصلحة
عُليا في الإبتعاد عن
الإبتلاء بالفقر والحاجة،
وهذا ما يرسمه القرآن
الكريم لأيّ مجتمع صالح
من خلال ما فعلهُ يوسف
عليه السلام من توفير
وإدِّخار لوقت الحاجة.
قال عزَّ وجلَّ:
﴿قَالَ
تَزْرَعُونَ سَبْعَ
سِنِينَ دَأَبًا فَمَا
حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي
سُنبُلِهِ إِلاَّ
قَلِيلاً مِّمَّا
تَأْكُلُونَ﴾17.
ولقد شكا قوم للنبي صلى
الله عليه وآله وسلم سرعة
نفاد طعامهم، فقال:
"تكيلون أو تهيلون"؟
قالوا: نهيل يا رسول الله
(يعني الجزاف)، قال:
"كيلوا، فإنّه أعظم
للبركة"18!
6- مكافحة الإحتكار
وارتفاع الأسعار:
قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلاَ
يُنفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللّهِ
فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ﴾19.
فالمجتمع الصالح لا يعني
بالضرورة أنّ كلّ أفراده
صالحين، لكنّ النسبة
الغالبة فيه أو أكثريّته
هم ممّن يتمتع بصفة
الصلاح، وذلك فتوقع وجود
المحتكرين أو المستغلِّين
أو الغشّاشين أو المرابين
أو المتلاعبين بالأسعار
في مجتمعات الصلاح أمرٌ
وارد، ولذلك كان من بين
أهمّ واجبات ومهامّ
الحاكم الإسلامي مجابهة
الإحتكار والرّقابة
الدائمة على الأسعار.
يقول الإمام عليّ عليه
السلام في عهده لـ
(مالك
الأشتر):
"ثمّ استوصِ بالتجّار
وذوي الصناعات وأوصِ بهم
خيراً، واعلم مع ذلك أنّ
في كثيرٍ منهم ضيقاً
فاحشاً، وشحّاً قبيحاً،
واحتكاراً للمنافع،
وتحكّماً في البياعات،
وذلك باب مضرّة للعامّة،
وعيب على الولاة، فامنع
من الإحتكار، فإنّ رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم منع منه، وليكن
البيع بيعاً سمحاً،
بموازين عدل، وأسعار لا
تُجحف بالفريقين، من
البائع والمبتاع، فَمَن
قارفَ حُكرة بعد نهيك
إيّاه فنكِّل به،
وعاقِبهُ في غير إسراف"20.
7- القرض الحسن:
قال تعالى:
﴿مَن
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾21.
عالجَ المُشرِّع
الإقتصاديّ الإسلاميّ
مشكلة (الرِّبا) معالجةً
أخلاقيّة إنسانيّة بطرحه
لمفهوم (القرض الحسن) في
قبال القرض الضارّ
السيِّئ والمُسيء، وهو
الربا كونه إقراضاً
بفائدة، والحال أنّ القرض
الحسن بفائدة أيضاً،
ولكنّها ليست من
المُستقرِض أو المُستدين،
بل من الله تعالى الذي
جعل الحسنة بعشرة أمثالها
والقرض الحسن بثمانية
عشر. ولقد طابت نفوس
المسلمين كمجتمع صالح
لهذا الإجراء الماليّ أو
الإقتصاديّ الذي نزع فتيل
الأحقاد، وجفّف ينابيع
الأثرة والتكاثر وامتصاص
عرق الفقراء واستنزاف
أموالهم. قال عزَّ وجلَّ:
﴿إِن
تُقْرِضُوا اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا
يُضَاعِفْهُ لَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ﴾22.
8- تفتيت التّركة:
لا يريد الإسلام تجميد
المال أو تخثيره، بل يسعى
إلى تسييله وتدويره حتى
تنشط حركته في واقع
المجتمع الصالح ويعمّ
نفعه الصالح العامَّ،
ولذلك عمد إلى تفتيت تركة
الميِّت أو ميراثه بين
أهله وأقربائه من منطلق
الفريضة الواجبة بما
حدّده المُشرِّع
الإسلاميُّ من حصص وأسهم
وأنصبة في الأقربين من
أهله، فإن لم يكن له والد
ولا ولد، وُزِّعت تركته
في أقربائه البعيدين،
وندبَ إلى إشراك أقرباء
الميِّت من الفقراء
واليتامى والمساكين ممّن
يحضرون قسمة التّركة
ليعطوا شيئاً منها
تطييباً لخاطرهم، كلّ ذلك
من أجل الشعور بامتداد
العلاقة الإنسانية بين
الراحل وبين أولئك الناس،
قال سبحانه:
﴿لِّلرِّجَالِ
نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ
وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ
مِّمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا
قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
نَصِيبًا مَّفْرُوضًا
*
وَإِذَا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ
فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ
وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً
مَّعْرُوفًا *وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ
مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافًا
خَافُواْ عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللّهَ
وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً
سَدِيدًا
*
إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْمًا
إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ نَارًا
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾23.
|