تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ﴾1.
الهدف:
توضيح مفهوم الاستعانة
بالله وبيان موارد
الاستعانة والفهم الخاطىء
لهذا المفهوم.
المقدَّمة
من خلال الآية المتقدّمة
نرى أنّ الله كما أمرنا
بعبادته وحده لا شريك له،
فقد أمرنا كذلك
بالاستعانة به دون سواه،
وأراد منّا الرجوع إليه
في كافّة ما يعترض حياة
الإنسان من حوادث
وتحدّيات، وهذا إن دلّ
على شيء فإنّما يدلّ على
أنّ العلاقة بالله ليست
علاقة طقسيّة تقتصر على
بعض العبادات والفرائض،
بل هي علاقة مستمرّة
وفاعلة، وعلى الإنسان أن
يفعّلها ويقويها ويلجأ
إليها في ساعات الشدّة
والرخاء، بل لعل كمال
العبادة في الاستعانة به
دون سواه، وأنّ عدم
الاستعانة بالله نقصٌ في
العبادة، بل نقصٌ في
فهمنا للمعبود كذلك.
محاور الموضوع
مفهوم الاستعانة بالله
يمكن أن تتحقّق الاستعانة
بالله أو بغير الله
بصورتين:
1 - أن نستعين بعامل -
سواء أكان طبيعيّاً أم
غير طبيعي - مع الاعتقاد
بأنّ عمله مستند إلى
الله، بمعنى أنّه قادر
على
أن يعين العباد ويزيل
مشاكلهم بقدرته المكتسبة
من الله وإذنه.
وهذا النوع من الاستعانة
- في الحقيقة - لا ينفكّ
عن الاستعانة بالله ذاته،
لأنّه ينطوي على الاعتراف
بأنّه هو الذي منح تلك
العوامل، ذلك الأثر، وأذن
لها، وإن شاء سلبها
وجردها منه.
فإذا استعان الزارع
بعوامل طبيعيّة كالشمس
والماء وحرث الأرض، فقد
استعان بالله - في
الحقيقة - لأنّه تعالى هو
الذي منح هذه العوامل:
القدرة على إنماء ما أودع
في بطن الأرض من بذر ومن
ثَمَّ إنباته والوصول به
إلى حدّ الكمال.
2 - أن يستعين بإنسان حيّ
أو ميت أو عامل طبيعي مع
الاعتقاد بأنّه مستقلّ في
وجوده، أو في فعله عن
الله، فلا شكّ أنّ ذلك
الاعتقاد شرك والاستعانة
به عبادة.
فإذا استعان زارع
بالعوامل المذكورة وهو
يعتقد بأنّها مستقلّة في
تأثيرها أو أنّها مستقلّة
في وجودها ومادّتها كما
في فعلها وقدرتها،
فالاعتقاد شرك والطلب
عبادة للمستعان به.
ولإيقاف القارئ على هذه
الحقيقة نلفت نظره إلى
آيات تحصر جملة من
الأفعال الكونيّة في الله
تارة، مع أنّها تنسب نفس
الأفعال في آيات أخرى إلى
غير الله أيضاً، وما هذا
إلّا لعدم التنافي بين
النسبتين لاختلاف
نوعيّتهما، فهي محصورة في
الله سبحانه مع قيد
الاستقلال، وتنسب إلى غير
الله مع قيد التبعيّة
والعرضيّة. الآيات التي
تنسب الظواهر الكونيّة
إلى الله وإلى غيره:
1 - يقول سبحانه:
﴿وَإِذَا
مَرِضْتُ فَهُوَ
يَشْفِينِ﴾2.
بينما يقول سبحانه في
العسل:
﴿شِفَاء
لِلنَّاسِ﴾3.
2 - يقول سبحانه:
﴿إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ﴾4
بينما يقول تعالى:
﴿وَارْزُقُوهُمْ
فِيهَا﴾5.
3 - يقول سبحانه:
﴿أَأَنتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ
نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾6
بينما يقول سبحانه:
﴿يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾7.
4 - يقول تعالى:
﴿وَاللّهُ
يَكْتُبُ مَا
يُبَيِّتُونَ﴾8
بينما يقول سبحانه:
﴿بَلَى
وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ
يَكْتُبُونَ﴾9.
5 - يقول تعالى:
﴿ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾10
بينما يقول سبحانه:
﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ
أَمْرًا﴾11.
6 - يقول سبحانه:
﴿اللَّهُ
يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ
حِينَ مَوْتِهَا﴾12.
بينما يقول تعالى:
﴿الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ﴾13.
إلى غير ذلك من الآيات
التي تنسب الظواهر
الكونيّة تارة إلى الله
تعالى، وأخرى إلى غيره14.
مفردات الاستعانة بالله
الصبر والصلاة: قال
تعالى:
﴿وَاسْتَعِينُواْ
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ
إِلاَّ عَلَى
الْخَاشِعِينَ﴾15.
فإنّ الاستعانة بالله ليس
لها مصداق إلّا الصبر
والاشتغال بمناجاة الله
وعبادته ثانياً.
وقال تعالى:
﴿قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ
اسْتَعِينُوا بِاللّهِ
وَاصْبِرُواْ إِنَّ
الأَرْضَ لِلّهِ
يُورِثُهَا مَن يَشَاء
مِنْ عِبَادِهِ
وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ
* قَالُواْ أُوذِينَا مِن
قَبْلِ أَن تَأْتِينَا
وَمِن بَعْدِ مَا
جِئْتَنَا قَالَ عَسَى
رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي
الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ﴾16.
هذه الآية تشير إلى مبادئ
وشروط ثلاثة: أحدها في
العقيدة وهو (الاستعانة
بالله)، والثاني: في
الأخلاق وهو (الصبر
والثبات) والأخير: في
العمل، وهو (التقوى)،
وهي ليست شرائط انتصار
قوم بني إسرائيل وحدهم
على العدوّ، بل كلّ شعب
أراد الغلبة على أعدائه
لا بدّ له من تحقيق هذه
البرامج الثلاثة،
فالأشخاص غير المؤمنين
والجبناء وضعفاء الإرادة،
والشعوب الفاسقة الغارقة
في الفساد، إذا ما انتصرت
فإنّ انتصارها يكون لا
محالة مؤقّتاً غير باق17.
كما أنّ فرعون لا يملك
الأرض حتّى يمنحها من
يشاء، ويمنع من التمتّع
بها من يشاء، بل هي لله
يورثها من يشاء، وقد جرت
السنّة الإلهيّة أن يخصّ
بحسن العاقبة من يتّقيه
من
عباده، فإن استعنتم بالله
وصبرتم في ذات الله على
ما يهدّدكم من الشدائد -
وهو التقوى - أورثكم
الأرض التي ترونها في
أيدي آل فرعون18.
مكارم الأخلاق:
فعن عليّ عليه السلام في
بيان ما يجب على الأمّة
أن تستعين بالله به نصرةً
لإمامها: "أعينوني
بورعٍ واجتهاد وعفّةٍ
وسداد"19.
الدعاء: قال
تعالى:
﴿ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾20.
القرآن: فإن آيات
الله وكلماته خير ما
يستعين به المرء في حياته
وقد تضافرت الروايات التي
حثّتنا على الاستعانة
بكتاب الله.
التوسّل بالأنبياء
والأئمّة عليه السلام:
وذلك لرفعة مقامهم عند
الله تعالى، وأنّه أوجب
علينا التوسّل بهم
لاستنزال إعانة السماء،
فهم باب الله الذي منه
يُؤتى، والتوسّل بهم ليس
كما يتوهّم البعض من
اعتبارهم سلطة مستقلّة
وتأثير مستغنٍ عن
الله، بل بما أعطاهم الله
من السلطة ومنّ عليهم من
التأثير.
الصمت: قال تعالى
عن لسان مريم عليه
السلام:
﴿إِنِّي
نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ
صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ
الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾21.
فقد أعان الله مريم
لينجّيها من القوم الذين
أرادوا بها سوءاً وذلك من
خلال الصمت وعدم الدخول
معهم في الجدل والقيل
والقال.
بركات الاستعانة بالله
عن عليّ عليه السلام:
"وأكثر الاستعانة بالله
يكفك ما أهمك ويُعنِك على
ما نزل بك إن شاء الله"22.
ولأنّ من استعان بغيره،
فقد استسمن ذا ورم، ونفخ
في غير ضرم، أفلا يستعان
به وهو الغني الكبير؟! أم
كيف يطلب من غيره والكل
إليه فقير؟! وإنّي لأرى
أنّ طلب المحتاج من
المحتاج سفه من رأيه
وضلّة من عقله، فكم قد
رأينا من أناس طلبوا
العزّة من غيره فذلّوا،
وراموا الثروة من سواه
فافتقروا، وحاولوا
الارتفاع فاتضعوا، فلا
يستعان إلّا به تعالى
وتقدّس، ولا عون إلّا منه
تبارك وتعالى.
ولقد كان رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يدعو
الله: "آمنن علينا
بالنشاط، وأعذنا من الفشل
والكسل والعجز والعلل
والضرر والضجر والملل"23.
وعنه صلى الله عليه وآله
وسلم: "اللهمَّ إنّي
أعوذ بك من الهمّ والحزن
والعجز والكسل"24.
وأوضح من هذا ما ورد من
آيات في (التوكّل)
باعتباره يمثل شعبة من
شعب الاستعانة بالله عزَّ
وجلَّ، قال تعالى:
﴿...وَمَا
تَوْفِيقِي إِلاَّ
بِاللّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ
أُنِيبُ﴾25.
﴿فَإِن
تَوَلَّوْاْ فَقُلْ
حَسْبِيَ اللّهُ لا
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ﴾26.
﴿...وَإِن
يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا
الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن
بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ
فَلْيَتَوَكِّلِ
الْمُؤْمِنُونَ﴾27.
﴿...وَلَيْسَ
بِضَارِّهِمْ شَيْئًا
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ﴾28.
﴿وَلِلّهِ
غَيْبُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُ الأَمْرُ
كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ...﴾29.
|