البلاغ
"البلاغ" خطاب أو نداء
يحمل في حناياه إرشاداً
أو أمراً للمخاطبين به،
ليعملوا طبقاً لهديه
وأمره، والبلاغ قد يكون
صريحاً وعلنيّاً، وقد
يكون الفعل ذا بلاغ
للآخرين، يدعوهم إلى عملٍ
أو خصلةٍ ما.
وعلى هذا، فالفرد بإمكانه
أن يحمل بلاغاً للآخرين،
والجماعة بإمكانها ذلك
أيضاً، كذلك بإمكان حادثة
أو فعل ما أن يؤدّيا
بلاغاً، ففي مرحلة من
مراحل "النهي عن المنكر"
مثلاً، نجد أنّ عدم
الاعتناء بالشخص الذي
يجترح المنكر وقطع الصلة
به والعبوس والتقطيب
بوجهه كلّ ذلك يحمل بلاغاً
كذلك الشخص مؤدّاه: "لا
تفعل هذا المنكر"، وهذا
ما يُطلق عليه "لسان
الحال" وليس "لسان المقال"،
والبلاغ هذا فعل وليس
قولاً.
فضلاً عن هذا، أنّنا
ربّما استفدنا من حادثة
ما، وإنْ لم ينطق
القائمون بها أو يبلّغوا
بشيء ما صراحةً وذلك
لأنّنا استنتجنا من نفس
الحادثة "بلاغاً"، وما
فعلناه هذا هو "تلقّي
الدرس" أو قل إنْ شئتَ: "فهم
البلاغ".
وربّما كان بلاغ واقعة ما
أيضاً مجرّد التنبيه إلى
شيء ما والتحذير منه...وعلى
هذا، فالحديث عن "بلاغات
عاشوراء" لا يعني فقط ما
صدر عن الإمام الحسين
عليه السلام وأنصاره (قدس)
من أمر أو إرشادٍ للناس
في ذلك الزمان أو ما
يتلوه من الأزمنة، بل هذا
الحديث يشمل أيضاً الدروس
التي نستفيدها من عاشوراء.
فقول الإمام الحسين عليه
السلام مثلاً: "... إنْ
لم يكن لكم دين، وكنتم لا
تخافون
المعاد، فكونوا أحراراً
في دنياكم هذه..."1
هو بلاغ صريح وواضح، ونحن
إذا ما أخذنا عن واقعة
عاشوراء هذا الدرس: "ينبغي
الوقوف والقيام في وجه
الظلم، وعدم التسليم له
وإنّ كنا عدّة قليلة"
فهذا مستفاد أيضاً من
البلاغ العاشورائيّ وإنْ
لم يرد مضمون كهذا في
أقوال سيّد الشهداء عليه
السلام، ذلك لأنّنا نعلم
أنّ الإمام الحسين عليه
السلام -وهو "أسوة" لنا
وفعله حجّة علينا- مع عدد
قليل من أنصاره قد جاهدوا
وقاوموا جيشاً كثير
العدّة والعدد، فلم يهنوا
ولم ينكلوا حتّى مضوا
شهداء في سبيل الله.
إذن يمكننا القول إنّ: "الوقوف
والقيام في وجه الظلم"
بلاغ عاشورائيّ، وإن كنّا
قد تلقّيناه بصورة درس عن
عاشوراء.
كان هذا التوضيح من أجل
ألّا يحصل إبهام أو يقع
إشكال بالنسبة إلى بعض ما
ورد في هذا الكتاب تحت
عنوان "بلاغ"، فيقال مثلاً:
أين ومتى قال سيّد
الشهداء عليه
السلام:جاهدوا أنفسكم،
اعتمدوا على أنفسكم
وتوكّلوا على الله، لا
تتعلّقوا بالدنيا، ضحّوا
بكلّ شيء في سبيل الله،
تمسّكوا بإمامة الوليّ
المعصوم، وغير ذلك؟!!إنّ
عاشوراء الحسين عليه
السلام تجسيد وبلورة لهذه
القيم والمفاهيم بالذات،
ولهذا يمكننا أن نعدّ
جميع هذه الدروس والعبر
والمآثر والتنبيهات
والمواقف العمليّة جزءً
من "بلاغات عاشوراء"،
فنتعلّق بها تمام التعلّق
روحاً وقلباً، ونتّخذها
ملاك سيرتنا وقانون
حياتنا، ونترجمها
ونبيّنها لجميع العالم
قولاً وعملاً، ونربّي على
هذه العقائد الحقّة
أبناءنا والأجيال القادمة.
وهناك أيضاً مفهوم آخر من
الضروري الانتباه إليه،
وهو: "عِبر عاشوراء" التي
تقع نوعاً ما ضمن دروس
عاشوراء، لكنّ هناك فرقاً
بين "الدرس" و"العبرة"،
وهو أنّنا قد نتّخذ شخصاً
ما أو واقعةً ما "أسوة
حسنة" فنستفيد منها الدرس،
ونستلهم منها هدىً ونتائج
إيجابيّة، وندرك في ضوء
هديها نهجنا العمليّ.
وقد نجد في شخصٍ ما أو
واقعةٍ ما "مثلاً سيّئاً"
يثير فينا مرارة التأسّف
وعدم الارتياح، فبأخذنا "العبرة"
من هذا المثل السيّئ
نتجنّب أن يتكرّر مرّة
أخرى في حياتنا، بل من
الواجب الحؤول دون تكرّره.
وقد ضرب القرآن الكريم
الكثير من الأمثلة سواء
الحسنة أو السيئة، فكما
ورد فيه ذكر أشخاص أو
أقوام، في قصص الفداء
والتضحيات والمجاهدات
والصبر والمقاومة
والإيمان والإخلاص ومخافة
الله تعالى، فهم "أسوة"
للآخرين، أراد الله تبارك
وتعالى من خلال التذكير
بقصصهم ومواقفهم الكريمة
بعث وتحريك الدوافع في
الآخرين من أجل مواصلة
وتكرار تلك المواقف
الحميدة وتلك الفضائل.
كذلك ورد في القرآن
الكريم ذكر وقائع مؤسفة
لأشخاص وأقوام من الأمم
السالفة، غلبت عليهم
الشقوة، والجحود، والكفر،
والمعصية، والعناد،
وعبادة الطاغوت والأهواء،
وقد أراد الله تبارك
وتعالى من خلال التذكير
بقصصهم أن يتّخذ "أولو
الأبصار" منها "العبرة"
ويتخّذ "أولو الألباب"
منها "الموعظة" حتّى لا
يكونوا من أهل ذلك المصير
السيّئ.
وفي مجتمعنا اليوم أيضاً
ينبغي الاستلهام من
البلاغات والدروس من أجل
صنع وصياغة النماذج
الصالحة، كما ينبغي أخذ
المواعظ من "العبر" من
أجل منع ظهور وتكرار
النماذج السيّئة في
الواقع الفرديّ
والاجتماعيّ.
وقد أكّد قائد الثورة
المعظّم سماحة آية الله
السيّد عليّ الخامنئيّ
تأكيداً شديداً على
أهميّة "العبر" التي تفوق
أهميّة "الدروس" في
الخطاب المهمّ والتحليل
الدقيق الذي أدلى به، حيث
قال سماحته:
"دروس عاشوراء شيء آخر
له أهميّته، درس الشجاعة،
ودرس كذا، ودرس كذا، لكنّ
ما هو أهمّ من دروس
عاشوراء: عِبرُ عاشوراء"2.
وقال سماحته أيضاً في أخذ
العبرة من عاشوراء
بالمعنى الذي مرَّ:
"إذا تأمّل الخواصّ في
عمل ما، في وقته، فشخّصوا
التكليف فيه، وعملوا على
أساسه، فسينجو التأريخ،
ولن يضطّر الحسينيّون إلى
ورود ساحات أمثال كربلاء
مرّة أخرى، أمّا إذا فهم
الخواصّ فهماً خاطئاً، أو
فهماً متأخّراً عن وقته
المناسب، أو فهموا ولكن
اختلفوا فيما بينهم، فإنّ
كربلاء سوف تتكرّر في
التأريخ"3.
فبدون هذا التقييم
التحليليّ، وبدون معرفة
وتدوين البلاغات، والدروس،
والعبر، يُخشى دائماً من
أن تفقد أكبر الحوادث
التأريخيّة المحرّكة
قوّتها المؤثّرة الفعّالة،
ويتحوّل درس أفضل الحوادث
التربويّة إلى مفردات
مفكّكة لا تحمل رسالة ولا
بلاغاً ولا موعظة، فيمرّ
النّاس بالعبر ولا
يعتبرون، ويسمعون البلاغ
ولا يعون، فتتكرّر مآسي
التأريخ.
لقد كان قلق قائد الثورة
المعظّم سماحة آية الله
الخامنئيّ في محلّه تماماً،
وصادراً عن غاية الوعي
والإدراك، حيث يقول:
"الأُمّة الإسلاميّة
ينبغي عليها أن تفكّر
لماذا بعد خمسين سنة من
رحلة النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم، وصلت
حالة البلاد الإسلاميّة
إلى درجة أنّ نفس هؤلاء
المسلمين، من وزيرهم
وأميرهم وقائدهم وعالمهم
وقاضيهم وقارئهم، اجتمعوا
في الكوفة وكربلاء
ليفتكوا بفلذة كبد نفس
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم بتلك الصورة
الفجيعة؟!! ينبغي على
الإنسان أن يتأمّل جيّداً:
لماذا حصل هذا؟!!"4.
إنَّ أولئك الذين يريدون
أن يُحيوا "الدين" لا بد
أن يكون لجميع تصرفاتهم
الفرديّة والاجتماعيّة،
العباديّة والسياسيّة،
مبنىً شرعيّاً، وأن يكون
اتّخاذهم المواقف
والأعمال، وجميع شؤون
تحرّكاتهم الدينيّة،
مستنداً إلى خطّ الولاية،
وبدون ذلك فإنّ مشروعيّة
كلّ جهاد وسعي ستكون عرضة
للتساؤل.
لذا، فإنّ هناك مسائل
أساسيّة لا بدّ من
التحقيق فيها ومعرفة
الإجابة عنها، وهذه
المسائل تفرض نفسها على
ذهن المتأمّل كلّما تأمّل
في أبعاد وتفاصيل حركة
أحداث واقعة عاشوراء، ذلك
أنّ نهضة عاشوراء أدّت
إلى القتل والجرح والأسر
والضرر الماليّ والنفسيّ.
لذا وجب أن يكون كلّ عمل
من أعمال الحركة الدينيّة
ذا مشروعيّة، أي مستنداً
إلى حكم الله تبارك
وتعالى، فإنّ مسائل
واستفسارات كثيرة على
الصعيد الفقهيّ تفرض
نفسها على ذهن المتأمّل،
مثلاً:
أين ومتى يجب القيام
والثورة؟ وأين ومتى يجب
السكوت؟ ما هو الجهاد؟
وأين ومتى يجب الجهاد
وإظهار الحقّ؟ ما هي
التقيّة وما محلّها وما
حدودها؟ ما هي
حدود التكليف بالأمر
بالمعروف والنهي عن
المنكر وما مجاله؟ كيف
ينبغي التعامل مع حكومة
الجور؟ ما هي حدود تكليف
إقامة الحكومة الدينيّة؟
كيف يمكن حلّ التعارض بين
حكم الجهاد والمقاومة
وبين حكم التقيّة وحفظ
النفس؟ إلى أيّ حدٍّ يمكن
الالتزام ببيعة حكومة
الجور؟ ما هو تكليف
المرأة في الجهاد؟ كيف
تؤسر المرأة المسلمة؟ ما
هو حكم المرأة في الأسر؟
هل كانت نهضة عاشوراء
تكليفاً خاصّاً بالإمام
المعصوم عليه السلام أم
هو من نوع التكليف العامّ؟
ما هو الفرق بين "الشهادة"
و"الانتحار" ؟ ما هو
المستند الشرعيّ للمقاومة
التي تستلزم الإضرار
بالنفس والأضرار والأخطار
الأخرى المعتدّ بها؟ وهل
يوجد تكليف أيضاً في حال
وظروف "عدم القدرة".
كيف ينبغي الردّ على ما
يثيره البعض من شبهة أنّ
القيام ضدّ الطاغوت "إضرار
بالنفس" و"إلقاء في
التهلكة"، وأنّ كلّ قيام
ضدّ الحكّام غير مشروع
وموجب لهدر دم الثائرين
وأنّه نقض للبيعة، وأنّه
حرام مطلقاً!، وأنّ إطاعة
الحكّام والأمراء واجبة
في كلّ الظروف! وأنّ
الخروج عليهم من مصاديق "الفتنة"
و" شقّ عصا الأمّة" ؟
إنّ الإجابات الصحيحة عن
هذه المسائل وأسئلة أخرى
كثيرة من هذا القبيل
توضّح وتجلّي البعد
الفقهيّ لواقعة عاشوراء،
وتعكس إلى أيّ حدّ كانت
نهضة كربلاء (تبلّغ) بهذه
المحاور الفقهيّة وتجيب
عنها، كما تُرشد إلى
الصورة التي يمكن من
خلالها استلهام الحقائق
والدروس التي بها يُجاب
عن هذه الأسئلة.
وخلاصة القول: هي أنّ ما
تُعلِّمنا إيّاه عاشوراء،
وما تبنيه فينا، وما
تطبعه في حياتنا وسيرتنا
من آثار مباركة، رهين
معرفتنا حقّ المعرفة
بدروسها وعبرها وبلاغاتها
وتبيينها.
وفي هذا الأفق يجب أن
نتأمّل في: "لماذا" وقعت
الواقعة قبل أن نفكّر في:
"كيف" وقعت، حتّى نستخلص
من قصص الماضين العبرة
الأقوى موعظة وأثراً، من
خلال الاستفادة من النقاط
المشتركة والروح السارية
في وقائع التأريخ
المتماثلة.
و... هذا عمل مهمّ وضروريّ،
وصعب جدّاً في ذات الوقت
ولن تقلّل صعوبته البالغة
من ضرورته...
|