إيضاح
الأخلاق إحدى ركائز الدين
الثلاث، إذ إنّ الإسلام
قائم على ثلاث ركائز
أساسيّة هي: "العقائد"
و"الأحكام" و"الأخلاق"،
ذلك لأنّ تتميم القيم
الأخلاقيّة الحميدة وصبغ
صفات النّاس وتصرّفاتهم
بالصبغة الإلهيّة من أهمّ
أهداف بعثة الأنبياء
عليهم السلام، بل إنّما
هي الهدف الأساس، فقد ورد
عن الرسول الأعظم محمّد
صلى الله عليه وآله وسلم
قوله: "إنّما بعثتُ
لأتمّم مكارم الأخلاق"1.
فتهذيب نوازع الإنسان
وتصرّفاته، وزرع بذور
الكمالات الأخلاقيّة
والخصال الإنسانيّة
السامية في أعماق روح
الإنسان، غاية مهمّة
جدّاً أو هي الأهمّ في
رسالة النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم والأئمّة
عليهم السلام، ويشكّل قول
المعصوم عليه السلام
وفعله المصدر الوثيق
والمنبع العذب الثرّ الذي
نتلقّى عنه ونتعلّم
الأخلاق منه، ذلك لأنّ
المعصومين عليهم السلام
هم "الأسوة" والمظهر
الأعلى والأتمّ للخصال
الإنسانيّة التي يرضاها
الله تبارك وتعالى.
ولقد كانت عاشوراء الأفق
المبين الذي تجلّت فيه
ذروة مكارم الأخلاق في
أقوال وأفعال الإمام
الحسين عليه السلام،
الحجّة المعصوم، وفي
أقوال وأفعال أهل بيته
وأنصاره الذين كانوا
يستهدون بهداه ويستنيرون
بنوره.
إنّ واقعة كربلاء بما كان
فيها- ممّا أثبته التاريخ
لنا- من روحانيّة وأخلاق
وسجايا سامية تجلّت في
أقوال وأفعال أبطال ملحمة
عاشوراء، تشكّل منبعاً
أثيراً ومصدراً نفيساً
لتعلّم الأخلاق والإقتداء
بالأسوات الحسنة في طريق
تزكية النفس، وفي السلوك
الاجتماعيّ، وفي التربية
الدينيّة، وتحقيق الكرامة
الإنسانيّة.
وتتجلّى "البلاغات
الأخلاقيّة" لعاشوراء في
قضايا مثل: الصبر،
والإيثار، والفتوّة،
والوفاء، والعزّة،
والشجاعة، والتحرّر من
تعلّقات الدنيا،
والتوكّل، ومجاهدة النفس،
والمواساة، والنبل،
وغيرها... إذ إنّ في كلّ
زاوية من زوايا هذه
الواقعة الخالدة يمكننا
أن نشاهد تجلّياً من
تجلّيات الأخلاق الحميدة
العالية الصادرة عن معسكر
الإمام الحسين عليه
السلام.
التحرّر
الحريّة مصطلح حقوقيٌّ
واجتماعيّ يقابل مصطلح
العبوديّة، أمّا التحرّر
فهو أرفع وأعلى من
الحريّة، إنّه الانعتاق
من القيود والتعلّقات
المذلّة المهينة.
إنّ انشداد الإنسان إلى
الدنيا وتعلّقه بها،
وبالثروة، والعشيرة،
والمقام، والبنين، و...
يشكّل مانعاً للإنسان من
الوصول إلى الحريّة
الروحيّة، وإنّ الخضوع
والاستسلام لأسر الأمانيّ
والتعلّقات الماديّة
علامة ضعف الإرادة
البشريّة.
وإذا كان كمال الإنسان
وقيمته في الروح السامية،
والهمّة العالية،
والسجايا الحميدة، فإنّ
بيع الإنسان نفسه للدنيا
والشهوات نوع من الرضا
بالحقارة، والقبول بالثمن
البخس لنفسه، يقول الإمام
عليّ عليه السلام:"ألا
حُرٌّ يَدَعُ هذه
اللّماظةَ لأهلها؟! إنّه
ليس لأنفسكم ثمن إلّا
الجنّة فلا تبيعوها إلّا
بها"2.
فالتحرّر إذن هو أن يعرف
الإنسان كرامته وشرفه،
ويأبى الهوان والذلّة،
ويترفّع عمّا يشينه،
ويتعالى عمّا يحقّره،
ويخلُص من أسر الدنيا،
ويحرص على القيم
الإنسانيّة فلا يفرّط
بها.
وفي منعطفات الحياة
الدنيا والتواءاتها،
وصعودها ونزولها، طالما
شاهدنا أُناساً رضوا بكلّ
أنواع الحقارة والمهانة
من أجل الحصول على
الدنيا، أو بسبب الحرص
على ما في أيديهم من
مكاسبها، أو من أجل تحقيق
أمنياتهم ومشتهياتهم، أو
من أجل بقاء أطول لعدّة
أيّام أُخر فيها، أمّا
الأحرار فربّما بذلوا
الأرواح ثمناً للحياة
العزيزة الكريمة
التي لا يرضون إلّا
إيّاها، رافضين العيش مع
الذلّ، يقول الإمام
الحسين عليه السلام:"موتٌ
في عزّ خيرٌ من حياةٍ في
ذلّ"3.
هذه هي نظرة الأحرار إلى
الحياة، ولقد كانت نهضة
عاشوراء مظهراً جليّاً من
مظاهر التحرّر في شخصيّة
الإمام الحسين عليه
السلام وشخصيّات أهل بيته
وأنصاره المستشهدين بين
يديه، فلو لم يكن ذلك
التحرّر، لما كان ذاك
الإباء، ولأعطى الإمام
عليه السلام البيعة، ولما
قتل، لكنّ أبيَّ الضيم
وأبا الأحرار عليه السلام
لمّا أرادوا منه البيعة
ليزيد قهراً، امتنع وأبى،
وكان منطقه:
"لا والله! لا أُعطيهم
بيدي إعطاء الذليل، ولا
أقرّ إقرار العبيد"4.
لقد كان ميدان كربلاء
تجلّياً آخر لهذا التحرّر
أيضاً، تجسّد في اختيار
أحد أمرين ركز بينهما ابن
زياد، وهما القتل أو
الذلّة، فكان اختيار
الأحرار هو الاستشهاد
بحدّ السيف ورفض الذلّة،
هكذا جاء الجواب على لسان
الإمام عليه السلام:
"ألا وإنّ الدّعيَّ
ابن الدّعيّ قد ركز بين
اثنتين: بين السّلّةِ
والذلّة! وهيهات منّا
الذلّة، يأبى الله ذلك
لنا ورسوله والمؤمنون،
وحجور طابت وطهرت، وأُنوف
حميّة، ونفوس أبيّة، من
أن نؤثر طاعة اللئام على
مصارع الكرام..."5.
وفي حملاته يوم عاشوراء
كان عليه السلام يرتجز
ويقول:
"الموتُ أولى من ركوب
العار
والعارُ أولى من
دخول النّار"
إنّ الروح التحرّريّة
التي تملأ كيان الإمام
عليه السلام هي التي
حرّكته وهو صريع مثخن
بالجراحات ليخاطب الأعداء
الذين هجموا على خيامه
فروّعوا النساء والأطفال،
قائلاً لهم:
"إنْ لمْ يكن لكم دين،
وكنتم لا تخافون المعاد،
فكونوا أحراراً في
دنياكم"6.
ولقد تجسّد هذا النهج
التحرّريّ أيضاً في أخلاق
وسجايا أنصار الإمام
الحسين عليه السلام
عامّة، وفي شهداء الطفّ
خاصّة، فهذا مسلم بن عقيل
عليهما السلام
طليعة النهضة
الحسينيّة في الكوفة،
لمّا واجه جيش ابن زياد
الذي أحاط ببيت "طوعة"
ليأسرّه أو يقتله، كان
يقاتلهم وهو يرتجز معلناً
عن هذه الروح التحرّريّة:
أقسمتُ لا أُقتلُ إلّا
حرّا
وإنْ رأيتُ
الموتَ شيئاً نُكرا
كلّ امرئ يوماً مُلاقٍ
شرّا
ويخلط البارد
سخناً مرّا
رُدَّ شعاع الشمس
فاستقرّا
أخافُ أن أُكذبَ
أو أُغَرّا7
ولمّا برز الأخوان
الغفاريّان عبد الله وعبد
الرحمن ابنا عروة إلى
ميدان القتال يوم عاشوراء
كان من رجزهما هذا البيت
الكاشف عن روح التحرّر
هذه:
يا قوم ذودوا عن بني
الأحرار بالمشرفيّ
والقنا الخطّار8
وكان الحرّ بن يزيد
الرياحيّ (رضوان الله
عليه) مصداقاً بارزاً آخر
لهذه الحريّة وهذا
التحرّر، إذ كانت روحه
التحرّريّة السبب في ألّا
يكون من أهل جهنّم من أجل
الدنيا والرئاسة، حيث
خيّر نفسه بين الجنّة
والنّار، فاختار الجنّة
في أصعب المواقف،
واشتراها في ظلّ الشهادة،
حيث تاب إلى الله تعالى،
وانفصل عن جيش ابن زياد
وانضمّ إلى أبي عبد الله
الحسين عليه السلام يوم
عاشوراء، فلم يزل يقاتل
بين يديه قتال الأبطال
حتّى صرع، "فاحتمله
أصحاب الحسين عليه السلام
حتّى وضعوه بين يدي
الحسين عليه السلام وبه
رمق، فجعل الحسين يمسح
وجهه ويقول: أنت الحرّ
كما سمّتك أمُّك، وأنت
الحرّ في الدنيا، وأنت
الحرّ في الآخرة".
ورثاه رجل من أصحاب
الحسين عليه السلام،
وقيل: بل رثاه عليّ بن
الحسين عليه السلام:
لَنِعْمَ الحرُّ حُرُّ
بني رياح
صبورٌ عند مختلف
الرماح
ونعم الحرُّ إذ نادى
حسيناً
فجاد بنفسه عند
الصياح
فيا ربيّ أضفه في جنان
وزوّجه مع الحور
الملاح9
ومن بعد عاشوراء... إذا
تأسّى دعاة الحريّة
وأحرار العالم في حربهم
من أجل الاستقلال والخلاص
من الظلم ومن الطواغيت
ببطولات شهداء كربلاء
فإنّما يتأسّون بهم في
ظلّ هذا الدرس بالذات،
درس "التحرّر" الذي هو
تحفة عاشوراء لجميع
الأجيال إلى قيام الساعة،
إذ إنّ الأحرار في لحظات
الاختيار الحسّاسة،
ومواقف اتخاذ القرار
الصعبة، هم الذين يختارون
الموت الأحمر والمواجهة
الدمويّة والتضحية بالنفس
ليصلوا بذلك إلى سعادة
الشهادة، وليحرّروا
مجتمعهم من التعاسة ومن
كلّ ظلم.
الإيثار
الإيثار تقديم الغير على
النفس، سواء بالمال أو
بالروح، وهذه الخصلة
الأخلاقيّة إحدى الخصال
السامية التي أثنى عليها
القرآن الكريم كثيراً،
وكذلك الأحاديث الواردة
عن النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم، وتنشأ هذه
الخصلة الأخلاقيّة
الكريمة عن تحرّر الإنسان
من "حبّ الذات".
لقد أثنى القرآن الكريم
على المؤمنين الذين
يقدّمون الآخرين على
أنفسهم مع حاجتهم الشديدة
إلى ما في أيديهم، وذلك
في قوله تعالى:
﴿وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾10.
إنّ التنكّر لرغبات النفس
وتجاوزها، والإغماض عن
كلّ التعلّقات، من أجل
إنسان آخر، وفي سبيل
إنسان آخر، هو الإيثار،
وأسمى الإيثار الإيثار
بالدم وبالروح، إنّ
المؤثر حقّاً هو الإنسان
المستعدّ فعلاً لبذل
وجوده وروحه فداءً لدين
الله تبارك وتعالى، أو
الذي ينكر ذاته ورغباته
في سبيل مرضاة الله
تعالى.
وفي ميدان عاشوراء كان
أوّل المؤثرين سيّد
الشهداء عليه السلام،
الباذل نفسه وأنفس أهل
بيته وأنصاره فداءً لدين
الله، المقدّم مرضاة ربّه
على كلّ شيء، والدّاعي
النّاس إلى ذلك الفداء
أيضاً لمّا عزم على
التوجّه من مكّة إلى
كربلاء في قوله عليه
السلام:
"من كان فينا باذلاً
مهجته، موطّناً على لقاء
الله نفسه، فليرحل معنا
فإنّي راحلٌ
مصبحاً إنْ شاء الله"11.
أمّا أنصاره عليه السلام
فقد رسموا أروع وأسمى صور
الإيثار في بذلهم أنفسهم
فداءً لإمامهم عليه
السلام، وفي حركة أحداث
النهضة الحسينيّة لقطات
كثيرة مذهلة لمشاهد عديدة
من الإيثار في غاية
الجمال والسموّ والإشراق
منها مثلاً: حينما علم
ابن زياد أنّ مسلم بن
عقيل عليه السلام في بيت
هانئ بن عروة (رضوان الله
عليه) ، احتال بمكره
لإحضار هانئاً عنده،
فلمّا أُحضر هانئ في مجلس
ابن زياد، وعرّفه ابن
زياد بدليله (وهو الجاسوس
معقل) على وجود مسلم في
بيته، وطلب منه تسليم
مسلم إليهم، وحاول بعض
أعوان ابن زياد إقناع
هانئ بهذا الأمر، وحذّره
من مغبّة الامتناع، قال
هانئ (رضي الله عنه):
"والله لو لم أكن إلّا
واحداً ليس لي ناصرٌ لم
أدفعه إليه حتّى أموت
دونه!"12.
ولمّا حمل سيّدنا مسلم بن
عقيل عليه السلام إلى قصر
الإمارة، بعد أن كفّ عن
قتالهم نتيجة للأمان الذي
أعطاه إيّاه محمّد بن
الأشعث، أحسّ مسلم عليه
السلام بأنّ القوم لن
يفوا بأمانهم، "فدمعت
عيناه، فقال محمّد: إنّي
لأرجو أن لا بأس عليك!
فقال: ويحك! ما هو إلّا
الرجاء فأين أمانكم؟!
إنّا لله وإنّا إليه
راجعون، وبكى. فقال عبيد
الله بن العبّاس السلميّ:
من يطلب مثل الذي طلبت لا
يبكي! فقال: إنّي والله
ما على نفسي أبكي، لكنّي
أبكي على أهلي المقبلين
إليكم، أبكي على الحسين
وآل الحسين"13.
إنّ هذا البكاء علامة
الإيثار أيضاً، لأنّ
مسلماً عليه السلام وهو
على أعتاب الشهادة لم يبك
حين بكى على نفسه، بل بكى
للحسين عليه السلام
القادم بمن معه من أهل
بيته وأنصاره إلى الكوفة
نتيجة للتقرير الذي رفعه
إليه مسلم نفسه عليه
السلام عن وضع الكوفة
وأهلها، تلك المدينة
المليئة بالخداع، وأهلها
الذين نكثوا عهودهم.
ولمّا جمع الإمام الحسين
عليه السلام أهل بيته
وأصحابه ليلة عاشوراء،
وخطب فيهم خطبته التي قال
فيها: "أمّا بعد،
فإنّي لا أعلم أصحاباً
أوفى ولا خيراً من
أصحابي،
ولا أهل بيت أبرّ
وأوصل من أهل بيتي،
فجزاكم الله عنّي خيراً،
ألا وإنّي لأظنّ يومنا من
هؤلاء الأعداء غداً ألا
وإنّي قد أذنت لكم،
فانطلقوا جميعاً في حلّ،
ليس عليكم حرج منّي ولا
ذمام، هذا الليل قد غشيكم
فاتّخذوه جملا..."14.
فقال له إخوته وأبناؤه
وبنو أخيه وابنا عبد الله
بن جعفر: "لِمَ نفعلُ
ذلك، لنبقى بعدك؟! لا
أرانا الله ذلك أبداً!"
بدأهم بهذا القول العبّاس
بن عليّ واتبّعته الجماعة
عليه، فتكلّموا بمثله
ونحوه.
فقال الحسين عليه السلام:"يا
بني عقيل، حسبكم من القتل
بمسلم بن عقيل، فاذهبوا
أنتم قد أذنت لكم"،
فقالوا: "سبحان الله! ما
يقول النّاس؟! نقول: إنّا
تركنا شيخنا وسيّدنا وبني
عمومتنا خير الأعمام، ولم
نرم معهم بسهم، ولم نطعن
معهم برمح، ولم نضرب معهم
بسيف، ولا ندري ما
صنعوا؟! لا والله! ما
نفعل ذلك، ولكن نفديك
بأنفسنا وأموالنا وأهلنا،
ونقاتل معك حتّى نرد
موردك، فقبّح الله العيش
بعدك!"15.
أمّا أصحابه عليه السلام
فإنّ أسمى آيات الإيثار
تجلّت في ما أجابوا به
الإمام عليه السلام ليلة
عاشوراء، تلك الإجابات
المشهورة التي بيّضت وجه
تأريخ الإنسانيّة إلى يوم
الدين، إذ قاموا جميعاً
قيام رجل واحد، فتتابعوا
في الردّ على قول الإمام
عليه السلام، مظهرين
استعدادهم لبذل أنفسهم
فداءً له، وعزمهم الراسخ
على ذلك، في ردود مشرقة
فذّة فريدة لا يزداد من
يقرأها إلّا خشوعاً
وإكباراً لهؤلاء
"الشهداء العشّاق الذين
لم يسبقهم سابق ولا يلحق
بهم لاحق"16.
ونكتفي هنا من تلك
الإجابات الكريمة بما
أجاب مسلم بن عوسجة
(رضوان الله عليه) حيث
قام فقال: "أنحن نخلّي
عنك؟! وبما نعتذر إلى
الله في أداء حقّك؟! لا
والله حتّى أطعن في
صدورهم برمحي، وأضربهم
بسيفي ما ثبت قائمته في
يدي، ولو لم يكن معي سلاح
أقاتلهم به لقذفتهم
بالحجارة! والله لا
نخلّيك حتّى يعلم الله
أنّا قد حفظنا
غيبة رسول الله فيك،
أما والله! لو علمت أنّي
أُقتل، ثمّ أُحيى، ثمّ
أُحرق، ثمّ أُذرى، يُفعل
ذلك بي سبعين مرّة، ما
فارقتك حتّى ألقى حمامي
دونك! فكيف لا أفعل ذلك
وإنّما هي قتلة واحدة،
ثمّ هي الكرامة الّتي لا
انقضاء لها أبداً؟! "17.
نعم، هذا ولقد كان في
إجابة سعيد بن عبد الله
الحنفيّ، وزهير بن القين،
وآخرين من أنصاره عليه
السلام، تجلّيات نيّرة
وخالدة لهذه الروح
الإيثاريّة، وفي رواية
أنّ جماعة من هؤلاء
الأنصار قالوا:
"واللهّ لا نفارقك، ولكن
أنفسنا لك الفداء، نقيك
بنحورنا وجباهنا وأيدينا،
فإذا نحن قتلنا كنّا
وفَينا وقضينا ما علينا!"18.
نعم... إنّ الدماء التي
تجري في عروقنا هدية فداء
لإمامنا...
لمّا حمل جيش الكوفة عصر
عاشوراء على مخيّم الحسين
عليه السلام وأغار على من
فيه، وأراد الشمر لعنه
الله أن يقتل الإمام زين
العابدين عليه السلام،
تعلّقت مولاتنا زينب
عليها السلام بالإمام
عليه السلام قائلة للشمر:
لا يُقتلُ حتّى أُقتل
دونه
19!
يستطيع قائد النهضة
بمعونة أنصار حماة من أهل
الإيثار أن يمضي قدُماً
على طريق النهضة في جميع
المراحل الصعبة والخطرة،
حتّى تحقيق الأهداف
المنشودة من نهضته، أمّا
إذا لم يكن لأنصاره
استعداد لنكران الذات،
وللإيثار بالأموال
والأنفس، والتضحية
بالعافية والسلامة
والراحة، فإنّ هذا القائد
يظلّ وحيداً مفرداً،
ويبقى الحقّ مظلوماً وبلا
ناصر.
وفي نهضة عاشوراء كان
الإمام الحسين عليه
السلام وأنصاره من أهل
بيته وأصحابه طاهرة
قلوبهم وأيديهم من كلّ
علائق الدنيا، وخاضوا
غمار هذه النهضة آيسين من
الحياة، ساعين إلى
الشهادة كي يبقى دين الله
حيّاً خالصاً، فقتلوا
وأُسروا من أجل أن يحيى
الحقّ والسنّة، وتموت
البدعة، وتُحرّر الأمّة.
ومن روائع تجلّيات
الإيثار يوم عاشوراء أنّ
أنصار الإمام عليه السلام
من أصحابه أبوا إلّا أن
يخوضوا الحرب قبل الأنصار
من بني هاشم، حتّى لا يصل
إلى بني هاشم مكروه ما
داموا هم أحياء! وكذلك
أبى بنو هاشم أن يصل
الأعداء إلى الإمام عليه
السلام
وهم أحياء! ففدوه بأنفسهم
حتّى استشهدوا جميعاً
قبله فكان الحسين عليه
السلام آخرهم حين نظر إلى
وادي كربلاء فلم يجد
أحداً من أنصاره قد بقي!
ولقد تجلّى الإيثار في
أسمى صوره في مواقف
وأخلاقيّات أبي الفضل
العبّاس عليه السلام،
ففضلاً عن رفضه الأمان
الذي جاء به شمر من ابن
زياد له ولإخوته من أمّه،
وفضلاً عن جوابه الرائع
بين يدي أبي عبد الله
الحسين عليه السلام حيث
قال مخاطباً الإمام عليه
السلام:"والله يا ابن
رسول الله لا نفارقك
أبداً، ولكنّا نفديك
بأنفسنا، ونقتل بين يديك،
ونرد موردك، فقبّح الله
العيش بعدك"20.
نجد أبا الفضل عليه
السلام يوم عاشوراء وقد
ملك شريعة الفرات بعد
قتال عنيف مع الأعداء،
وملأ القربة من الماء
ليحملها إلى الإمام عليه
السلام وأطفاله العطاشى،
وكانت شفتا أبي الفضل
عليه السلام ذابلتين
وقلبه كصالية الجمر من
العطش، فلمّا أحسّ ببرد
الماء، ملأ كفّه الشريفة
منه ليشرب، فلمّا أدناها
من فمه الطاهر تذكّر عطش
الحسين عليه السلام، فأبى
إيثاره ووفاؤه أن يشرب
قبل أخيه وأطفاله
العطاشى، فألقى الماء،
وخرج من الفرات وهو
يتلظّى عطشاً، ويخاطب
نفسه المقدّسة قائلاً:
يا نفسُ من بعد الحسين
هوني
وبعده لا كُنتِ أن
تكوني
هذا الحسينُ واردُ المنون وتشربين بارد
المعين
تالله ما هذا فعال ديني21
وحمل على القوم وهو يقول:
لا أرهب الموت إذا الموت
رقى
حتّى أوارى في
المصاليت لقا
نفسي لنفس المصطفى الطهر
وقا
إنّي أنا العبّاس
أغدوا بالسقا
ولا أخافُ الشرَّ يومَ
الملتقى22
ولمّا قطعوا يمينه أخذ
السيف بشماله وحمل عليهم
وهو يرتجز:
والله إنْ قطعتُم يميني
إنّي أحامي أبداً
عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
نجل النبيّ الطاهر
الأمين23
كما تجلّى الإيثار في
صورة رائعة من صوره في
موقف سعيد بن عبد الله
الحنفيّ (رضي الله عنه)
يوم عاشوراء أثناء الصلاة
وقت الزوال، حيث روي أنّ
سعيد بن عبد الله تقدّم
أمام الحسين عليه السلام
فاستهدف له يرمونه
بالنبل، فما أخذ الحسين
عليه السلام يميناً
وشمالاً إلّا قام بين
يديه! فما زال يُرمى حتّى
سقط إلى الأرض وهو يقول:
"اللّهمَّ العنهم لعن عاد
وثمود، اللّهمَّ أبلغ
نبيّك عنّي السلام،
وأبلغه ما لقيتُ من ألم
الجراح، فإنّي أردتُ بذلك
نصرة نبيّك. ثمّ مات،
فوجد به ثلاثة عشر سهماً
سوى ما به من ضرب السيوف
وطعن الرماح"24.
وفي رواية: "ثمّ التفت
إلى الحسين عليه السلام
فقال: أوَفيتُ يا ابن
رسول الله؟ فقال: نعم،
أنت أمامي في الجنّة! ثمّ
فاضت نفسه النفيسة"25.
هذا الإيثار أخلاقيّة
عاشورائيّة، ولكنّها قد
تتوفّر في كلّ زمان في
المؤمن العارف بحقّ إمام
زمانه حقّ المعرفة،
والمطيع له حقّ الإطاعة
فيما يحبُّ ويكره،
والمستعدّ لإيثار إمامه
عليه السلام على نفسه،
وللتضحية في سبيله.
تكريم الإنسان
المؤمن ذو قدر وكرامة في
جبهة الحقّ، بخلاف جبهة
الباطل التي ينظر أصحابها
إلى النّاس نظرتهم إلى
الوسائل التي يستعملونها
لتحقيق رغباتهم ومصالحهم.
وكرامة المؤمن تنشأ من
قيمة الحقّ، والتقوى
معيار درجاتها...
فالنّاس محترمون، ويحظون
بالتكريم بسبب الإيمان،
ذلك لأنّ منشأ كرامة
المؤمن انتسابه إلى الحقّ
بلحاظ إيمانه والتزامه
به، أي أنّ التقوى معيار
كرامة المؤمن ودرجاتها،
فالأتقى هو الأكرم، وليس
معيار التكريم لون
الإنسان، أو لغته، أو
قبيلته، أو أصله وقوميته،
أو أرضه، أو...
وكان الإمام الحسين عليه
السلام في نهضة عاشوراء
قد منح جميع أنصاره أشرف
أوسمة العزّة والكرامة،
منذ بدء الخليقة إلى قيام
الساعة، حين قال عليه
السلام:
"أمّا بعدُ، فإنّي لا
أعلم أصحاباً أوفى ولا
خيراً من أصحابي ولا أهل
بيت أبرَّ وأوصل من أهل
بيتي..."، وكان عليه
السلام يحضر كلّ واحدٍ
منهم عند مصرعه، فيأخذ
برأسه ويضعه في حجره
الشريف، ولم يفرّق بين
أحد منهم في ذلك، إذ كما
حضر عليّاً الأكبر عليه
السلام، حضر مولاه وغلامه
كذلك...
ولمّا استبصر الحرّ وتاب
إلى الله تعالى، وانضمّ
إلى معسكر الإمام عليه
السلام، كان يحتمل في
صدره الشكّ في قبول
توبته، فكان سؤاله:
"هل لي من توبة؟"
كاشفاً عن أمله الكبير
بنُبل وسماحة الإمام
الحسين عليه السلام، ولقد
حقّق الإمام عليه السلام
أمله بهذه التوبة، إذ
أعطى توبته إلى الله
ورجوعه إلى الحقّ في مثل
ذلك الموقف الصعب العسير
قيمة عليا حين أجابه:
"نعم، يتوب الله عليك"26.
هذه القيمة السامية من
استحقاقات مقام الإنسان
التائب الذي حرّر نفسه من
الظلمة وأوصلها إلى
النور، فهو وإن كانت له
سوابق وذنوب ثقيلة، إلّا
أنه الآن آمن بالهدى،
وهداه الله إلى النور.
كان "جون" مولى لأبي ذرّ
(رضوان الله عليه)، وكان
مع الحسين عليه السلام في
ركبه من المدينة إلى
كربلاء، فلمّا نشب القتال
وقف أمام الحسين عليه
السلام يستأذنه في
القتال، فقال له الحسين
عليه السلام:"يا جون!
أنت في إذن منّي، فإنّما
تبعتنا طلباً للعافية،
فلا تبتل بطريقتنا".
فوقع جون على قدمي أبي
عبد الله عليه السلام
يقبّلهما ويقول: " يا ابن
رسول الله! أنا في الرخاء
ألحسُ قصاعكم وفي الشدَّة
أخذلكم؟! إنّ ريحي لنتن،
وإنّ حسبي للئيم، وإنّ
لوني لأسود، فتنفَّس
عليَّ في الجنّة ليطيب
ريحي، ويشرف حسبي،
ويبيضَّ لوني، لا والله
لا أفارقكم حتّى يختلط
هذا الدمُّ الأسود مع
دمائكم. فأذن له الحسين
عليه السلام، فبرز وهو
يقول:
كيف ترى الفجّار ضرب
الأسوَدِ
بالمشرفيِّ والقنا
المسدّدِ
يذبُّ عن آل النبيّ أحمد
ثمّ قاتل حتّى قُتل"27.
وفي رواية أنّ الحسين
عليه السلام وقف عليه
وقال: "اللّهمَّ بيّض
وجهه، وطيّب ريحه، واحشره
مع الأبرار، وعرّف بينه
وبين محمّد وآل محمّد"28.
وروي عن الإمام الباقر
عليه السلام، عن أبيه زين
العابدين عليه السلام:"أنّ
بني أسد الذين حضروا
المعركة ليدفنوا القتلى
وجدوا جوناً بعد أيّام
تفوح منه رائحة المسك"29.
كان هذا مثالاً آخر أيضاً
على تكريم الإنسان في
ميدان الشرف والكرامة،
إنَّ تقدير الإمام عليه
السلام لتضحيات أنصاره
تكريم للإنسان
والإنسانيّة، لقد كان
سيّد الشهداء عليه السلام
يحضر مصارع الشهداء من
أنصاره، فينظر إلى
أجسادهم المضرّجة
بالدماء، فيستنشق من تلك
الأجساد الطّاهرة عطر
الشهادة، فيثني عليهم
ويُشيد بهم، ويذمُّ
قاتليهم، قائلاً:
"قتلةُ كقتلة النبييّن
وآل النبيين!"30،
إذ إنّ أولئك القَتَلَة
كقَتَلَةِ الأنبياء عليهم
السلام وآل الأنبياء!
وهذا يعني أنّ الإمام
الحسين عليه السلام كان
يعتبر أنصاره الشهداء في
نفس درجة الأنبياء عليهم
السلام، وقَتَلَتهم
كقَتَلَة الأنبياء.
إنّ الإشادة بالمؤمنين
المضحّين في سبيل الله
والدين وتمجيدهم بلاغ من
بلاغات عاشوراء
الأخلاقيّة، نتعلّمه من
سلوك الإمام الحسين عليه
السلام، فالمجتمع الذي
يرث ثقافة الجهاد
والشهادة ينبغي أن يُعظّم
حرمة أُناسٍ آثروا على
أنفسهم فاستشهدوا في سبيل
الله تعالى، ويُعظِّم
كذلك حرمة إخوانهم
المعلولين وأسرى الحرب
الأحرار، وعوائل الشهداء،
حتّى يبقى هذا الخطّ
الإلهيّ دائماً محبَّباً
يجذب النّاس إليه جذباً
قوّياً.
التوكّل
إنّ الاستناد في الشدائد
والمصاعب إلى ملاذ مقتدر
متين سبب ثبات قدم
الإنسان وعدم خوفه من
مواجهة الأعداء
والمشكلات، والتوكّل هو
الاعتماد على قدرة الله
تبارك وتعالى ونصرته
وإمداده.
ولقد أمر القرآن الكريم
المؤمنين أن يتوكّلوا على
الله وحده، وكذلك أكّدت
الروايات الإسلاميّة على
هذا الأمر، وقد ورد فيها
ما مؤدّاه أنّ من يلجأ
إلى غير الله أو يتوكّل
على غيره لا يزدد إلّا
ذُلاً وخيبة.
وكان الإمام الحسين عليه
السلام منذ بدء حركته من
المدينة المنوّرة قد
اختار هذا السبيل
بالتوكّل على الله ماضياً
إلى ما أمره به الله
ورسوله صلى الله عليه
وآله وسلم وكان الله
تبارك وتعالى وحده ملاذ
الحسين عليه السلام
ومعتمده في خروجه من مكّة
المكّرمة إلى الكوفة، لا
رسائل أهل الكوفة ولا
دعواتهم إيّاه إلى القدوم
إليهم، ولذا لم ينثن
الإمام عليه السلام عن
هذا التوجّه وهذا العزم
لمّا جاءه خبر مقتل مسلم
بن عقيل عليه السلام
وتنصُّل أهل الكوفة عن
عهودهم وتنكّرهم لها، بل
أصرّ على المضيّ في هذا
الطريق إلى الكوفة لأنّه
كان ماضياً لأمر الله
ومتوكّلاً ومعتمداً عليه
وحده.
ومع حاجته عليه السلام
إلى الأنصار إلّا أنّه لم
يكن متوكّلاً ومعتمداً
حتّى على أنصاره، ولذا
نجد أنّ توكّله واعتماده
على الله وحده كان أحد
أسباب دعوته إيّاهم إلى
التخلّي والانصراف عنه في
أكثر من منزل من منازل
الطريق عامّة وفي ليلة
عاشوراء خاصّة.
كان الإمام عليه السلام
منذ قيامه معتمداً على
هذا التوكّل الذي لا يمكن
معه لأيّ حادث أن يضعف من
عزيمته عليه السلام، هذا
التوكّل الخالص الذي أشار
إليه الإمام عليه السلام
منذ بدء قيامه في الوصيّة
التي كتبها إلى أخيه
محمّد بن الحنفيّة، حيث
قال في ختامها: "وما
توفيقي إلّا بالله، عليه
توكلّت وإليه أُنيب"31.
وفي منزل الخزيميّة لمّا
أصبح الإمام عليه
السلام:أقبلت إليه أخته
زينب بنت عليّ عليهما
السلام فقالت: "يا
أخي! ألا أُخبرك بشيء
سمعته البارحة؟ فقال
الحسين عليه السلام:وما
ذاك؟
فقالت: خرجتُ في بعض
الليل لقضاء حاجة، فسمعت
هاتفاً يهتف وهو يقول:
ألا يا عينُ فاحتفلي بجهد
ومن يبكي على
الشهداء بعدي؟
على قوم تسوقهم المنايا
بمقدار إلى انجاز
وعد
فقال لها الحسين عليه
السلام:يا أختاه!
المقضيُّ هو كائنٌ"32.
وفي منزل البيضة، كان
الإمام عليه السلام قد
خطب خطبة في أصحابه
وأصحاب الحرّ بن يزيد
الرياحيّ، ذمّ فيها أهل
الكوفة على عدم الوفاء
بعهدهم وبيعتهم، وقال
عليه السلام في ختامها
معلناً عن اعتماده على
الله وحده: "وسيغني
الله عنكم"33.
وكان من دعائه عليه
السلام في صبيحة عاشوراء
لمّا رأى الأعداء قد
أحاطوا بمعسكره قوله عليه
السلام:"اللّهمَّ أنت
ثقتي في كلّ كرب، وأنت
رجائي في كلّ شدّة، وأنت
لي في كلّ أمر نزل بي ثقة
وعدّة..."34.
ومثل هذه المناجاة في
ميدان القتال وعلى مشارف
الشهادة لا تصدر إلّا عن
قلبٍ متوكّل على الله
تمام التوكّل، وفي خطبة
أخرى خطبها عليه السلام
في الأعداء صبيحة عاشوراء
دعاهم فيها إلى الحقّ قال
فيها: "وإنْ لم تعطوني
النصف من أنفسكم، فأجمعوا
رأيكم ثمّ لا يكن أمركم
عليكم غمّة ثمّ أُقضوا
إليَّ ولا تنظرون، إنّ
وليِّي الله
الذي نزّل الكتاب وهو
يتولّى الصالحين"35.
وقال عليه السلام في خطبة
أخرى ذلك اليوم:
"فأجمعوا أمركم وشركاءكم
ثمّ كيدوني جميعاً فلا
تنظرون، إنّي توكّلت على
الله ربّي وربّكم، ما من
دابّة إلّا هو آخذٌ
بناصيتها، إنّ ربّي على
صراط مستقيم..."36.
ولمّا أخبره الضحّاك بن
عبد الله المشرقيّ وصاحبه
أنّ النّاس في الكوفة قد
جُمعوا على حربه لم يكن
ردّ الإمام عليه السلام
على هذا الخبر إلّا أن
قال: "حسبي اللهُ ونعم
الوكيل"37.
هذه الخصلة السامية كانت
ظاهرة في سلوك الإمام
عليه السلام منذ بدء
حياته، ولم تزل تتجسّد في
كلّ حركة وسكنة منه، حتّى
في مناجاته الأخيرة مع
الله تبارك وتعالى بعد أن
وقع صريعاً مثخناً
بالجراح، إذ كان صلوات
الله عليه قد ناجى ربّه
في تلك الحال، وكان من
مناجاته قوله: "...
أدعوك محتاجاً، وأرغب
إليك فقيراً، وأفزع إليك
خائفاً، وأبكي مكروباً،
وأستعين بك ضعيفاً،
وأتوكّلُ عليك كافياً..."38.
وممّا ينبغي الانتباه
إليه هنا أنّ هذا التوكّل
على الله تبارك وتعالى
منذ بدء قيامه وحتّى
استشهاده عليه السلام كان
مقترناً بالتدبير الدقيق
والتخطيط الصائب وتهيئة
المقدّمات اللازمة
والتمهيدات الضروريّة من
قبله عليه السلام في
الصغيرة والكبيرة من حركة
أحداث نهضته، حتّى لا
يكون التوكّل منفصلاً عن
التخطيط في العمل
والاستفادة من الإمكانات
المتاحة في الطريق إلى
تحقيق الهدف المنشود،
وهذا هو الفهم الصحيح
والدقيق للتوكّل.
يقول الإمام الخمينيّ
(قدس سره)، المنادي بهذا
التوكّل الخالص على الله
تبارك وتعالى، والذي كان
صوت الأمّة المتوكّلة على
الله:
"إذا تخلّينا يوماً ما
عن اعتمادنا على الله،
واعتمدنا على النفط، أو
على السلاح، فاعلموا أنّ
ذلك اليوم هو اليوم الذي
سنواجه فيه هزيمتنا"39.
ويقول في مكان آخر:
"اِتّكلوا على الله في
جميع الأمور والأعمال،
فالقدرات والقوى الأخرى
لا شيء إزاء قدرة الله
وقوّته... اِتّكلوا على
الله تنتصروا على كلّ
شيء، فإنّ رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم كان
رجلاً واحداً في مقابل
جميع الأعداء، لكنّه
بالاتّكال على الله انتصر
على الجميع... ولأنّ
اتّكاله كان على الله فقد
كان جبرئيل الأمين من
ورائه... أنتم أيضاً
اتّكلوا على الله ليكون
جبرئيل الأمين من ورائكم،
ليكون معكم، ليكون
الملائكة معكم"40.
جهاد النفس
جهاد النفس هو أسمى وأصعب
وأكبر من جهاد العدوّ
الخارجيّ، لأنّ جهاد
النفس هو مجاهدة تمنيّات
النفس وقهر أهوائها،
والسيطرة على الغضب
والشهوة وحبّ الدنيا،
والتضحية بإرادة النفس في
سبيل إرادة الله تبارك
وتعالى.
وتهذيب وبناء النفس هذا
ومجاهدتها، هو ركيزة
وأساس جهاد العدوّ
الخارجيّ، فبدون جهاد
النفس يكون جهاد العدوّ
بلا ثمر أو بلا ثواب،
لأنّه سيكون سبباً
للرياء، والعجب، والغرور،
والظلم، وعدم التقوى.
إنّ من ينتصر في ميدان
النفس "الجبهة الباطنيّة"
ويقهر هوى النفس ينتصر
أيضاً في الميادين
الخارجيّة المختلفة، أمّا
من يطلق لنفسه العنان ولا
يكبح جماحها، بل يستجيب
لها في كلّ ما تهوى
وتتمنّى، فإنّ النفس
الجموحة الأمّارة بالسوء،
المتعوّدة على الخطايا لا
تقنع حتّى تُردي صاحبها،
بل تلقي به في جهنّم، كما
يقول أمير المؤمنين عليه
السلام:
"ألا وإنّ الخطايا
خيلٌ شمسٌ، حمل عليها
أهلها، وخلعت لجمها،
فتقحّمت بهم في
النّار!..."41.
وفي ميدان كربلاء، كان
أبطال ملحمة عاشوراء من
أهل جهاد النفس، فلم يكن
للهوى ولشهوة الدنيا دخلٌ
في دوافعهم، بل كانت
نيّاتهم خالصة لله تبارك
وتعالى، لذا فقد انتصروا
على إغراءات المال،
والمنصب، والشهوة،
والعافية، والرفاه،
والحياة والبقاء، ومُتَع
الدنيا...
كان عمرو بن قرظة
الأنصاريّ (رضوان الله
عليه)، من أنصار الحسين
عليه السلام الذين
استشهدوا بين يديه في
وقعة الطفّ، وكان أخوه
عليّ بن قرظة من أنصار
عمر بن سعد، لكنّ مجاهدة
عمرو لنفسه وتربيته لها
كانت السبب في عدم تأثّر
عمرو بالمحبّة والعاطفة
الأخويّة بينه وبين أخيه،
الّتي قد تؤدّي به إلى
التراخي أو التردّد في
الدفاع عن الإمام عليه
السلام، ولذا فقد دافع
عمرو عن الإمام عليه
السلام دفاع الأبطال،
وقاتل قتال المستيقنين
حتّى استشهد (رضي الله
عنه).
وكان محمّد بن بشر
الحضرميّ (رضوان الله
عليه) من أنصار الإمام
عليه السلام، وكان قد
جاءه في يوم عاشوراء خبر
أسر ابنه بثغر الريّ،
فقال: " عند الله
أحتسبه ونفسي، ما كنت
أحبُّ أن يؤسَر وأن أبقى
بعده! فسمع الحسين عليه
السلام قوله، فقال: رحمك
الله! أنت في حلّ من
بيعتي، فاعمل في فكاك
ابنك!
فقال: أكلتني السباع
حيّاً إنْ فارقتك"42.
وفي نصّ آخر أنّه قال:
"هيهات أن أفارقك ثمّ
أسأل الركبان عن خبرك! لا
يكن والله هذا أبداً، ولا
أفارقك! ثمّ حمل على
القوم فقاتل حتّى قتل
رحمة الله عليه ورضوانه"43.
وكانت لنافع بن هلال
(رضوان الله عليه) وهو
شهيد آخر من شهداء الطفّ،
زوجة لم يدخل بها بعد،
وكانت معه في معسكر
الإمام عليه السلام،
فلمّا رأت نافعاً يوم
عاشوراء قد برز إلى
القتال، تعلّقت بأذياله
وبكت بكاءً شديداً،
وقالت:
" إلى أين تمضي!؟ وعلى
من أعتمد بعدك؟!"
وكان هذا المشهد كافياً
ليزلزل عزم كلّ شاب في
فترة الخطوبة فيثنيه عن
الإقدام على الموت
باختياره! وكان الإمام
الحسين عليه السلام قد
سمع قولها، فقال لنافع:
"يا نافع! إنّ أهلك لا
يطيب لها فراقك، فلو رأيت
أن تختار سرورها على
البراز؟" فقال نافع:
" يا ابن رسول الله! لو
لم أنصرك اليوم، فبماذا
أجيب غداً رسول الله!؟
وبرز فقاتل حتّى قتل
(رضوان الله عليه) "44.
وفي اليوم السابع من
المحرّم لمّا اشتدّ على
الحسين عليه السلام
وأصحابه العطش، دعا أخاه
أبا الفضل العبّاس عليه
السلام فبعثه في ثلاثين
فارساً وعشرين راجلاً،
وبعث معهم بعشرين قربة،
فجاءوا حتّى دنوا من
الماء ليلاً، واستقدم
أمامهم باللواء نافع بن
هلال، فقال عمرو بن
الحجّاج الزبيديّ قائد
الحرس الأمويّ على الماء
يومذاك: "من الرجل؟ فجيء!
قال: ما جاء بك؟!
قال: جئنا نشرب من هذا
الماء الذي حلأتمونا عنه!
قال: فاشرب هنيئاً!
قال: لا والله، لا
أشرب منه قطرة وحسين
عطشان ومَن ترى من
أصحابه!"45.
وفي رواية أنّ عبد الله
بن مسلم بن عقيل عليهم
السلام لمّا استأذن
الحسين عليه السلام في
القتال، قال له: "أنت في
حلٍّ من بيعتي، حسبك قتل
أبيك مسلم، خذ بيد أمّك
واخرج من هذه المعركة.
فقال: لستُ والله ممّن
يؤثر دنياه على آخرته"46
!.
ولمّا ورد أبو الفضل
العبّاس عليه السلام
شريعة الفرات وقلبه
يتلظّى من العطش، اغترف
بيده غرفة من الماء
ليشرب، فتذكّر عطش الإمام
عليه السلام وأهل بيته،
فرمى الماء من يده ولم
يشرب حتّى استشهد47.
إنّ هذه الأمثلة، وأمثلة
غيرها كثيرة، كلّ واحدٍ
منها مظهر رائع من مظاهر
انتصار أبطال ملحمة
عاشوراء في ميدان "جهاد
النفس"، فمنهم من ضحّى
بعلقته بابنه أو زوجه على
عتبة مذبح عشق الإمام
عليه السلام، ومنهم من لم
يُبال بعطشه القاتل إزاء
عطش الإمام عليه السلام،
ومنهم من لم ير لحياته
معنى بعد حياة الإمام
عليه السلام، ومنهم من لم
يسمح لألم ولوعة شهادة
أبيه أن يمنعاه من أدائه
لتكليفه والقيام بواجبه.
إنّ رفض أبي الفضل
العبّاس وإخوته من أمّه
عليهم السلام لأمان ابن
زياد الذي حمله
إليهم الشمر، وإنّ رفض
أنصار الإمام عليه السلام
من أهل بيته وأصحابه
التخلّي عنه مع إخباره
عليه السلام إيّاهم
مراراً بأنّهم سوف
يُقتلون، وإنّ رفض هانئ
بن عروة لكلّ محاولات
الترغيب والترهيب في أن
يُسلّم مسلم بن عقيل عليه
السلام إلى ابن زياد،
حتّى آثر الاستشهاد على
تسليم مسلم عليه السلام،
وإنّ رفض الإمام الحسين
عليه السلام أن يبدأ
القوم بقتال يوم عاشوراء
حتّى في رمية سهم ما لم
يبدأوه بالقتال48،
وإنّ رفض مسلم بن عقيل
عليه السلام أن يغتال
عبيد الله بن زياد في بيت
هانئ لأنّه تذكّر حديثاً
يرويه أمير المؤمنين عليه
السلام عن النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم:"أنّ
الإيمان قيد الفتك"، فلم
يخرج من مخبئه حتّى ترك
ابن زياد المنزل49،
وإنّ امتناع زينب الكبرى
عليها السلام أن تخمش
وجهها أو تشقّ جيبها
امتثالاً لأمر الإمام
عليه السلام مع كلّ ما
عاشته قبل يوم الطفّ وفيه
وبعده من مصائب ودواهي
تزلزل الجبال الرواسي
وتذيب الصخر وتذر الأطفال
شيبا50،
إنّ هذه المواقف والمشاهد
وغيرها ممّا جرى في مجموع
حركة أحداث نهضة عاشوراء،
علامات مضيئة دالّة على
المستوى السامي الذي كان
عليه أبطال ملحمة النهضة
الحسينية في مجال "جهاد
النفس".
إذن فدرس عاشوراء الذي
نستفيده من بلاغ "جهاد
النفس" هو أنّ على الذين
يخوضون غمار ميدان مواجهة
الظلم أن تكون نيّاتهم
خالصة، وأن يكونوا
متحرّرين من أسر هوى
النفس، وأُزيل من وجودهم
الميل إلى التسلّط، وحبّ
الشهرة وطلب الرئاسة،
وحبّ الدنيا وتعلّقاتها،
حتّى يتمكّنوا من الثبات
والاستقامة على خطّ
المواجهة، وإلّا فإنّ
الخوف عليهم من التخلّي
عن مواجهة الظلم، وعن
تحقيق الهدف المنشود، ومن
خطر الوقوع في شراك النفس
الأمارة بالسوء، لا يزال
باقياً كما هو.
كان الإمام الحسين عليه
السلام يرى أنّ مواصفات
إمام الهدى والحقّ أن
يكون ملتزماً بدين الحقّ،
واقفاً نفسه لذات الله
وفي سبيله: "الدائن
بدين الحقّ، والحابس نفسه
على ذات الله"51.
يقول الإمام الخمينيّ
(قدس سره):
"يجب أن تهذّبوا
أنفسكم حتّى تستطيعوا
القيام، وتهذيب النفس هو
أن تتّبعوا أحكام الله"52.
وقال (قدس سره) أيضاً:
"ما دمتم مكبّلين بأغلال
أنانيّتكم وأهوائكم
النفسيّة، فإنّكم لن
تستطيعوا "الجهاد في سبيل
الله" ولا الدفاع عن
"حريم الله" "53.
لقد كان جميع شهداء
عاشوراء من أهل "جهاد
النفس"، وهذا هو أيضاً
بلاغهم إلى الأجيال
المقبلة.
الشجاعة
الشجاعة: شدّة القلب54
عند البأس، فالإنسان
الشجاع هو ذو القلب
الشديد الثابت في مواجهة
الشدائد والأخطار، وأكثر
ما تستعمل هذه الكلمة في
قضايا الكفاح والجهاد
والحرب، وعدم الخوف عند
مواجهة العدوّ في النزال.
وهذه القوّة القلبيّة،
والطاقة الروحيّة، وصلابة
الإرادة، هي السبب في عدم
خوف الإنسان من التصريح
بالحقّ أمام الظالمين،
ومن المواجهة والكفاح
أيضاً إذا اقتضى الأمر
ذلك، وفي عدم الخوف من
الفداء والتضحية أيضاً،
وعند الموقف الذي يخاف
أغلب النّاس فيه تكون
الشجاعة ألّا يخاف
الإنسان على رغم وجود
أسباب الخوف، وألّا
يتزعزع، وأن يتغلّب على
المشكلات، وأن يتّخذ
القرارات الحقّة الصائبة.
إنّ جميع القرارات
والمواقف الرشيدة، وصناعة
الملاحم البطوليّة في
ميادين الجهاد، مدينة
لفضل قوّة قلب وشدّة بأس
الشجعان في الحرب. وجميع
هزائم الطواغيت والقوى
المتجبّرة، وإزالة عروشهم
وأبّهتهم، مردّها أيضاً
إلى شجاعة الأبطال أولي
العزم الذين واجهوا أولئك
الطواغيت وتلكم القوى.
إنّ عدم الخوف من الموت
من المظاهر الواضحة
للشجاعة، ولولا هذه
الشجاعة بالذات لما اندفع
الإمام الحسين عليه
السلام وأنصاره إلى حرب
عاشوراء ليصنعوا هذه
الملحمة الخالدة.
فحينما تحرّك الإمام عليه
السلام من مكّة المكّرمة
نحو الكوفة، كان جميع
الذين التقوه
أثناء الطريق قادمين من
الكوفة- أو كانوا على
علمٍ بأوضاعها- يحذّرونه
من مغبّة هذا السفر
ويخوّفونه من عواقبه، بعد
ما يخبرونه بأوضاع العراق
المضطربة واستيلاء ابن
زياد على مجاري الأمور،
وتسلّطه على النّاس هناك،
لكنّ شجاعة الإمام عليه
السلام وعدم خوفه من
الموت -فضلاً عن مضيِّه
عليه السلام لتنفيذ أمر
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم - حتّما إصراره
على مواصلة الطريق إلى
الكوفة، وقد صرّح عليه
السلام عند لقائه بجيش
الحرّ ابن يزيد الرياحيّ
قائلاً: "أبالموت
تخوّفني؟!
55"،
وقال عليه السلام في موقع
آخر: "لا والله لا
أعطيهم بيدي إعطاء
الذليل، ولا أقرّ إقرار
العبيد"56،
ويخاطب عليّ الأكبر عليه
السلام أباه عليه السلام
في الطريق بعد أن قصَّ
عليه رؤياه قائلاً:
"يا أبه! أفلسنا على
الحقّ؟ فقال: بلى يا بني
والذي إليه مرجع العباد.
فقال: يا أبه إذن لا
نبالي بالموت!..."57.
إنّ خصلة الشجاعة في بني
هاشم أمر ذائع الصّيت في
النّاس، ولا يقوى على
إنكاره أحد، ولقد صرّح
بذلك الإمام السجّاد عليه
السلام في خطبته المثيرة
في مجلس يزيد قائلاً:
"أُعطينا العلم، والحلم،
والسماحة، والفصاحة،
والشجاعة..."58.
والأسمى من كلّ ذلك،
الشجاعة التي أظهرها
الإمام الحسين عليه
السلام وأنصاره من أهل
بيته وأصحابه في الميادين
المختلفة من نهضته
المقدّسة عامّة، وفي
ميدان كربلاء يوم عاشوراء
خاصّة، هذه الشجاعة
الفريدة التي يشكّل
الحديث فيها كتاباً
مفصّلاً، فمثلاً الشجاعة
ورباطة الجأش التي أبداها
مسلم بن عقيل عليه السلام
في الكوفة عند قتاله
الجيش الذي أرسله ابن
زياد لمحاصرته واعتقاله،
أو شجاعة ومبارزات أنصار
الإمام عليه السلام في
ميدان كربلاء التي أذهلت
الأعداء وأرعبتهم إلى
درجة أن اضطّر أحد قادة
الجيش الأمويّ وهو عمرو
بن الحجّاج الزبيديّ أن
يصيح بجنودهم: "يا
حمقى! أتدرون من
تقاتلون؟! فرسان المصر!
قوماً مستميتين! لا
يبرزنَّ لهم منكم أحد..."59،
أو شجاعة ورباطة جأش عبد
الله بن عفيف الأزديّ
(رضوان الله عليه) الذي
وقف ذلك الموقف الجريء في
وجه ابن زياد في مجلسه
فقال كلمة الحقّ، ثمّ
قتاله جنود ابن زياد
الذين هجموا عليه في داره
قتالاً باسلاً وهو أعمى!
ومئات الأمثلة الأخرى على
تلكم الشجاعة والبسالة،
حتّى أنّ الأعداء وصفوا
الحسين عليه السلام
وأنصاره بهذا الوصف:
"ثارت علينا عصابة أيديها
في مقابض سيوفها، كالأسود
الضارية،... تلقي أنفسها
على الموت، لا تقبل
الأمان، ولا ترغب في
المال، ولا يحول حائل
بينها وبين الورود على
حياض المنيّة..."60.
إنّ شجاعة أبطال عاشوراء
مستمدّة من عقيدتهم
ويقينهم، وأولئك الذين
يقاتلون عشقاً للشهادة
ليس في قلوبهم خوف من
الموت حتّى يضعفوا عند
مواجهة العدوّ، ولذا كانت
عساكر الأعداء تفرُّ
باستمرار من بين أيديهم،
ولأنّ الأعداء لا جرأة
لهم على المبارزات
الفرديّة قبال هؤلاء
الشجعان، من هنا فقد
كانوا يعمدون إلى الحملات
العامّة على الفرد الواحد
من أبطال عاشوراء، أو
يمطرونه بالحجارة من
بعيد، يقول حميد بن مسلم-
وهو أحد رواة وقائع
عاشوراء- واصفاً شجاعة
الإمام عليه السلام
ورباطة جأشه: "فوالله!
ما رأيت مكثوراً قطّ قد
قتل ولده وأهل بيته
وأصحابه أربط جأشاً ولا
أمضى جناناً منه عليه
السلام، إنْ كانت
الرّجالة لتشدّ عليه
فيشدّ عليها بسيفه،
فتنكشف عن يمينه وشماله
انكشاف المعزى إذا شدّ
فيها الذئب!"، فلمّا
رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن
استدعى الفرسان، فصاروا
في ظهور الرّجالة، وأمر
الرماة أن يرموه، فرشقوه
بالسهام حتّى صار
كالقنفذ...61
حتّى لقد أشادت نصوص
زيارات متعدّدة بشجاعة
الإمام عليه السلام
وشجاعة أنصاره، حيث أثنت
عليهم بتعابير مثل:
"بَطل المسلمين"،
"فرسان الهيجاء"،
"ليوث الغابات"62.
لقد كانت واقعة عاشوراء
ولم تزل تُلهم المجاهدين
في سبيل الله الشجاعة
والبسالة والبطولة، وكان
المحرّم الحرام ولم يزل
يمنح النّاس روحيّة
الشهامة ومواجهة الظلم،
وبتعبير الإمام الخمينيّ
(قدس سره): "ابتدأ شهر
المحرّم، شهر الحماسة
والشجاعة والتضحية، الشهر
الذي انتصر فيه الدم على
السيف، الشهر الذي دمغت
فيه قوّة الحقّ الباطلَ
إلى الأبد، وختمت على
نواصي الظالمين والحكومات
الشيطانيّة بختم البطلان،
الشهر الذي علّم الأجيال
على مدى التاريخ طريق
الانتصار على الحراب..."63.
ومع الانتباه إلى أنّ
تيّار الشهامة والشجاعة
يغمر حركة أحداث نهضة
عاشوراء، ويموج في أفعال
وأقوال أبطال ملحمة
عاشوراء، فإنّ من الجدير
أن يُبيّنَ محتوى هذه
الحقيقة للناس عامّة،
وللشباب منهم خاصّة، حتّى
يأخذوا الدرس عن شجاعة
أولئك الأبطال في نفس
الوقت الذي يذرفون دموعهم
الطاهرة بكاءً على
مظلوميّة الإمام الحسين
عليه السلام وأنصاره
(قدّس سرّهم).
كما أنَّ التذكير بشجاعة
قلب مولاتنا زينب الكبرى
عليها السلام وصلابتها في
مواجهة المصائب والدواهي،
وتحمّلها لجميع تلك
الآلام والأحزان،
وتماسكها عند استشهاد
أخيها عليه السلام وأهل
بيته وأصحابه، وخطبها
الناريّة في الكوفة وفي
دمشق في مواجهتها جبابرة
ذلك الزمان، يربّي نساءنا
على الشجاعة والبسالة
والصبر والتحمّل.
الصبر والثبات
من الضروريّ الصمود
والثبات من أجل مواجهة
الضغوط الداخليّة
والخارجيّة ومن أجل
التغلّب على المشاكل في
طريق الوصول إلى الهدف
المنشود، فبدون الصبر
سواء في المقاومة والجهاد
أو في أيّ عمل آخر لا
يمكن الوصول إلى النتائج
المرجوّة، فلا بدّ
للإنسان أن يكون صبوراً
حتّى لا تزلزله المصائب
وصعوبات الطريق، هذا ما
يدعو إليه الدين في جميع
المراحل، ونجد أنفسنا في
عاشوراء أيضاً وجهاً لوجه
أمام هذا التجلّي الروحيّ
العظيم، فإنّ الشيء الذي
سما بملحمة كربلاء إلى
ذروة الخلود والتأثير
والفتح المعنويّ هو
روحيّة المقاومة والصمود
التي تجلّت في الإمام
الحسين عليه السلام
وأنصاره وأهل بيته.
لقد كان الإمام عليه
السلام منذ أوائل نهضته
وحتّى صبيحة عاشوراء
يشترط فيمن يريد الانضمام
إليه والالتحاق به أن
يكون صابراً صامداً
موطّناً على لقاء الله
نفسه، ويروى أنّه كان من
قوله عليه السلام في بعض
المنازل أنّه قال:
"أيّها النّاس! فمن كان
منكم يصبر على حدّ السيف
وطعن الأسنّة فليقم معنا،
وإلّا فلينصرف عنّا"64.
إنّ ميدان الحرب
والاقتتال مصحوب بالصدام
والضرب والعطش والإرهاق
والجراحات والموت والأسر
ومئات المخاوف والأخطار
الأخرى، ولذا كان الإمام
الحسين عليه السلام يشترط
لصحبته ومرافقته "الصبر"
فيمن يلتحق به، حتّى يبقى
ويثبت أنصاره الصابرون في
ميدان النهضة إلى نهاية
المطاف.
ونلاحظ شعار "الصبر
والثبات" واضحاً جليّاً
في خطب الإمام عليه
السلام وفي رجزه ورجز
أنصاره، لقد كان الصبر من
الأمور التي أكّد عليها
الإمام عليه السلام في
وصاياه لأنصاره وأهل
بيته، وخصوصاً ما أوصى به
لمرحلة ما بعد استشهاده
عليه السلام:
ففي يوم عاشوراء مثلاً،
قال عليه السلام في خطبة
خطبها في أصحابه:
"صبراً بني الكرام!
فما الموت إلّا قنطرة
تعبر بكم عن البؤس
والضرّاء إلى الجنان
الواسعة والنعيم الدائمة"65.
وممّا أوصى عليه السلام
به أخته زينب الكبرى
عليها السلام وبقيّة
أخواته وبناته ونسائه
ليلة عاشوراء قوله:
"... يا أختاه يا أمّ
كلثوم، وأنت يا زينب،
وأنت يا فاطمة، وأنت يا
رباب! أنظرن إذا أنا قتلت
فلا تشققن عليَّ جيباً،
ولا تخمشن عليَّ وجهاً،
ولا تقلن هجراً..."66.
وبعد أن صلّى عليه السلام
بأصحابه يوم عاشوراء،
دعاهم أيضاً إلى الصبر
والثبات قائلاً: "
فاتّقوا الله واصبروا"67.
وكان شعار "الصبر
والثبات" ظاهراً أيضاً في
رجز أصحابه، فقد جاء
مثلاً في بداية رجز خالد
بن عمرو (رضوان الله
عليه) قوله:
صبراً على الموت بني
قحطان
كيما تكونوا في
رضى الرحمن
وجاء أيضاً في مطلع رجز
سعد بن حنظلة التميميّ
قوله:
صبراً على الأسياف
والأسنّة
صبراً عليها لدخول
الجنّة68
إنّ "الصبر يهوّن
الفجيعة"69
كما يقول الإمام عليّ
عليه السلام، والإنسان
الصابر كما يزداد بالصبر
تحمّلاً للمصيبة وآلامها،
فإنّه يشعُّ أيضاً على
الآخرين روحيّة الصبر
والثبات.
ولقد كانت أشدّ المصائب
والصدمات الروحيّة التي
تعرّض لها الإمام الحسين
عليه السلام مصيبة مقتل
أبنائه وأنصاره من أهل
بيته وأصحابه، لكنّه عليه
السلام في جميع تلك
الدواهي لم يتزعزع بل صمد
وقاوم، ولم يستسلم لهول
المصاب، ولم يهن ولم
ينكل، وله تصريحات كثيرة
مفعمة بالصبر على ما ألمّ
به من عظيم الآلام عند
فقد أعزّته وأنصاره من
أهل بيته وأصحابه، ولقد
أعدّ عليه السلام نفسه
منذ البدء لتحمّل هذه
النوازل، وقد صرّح بذلك
في خطبته التي خطبها
بمكّة قبيل خروجه إلى
العراق، حيث قال:
"نصبر على بلائه ويوفّينا
أجور الصابرين"70.
وفيما أوصى به الإمام
عليه السلام أخته زينب
الكبرى وباقي النساء وأهل
بيته في ليلة عاشوراء ضمن
ما أخبرهم به من حال
الأعداء، أنّه قال:
"ذكّرتهم فلم يذكروا،
ووعظتهم فلم يتّعظوا، ولم
يسمعوا قولي، فما لهم غير
قتلي سبيلاً، ولا بدّ أن
تروني على الثرى جديلاً،
لكن أوصيكنّ بتقوى الله
ربّ البريّة، والصبر على
البليّة، وكظم نزول
الرزيّة، وبهذا وعد جدّكم
ولا خلف لما وعد، ودّعتكم
إلهي الفرد الصمد"71.
وفي يوم عاشوراء دعا ابنه
عليَّ الأكبر عليهما
السلام إلى التحمّل
والصبر على العطش قائلاً:
"اصبر حبيبي..."72،
وكذلك خاطب أحمد بن أخيه
الحسن عليهما السلام
بعد أن عاد إليه من
القتال عطشان بقوله:
"يا بنيّ اصبر قليلاً..."73،
وفي وداعه الأخير لحرمه
أوصى ابنته سكينة عليها
السلام قائلاً:
"فاصبري على قضاء الله
ولا تشتكي"74،
وكان من مناجاته
العرفانيّة في آخر لحظات
حياته وهو صريع على وجه
الثرى، مخاطباً ربّه عزَّ
وجلَّ: "صبراً على
قضائك يا ربّ، لا إله
سواك... صبراً على حكمك
يا غياث من لا غياث
له..."75.
إنّ تمسّك أهل المصيبة
بالصبر، وسيطرتهم على
أحزانهم وغمّهم، وتسليمهم
لمشيئة الله وتقديره،
احتساباً ورجاءً لما عند
الله من المثوبة والأجر،
كما يزيد في ثوابهم عند
الله تبارك وتعالى، كذلك
ييسّرعليهم تحمّل لوعة
فقد الأحبّة واستشهاد
الأعزّة، خصوصاً إذا كان
صاحب المصيبة لفقد
الأحبّة ذا إيمان قويّ لا
يسمح للجزع والاعتراض أن
يحبطا أجره عند الله
تبارك وتعالى.
كان عبد الله بن جعفر زوج
زينب الكبرى عليها السلام
قد بقي في المدينة ولم
يلتحق بالإمام الحسين
عليه السلام في خروجه إلى
العراق (فقد قيل: إنّه
مكفوف البصر)76،
لكنّه كان قد شارك في
الطفّ بولديه الذين
استشهدا مع الإمام الحسين
عليه السلام.
ولمّا بلغه مقتل ابنيه مع
الحسين عليه السلام دخل
عليه بعض مواليه والنّاس
يعزّونه، فقال ذلك الرجل
المولى: "هذا ما لقينا
ودخل علينا من الحسين"
فحذفه عبد الله ابن جعفر
بنعله ثمّ قال: "يا
ابن اللخناء! اللحسين
تقول هذا؟! والله لو
شهدته لأحببتُ أن لا
أُفارقه حتّى أُقتلَ معه!
والله إنّه لممّا يسخّي
بنفسي عنهما، ويهوّن عليّ
المصاب بهما أنّهما أصيبا
مع أخي وابن عمّي مواسيين
له صابرين معه"77.
إنّ التأريخ دوّن لنا صبر
وثبات شهداء كربلاء
وذويهم عنواناً لمقام
إنسانيّ فذّ ولخصلة
أخلاقيّة سامية، وقد أثنت
النصوص الواردة في زيارة
هؤلاء الشهداء الأفذاذ
ثناءً عاطراً على جهادهم
وصبرهم وثباتهم.
نقرأ في إحدى زيارات
الحسين عليه السلام:"فجاهدهم
فيك صابراً محتسباً حتّى
سُفك في طاعتك دمه!"78.
ونقرأ في أحد نصوص زيارة
أبي الفضل العبّاس عليه
السلام:"فنعم الصابر
المجاهد المحامي
الناصر..."79.
لقد كانت واقعة كربلاء
مدرسة الصمود، وكان أبطال
ملحمة عاشوراء قدوات
الصبر والتحمّل والثبات،
كما استوعبت عوائل
الشهداء أيضاً درس الصبر
من زينب الكبرى عليها
السلام، وتحمّلت الأمّهات
والزوجات والآباء لوعة
فقدان أعزّتهم الشبّان
تأسّياً بكربلاء.
يقول إمام الأمّة في
ترسيم صبر ومقاومة الشعب
الإيرانيّ قبال حملات
العدوّ على المدن، وفي
الثناء على صبر ويقظة هذا
الشعب:
"بارك الله في أعزّتنا
عوائل الشهداء،
والمفقودين، والأسراء،
والمعلولين، وفي الشعب
الإيرانيّ، الذين تحوّلوا
بثباتهم ويقظتهم
ومقاومتهم إلى بنيان
مرصوص، لا يرعبهم تهديد
الدول العظمى، ولا يأنّون
لشدّة الحصار وقلّة
الإمكانات... يفضّلون
الحياة العزيزة في خيمة
المقاومة والصبر على
الحياة في قصور الذلّة
والعبوديّة للدول العظمى،
وعلى الصلح والسلام
المفروض"80.
العزّة
العزّة سواء كانت خصلة
خلقيّة فرديّة أم روحيّة
جماعيّة، تعني: الرفعة
والامتناع، وعدم الخضوع
لقهر العوامل الخارجيّة،
وعدم الانكسار والانهزام
في المواجهة، وصلابة
النفس، والكرامة وسموّ
الروح الإنسانيّة، وقوّة
الشخصيّة.
يقال للأرض الصلبة
القويّة الغليظة "عزاز"،
والأعزّاء أولئك الذين
يأبون الذلّة، ويترفّعون
عن الهوان ولا يأتون
الأعمال المحقّرة
الوضيعة، وقد يضحّون
بأنفسهم حفظاً لكرامتهم
وكرامة أهليهم.
إنّ الخضوع للظلم، وتحمّل
سلطة الباطل، والسكوت
إزاء التعدّي، والانصياع
لمنّة الأراذل، والتسليم
لهم تسليم الأذلّاء،
وإطاعة الكفرة والفجرة،
كلّ ذلك منشؤه ذلّةُ
النفس وضعةُ وهوان الروح.
إنّ الله عزيز، وقد جعل
هذه العزّة أيضاً لرسوله
وللمؤمنين، يقول تبارك
وتعالى:
﴿وَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾81،
وورد في أحاديث كثيرة ذمّ
الذلّة، ولم يرخّص الله
تعالى لمؤمن أن يلقي نفسه
في ذلّة وهوان وضعة، يقول
الإمام الصادق عليه
السلام:"إنّ الله فوّض
إلى المؤمن أمره كلّه ولم
يفوّض إليه أن يكون
ذليلاً..."82،
ذلك لأنّ الله قال إنّ
العزّة له ولرسوله
وللمؤمنين، فالمؤمن عزيز
غير ذليل، المؤمن أصلب من
الجبل، لأنّ الجبل يمكن
أن تزيله المعاول وآلات
الحفر، أمّا المؤمن فلا
شيء يتمكّن أن يزيله عن
عقيدته ودينه.
تتجسّد عزّة المؤمن في
عدم الطمع بمال الغير
وبمناعة طبعه، وامتناعه
على منّة الآخرين، حتّى
في الفقه نلحظ اعتبار
عزّة المؤمن في تشخيص
الموقف العمليّ، إذ نجد
على سبيل المثال أنّ أحد
موارد جواز التيمّم مع
وجود الماء تحقّق
"الحرج والمشقّة الشديدة
التي لا تتحمّل عادة في
تحصيل الماء أو استعماله،
وإنْ لم يكن ضرر ولا خوف،
ومن ذلك حصول المنّة التي
لا تتحمّل عادة
باستيهابه، والذلّ
والهوان بالاكتساب
لشرائه..."83.
لقد أراد بنو أميّة ومن
حولهم أن يفرضوا على "آل
محمّد صلى الله عليه وآله
وسلم " ذلّ البيعة ليزيد
بالقهر والقوّة، وأن
يخضعوهم لأمر يزيد، لكنّ
ذلك لم يكن ليتحقّق، لأنّ
"آل الله" أبوا ذلك،
وترفّعوا عن تلك الذلّة
بسموّ العزّة فيهم، وإنْ
كان ثمن هذا الإباء
الاستشهاد والأسر.
أراد ابن هندٍ خاب مسعاه
أن يرى
حسيناً بأيدي
الضيم تلوى شكائمه
ولكن أبى المجدُ
المؤثَّلُ والإبا
له الذلَّ ثوباً
والحسام ينادمه
أبوه عليٌّ وابنة الطهر
أمُّه
وطه له جدٌّ
وجبريلُ خادمه
إلى ابن سُمَيٍّ وابن
ميسون ينثني
يمدُّ يداً والسيف
في اليد قائمهُ؟!84
لمّا عرض والي المدينة
الوليد بن عتبة على
الإمام الحسين عليه
السلام البيعة ليزيد،
اعتبر الإمام عليه السلام
ذلك عرضاً مذلّاً فرفض
القبول به، وبيّن سوءات
يزيد ونقائصه، ثمّ قال
عليه السلام:"فمثلي لا
يبايع مثله"85.
وصرّح عليه السلام برفضه
التسليم لأمر يزيد وابن
مرجانة قائلاً: "لا
والله! لا أعطيهم بيدي
إعطاء الذليل، ولا أقرّ
إقرار العبيد!"86.
وقال عليه السلام بعد
استشهاد كوكبة من أنصاره
في الحملة الأولى يوم
عاشوراء:
".. أما والله! لا
أجيبهم إلى شيء ممّا
يريدون حتّى ألقى الله
تعالى وأنا مخضَّب بدمي!"87.
وقال عليه السلام في إحدى
خطبه يوم عاشوراء قبل
نشوب القتال:
"ألا وإنّ الدعيَّ ابن
الدعيّ قد ركز بين
اثنتين، بين السلّة
والذلّة، وهيهات منّا
الذلّة، يأبى الله ذلك
لنا ورسوله والمؤمنون،
وحجور طابت وطهرت، وأنوف
حميّة، ونفوس أبيّة، من
أن نؤثر طاعة اللئام على
مصارع الكرام..."88.
وعقيدة الإمام عليه
السلام ما صرّح به في
قوله: "موتٌ في عزّ
خيرٌ من حياة في ذلّ"89
وكان يصرّح بهذا المفهوم
في بعض رجزه في ميدان
القتال يوم عاشوراء في
قوله عليه السلام:"الموت
أولى من ركوب العار"90.
ولمّا حذّره الحرّ بن
يزيد الرياحيّ من أنّه
عليه السلام إذا أصرّ على
عزمه فسوف يقتل، ردّ عليه
الإمام عليه السلام
قائلاً: "أفبالموت
تخوّفني؟! وهل يعدو بكم
الخطب أن تقتلوني! وسأقول
ما قال أخو الأوس لابن
عمّه وهو يريد نصرة رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم:
سأمضي وما بالموت عارٌ
على الفتى
إذا ما نوى حقّاً
وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين
بنفسه
وفارق مثبوراً
وخالف مجرما
فإنّ عشتُ لم أندم وإنْ
متُّ لم أُلَم
كفى بك ذلّاً أن
تعيش وترغما"
91
وفي رواية أخرى أنّه عليه
السلام قال بعد هذا
الشعر:
"ليس شأني شأن من يخاف
الموت، ما أهون الموت على
سبيل نيل العزّ وإحياء
الحقّ، ليس الموت في سبيل
العزّ إلّا حياة خالدة،
وليست الحياة مع الذلّ
إلّا الموت الذي لا حياة
معه، أفبالموت تخوّفني!؟
هيهات طاش سهمك وخاب
ظنّك،
لست أخاف الموت، إنّ
نفسي لأكبر وهمّتي لأعلى
من أن أحمل الضيم خوفاً
من الموت، وهل تقدرون على
أكثر من قتلي؟! مرحباً
بالقتل في سبيل الله!
ولكنّكم لا تقدرون على
هدم مجدي ومحو عزّي
وشرفي، فإذن لا أبالي
بالقتل"92.
ولقد تجسّدت أيضاً هذه
الروحيّة العزيزة التي
تأبى الهوان في أقوال
وأفعال أهل بيته عليهم
السلام وأنصاره (قدّس
سرّهم)، لقد كان رفض
العبّاس وإخوته من أمّه
عليهم السلام لأمان ابن
زياد الذي جاء به الشمر
مثالاً لروحيّة العزّة
والإباء هذه، إذ كان
بإمكانهم القبول بهذا
الأمان والخروج من ميدان
الموت سالمين، لكنّهم
رفضوا الحياة الذليلة
والارتهان لمنّة أمان ذلك
الرجل الأرذل عبيد الله
بن زياد، فكان رفضهم
دليلاً على عزّتهم، وكان
ردّهم الشديد دليلاً على
شدّة تلك العزّة، إذ أجاب
أبو الفضل العبّاس عليه
السلام شمراً قائلاً:
"تبّاً لك يا شمر! ولعنك
الله ولعن ما جئت به من
أمانك هذا يا عدوَّ الله!
أتأمرنا أن ندخل في طاعة
العناد ونترك نصرة أخينا
الحسين عليه السلام !؟"93.
وتجسّدت روحيّة العزّة
هذه أيضاً في رجز عليّ
الأكبر عليه السلام، إذ
كان ينشد في ميدان القتال
معرّفاً بنفسه الزكيّة
ومعلناً عن رفضه حكومة
الأدعياء:
أنا عليّ بن الحسين بن
علي
نحن وربّ البيت
أولى بالنبيّ
تالله لا يحكم فينا ابن
الدعي94
كما حافظ أهل بيت الحسين
عليه السلام بعد واقعة
الطفّ أيضاً على هذه
العزّة عزّة "آل الله"
بالرغم من كلّ ظروف الأسر
وشدائده، فلم يصدر عنهم
ما يخالف هذه العزّة فيضع
من شأنهم الرفيع أو يكشف
عن رضوخهم لذلّة أو هوان،
وكانت خطب الإمام السجّاد
وزينب وبقيّة آل الله
عليهم السلام في الكوفة
شواهد على عزّتهم
ورفعتهم.
ولقد حاول ابن زياد في
قصر الإمارة أن يحقّرهم
وينتقص من شأنهم حين سأل
زينب عليها السلام
متشمّتاً: "الحمد لله
الذي فضحكم وقتلكم وأكذب
أحدوثتكم!"، لكنّها
بادرت عليها السلام بادرت
إلى الردّ فقالت بعزّة
الإيمان: "الحمد لله
الذي أكرمنا بنبيّه
محمّد، وطهّرنا من الرجس
تطهيراً، إنّما يفتضح
الفاسق، ويكذب الفاجر وهو
غيرنا"،
ولمّا ردّ عليها ليغيظها
قائلاً: "كيف رأيت فعل
الله بأهل بيتك؟"، ألقمته
حجراً وأخرسته عن النطق
حيث قالت معتزّة بما جرى
في الطفّ: "ما رأيت
إلّا جميلاً! هؤلاء قوم
كتب الله عليهم القتل
فبرزوا إلى مضاجعهم،
وسيجمع الله بينك وبينهم،
فتحاجّ وتخاصم! فانظر لمن
الفلج يومئذٍ ثكلتك أمّك
يا ابن مرجانة!!"95.
أمّا في الشام فقد حاكمت
عليها السلام يزيد
الطاغية في قصره محاكمة
عزيز مقتدر، فأسقطته في
مجلسه من أعين الحضّار،
في خطبة لا تزال الأجيال
تقرأها فتعجّب من روعتها
ومن شجاعة زينب عليها
السلام ومن عزّتها، وكان
من جملة هذه الخطبة
العصماء قولها عليها
السلام:"... أظننت يا
يزيد حيث أخذت علينا
أقطار الأرض وآفاق
السماء، فأصبحنا نساق كما
تساق الأُسارى أنّ بنا
على الله هواناً وبك على
الله كرامة، وأنّ ذلك
لعظم خطرك عنده؟!... ولئن
جرّت عليَّ الدواهي
مخاطبتك، إنّي لأستصغر
قدرك، وأستعظم تقريعك،
وأستكثر توبيخك... فكد
كيدك، واسع سعيك، وناصب
جهدك، فوالله لا تمحو
ذكرنا، ولا تميت وحينا،
ولا يرحض عنك عارها، وهل
رأيك إلّا فند؟! وأيّامك
إلّا عدد؟! وجمعك إلّا
بدد؟! يوم ينادي المنادي
ألا لعنة الله على
الظالمين..."96.
لقد أفهمت العقيلة زينب
الكبرى عليها السلام يزيد
وأعوانه في هذه الخطبة
أنّهم هم الأذلّاء
المخزيّون المفتضحون،
وأنّ عزّة وكرامة أهل بيت
النبوّة أسمى وأجلّ وأمنع
من أن تنقص جنايتهم
العظمى منها شيئاً.
العفاف والحجاب
تتحقّق الكرامة
الإنسانيّة للمرأة في ظلّ
عفافها، والحجاب أيضاً
أحد الأحكام الدينيّة
التي شرّعت من أجل أن
تستعفف النساء وتطهر
حجورهنّ، ومن أجل حفظ
المجتمع من التلوّث
بالرذائل والمفاسد.
ولقد قامت النهضة
الحسينيّة من أجل إحياء
القيم الدينيّة، وكان
حجاب المرأة المسلمة
وعفافها قد أخذ مكانته
النفيسة في ظلّ هذه
النهضة المقدّسة، وكان
الإمام الحسين عليه
السلام وزينب الكبرى
عليها السلام وبقيّة أهل
بيت الرسالة وحرم النبوّة
يذكّرون بمنزلة هذه
الجوهرة الأخلاقيّة سواء
في أقوالهم أو في أسلوب
تحرّكاتهم.
لقد كانت زينب الكبرى
عليها السلام وباقي حرم
الرسالة من أهل بيت
الحسين عليه السلام قدوات
للمرأة المسلمة في الحجاب
والعفاف، إذ لم يغفلن
عليهن السلام عن مراعاة
كمال الحجاب ومتانة
العفاف أثناء مشاركتهنّ
في الملحمة العظيمة
وأدائهنّ لدورهنّ
الاجتماعيّ والتبليغيّ
الحسّاس الخطير، فكنّ
لذلك حقّاً أسوة لجميع
النساء المسلمات.
لقد أوصى الإمام الحسين
عليه السلام أختيه زينب
وأمّ كلثوم وابنته فاطمة
وزوجته الرباب قائلاً:
"يا أختاه يا أمّ كلثوم،
وأنت يا زينب، وأنت يا
فاطمة، وأنت يا رباب، إذا
أنا قتلت فلا تشققن عليَّ
جيباً، ولا تخمشن عليَّ
وجهاً، ولا تقلن هجراً"97.
خصوصاً وأنهنّ كنّ بمحضر
أعين الأعداء التي كانت
ترقب وترصد ما يصدر عنهن
من قول وفعل.
ولمّا سمع الإمام الحسين
عليه السلام يوم عاشوراء
بكاء النسوة في الخيم،
أرسل إليهنّ أخاه العبّاس
وابنه عليّ الأكبر عليهما
السلام ليسكّتاهنّ
ويصبّراهن98.
كان سلوك وتصرّف زينب
الكبرى وأخواتها وأزواج
وبنات الحسين وبقيّة نساء
المعسكر الحسينيّ المقترن
برعاية الحجاب وحفظ
العفاف مثلاً عمليّاً
أعلى لمتانة شخصيّة
المرأة المسلمة.
ولم يألُ الإمام السجّاد
عليه السلام جهده أيضاً
في الحفاظ على حجاب
مخدّرات بيت الرسالة
ورعاية شؤونهنّ ما استطاع
إلى ذلك سبيلاً، بل لم
يغفل عن هذا الأمر المهمّ
حتّى في اللحظة التي رأى
ابن زياد يهمُّ بقتله! إذ
قال عليه السلام له:
"يا ابن زياد! إنْ كانت
بينك وبينهم قرابة فابعث
معهنّ رجلاً تقيّاً
يصحبهنَّ بصحبة الإسلام"99.
وينقل السيّد ابن طاووس
(رضوان الله عليه) أنّ
الإمام الحسين عليه
السلام ليلة عاشوراء قد
أوصى عائلته برعاية
الحجاب والعفاف وصون
النفس100.
ولمّا سمعت زينب الكبرى
أخاها الإمام الحسين عليه
السلام ينعى نفسه بعد ما
رأى رؤيا في غفوته، فقدت
صبرها ولم تتمالك نفسها،
فلطمت وجهها وصاحت وبكت،
فقال لها الحسين عليه
السلام:"مهلاً! لا
تشمتي القوم بنا!"101.
وروي أنّ امرأة من بني
بكر بن وائل كانت مع
زوجها في أصحاب عمر بن
سعد، فلمّا رأت القوم قد
اقتحموا على نساء الحسين
عليه السلام فسطاطهنّ وهم
يسلبونهنّ أخذت سيفاً
وأقبلت نحو الفسطاط
وقالت: يا آل بكر بن
وائل! أتسلبُ بنات رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم !102.
وفي الطريق من الكوفة
إلى الشام كان غاية حرص
نساء بيت النبوّة في حال
السبي أن يصان حجابهنّ
وعفافهنّ "فلمّا قربوا
من دمشق دنت أمّ كلثوم من
شمر-
وكان من جملتهم- فقالت
له: لي إليك حاجة! فقال:
ما حاجتك؟! قالت: إذا
دخلتَ بنا البلد فاحملنا
في درب قليل النظّارة،
وتقدّم إليهم أن يخرجوا
هذه الرؤوس من بين
المحامل، وينحّونا عنها،
فقد خزينا من كثرة النظر
إلينا ونحن في هذه
الحال!"103.
وكان من الاعتراضات
الشديدة التي وبّخت زينب
الكبرى عليها السلام يزيد
بن معاوية عليها في
خطبتها أن قالت:
"أمِنَ العدل يا ابن
الطلقاء تخديرك حرائرك
وإماءك وسوقك بنات رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم سبايا قد هتكت
ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ،
تحدو بهنّ الأعداء من بلد
إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل
المناهل والمناقل،
ويتصفّح وجوههنّ القريب
والبعيد والدنيّ
والشريف..."104.
إنّ الغاية من نقل هذه
الأمثلة والشواهد هي
الإشارة إلى هذه الحقيقة
وهي أنّ عائلة الإمام
الحسين عليه السلام
ومخدّرات بيت النبوّة
وبقيّة نساء شهداء الطفّ
كما كنّ يحرصن أشدّ الحرص
على حجابهنّ وعفافهن، كنّ
أيضاً ينكرن على الأعداء
إنكاراً شديداً ويوبّخنهم
بقوّة على معاملتهم
المشينة مع حرم النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم
وهتكهم لحرمة عترته
وعرضهنّ على أنظار
النّاس.
ومع أنّ حرم النبوّة
والرسالة كانت بيد
الأعداء، يسوقونهنّ من
منزل إلى منزل، ومن مدينة
إلى أخرى، ومن سوق إلى
بلاط، مفجوعات قد أحرقت
قلوبهنّ نار المصيبة
والرزيّة، إلّا أنهنَّ
كنّ في غاية الحرص وشدّة
المراقبة على حفظ شأن
وكرامة ومقام المرأة
التقيّة الطاهرة، وبرغم
تلك الحال الشديدة التي
لا توصف كنّ قد حرصن
أيضاً على أداء تكليفهنّ
في التبليغ بأهداف النهضة
الحسينيّة المقدّسة
والدفاع عن غاياتها
وأهدافها من خلال الخطب
البليغة المؤثّرة التي
كشفت حقيقة الأعداء
وفضحتهم.
إنّها الحركة الاجتماعيّة
السياسيّة للمرأة المسلمة
في ذات الوقت الذي تصون
حجابها وعفافها، وهذا درس
لجميع النساء المسلمات في
كلّ الظروف وجميع العصور.
أداء التكليف
يمكن أن يعرف تديّن
ومبدأيّة الإنسان المسلم
من خلال كونه عاملاً
متعبّداً بكلّ ما هو
"تكليف شرعيّ" في جميع
أبعاد حياته وأعماله
الفرديّة والاجتماعيّة.
والتكليف يختلف باختلاف
الظروف والشرائط، فربّما
وافق التكليف ما يحبّ
العبد، وربّما خالف هواه
فكان ممّا يكره، وربما
كان ممّا يفرح به النّاس
وربّما كان ممّا يثقل
عليهم.
والإنسان المسلم في عهده
مع الله تبارك وتعالى
ملزم بالإطاعة والعمل
طبقاً لما يريده الله
فيما يحبّ ويكره على
السواء، فلا يفرّط بأداء
التكليف أو يتخلّى عنه من
أجل شيء آخر أبداً،
والإنسان المسلم الملتزم
بهذا العهد منتصر دائماً
وإنّ تعرّض في الظاهر
لهزيمة، وانكسار، ذلك
لأنّه لم يقصّر في حقّ
العمل بالتكليف.
وإذا كانت ثقافة "العمل
بالتكليف" هي الحاكمة
والمهيمنة في المجتمع
فإنّ أبناء هذا المجتمع
يشعرون بالانتصار دائماً،
وبالفوز بـ﴿إِحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ﴾105
كما في التعبير القرآنيّ،
فهم على حال حسنى سواء
استشهدوا في جهادهم
وكفاحهم أو حققّوا النصر
العسكريّ والسياسيّ.
ولقد عمل أئمّة أهل البيت
عليهم السلام طبقاً لنوع
التكليف الشرعيّ في
الظروف الاجتماعيّة
المختلفة، وكانت حادثة
عاشوراء أيضاً مظهراً من
مظاهر العمل بما يفرضه
التكليف الشرعيّ، الذي
كانت تعيّنه أيضاً
اقتضاءات الظروف والمعرفة
بموضوع الحكم، طبقاً
للموازين الشرعيّة
الكليّة، ولا شكّ أنّ
قيام الأئمّة عليهم
السلام أو قعودهم،
وانتفاضتهم أو سكوتهم،
كان تابعاً أيضاً لهذا
التكليف الشرعيّ.
والإمام الحسين عليه
السلام مع كونه إمام حقّ،
يعلم أنّ الخلافة
والقيادة حقّ له، إلّا
أنّه خاطب أهل البصرة في
رسالته التي كتبها إلى
أشرافهم ورؤساء الأخماس
فيهم قائلاً: "أمّا
بعد: فإنّ الله اصطفى
محمّداً صلى الله عليه
وآله وسلم على خلقه،
وأكرمه بنبوّته، واختاره
لرسالته، ثمّ قبضه الله
إليه وقد نصح لعباده
وبلّغ ما أرسل به صلى
الله عليه وآله وسلم،
وكنّا أهله وأولياءه
وأوصياءه وورثته وأحقّ
النّاس بمقامه في النّاس،
فاستأثر علينا قومنا
بذلك، فرضينا وكرهنا
الفرقة وأحببنا العافية،
ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك
الحقّ المستحقّ علينا
ممّن تولاّه..."106.
والحسين بن عليّ عليه
السلام الذي لم يتحمّل
الخضوع لحكومة يزيد حتّى
لحظة واحدة! هو نفسه ذلك
الحسين عليه السلام الذي
عاش في ظلّ حكومة معاوية
عشر سنين ولم يقم ضدّه،
ذلك لأنّ تكليف الإمام
عليه السلام في كلّ واحد
من هذين العهدين كان
مختلفاً.
إنّ تعبّد الإنسان المسلم
بـ"حكم الدين" مقدّس
جدّاً...
في الأيّام التي كان
مسلم بن عقيل عليهما
السلام في الكوفة
قد اختبأ في بيت هاني بن
عروة (رضوان الله عليه) ،
وقد اتّفقَ على خطّة
اغتيال ابن زياد حين يأتي
لعيادة هانئ في بيته على
يد مسلم عليه السلام، نجد
أنّ مسلماً عليه السلام
أبى تنفيذ خطّة الاغتيال
في وقتها، إذ لم يخرج
إليه من مخبئه، فانصرف
ابن زياد من منزل هانئ لم
يمسسه سوء، ولمّا سئل
مسلم عليه السلام:ما منعك
من قتله؟! قال:
"خصلتان: أمّا إحداهما
فكراهة هانئ أن يقتل في
داره، وأمّا الأخرى فحديث
حدّثه النّاس عن النبيّ
صلى الله عليه وآله
وسلم:أنّ الإيمان قيد
الفتك، ولا يفتك مؤمن"107.
وحينما أراد الإمام
الحسين عليه السلام أن
يخرج من مكّة باتجاه
الكوفة، كان بعض الأصحاب
قد تقدّموا إليه بالنصيحة
أن ليس من الصلاح الذهاب
إلى العراق، وكان من جملة
هؤلاء ابن عبّاس الذي ردّ
عليه الإمام عليه السلام
قائلاً: "يا ابن عمّ،
إنّي والله
لأعلم أنّك ناصح مشفق،
ولكنّي قد أزمعتُ وأجمعت
على المسير!"108.
وفي منزل "الصفاح" أيضاً،
لمّا التقاه الفرزدق
وأخبره أنّ أوضاع الكوفة
لا تدعو إلى الاطمئنان،
قال عليه السلام:"صدقت!
لله الأمر، والله يفعل ما
يشاء، وكلّ يوم ربّنا في
شأن، إنْ نزل القضاء بما
نحبُّ فنحمد الله على
نعمائه وهو المستعان على
أداء الشكر، وإنْ حال
القضاء دون الرجاء فلم
يعتد من كان الحقّ نيّته
والتقوى سريرته"109.
كلّ هذه الشواهد تدلّ
على أنّ الإمام عليه
السلام كان قد هيّأ نفسه
المقدّسة للقيام بتكليفه
الشرعيّ، راضياً بقضاء
الله تعالى مهما كانت
النتيجة، ففي الوقت الذي
أتاه رسولان من والي مكّة
يحملان إليه رسالة منه
تتضمّن التعهّد بضمان
الأمان له عليه السلام
إذا انثنى عن سفره إلى
العراق، قال لهما الإمام
عليه السلام:"إنّي
رأيتُ رؤيا فيها رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم، وأمرتُ فيها بأمرٍ
أنا ماضٍ له، عليّ كان أو
لي!"110.
ذلك هو الانقياد للتكليف
الشرعيّ، والمؤمن العامل
بتكليفه الشرعيّ يرى نفسه
منتصراً في أيٍّ من
الحسنيين، كما يقول
الإمام الحسين عليه
السلام:
"أرجو أن يكون خيراً ما
أراد الله بنا، قُتِلنا
أم ظفرنا"111.
ويقول إمام الأمّة قدّس
الله نفسه على أساس هذا
المعتقد:
"إنّ الأمّة التي ترى
السعادة في الشهادة أمّة
منتصرة... نحن منتصرون
سواء قُتلنا أم قَتلنا"112.
حينما كانت رسائل أهل
الكوفة تسلّم إلى الإمام
الحسين عليه السلام وهو
في مكّة المكرّمة، يدعونه
فيها إلى القدوم إليهم،
ويعدونه فيها بنصرته
والدفاع عنه، رأى الإمام
عليه السلام أنّ تكليفه
الذهاب إليهم مع علمه
بحقيقة حال أهل الكوفة،
ذلك لأنّ رسائلهم
وتعهّدهم بنصرته والذود
عنه شكّلا أحد الأسباب
الرئيسة التي جعلته عليه
السلام يختار التوجّه إلى
العراق، وقد صرّح عليه
السلام بقوّة هذا السبب
في خطبته التي
خطب بها جيش الحرّ بن
يزيد الرياحيّ (رضوان
الله عليه) حين التقاهم،
حيث قال عليه السلام:"أيّها
النّاس! إنّها معذرة إلى
الله عزَّ وجلَّ وإليكم،
إنّي لم آتكم حتّى أتتني
كتبكم وقدمت عليّ رسلكم
أن أقدم علينا فإنّه ليس
لنا إمام، لعلّ الله
يجمعنا بك على الهدى، فإن
كنتم على ذلك فإن تعطوني
ما أطمئنُّ إليه من
عهودكم ومواثيقكم أقدم
مصركم، وإنّ لم تفعلوا
وكنتم لمقدمي كارهين
انصرفت عنكم إلى المكان
الذي أقبلت منه إليكم"113.
إنّ قول الإمام عليه
السلام هذا دالّ على أنّ
عمله كان طبقاً لهدي
التكليف الشرعيّ. وكان
أنصاره صلوات الله عليهم
هكذا أيضاً، فقد استشهدوا
وارتثّوا بين يديه عليه
السلام امتثالاً للتكليف
الشرعيّ الآمر بنصرته،
ومن الأدلّة على هذه
الحقيقة أنّ الإمام عليه
السلام لمّا أذن لهم ليلة
عاشوراء بالانصراف عنه
والنجاة بأنفسهم بلا ذمام
منه عليهم، كان جوابهم
(قدّس سرّهم) هكذا:
"والله لا نفارقك،
ولكن أنفسنا لك الفداء،
نقيك بنحورنا وجباهنا
وأيدينا، فإذا نحن قتلنا
كنّا وفينا وقضينا ما
علينا"114.
وفي تأريخنا المعاصر
أيضاً، كان الإمام
الخمينيّ قائد الثورة
الإسلاميّة (قدس سره) قد
قام بنهضته المباركة ضدّ
الطاغوت على أساس التكليف
الإلهيّ، وفي جميع مراحل
هذه النهضة المقدّسة لم
يكن يفكّر إلّا بما هو
تكليف شرعيّ، في نداءاته
وفي سكوته، في سجنه ونفيه
وفي درسه وتأليفه، في
الحرب وفي قبول معاهدة
الصلح، كلّ ذلك كان على
أساس "العمل بالتكليف"،
ولذا فهو في جميع المراحل
لم يستكن ولم يضعف ولم
ييأس ولم يتخلَّ عن هدفه،
ولم يندم في لحظة ما على
ما كان قد وقع.
كان تحليل الإمام
الخمينيّ (قدس سره) لنهضة
عاشوراء أنّها حركة قامت
على أساس "العمل
بالتكليف"، وكانت حركة
مجاهداته هو أيضاً قائمة
على مثل هذا الأساس.
لنقرأ أمثلة من أقواله
(قدس سره) في هذا الصدد:
"إنّما قام الإمام أبو
عبد الله عليه السلام
ونهض بعدد قليل في مواجهة
ذلك العدد
الكبير الهائل لأنّه
قال: تكليفيّ هو أن
أستنكر، أن أنهى عن
المنكر"115.
"كان سيّد الشهداء عليه
السلام يرى أنّ تكليفه هو
أن يخرج وأن يقتل أيضاً
ليمحو آثار معاوية وابنه"116.
"لكنّ تكليفه كان
آنذاك هو أنّه يجب أن
يثور وأن يجود بدمه
المقدّس حتّى يصلح هذه
الأمّة، وحتّى يسقط راية
يزيد"117.
"كانوا على وعيٍ: أنّنا
جئنا لنؤدّي تكليفنا
الإلهيّ، جئنا لنحفظ
الإسلام"118.
"نحن لسنا أسمى من سيّد
الشهداء عليه السلام،
إنّه أدّى تكليفه
الشرعيّ، وقُتل أيضاً"119.
"ذلك اليوم الذي يتعرّض
الإسلام فيه إلى الإساءة
والتشويه... يقتضي
التكليف آنئذٍ أنّ على
عظماء الإسلام أن ينهضوا
ويجاهدوا"120.
فبلاغ عاشوراء "معرفة
التكليف" و"العمل
بالتكليف" من قبل جميع
الأمّة، خصوصاً أولئك
الذين لهم مكانة خاصّة
فيها، الذين هم أسوة
للآخرين ويرسمون خطّ
السير لهم، فلو أنّ جميع
أتباع الحقّ في زمان سيّد
الشهداء عليه السلام
كانوا على معرفة
بتكليفهم، وعملوا
بتكليفهم مثل شهداء الطفّ
بالتضحية بين يدي إمامهم
في الدفاع عنه، لكان مسار
حركة التأريخ قد تغيّر
إلى حيث مصلحة الحقّ،
ولكان مصير الإسلام
والمسلمين غير ذلك
المصير.
واليوم أيضاً، يجب أن
تعرف الأشكال المختلفة
للتكليف، وأن يتعبّد
بأدائها، وأن يعلم أنّ
النصر في أداء التكليف.
لقد أكّد إمام الأمّة
(قدس سره) مراراً على هذه
الحقيقة:
"نحن جميعاً مأمورون
بأداء تكليفنا ووظيفتنا،
ولسنا مأمورين بالنتيجة"121
إنّ هذا هو ذلك الدرس
الذي تعلّمناه من
عاشوراء.
الغيرة
الغيرة إحدى الخصال
الحميدة في الإنسان، وهي
في اللغة: الحمّية
والأنفة122،
بمعنى أنّ خلقة الإنسان
وطبيعته تأنف وتأبى أن
يشاركه غيره في أحد أموره
المتعلّقة به. وهي
اصطلاحاً: رفض الإنسان
وعدم سماحه للآخرين أن
يتعرّضوا بالقول أو
بالفعل لعرضه وشرفه وزوجه
أو أي إنسان آخر ممّن
يهتمّ ويعتني به اهتماماً
كبيراً وعناية فائقة.
فالإنسان الغيور لا
يتحمّل أن ينظر الآخرون
إلى زوجته وحرمه نظر ريبة
وبدافع فاسد، أو يقترب من
أهله بقصد سوء.
فالغيرة إذن خلقٌ قيّم
وحميد، و"الغيرة
الدينيّة" في الإنسان
المؤمن تدفعه إلى صدّ
ودفع سوء قصد الأعداء
وهجومهم على الدين
ومعتقداته وقيمه
المقدّسة، ويسعى إلى
القيام بما يردّ ويصدّ
تلك التعرّضات الغاشمة.
يقول النبيّ الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم:"الغيرة
من الإيمان"123.
فالغيرة علامة رفعة وعفّة
الإنسان، يقول أمير
المؤمنين عليّ عليه
السلام:
"قدر الرجل على قدر
همّته، وصدقه على قدر
مروءته، وشجاعته على قدر
أنفته، وعفّته على قدر
غيرته"124.
وورد عن النبيّ الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم
قوله: "إنّ الله يحبّ
من عباده الغيور"125.
ولقد كان بنو هاشم- ولا
يزالون- غيارى زمانهم،
ولعترة النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم عندهم
حرمة فائقة، وكان شباب
بني هاشم في الركب
الحسينيّ يحرسون أهل بيت
الإمام الحسين عليه
السلام وحرم النبوّة على
الدوام منذ خروجهم من
المدينة المنوّرة حتّى
وصولهم إلى كربلاء وإلى
آخر لحظات استشهادهم،
وكانت الهاشميّات وبقيّة
نساء الركب الحسينيّ ينمن
الليالي قريرات الأعين
رغداً ومطمئنّات بسبب
حراسة شباب بني هاشم
عامّة وأبي الفضل العبّاس
عليه السلام خاصّة،
وبقيّة أبطال الركب
الحسينيّ من أصحاب الإمام
عليه السلام.
وكان على رأس أصحاب
الغيرة هؤلاء إمامهم
الحسين بن عليّ عليه
السلام الذي لم ينس ذكر
محافظته على حرم الرسالة
حتّى في رجزه وهو يقاتل
القوم ويعرّف بنفسه
المقدّسة، إذ كان يقول:
"أنا الحسينُ بن علي
آليتُ أن لا أنثني
أحمي عيالات أبي
أمضي على دين
النبيّ"
وكان عليه السلام قد أوصى
عائلته من نسائه وأخواته
وبناته في ليلة عاشوراء
أن إذا قتل فلا يشققن
عليه جيباً، ولا يخمشن
عليه وجهاً، ولا يقلن
هجراً، ولا يُشمتن به
الأعداء بالبكاء عليه
عالياً، وفي لحظات
احتضاره بعد أن وقع
صريعاً قد أثخنته جراحاته
الكثيرة لمّا سمع أنّ
الأعداء قد هجموا على
مخيّمه وتعرّضوا للنساء
والأطفال، رفع رأسه
الشريف ونادى القوم:
"ويلكم! إنْ لم يكن لكم
دين وكنتم لا تخافون يوم
المعاد فكونوا في أمر
دنياكم أحراراً ذوي
أحساب! إمنعوا رحلي وأهلي
من طغامكم وجهّالكم!"126
وفي نصٍّ آخر: "...
فامنعوا عتاتكم عن
التعرّض لحرمي ما دمتُ
حيّاً"127.
فغيرته عليه السلام التي
كانت قد انتفضت به وهو في
تلك الحال بين الموت
والحياة ليستنكر على
الأعداء فعلتهم
اللّارجوليّة المشينة، إذ
لم يستطع أن يتحمّل أن
يقترب الأوغاد من حرمه
وفيه رمق من الحياة! لقد
كانت غيرته الدينيّة
وغيرة أصحابه
أيضاً من الممهّدات التي
صنعت تلك الملحمة العظمى،
فهو عليه السلام كان يرى
الموت أولى من ركوب العار
في القبول بالذّلة
والتسليم، وهذا من غيرته
وحمّيته وأنفته.
وكذلك كان أنصاره صلوات
الله عليهم، إذ دفعتهم
غيرتهم العالية أن يصرّوا
على البقاء معه حتّى
الموت، في ليلة عاشوراء،
وفي المناسبات الأخرى
التي كان عليه السلام
يمتحن فيها نيّاتهم
وعزمهم على الموت، ولم
تسمح لهم غيرتهم وحميّتهم
أن يتخلّوا عن الإمام
عليه السلام وأهل بيته في
تلك الصحراء وقد أحاطت
بهم الألوف من الأعداء
حبّاً في الحياة الدنيا
وفي العافية، بل آثروا
القتل في عزّ على الحياة
الذليلة.
لقد رفض العبّاس وإخوته
عليهم السلام أمان
الأعداء، وآثروا مواجهة
أسنّة الأعداء وسيوفهم
على حياة الذلّ والهوان.
أمّا اللئام الأراذل
الذين لا غيرة لهم على
الدين فقد اجتمعوا على
قتله عليه السلام طمعاً
في مرضاة ابن زياد ويزيد
لعنهما الله، فكانوا يداً
واحدة عليه وعلى أنصاره،
حتّى إذا فرغوا من قتلهم
أسروا أهل بيته وحرمه
وسبوهم!
وبدافع من إيمانه وغيرته
وحميّته كان عبد الله بن
عفيف الأزديّ (رضوان الله
عليه) قد انتفض ضدّ ابن
زياد في قصره في الكوفة،
واستنكر عليه أسره لعائلة
الحسين عليه السلام وعترة
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم.
ولغيرتها وحميّتها
وأنفتها كانت زينب الكبرى
عليها السلام قد وبّخت
يزيد في قصره في الشام،
واستنكرت عليه هتكه ستور
حرائر النبوّة ومخدّرات
بيت الوحي، وتعريضهن
لأنظار النّاس في الأزقّة
والأسواق.
إنّ العاشورائيّين في كلّ
عصر كما يتعلّمون من
ملحمة كربلاء درس العفاف
والحجاب في نطاق "الغيرة
على الشرف"، يستلهمون
كذلك من أبطال ملحمة
عاشوراء الدفاع عن
المظلوم، ونصرة الحقّ،
ومقاومة الباطل، ومكافحة
البدعة، في نطاق
"الغيرة الدينيّة".
الفتوّة والمروءة
الفتوّة والمروءة من
الخصال الأخلاقيّة
السامية التي تشدّ
الإنسان إلى "الأصول
الإنسانيّة" و"الشرف" و"رعاية
العهد والميثاق"،
والحنوّ على الضعفاء
والبؤساء ورعايتهم.
فالفتى هو الذي يبقى
وفيّاً للحقّ ناصراً له،
ويأبى الذلَّ والهوان،
ويعين ضعفةَ النّاس،
ويتجنّب الخيانة والخداع،
ولا يستسلم للظلم والقهر،
ومن سجاياه العفو
والإيثار والتضحية.
في الثقافة الماضية كانت
تطلق الفتوّة على من
يسمّون "عيّاران" مع
أنّهم كانوا مجهّزين
بالسلاح وكانوا قطّاع
الطريق وكانوا يسرقون
أموال النّاس إلّا أنّهم
كانوا يتمتعون بجملة من
الأخلاق الحميدة والعادات
الجيّدة والرجولة، وحتّى
كانوا في بعض الأوقات
يأخذون على أنفسهم أن
يدافعوا عن الضعفاء وعن
منطقة سكنيّة مستضعفة وقد
كان من دأبهم وعاداتهم
أنّهم لا يكذبون ولا
يخونون وكانوا متّصفين
بالجود والحريّة والشجاعة
وإقراء الضيف والعادات
العالية والوفاء بالعهد128
وكان لهم آداب وتقاليد
وثقافة خاصّة بهم129.
والفتوّة في النظرة
الإسلاميّة إذن مفسّرة
بأنّها مزيجٌ من السخاء،
والبذل، والعفو والسماحة،
والبِشر، والعفاف، وكفّ
الأذى، والإباء، والجرأة
في الحقّ، والترفّع عن
الدناءة والهوان، والقيام
لله وللحقّ، و...
من هنا عبّر القرآن
الكريم عن الرجال
الموحّدين في عصر حكومة
دقيانوس الذين قاموا لله
والحقّ في وجه هذا
الطاغية، وفرّوا من ظلمه
وشركه، ولجأوا إلى الكهف
(أصحاب الكهف) بأنّهم
فتية بالرغم من تفاوت
أعمارهم حيث قال تعالى:
﴿إِنَّهُمْ
فِتْيَةٌ آمَنُوا
بِرَبِّهِمْ
وَزِدْنَاهُمْ هُدًى *
وَرَبَطْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا
فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ
السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ﴾130.
يقول الإمام عليّ عليه
السلام:"بُعد المرء عن
الدنيّة فتوّة"131،
وقال عليه السلام:"نظام
الفتوّة احتمال عثرات
الإخوان، وحسن تعهّد
الجيران"132.
ولقد أبرز أنصار الإمام
الحسين عليه السلام أجمل
مظاهر الفتوّة والمروءة
في مواقفهم المشرِّفة في
ملحمة عاشوراء، سواء في
دفاعهم عن الحقّ حيث
أصرّوا على الانضمام إلى
ركب الحسين عليه السلام
والتضحية في سبيله حتّى
الشهادة، أو في تعاملهم
الإنسانيّ مع الآخرين، بل
حتّى مع أعدائهم!
وكان الإمام أبو عبد الله
الحسين عليه السلام
المظهر الأعلى لحقيقة
الفتوّة، وكان عليه
السلام قد وصف أنصاره من
آل محمّد وبني هاشم الذين
استشهدوا بين يديه في يوم
عاشوراء بهذا الوصف
السامي أيضاً، حيث قال
عليه السلام:"ثمّ إنّي
قد سئمت الحياة بعد قتل
الأحبّة وقتل هؤلاء
الفتية من آل محمّد..."133
وتنقل كتب التأريخ أنّ
الرأس المطهّر لسيّد
الشهداء عليه السلام وهو
على الرمح كان يتلو من
سورة الكهف الآيات التي
تتحدّث عن إيمان أولئك
الفتية أصحاب الكهف
والرقيم134.
وكانت أخلاقيّة الفتوّة
هي التي منعت مسلم بن
عقيل عليه السلام من
اغتيال ابن زياد في بيت
هانئ بن عروة في الكوفة،
حينما كان ابن زياد قد
جاء لعيادة هاني في مرضه،
ذلك لأنّ مسلماً عليه
السلام رأى أنّ هذا
الاغتيال يتنافى مع
الإيمان والفتوّة
والمروءة، فلم
يخرج من مخبئه وفوّت
الفرصة التي كان يراها
آخرون نادرة لا تُعوّض135.
وكان هاني بن عروة (رضوان
الله عليه) بدوره فتىً
أيضاً مع تقادم عمره! إذ
لمّا اعتقل في قصر
الإمارة بتهمة إيوائه
وإخفائه مسلم بن عقيل
عليه السلام في بيته،
وأصرَّ عليه ابن زياد أن
يسلّمه مسلماً عليه
السلام، رفض هاني طلب ابن
زياد، وأصرَّ على موقفه
البطوليّ قائلاً: "لا
والله! لا أجيئك به
أبداً! أنا أجيئك بضيفي
تقتله!"136،
ولمّا حاول بعضهم أن يقنع
هانئاً بتسليم مسلم عليه
السلام، وأن ليس في ذلك
عليه مخزاة ولا منقصة!
أصرّ هانئ على الرفض
قائلاً: "بلى والله،
إنّ عليَّ في ذلك للخزي
والعار، أنا أدفع جاري
وضيفي، وأنا حيٌّ صحيح
أسمع وأرى، شديد الساعد،
كثير الأعوان! والله لو
لم أكن إلّا واحداً ليس
لي ناصر لم أدفعه إليه
حتّى أموت دونه!"137.
وفي الطريق إلى الكوفة،
لمّا التقى الإمام الحسين
عليه السلام بجيش الحرّ
بن يزيد الرياحيّ، ومنعوا
على الركب الحسينيّ
الطريق إلى الكوفة، اقترح
زهير بن القين (رضوان
الله عليه) على الإمام
الحسين عليه السلام أن
يبدأهم بالقتال قائلاً:
"إنّي والله ما أراه
يكون بعد هذا الذي ترون
إلّا أشدّ ممّا ترون، يا
ابن رسول الله، إنّ قتال
هؤلاء الساعة أهون علينا
من قتال من يأتينا بعدهم،
فلعمري ليأتينا بعدهم ما
لا قِبل لنا به!"138
فقال الحسين عليه السلام:"ما
كنتُ لأبدأهم بالقتال"139،
مجلّياً بذلك عن خلق من
أخلاق الفتوّة والمروءة
في شخصيّة الإمام عليه
السلام.
وثمّ مشهد آخر من
مشاهد فتوّة الإمام عليه
السلام، وهو بذله الماء
لجميع جيش الحرّ بن يزيد
الرياحيّ الذي أرهقه
العطش في ذلك الحرّ
الشديد، حيث أمر سيّد
الشهداء عليه السلام
أصحابه بسقاية جميع أفراد
ذلك الجيش البالغ عددهم
ألف نفر، وبسقاية خيولهم
وترشيفها، حتّى أنّ أحدهم
وصل متأخّراً وقد كاد
العطش أن يودي به فسقاه
الإمام عليه السلام بنفسه140.
والحرّ بن يزيد الرياحيّ
نفسه الذي جعجع بالإمام
عليه السلام في وادي
الطفّ، حينما عزم في يوم
عاشوراء على الالتحاق
بمعسكر الإمام عليه
السلام والإنضمام إلى
أنصاره، أقبل إلى الإمام
عليه السلام، تائباً، ولم
يكن له أملٌ في أن يعفو
الإمام عليه السلام عمّا
اجترحه منهم ويقبل توبته،
لكنّ الإمام عليه السلام
بفتوّته ومروءته وسماحته
قبله وقبل توبته!141.
ولقد تجلّت فتوّة أبي
الفضل العبّاس عليه
السلام ومروءته في كلّ
أفعاله، خصوصاً عند نهر
العلقميّ، حينما كشف
القوم عن النهر، وورد
الماء وقلبه كصالية الجمر
من العطش، فأراد أن يشرب
منه فاغترف غرفة بيده
المقدّسة وأدناها من فمه
الطاهر، لكنّه تذكّر عطش
أخيه الحسين عليه السلام
وعيالاته وأطفاله، فأبى
أن يشرب قبلهم، ورمى
الماء من يده، وخرج من
النهر يحمل الماء إليهم
وهو يتلظّى من العطش!142.
ومن قبل ذلك... لمّا جاء
شمر بن ذي الجوشن في
اليوم التاسع يحمل أماناً
من ابن زياد لأبي الفضل
العبّاس وإخوته من أمّه
عليهم السلام، ودعاهم إلى
الأخذ بهذا الأمان وترك
الإمام عليه السلام، إذ
قال له الفتية: "لعنك
الله ولعن أمانك- لئن كنت
خالنا- أتؤمننا وابن رسول
الله لا أمان له؟! "143.
ولقد كان جميع أنصار
الإمام عليه السلام على
هذا المستوى السامي من
الفتوّة والمروءة أيضاً،
إذ أصرّوا على الجهاد بين
يدي الإمام عليه السلام
دفاعاً عن حجّة الله وعن
دين الله، ما دامت
أرواحهم في أجسادهم، ولم
يتركوا ذلك الميدان، ولم
يتخلّوا عن إمامهم عليه
السلام، ولم ينقضوا عهدهم
وميثاقهم، فكانوا بذلك
رموزاً للفتوّة والمروءة،
إذ إنّهم تعلّموا كيف
تتّخذ مواقف الرجولة
والشهامة في مدرسة ومذهب
أهل البيت عليهم السلام.
لقد كانت حياة وموت وكفاح
وشهادة الإمام الحسين
عليه السلام وجميع شؤونه
تجسيداً للفتوّة والشهامة
والرجولة والكرامة
والنبل، كما ورد في
الصلاة عليه في حرمه عند
زيارته:
"... فقد قاتل كريماً،
وقتل مظلوماً..."144.
إنّ
التزام أبطال ملحمة
عاشوراء بالأصول
الإنسانيّة، ودفاعهم عن
المظلوم وعن الحقّ،
وقيامهم في وجه التعدّي
والظلم والجور، ونصرتهم
لمن لا ناصر له، وإغاثتهم
من لا مغيث له، كلُّ ذلك
جعل منهم كواكب وضّاءة في
سماء القيم الإنسانيّة،
وعناوين هداية خالدة
كبرى، تقرأها الأجيال تلو
الأجيال، فيستلهم منها
الأبطال والأحرار دروس
الفتوّة والشهامة.
المواساة
المواساة هي إحدى أجمل
الخصال الأخلاقيّة في
العشرة، وهي مشاركة
الإنسان الآخرين في غمّهم
وهمّهم، وإعانتهم ونصرتهم
فيما ينوبهم من صروف
الزمان، بما يملك من
المال على نحو المشاطرة
والمساواة.
والمواساة من الأسوة،
وتعني: "المساواة"، وفي
حديث عليّ عليه السلام:"آس
بينهم في اللحظة والنظرة"
أي سوّ بينهم...
والمواساة: المشاركة
والمساهمة في المعاش
والرزق... وآساه بماله:
أناله منه وجعله فيه أسوة
(أي كنفسه)، وقيل: لا
يكون ذلك منه إلّا من
كفاف، فإن كان من فضلة
فليس بمؤاساة... ويقال:
هو يؤاسي في ماله، أي
يساوي....145
ويختلف الإيثار عن
المواساة في أنّه ليس
مساواة الغير بالمال
والنفس، بل هو تقديم
الغير على النفس،
والمواساة بالنفس ذروة
المواساة، لأنّ الجود
بالنفس أقصى غاية الجود.
ومن مجموع ما تقدّمه كتب
اللغة في معنى المواساة،
يتضّح أنّ مفهوم هذه
الخصلة الأخلاقيّة
الكريمة هو أنّ الإنسان
"المواسي" من يشارك
الآخرين همومهم وآلامهم
وغمّهم ومعاناتهم، ويدافع
عنهم بالمال والنفس، ولا
يرى فرقاً بينه وبينهم في
ذلك.
وورد في الروايات
الإسلاميّة ثناء كبير على
هذه الصفة الحميدة، فقد
ورد عن النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم أنّه قال:
"يا عليُّ، سيّد الأعمال
ثلاث خصال: إنصافك النّاس
من نفسك،
ومواساتك الأخ في الله
عزَّ وجلَّ، وذكرك الله
تعالى على كلّ حال"146.
وروي عن الإمام الصادق
عليه السلام أنّه قال:
"امتحنوا شيعتنا عند
ثلاث: عند مواقيت الصلاة
كيف محافظتهم عليها، وعند
أسرارهم كيف حفظهم لها
عند عدوّنا، وعند (إلى)
أموالهم كيف مساواتهم
(مواساتهم) لإخوانهم
فيها"147،
والمواساة وسيلة تقرّب
إلى الله تبارك وتعالى:
كما في قوله عليه السلام
"تقرّبوا إلى الله
تعالى بمواساة إخوانكم"148.
والمواساة تزيد في الرزق
كما في قول أمير المؤمنين
عليّ عليه السلام:"مواساة
الأخ في الله عزَّ وجلَّ
تزيد في الرزق"149،
وللمواساة تأثير في
استجابة الدعاء كما في
قول الإمام الصادق عليه
السلام:"ثلاث دعوات لا
يحجبن عن الله تعالى:
دعاء الوالد لولده إذا
برّه، ودعوته عليه إذا
عقّه، ودعاء المظلوم على
ظالمه، ودعاؤه لمن انتصر
له منه، ورجلٌ مؤمن دعا
لأخ له مؤمن واساه فينا،
ودعاؤه عليه إذا لم يواسه
مع القدرة عليه واضطرار
أخيه إليه"150.
ومواساة الإخوان سبب في
أن يرى المؤمن الغبطة
والسرور عند موته، وفي
تهوين سكرات الموت عليه،
وفي رجوعه إلى الله
مطمئناً راضياً مرضيّاً،
يقول الإمام الصادق عليه
السلام:"... ذلك لمن
كان ورعاً مواسياً
لإخوانه وصولاً لهم، وإنّ
كان غير ورع ولا وصول
لإخوانه قيل له: ما منعك
من الورع والمواساة
لإخوانك؟ أنت ممّن انتحل
المحبّة بلسانه ولم يصدّق
ذلك بفعل..."151.
وتشاهد هذه الخصلة
الأخلاقيّة السامية بوضوح
في أبطال ملحمة عاشوراء،
بل هي فيهم بدرجة عليا
وهي "الإيثار"، فمواساة
أنصار الإمام الحسين عليه
السلام له، ومواساتهم
لبعضهم البعض كانت تتجلّى
بوضوح في مجموع حركة
أحداث نهضة عاشوراء، إذ
لم يكونوا يجدون في
أنفسهم حرجاً وضيقاً من
ذلك البذل العظيم والفداء
الفذّ، بل كانوا يفتخرون
بتلكم المواساة.
ولقد تعرّض سيّد الشهداء
عليه السلام لذكر هذه
المواساة في الشعر الذي
استشهد به ردّاً على قول
الحرّ بن يزيد الرياحيّ:
"يا حسين إنّي أذكّرك
الله في نفسك، فإنّي أشهد
لئن قاتلت لتقتلنّ...".
حيث أنشد عليه السلام
قائلاً:
سأمضي وما بالموت عارٌ
على الفتى
إذا ما نوى حقّاً
وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين
بنفسه
وفارق مذموماً
وخالف مجرما
فإنْ عشتُ لم أندم وإنْ
متُّ لم ألم
كفى بك ذلّا أن
تعيش وترغما152
وتنقل بعض المصادر أنّ
الإمام عليه السلام في
ليلة من ليالي المحرّم
بعد أن جاءته الأخبار
بأنّ أهل الكوفة نكثوا
البيعة ونقضوا عهدهم،
وحدّث عليه السلام من كان
معه في ركبه عن تغيّر
مجرى الأحداث، وأذن لمن
كره منهم البقاء معه
بالانصراف قائلاً:
"فمن كره منكم ذلك
فلينصرف، فالليل ستير،
والسبيل غير خطير، والوقت
ليس بهجير، ومن واسانا
بنفسه كان معنا غداً في
الجنان نجيّاً من غضب
الرحمن..."153.
وحينما تاب الحرّ بن يزيد
الرياحيّ (رضوان الله
عليه)، وأقبل إلى الإمام
عليه السلام معلناً عن
توبته، وعازماً على
مواساته بنفسه خاطب
الإمام عليه السلام
قائلاً:
"جعلني الله فداك يا
ابن رسول الله! أنا صاحبك
الذي حبستك عن الرجوع
وسايرتك في الطريق،
وجعجعتُ بك في هذا
المكان، والله الذي لا
إله إلّا هو ما ظننتُ أنّ
القوم يردّون عليك ما
عرضت عليهم أبداً ولا
يبلغون منك هذه
المنزلة... وإنّي قد جئتك
تائباً ممّا كان منّي إلى
ربّي، ومواسياً لك بنفسي
حتّى أموت بين يديك،
أفترى ذلك لي توبة؟".
وقد صدق الحرّ (رضوان
الله عليه) في توبته ووفى
بعهده، فاستشهد بين يدي
أبي عبد الله الحسين عليه
السلام، ورثاه الإمام
عليه السلام وهو يضع رأس
الحرّ (رضوان الله عليه)
في حجره، ويبكي ويمسح
الدم
عن وجهه ويقول: "والله
ما أخطأت أُمّك إذ سمّتك
حرّاً، فأنت والله حرّ في
الدنيا وسعيد في الآخرة".
وهو يقول:
"فنعمَ الحرُّ حرُّ
بني رياح
صبور عند مشتبك
الرماح
ونعمَ الحرُّ إذ واسى
حسيناً
وجاد بنفسه عند
الصباح..."154
في حركة أحداث الكوفة
أيّام مسلم بن عقيل عليه
السلام، لمّا اعتقلوا
هاني بن عروة في دار
الإمارة، وأرادوا منه أن
يُسلّمهم مسلم بن عقيل
عليه السلام الذي كان قد
خبّأه في بيته، قال هاني
(رضوان الله عليه):"...
إنَّ عليَّ في ذلك للخزي
والعار! أنا أدفع جاري
وضيفي وأنا حيٌّ صحيح
أسمع وأرى، شديد الساعد
كثير الأعوان؟! والله لو
لم أكن إلّا واحداً ليس
له ناصر لم أدفعه إليه
حتّى أموت دونه!"155
ولمّا اقتيد مسلم بن عقيل
عليه السلام إلى قصر
الإمارة بعد أن أعطوه
الأمان، ورأى من معاملتهم
ما أشعره بغدرهم وعدم
وفائهم بعهد الأمان، بكى
وقال: هذا أوّل الغدر...
فقيل له: إنّ من يطلب مثل
الذي تطلب إذا نزل به مثل
الذي نزل بك لم يبك!
فقال:
"إنّي والله ما لنفسي
أبكي، ولا لها من القتل
أرثي- وإنْ كنت لم أحبّ
لها طرفة عين تلفاً- ولكن
أبكي لأهلي المقبلين
إليّ، أبكي لحسين وآل
حسين عليهم السلام "156.
ولمّا أذن عمرو بن
الحجّاج الزبيديّ لنافع
بن هلال (رضوان الله
عليه) أن يشرب من ماء
الفرات ما شاء، أبى نافع
(رضوان الله عليه) وقال:
"لا والله لا أشرب منه
قطرة وحسين عطشان ومن ترى
من أصحابه"157.
وكان أحد أجمل مشاهد
المواساة- بل الإيثار-
مشهد المنافسة التي وقعت
بين أنصار الإمام عليه
السلام من بني هاشم
وأنصاره من الأصحاب، في
أيّ الفريقين يكون الأوّل
تقدّماً إلى قتال القوم
في الصباح.
فقد روي عن زينب الكبرى
عليها السلام أنّها قالت:
"لمّا كانت ليلة عاشوراء
من المحرّم خرجت من خيمتي
لأتفقّد أخي الحسين عليه
السلام وأنصاره، وقد أفرد
له خيمة، فوجدته جالساً
وحده يناجي ربّه ويتلو
القرآن، فقلت في نفسي:
أفي مثل هذه الليلة يترك
أخي وحده؟! والله لأمضينّ
إلى إخوتي وبني عمومتي
وأعاتبهم بذلك!
فأتيتُ إلى خيمة العبّاس،
فسمعتُ منها همهمة
ودمدمة، فوقفتُ على
ظهرها، فنظرتُ فيها فوجدت
بني عمومتي وإخوتي وأولاد
إخوتي مجتمعين كالحلقة،
بينهم العبّاس بن أمير
المؤمنين عليه السلام وهو
جاث على ركبتيه كالأسد
على فريسته، فخطب فيهم
خطبة ما سمعتها إلّا من
الحسين عليه السلام
مشتملة بالحمد والثناء
لله، والصلاة والسلام على
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم، ثمّ قال في
آخر خطبته: يا إخوتي وبني
إخوتي وبني عمومتي، إذا
كان الصباح فما تقولون؟
فقالوا: الأمر إليك
يرجع، ونحن لا نتعدّى لك
قولك.
فقال العبّاس: إنّ
هؤلاء- أعني الأصحاب- قوم
غرباء، والحمل الثقيل لا
يقوم إلّا بأهله، فإذا
كان الصباح فأوّل من يبرز
إلى القتال أنتم، نحن
نقدمهم لئلّا يقول
النّاس: قدّموا أصحابهم،
فلمّا قتلوا عالجوا الموت
بأسيافهم ساعة بعد ساعة.
فقامت بنو هاشم وسلّوا
سيوفهم في وجه أخي
العبّاس وقالوا: نحن
على ما أنت عليه".
قالت زينب عليها
السلام:فلّما رأيت كثرة
اجتماعهم، وشدّة عزمهم
وإظهار شيمتهم، سكن قلبي
وفرحتُ، ولكن خنقتني
العبرة، فأردت أن أرجع
إلى أخي الحسين عليه
السلام وأخبره بذلك،
فسمعت من خيمة حبيب بن
مظاهر همهمة ودمدمة،
فمضيتُ إليها ووقفت
بظهرها، نظرتُ فيها
فوجدتُ الأصحاب على نحو
بني هاشم مجتمعين
كالحلقة، وبينهم حبيب بن
مظاهر وهو يقول: يا
أصحابي! لم جئتم إلى هذا
المكان؟ أوضحوا كلامكم
رحمكم الله!
فقالوا: أتينا لننصر
غريب فاطمة!
فقال لهم: لم طلّقتم
حلائلكم؟!
فقالوا: لذلك!
قال حبيب: فإذا كان في
الصباح فما أنتم قائلون؟
فقالوا: الرأي رأيك،
ولا نتعدّى قولاً لك.
قال: فإذا صار الصباح
فأوّل من يبرز إلى القتال
أنتم، نحن نقدمهم القتال
ولا نرى هاشميّاً مضرّجاً
بدمه وفينا عرق يضرب،
لئلاّ يقول النّاس:
قدّموا ساداتهم للقتال
وبخلوا عليهم بأنفسهم!
فهزّوا سيوفهم على وجهه
وقالوا: نحن على ما
أنت عليه! قالت زينب:
ففرحتُ من ثباتهم، ولكن
خنقتني العبرة فانصرفت
عنهم وأنا باكية..."
وورد في مواصلة هذا
الخبر: أنّ الإمام عليه
السلام جمع كلّ أنصاره من
بني هاشم والأصحاب،
وامتحن ثبات نيّاتهم وصدق
عزمهم وتصميمهم على
الجهاد معه، فلمّا رأى
الحسين عليه السلام حسن
إقدامهم وثبات أقدامهم
كشف لهم الغطاء فرأوا
منازلهم في الجنّة
وقصورهم وحورهم، ثمّ قال
عليه السلام لهم: "ألا
ومن كان في رحله امرأة
فلينصرف بها إلى بني أسد"،
فقام عليّ بن مظاهر وقال:
ولماذا يا سيّدي؟
فقال عليه السلام:"إنّ
نسائي تُسبى بعد قتلي،
وأخاف على نسائكم من
السبي!" فمضى عليّ بن
مظاهر إلى خيمته، فقامت
زوجته إجلالاً له
فاستقبلته وتبسّمت في
وجهه، فقال لها: دعيني
والتبسّم! فقالت: يا ابن
مظاهر! إنّي سمعت غريب
فاطمة خطب فيكم، وسمعت في
آخرها همهمة ودمدمة، فما
علمت ما يقول؟
قال: يا هذه! إنّ
الحسين قال لنا: ألا ومن
كان في رحله امرأة فليذهب
بها إلى بني عمّها، لأنّي
غداً أُقتل ونسائي تُسبى!
فقالت: وما أنت صانع؟!
قال: قومي حتّى أُلحقك
ببني عمّك بني أسد.
فقامت ونطحت رأسها في
عمود الخيمة، وقالت:
والله ما أنصفتني يا ابن
مظاهر! أيسّرك أن تُسبى
بنات رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وأنا آمنة
من السبي؟ أيسُرّك أن
تُسلب زينب إزارها من
رأسها وأنا استتر
بإزاري؟! أيسرّك أن تذهب
من بنات الزهراء أقراطها
وأنا أتزيّن بقرطي؟!
أَيُسرّك أن يبيضّ وجهك
عند رسول الله ويسودّ
وجهي عند فاطمة الزهراء؟!
والله أنتم تواسون
الرجال، ونحن نواسي
النساء!
فرجع عليّ بن مظاهر إلى
الحسين عليه السلام وهو
يبكي، فقال له الحسين
عليه السلام:
"ما يبكيك" ؟!
فقال: سيّدي! أَبت
الأسديّة إلّا مواساتكم!
فبكى الحسين عليه السلام
وقال: جزيتم منّا
خيراً
158!"
هكذا كان أنصار الحسين
عليه السلام رجالاً
ونساءً شيباً وشبّاناً في
مواساتهم له ولأهل بيته.
بعد أن استشهد أكثر
أنصاره (قدّس سرّهم)، رأى
الباقون منهم أنّهم لا
يقدرون على أن يمنعوا
الإمام عليه السلام ولا
أنفسهم، فتنافسوا في أن
يقتلوا بين يديه، فجاءه
الأخَوان الغفاريّان عبد
الله وعبد الرحمن فقالا:
" يا أبا عبد الله!
عليك السلام، حازنا
العدوّ إليك فأحببنا أن
نُقتل بين يديك، نمنعك
وندفع عنك!
قال عليه السلام:مرحباً
بكما، أدنوا منّي.
فدنوا منه، ثمّ قاتلا بين
يديه قتالاً شديداً حتّى
قُتلا"159.
وفي رواية أخرى: فدنوا
منه وهما يبكيان! فقال:
"يا ابني أخي، ما
يبكيكما؟ فوالله إنّي
لأرجو أن تكونا بعد ساعة
قريري العين!
فقالا: جعلنا الله
فداك! والله ما على
أنفسنا نبكي، ولكن نبكي
عليك، نراك قد أُحيط بك
ولا نقدر على أن نمنعك!
فقال عليه السلام:
جزاكم الله يا ابني أخي
بوجدكما من ذلك
ومواساتكما إيّاي
بأنفسكما أحسن جزاء
المتّقين.
ثمّ استقدما وقالا:
السلام عليك يا ابن رسول
الله. فقال: وعليكما
السلام ورحمة الله
وبركاته.
فقاتلا حتّى قتلا"160.
ولمّا سأل عزرة بن قيس في
عصر اليوم التاسع من
المحرّم زهير بن القين
(رضوان الله عليه) عن سبب
تحوّله وانضمامه إلى
الحسين عليه السلام،
أجابه قائلاً:
"... أما والله ما كتبت
إليه كتاباً قطّ، ولا
أرسلت إليه رسولاً قطّ،
ولا وعدته نصرتي قطّ،
ولكنّ الطريق جمع بيني
وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ
به رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم ومكانه
منه، وعرفت ما يقدم عليه
من عدوّه وحزبكم، فرأيتُ
أن أنصره وأن أكون في
حزبه وأن أجعل نفسي دون
نفسه، حفظاً لما ضيّعتم
من حقّ الله وحقّ رسوله
عليه السلام "161.
ولمّا أراد عابس بن أبي
شبيب الشاكريّ (رضوان
الله عليه) أن يستأذن
الإمام عليه السلام في
قتال القوم خاطبه قائلاً:
"يا أيا عبد الله! أما
والله ما أمسى على وجه
الأرض قريب ولا بعيد أعزّ
عليَّ ولا أحبّ إليَّ
منك، ولو قدرتُ على أن
أدفع عنك الضيم والقتل
بشيء أعزّ عليَّ من نفسي
ودمي لعملته! السلام عليك
يا أبا عبد الله، أشهد
أنّي على هديك وهدي أبيك"162.
ولمّا صرع الإمام الحسين
عليه السلام، وأحاط به
الأعداء ليقتلوه، "خرج
عبد الله بن الحسن عليهما
السلام وهو غلام لم
يراهق من عند النساء،
فشدّ حتّى وقف إلى جنب
عمّه الحسين عليه السلام،
فلحقته زينب بنت عليّ
عليهما السلام
لتحبسه، فقال الحسين عليه
السلام:إحبسيه يا أختي!
فأبى وامتنع امتناعاً
شديداً، وقال: لا والله
لا أفارق عمّي! وأهوى
أبجر بن كعب إلى الحسين
عليه السلام بالسيف، فقال
له الغلام: ويلك يا ابن
الخبيثة! أتقتل عمّي؟!
فضربه بالسيف فاتّقاه
الغلام بيده فأطنّها إلى
الجلد فإذا يده معلّقة!
فنادى الغلام: يا أُمّاه!
فأخذه الحسين عليه السلام
فضمّه إليه وقال: يا ابن
أخي! إصبر على ما نزل بك،
واحتسب في ذلك الخير،
فإنّ الله يلحقك بآبائك
الصالحين. فرماه حرملة بن
كاهل بسهم فذبحه وهو في
حجر عمّه الحسين عليه
السلام "163.
هذه أمثلة جليّة للمواساة
بالنفس في ميدان عاشوراء
وحركة أحداث نهضة كربلاء
تجسّد ذروة الأخوّة
الإيمانيّة، وأداء حقّ
الأخوّة حقّ الأداء.
عبد الله بن جعفر عليهما
السلام وهو زوج
زينب الكبرى عليها
السلام، لم يكن قد وفّق
لحضور كربلاء مع الحسين
عليه السلام، وكان
معذوراً لعلّة ما، قيل هي
العمى في بصره، لكنّه
كان قد أرسل ابنيه مع
زينب عليهما السلام
ليكونا مع الحسين عليه
السلام، وقد استشهد ولداه
بين يدي الإمام عليه
السلام، وبعد أن انتهت
واقعة الطفّ كان عبد الله
بن جعفر عليه السلام
يذكرها متأسّفاً على أن
لم يكن آسى الحسين عليه
السلام بنفسه، فيقول:
"الحمد لله عزَّ وجلَّ
على مصرع الحسين عليه
السلام، إنْ لا تكن آست
حسيناً يداي فقد آساه
ولداي، والله لو شهدته
لأحببت أن لا أفارقه حتّى
أُقتل معه! والله إنّه
لممّا يسخّي عنهما،
ويهوّن عليَّ المصاب بهما
أنّهما أُصيبا مع أخي
وابن عمّي مواسين له،
صابرين معه"164.
وفي الكوفة، لمّا ضاق ابن
زياد ذرعاً بكلام الإمام
السجّاد عليه السلام
وبأجوبته التي استفزّت
أعصاب ذلك الطاغية وأثارت
غضبه، أمر أحد جلاوزته
بقتل الإمام عليه السلام،
وهنا نرى زينب عليها
السلام في موقف رائع من
مواقف الدفاع والمواساة
تقدّم نفسها للقتل فداء
لحياة الإمام عليه
السلام، تقول الرواية:
"فتعلّقت به عمّته زينب
فقالت: يا ابن زياد! حسبك
منّا! أما رويت من
دمائنا؟! وهل أبقيت منّا
أحداً؟! واعتنقته وقالت:
أسألك بالله إنْ كنت
مؤمناً إنْ قتلته لمّا
قتلتني معه!165".
ويمكن أيضاً مشاهدة نماذج
من هذه الأمثلة
التأريخيّة السامية في
بحث الإيثار، إنّ جميع
أنحاء ميادين هذه الملحمة
المقدّسة مليئة من مثل
هذه المواقف الرائعة من
الإيثار والمواساة.
ولقد جسّد أبو الفضل
العبّاس عليه السلام ذروة
هذه المواساة، لقد ورد
الفرات ظمآن قد ذاب فؤاده
من العطش، وخرج من الفرات
دون أن يشرب منه! فكما
مضى إلى شريعة الفرات من
أجل إرواء أطفال الإمام
عليه السلام من البدء
حتّى المنتهى، ولذا نجد
متون زيارات أبي الفضل
العبّاس عليه السلام
تركّز على هذه الخصلة
السامية في شخصيّته
الفذّة عليه السلام، فلقد
ورد في إحداها:
"فلنَعم الأخ المواسي"166،
وفي أخرى: "السلام
عليك أيّها العبد الصالح
والصدّيق المواسي، أشهد
أنّك آمنتَ بالله ونصرتَ
ابن رسول الله
ودعوت إلى سبيل الله
وواسيت بنفسك"167.
روح التعاون هذه،
والمشاركة في الغمّ
والهمّ، والأخوّة
الحقيقيّة، بلاغ جميع
شهداء عاشوراء، وخصلة
المواساة هذه بالذات تكون
السبب في أن يحمل أتباع
مدرسة عاشوراء حقيقة
الأخوّة لجميع مسلمي
العالم من أيّ عرق أو أصل
كانوا، وأن يشاركوهم
الغمّ والهمّ والمصائب،
وأن يسارعوا إلى مساعدتهم
بما وسعتهم القدرة
والاستطاعة، حتّى لا
يستشعر المسلمون الذين
يجاهدون في جبهة الكفاح
ضدّ الاستكبار
والصهيونيّة والقوى
المرتبطة بالكفر العالميّ
أنّهم وحدهم في الميدان.
إنّ المواساة الدينيّة
بين المسلمين ضمانة
لاعتماد ومساندة
المجاهدين في سبيل الله،
كي لا يبقوا وحدهم في خطّ
الجهاد ضدّ الكفر والظلم.
الوفاء
الوفاء هو الالتزام
بالعهد والميثاق الذي
نعقده ونبرمه مع الله
سبحانه أو مع أحدٍ من
النّاس، والوفاء علامة
صدق الإنسان وإيمانه
ورجولته وفتوّته.
ويجب الوفاء بالعهد
والميثاق سواء أكان العهد
والميثاق مع الله تبارك
وتعالى، أو مع الأحبّاء،
أو مع الأعداء، أو كان
نذراً ألزمنا أنفسنا به،
أو عقداً وبيعة مع الإمام
ووليّ الأمر.
ونقض العهد والميثاق وعدم
الوفاء به دليلٌ على ضعف
إيمان الإنسان، وهو من
أسوأ الخصال الأخلاقيّة
السيّئة، وقد أوجب الله
تبارك وتعالى الوفاء
بالعهد والعقد، واعتبر
الإنسان مسؤولاً عن العهد
والميثاق وعن الوفاء
بشروطه، فقال تعالى:
﴿وَأَوْفُواْ
بِالْعَهْدِ إِنَّ
الْعَهْدَ كَانَ
مَسْؤُولاً﴾168،
وقال تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ أَوْفُواْ
بِالْعُقُودِ﴾169.
ونقرأ في القرآن آيات
عديدة وردت في الثناء على
الوفاء بالعهد والصدق به،
كما في ثنائه تعالى على
إسماعيل عليه السلام حيث
يقول:
﴿وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ
إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ
كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ
وَكَانَ رَسُولًا
نَّبِيًّا﴾170.
كما نقرأ آيات كثيرة في
ذمّ أشخاص وأقوام كانوا
قد نقضوا ميثاقهم وعهدهم،
كما في قوله تعالى مثلاً:
﴿فَبِمَا
نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ
لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا
قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾171.
ويقول أمير المؤمنين عليّ
عليه السلام:"أشرف
الخلائق الوفاء"172.
ويقول عليه السلام أيضاً:
"من دلائل الإيمان الوفاء
بالعهد"173.
وإذا نظرنا إلى ميدان
عاشوراء لرأينا أسمى
مظاهر الوفاء بالعهد
والميثاق تتجلّى في أحد
معسكري هذا الميدان وهو
معسكر الإمام الحسين عليه
السلام، ولرأينا في الطرف
الآخر من هذا الميدان
أشنع وأبشع أمثلة نقض
الميثاق، وعدم الوفاء
بالعهد، ونكث البيعة،
تتجسّد في جموع أتباع جيش
عمر بن سعد، ذلك الجيش
الذي يمثّل اليد الضاربة
لحركة النفاق التي لمْ
تلتزم بعهد أو ميثاق،
والتي قادها سنين طويلة
معاوية بن أبي سفيان
المعروف بغدره ونقضه
للعهود والمواثيق، حتّى
أنّ الإمام الحسين عليه
السلام قد عيّره بذلك
ووبّخه وأنّبه عليه في
جملة ما أنّبه عليه في
رسالته الاحتجاجيّة التي
بعث بها إليه174،
بل كان الإمام عليه
السلام يتعرّض لذكر غدر
معاوية وعدم وفائه
بالمواثيق في كثير من
المناسبات175.
ولم يكن عدم الوفاء
بالعهد جديداً على أهل
الكوفة يومذاك، بل كان
معروفاً فيهم، ولقد كشف
الإمام الحسين عليه
السلام عن ذلك في خطبته
التي خطبها في جيش الحرّ
بن يزيد الرياحيّ في منزل
البيضة، حيث قال عليه
السلام:"... إنْ لم
تفعلوا ونقضتم عهدكم،
وخلعتم بيعتي من أعناقكم،
فلعمري ما هي لكم بنكرٍ!
لقد فعلتموها بأبي وأخي
وابن عمّي مسلم! والمغرور
من اغترّ بكم..."176.
وفي يوم عاشوراء
أيضاً كان عليه السلام قد
وبخّ أهل الكوفة على
نكثهم البيعة وعدم وفائهم
بتعهداتهم، في إحدى خطبه
العصماء يومذاك، وكان
ممّا قاله عليه السلام
فيها: "... أجل والله!
الخذل فيكم معروف، وشجت
عليه عروقكم وتوارثته
أصولكم وفروعكم، وثبتت
عليه قلوبكم، وغشيت
صدوركم، فكنتم أخبث شيء
سنخاً للناصب وأكلة
للغاصب! ألا لعنة الله
على الناكثين الذين
ينقضون الأيمان
بعد توكيدها..."177.
وفي الطرف المقابل كان
الإمام الحسين عليه
السلام في كلّ حركة وسكنة
منه يمثّل حقيقة معنى
الوفاء، وكان أنصاره
(قدّس سرّهم) المثل
الأسمى للوفاء بالعهد
والميثاق، إذ ثبتوا على
عهدهم واستقاموا على
ميثاقهم مع إمامهم عليه
السلام، في نصرته والجهاد
بين يديه حتّى فازوا
بمرتبة الشهداء الذين لم
يسبقهم إلى مرتبتهم سابق
ولا يلحق بهم لاحق.
ولمقام صدق ووفاء الإمام
الحسين عليه السلام
وأنصاره (قدّس سرّهم)
إشارات كثيرة في متون
الروايات والزيارات، نشير
هنا إلى بعض منها: في
ليلة عاشوراء كان الإمام
عليه السلام قد توّج
أنصاره من أهل بيته
وأصحابه بأشرف تاج يمكن
أن يُزيّن إنسانٌ به حيث
قال: "أمّا بعد، فإنّي
لا أعلم أصحاباً أوفى ولا
خيراً من أصحابي، ولا أهل
بيت أبرَّ ولا أوصل من
أهل بيتي..."178.
ولمّا وقف عليه السلام
يوم عاشوراء على مصرع
مسلم بن عوسجة (رضوان
الله عليه) قرأ عليه
السلام قوله تعالى:
﴿فَمِنْهُم
مَّن قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا﴾179.
وكان حبيب بن مظاهر
(رضوان الله عليه) مع
الإمام عليه السلام، فدنا
من مسلم وقال: "عزّ
عليَّ مصرعك يا مسلم!
أبشر بالجنّة".
فقال له مسلم قولاً
ضعيفاً:
بشّرك الله بخير.
فقال له حبيب:
لولا أنّي أعلم أنّي في
أثرك لاحق بك من ساعتي
هذه لأحببت أن توصيني
بكلّ ما أهمّك، حتّى
أحفظك في كلّ ذلك بما أنت
أهل له في القرابة
والدين.
قال مسلم:
بل أنا أوصيك بهذا رحمك
الله- وأهوى بيده إلى
الحسين- أن تموت دونه!
قال حبيب:
أفعلُ وربّ الكعبة!
فما كان بأسرع من أن
مات في أيديهم رحمه الله"180.
ولقد قرأ الإمام الحسين
عليه السلام قوله تعالى:
﴿فَمِنْهُم
مَّن قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا﴾،
مراراً في كربلاء يوم
عاشوراء، إذ "كان يأتي
الحسين عليه السلام الرجل
بعد الرجل، فيقول: السلام
عليك يا ابن رسول الله.
فيجيبه الحسين عليه
السلام:وعليك السلام،
ونحن خلفك. ويقرأ: فمنهم
من قضى نحبه ومنهم من
ينتظر. ثمّ يحمل فيقتل،
حتّى قتلوا عن آخرهم
(قدّس سرّهم)، ولم يبق مع
الحسين إلّا أهل بيته"181.
وكان عليه السلام في
طريقه من مكّة إلى العراق
يقرأ هذه الآية الشريفة
عند ذكر أنصاره الذين
استشهدوا على طريق الوفاء
بالعهد والميثاق، ممجّداً
فيهم وفاءهم وثباتهم،
كقيس بن مسهّر الصيداويّ
(رضوان الله عليه) الذي
ترقرقت عينا أبي عبد الله
عليه السلام بالدموع لمّا
سمع بنبأ استشهاده ثمّ
تلا هذه الآية الشريفة
مترحّماً عليه ومادحاً
إيّاه لوفائه وثباته.
ولقد جسّد أبو الفضل
العبّاس وإخوته من أمّه:
وفاءهم لإمامهم عليه
السلام وثباتهم على العهد
برفضهم أمان عبيد الله بن
زياد الذي حمله شمر
إليهم، وما فارقوا الإمام
عليه السلام حتّى قضوا
نحبهم شهداء بين يديه.
كان الإمام عليه السلام
قد رخّص أنصاره بالانصراف
عنه، وجعلهم في حلّ من
بيعته، لكنّهم بمقتضى
الوفاء قد أصرّوا على
البقاء معه وثبتوا على
عهدهم معه.
كان شهداء كربلاء يرون
التضحية بأنفسهم في نصرة
الحسين عليه السلام وفاءً
بالعهد، فوقّعوا على
ميثاقهم بإمضاء من الدّم!
ونرى في يوم عاشوراء عمرو
بن قرظة الذي كان لا يأتي
إلى الحسين عليه السلام
سهم إلّا اتّقاه بيده ولا
سيف إلّا تلقّاه بمهجته،
فلم يكن يصل إلى الحسين
سوء حتّى أثخن بالجراح،
فالتفت إلى الحسين عليه
السلام وقال: " يا ابن
رسول الله! أوفيتُ؟ قال:
نعم، أنت أمامي في
الجنّة، فاقرأ رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
منّي السلام، وأعلمه أنّي
في الأثر.
فقاتل حتّى قتل (رضي الله
عنه)"182.
وروي أيضاً أنّ سعيد بن
عبد الله الحنفي (رضوان
الله عليه) لمّا استقدم
أمام الإمام الحسين عليه
السلام يوم عاشوراء عند
الظهر أثناء الصلاة يحميه
من السهام، فما أخذ
الحسين عليه السلام
يميناً وشمالاً إلّا قام
بين يديه، فما زال يرمى
حتّى سقط إلى الأرض، وهو
يقول:
"الّلهمّ العنهم لعن
عادٍ وثمود! الّّلهمّ
أبلغ نبيّك عنّي السلام،
وأبلغه ما لقيتُ من ألم
الجراح، فإنّي أردت بذلك
نصرة نبيّك. ثمّ مات،
فوجد به ثلاثة عشر سهماً
سوى ما به من ضرب السيوف
وطعن الرماح183.
ثمّ التفت إلى الحسين
عليه السلام فقال: أوفيتُ
يا ابن رسول الله؟ فقال
عليه السلام:نعم، أنت
أمامي في الجنّة ثمّ فاضت
نفسه النفيسة"184.
ونقرأ في زيارة الإمام
الحسين عليه السلام يوم
الأربعين:
"أشهدُ أنّك وفيتَ
بعهد الله، وجاهدت في
سبيله حتّى أتاك اليقين"185.
ونقرأ أيضاً في إحدى
زياراته المطلقة:
"أشهد أنّك قد بلّغت
ونصحت ووفيتَ وأوفيت
وجاهدت في سبيل الله"186.
ونقرأ في زيارة مسلم بن
عقيل عليه السلام:
"وأشهدُ أنّك وفيت بعهد
الله"187.
ونقرأ في زيارة أبي الفضل
العبّاس عليه السلام:
"أشهد لك بالتسليم
والتصديق والوفاء
والنصيحة لخلف النبيّ..."188.
ونقرأ في هذه الزيارة
أيضاً الدعاء له عليه
السلام بأن يجزيه الله
أفضل جزاء الموفين لله
ببيعتهم، المستجيبين
لدعوته، المطيعين
لأئمّتهم وولاة أمرهم:
"فجزاك الله أفضل الجزاء،
وأكثر الجزاء، وأوفر
الجزاء، وأوفى جزاء أحدٍ
ممّن وفي ببيعته واستجاب
له
دعوته وأطاع ولاة
أمره..."189.
هذه التضحيات بالأنفس
المختومة بالشهادة هي
ذلكم العهد والميثاق الذي
أعطوه لإمامهم عليه
السلام ليلة عاشوراء، حين
قالوا: "والله لا
نفارقك، ولكن أنفسنا لك
الفداء، نقيك بنحورنا
وجباهنا وأيدينا، فإذا
نحن قتلنا كنّا وفينا
وقضينا ما علينا!"190.
وبلاغ الوفاء قد وصل من
عاشوراء إلى ورثة المنهج
العاشوريّ، فهم باقون على
عهدهم الذي عاهدوا الله
عليه ودماء الشهداء، وعلى
بيعتهم لقائدهم وللوليّ
الفقيه، أوفياء لعهدهم
وميثاقهم إلى آخر العمر،
وكلّ صعوبات الطريق
وإغراءات الدنيا وحالات
الضعف التي تعتري بعض
رفقاء هذا الطريق لن تثني
العاشورائيّين أبداً عن
مواصلة طريق عاشوراء.
وكلّ إمام وقائد أيضاً
بحاجة إلى أنصار أوفياء
ليقود من خلال الاعتماد
على حمايتهم وصدقهم
ووفائهم حركة الثورة
والجهاد على منهجها
المرسوم ويوصلها إلى
أهدافها المنشودة.
|