تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿قَدْ
أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا
*
وَقَدْ خَابَ مَن
دَسَّاهَا﴾1.
الهدف:
بيان أنّ المعركة
الحقيقيّة للإنسان هي مع
نفسه التي بين جنبيه،
والتعريف بخصائص هذه
المعركة وسبل مواجهتها.
المقدَّمة
أَقَسَم الله تعالى في
القرآن الكريم بأحد عشر
قَسَماً ليؤكّد بعدها أنّ
الفلاح مصير من زكّى
نفسه، وأنّ الخيبة
والخسران مصير من تركها
فريسة الهوى والشهوات،
وأنّ أكبر وأصعب امتحان
كتبه الله تعالى على
الإنسان في هذه الحياة هو
ابتلاء الإنسان بنفسه،
وعلى أساس نجاح الإنسان
وتفوّقه في هذا الامتحان
يكون موقعه عند الله،
ومستقبله الدنيويّ
والأخرويّ.. من هنا كانت
المعركة مع النفس أشقّ
وأخطر معركة يخوضها
الإنسان في حياته.
محاور الموضوع
خصائص جهاد النفس
1- أنّها معركة حتميّة:
ولم يتمّ التأكيد في
القرآن الكريم على جديّة
أمر والقَسَم عليه كما
كان ذلك في معركة جهاد
النفس في وجه إبليس
وجنوده، قال تعالى:
﴿قَالَ
فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ*
إِلَّا عِبَادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
*
قَالَ
فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ
أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن
تَبِعَكَ مِنْهُمْ
أَجْمَعِينَ
﴾2،
فهذه المعركة هي الساحة
الأساسيّة التي يجب
الإنتصار فيها، وما
انتصارات الإنسان خارج
هذه الساحة إلّا صدًى
ومرآة لانتصاراته في ساحة
الجهاد الأكبر.
2- أنّها معركة دائمة
ومستمرّة: على طول عمر
الإنسان، من بداية
التكليف إلى ساعة الموت
والرحيل، وعليه فهي معركة
تستوجب الجهوزيّة الدائمة
والإستعداد المتواصل لكلّ
التفاصيل التي يحاول
الشيطان إسقاط الإنسان
فيها.
وعن الإمام عليّ عليه
السلام في بيان
استمراريّة هذه المعركة:
"كفاك في مجاهدة نفسك
أن لا تزال أبداً لها
مغالباً وعلى أهويتها
محارباً"3.
وفي حديث المعراج في صفة
أهل الخير وأهل الآخرة:
"يموت الناس مرّةً،
ويموت أحدهم في كلّ يوم
سبعين مرّة من مجاهدة
أنفسهم ومخالفة هواهم
والشيطان الذي يجري في
عروقهم"4.
وعليه فالإمساك بلجام
النفس ولجمها عن الجموح
نحو الهوى ملازم لدوام
جهادها، فعن الإمام عليّ
عليه السلام: "املكوا
أنفسكم بدوام جهادها"5.
3- أنّها معركة شاملة: أي
أنّها تطال كافّة جوانب
حياة الإنسان، ومختلف
شؤونه، وتدخل في كافّة
التفاصيل والجزئيّات
فضلاً عن الأمور الكبيرة
والخطيرة، وتمتدّ إلى
فكره وثقافته ووعيه،
ومشاعره وأحاسيسه
وأفراحه، وما يحبّ ويكره،
وما يفعل وما لا يفعل،
وما يقوله وما يصمت عنه،
وما يرغب فيه وما ينفر
منه، ولعلّ هذا ما عناه
أمير المؤمنين عليه
السلام بقوله: "أفضل
الجهاد جهاد النفس عن
الهوى، وفطامها عن لذّات
الدنيا"6.
فالهوى بأيّ شكلٍ من
أشكاله التي لا تنتهي،
ولذائذ الدنيا التي لا
ينفكّ الشيطان يزيّنها
لابن آدم بما يجمّلها في
عينه، وشهوات الحياة التي
تحيط بالإنسان على مدار
الساعة والوقت، والأفكار
الباطلة إن على مستوى
العقيدة أو الأخلاق
أو
سواهما، التي لا تهدأ
ماكينة إبليس عن تصنيعها
وإلقائها للإنسان, كلّ
ذلك يجعل من هذا التحدّي
هو التحدّي الأكبر وجهاده
أفضل الجهاد.
ولمّا كانت معركة الجهاد
الأكبر معركة مفتوحة، كان
توقّع الهزيمة في بعض
محاورها أمراً حتميّاً
إلّا من عَصَمَه الله
وعَصَمَ نفسه، لذلك كان
لا بدّ من التوسل بالله
تعالى أن يعينه على إكمال
المواجهة وعدم اليأس منها
أو الركون إلى أهوائها،
فعن الإمام الباقر عليه
السلام: "إنّ المؤمن
معنيٌّ بمجاهدة نفسه
ليغلبها على هواها، فمرّة
يقيم أودها ويخالف هواها
في محبّة الله، ومرّة
تصرعه نفسه فيتبع هواها
فينعشه الله فينتعش ويقيل
الله عثرته فيتذكّر"7.
4- أنّها معركة داخليّة:
والخوف كلّ الخوف من
كونها داخليّة أنّ
الإنسان قد لا يشعر
بعدوانيّة نفسه فلا
يتعامل معها كعدوّ، بل قد
يشعر أحياناً بضرورة
مسايرتها والتخفيف عنها
وما شابه، فيسقط في
حبائلها وشراكها، مع
أنّها هي العدوّ
وقد أوضح
أمير المؤمنين عليه
السلام ذلك بأنّ الإنسان
يستنكر هذا الأمر بقوله:
عليه السلام: "أوّل ما
تنكرون من الجهاد جهاد
أنفسكم، آخر ما تفقدون
مجاهدة أهوائكم وطاعة
أُولي الأمر منكم"8.
وإليه أشار رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم:
"أفضل الجهاد من جاهد
نفسه التي بين جنبيه"9.
ويلحق بكونها داخليّة أنّ
العدوّ يمكن أن تختبىء
عنه وتستتر منه، فلا تراه
ولا يراك، أمّا في جهادك
الأكبر فإنّك كلّما نأيت
بنفسك وحاولت الإختباء
كان العدوّ أقرب إليك،
وكانت ضرباته أكثر
إحكاماً وإصابةً لأنّك -
كما هو بديهيّ
-
لا تستطيع أن
تفارق نفسك طرفة عين.
5- معركة مفتوحة على
الجميع: فهي مواجهة لا
يُستثنى منها أحد على
الإطلاق حتّى الأنبياء
والأوصياء والأولياء، بل
على العكس تماماً، فكلّما
ازداد إيمان المرء وتقواه
كلّما كانت المعركة عليه
أشدّ وأقسى، وكلّما كانت
التحدّيات
والابتلاءات
أكبر، وفي الواقع فإنّ
هذه المعركة هي التي قدّم
لنا الأنبياء والأولياء
أجمل الملاحم والبطولات
فيها، فكانوا أشجع الناس
وفقاً لقول أمير المؤمنين
عليه السلام: "أشجع
الناس من غلب هواه"10.
وكما لا يُستثنى منها
أحد، فكذلك لا يُستثنى
منها زمان أو مكان، فلا
يأتي على البشريّة زمان
ينجو أهله من هذا الجهاد
وهذه المواجهة، كما لا
يوجد مكان يمكن للمرء أن
يهرب إليه وينأى بنفسه عن
هذه المعركة، وليس هناك
من تلوذ به فيكفيك أمر
هذه المواجهة إلّا أن
تلوذ بالله تعالى وتستعين
به، لأنّها واقعاً أكبر
الجهاد كما عبّرت الرواية
المشهورة عن الإمام
الصادق عليه السلام:
"إنّ النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم بعث
بسريّة فلمّا رجعوا قال:
مرحباً بقوم قضوا الجهاد
الأصغر وبقي الجهاد
الأكبر، قيل: يا رسول
الله: وما الجهاد الأكبر؟
قال: جهاد النفس"11.
سبل جهاد النفس
الاجتهاد في طاعة الله:
فعن الإمام الصادق عليه
السلام: "أعطوا الله
من أنفسكم الاجتهاد في
طاعته، فإنّ الله لا
يُدرَك شيء من الخير عنده
إلّا بطاعته واجتناب
محارمه"12.
وعنه عليه السلام:
"إعلموا أنّه ليس بين
الله وبين أحد من خلقه
مَلَك مقرّب ولا نبيّ
مُرسل ولا من دون ذلك من
خلقه كلّهم إلّا طاعتهم
له، فاجتهدوا في طاعة
الله"13.
عدم الظلم: عن
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: "أفضل
الجهاد من أصبح لا يهمّ
بظلم أحد"14.
ردّها عن الشهوات
والشبهات: عن عليّ
عليه السلام: "ردّ عن
نفسك عند الشهوات، وأقمها
على كتاب الله عند
الشبهات"15.
العلم والمعرفة:
الإمام عليّ عليه السلام:
"جهاد النفس بالعلم
عنوان العقل"16.
وعنه عليه السلام:
"ينبغي للعاقل أن لا يخلو
في كلّ حال من طاعة ربّه
ومجاهدة نفسه"17.
التقوى: ويقول
الإمام عليّ عليه السلام:
"وإنّما هي نفسي
أروّضها بالتقوى لتأتي
آمنه يوم الخوف الأكبر"18.
عفّة البطن والفرج:
عن الإمام الباقر عليه
السلام لمّا قال له رجل:
"إنّي ضعيف العمل،
قليل الصلاة، قليل الصوم،
ولكن أرجو أن لا آكل إلّا
حلالاً، ولا أنكح إلّا
حلالاً"، فقال عليه
السلام: "وأيّ جهاد
أفضل من عفة بطن وفرج"19.
الكفّ عن المعاصي:
عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم:
"اجتهدوا في العمل، فإن
قَصّر بكم الضعف فكفّوا
عن المعاصي"20.
وعن الإمام الصادق عليه
السلام: "لا ينفع
اجتهاد لا ورع فيه"21.
|