إيضاح
إنّ الوصول إلى لبّ لباب
منهج الأنبياء عليهم
السلام لا يتمّ إلّا
بمعرفة سامية وبروح طاهرة
وحبّ عظيم لخالق الوجود،
"حبّ الله" هو الشيء الذي
له أكبر وأسمى شأن وقيمة
في مدرسة الوحي، وهذا
الحبّ إنّما يستمدُّ
قوّته وعظمته من قوّة
وعظمة معرفة العبد بالله
تبارك وتعالى، فالعبد
العارف بالله عزَّ وجلَّ،
يفنى فيه، وتصير محبّة
ذلك المحبوب الأزليّ
الأبديّ سلطان إقليم
وجوده، فالله هو ربّان
سفينة وجود وحياة ذلك
العارف، ولا يملك هذا
العبد على أساس معرفته
إلّا أن يمتثل ويطيع أمر
مولاه حبّاً وشوقاً.
إنّ البعد العرفانيّ
للدين يتجلّى في العلاقة
والمحبّة الخاصّة بين
العبد وخالقه، والتي من
نتائجها: "الصبر" و"الرضا" و"التسليم" و"الشوق"
و"الإخلاص" و"اليقين" و"اطمئنان النفس" و"القرب
من الله"، وغيرها من
أمثال هذه المراتب
المقدّسة. وفي ظلّ هذا
التجلّي الإلهيّ لا يرى
العبد نفسه، بل لا يرى
ولا يعرف إلّا "الله"،
ولا يطلب إلّا "مرضاته".
إنّ لعاشوراء- سوى بُعدها
الملحمي، وبُعد مقاومة
ومواجهة الظلم، وبُعد
القيام لإقامة العدل
والقسط، وأبعادها الأخرى-
بُعدها العرفانيّ أيضاً،
فعاشوراء كانت ولا تزال
تعلّم الأجيال أسمى دروس
العرفان الخالص. وأنّى
يمكن المزج بين الحماسة
والعرفان لو لم تكن
كربلاء والمشاهد
المستلهمة من ملحمة
عاشوراء؟
إنّ بعض المؤلّفين وكتّاب
المقاتل، أو الشعراء
الذين نظموا ملحمة
عاشوراء شعراً كما
تناولوا وقائع عاشوراء
تأريخاً وتحليلاً، نظروا
كذلك وتأمّلوا في البعد
العرفانيّ لهذه الملحمة.
إنّ بلاغ عاشوراء
العرفانيّ يرسم ويوضّح
أيضاً طريقة السير
والسلوك إلى الله تبارك
وتعالى المطابقة لـ"خطّ
الأنبياء والأئمّة عليهم
السلام "، كما يفضح
بطلان خطّ العرفان الصوفيّ
المصطَنع والمعتزل لميدان
الصراع بين الحقّ والباطل
وميدان العمل بالتكليف
الاجتماعيّ.
حبّ الله تعالى
من أسمى وأعذب حالات
الروح الإنسانيّة حبّها
للكمال المطلق والمعبود
الحقيقيّ وهو الله تبارك
وتعالى، والقادة
الرّبانيّون من الرسل
والأنبياء والأئمّة عليهم
السلام يتمتّعون بأعلى
درجات هذا الحبّ المقدّس،
وإنَّ منحى حياتهم
وشهادتهم ناطقٌ بهذه
الحقيقة وشاهد عليها أيضاً.
إنّ أهل هذا الحبّ
المقدّس لا يرون لأنفسهم
تعيّناً وجوديّاً، بل هم
دائماً في انتظار لحظة
التحرّر والخلاص من قفص
البدن وسجن التراب من أجل
الالتحاق بالله تبارك
وتعالى، حبٌّ كهذا يتبعه
"فناءٌ في الله"
أيضاً، وهذا الفناء وهذه
الجذبة هما السبب في أنّ
العارف الواصل لا يحسب
لشيء غير ذات الله تبارك
وتعالى وغير رضاه حساباً
أبداً، ويتجاوز بالإعراض
عن كلّ ما يكون مانعاً
لوصال المحبوب. وفضلاً عن
أنّ أحد مظاهر هذا الحبّ
العرفانيّ هو أنّ العارف
يرى كلّ شيء لله ومن أجل
الله، فإنّ التضحية
بالجسم من أجل معراج
الروح إلى الله تعالى هو
مظهر آخر من مظاهر هذا
الحبّ. وممّا ينسب إلى
الإمام الحسين عليه
السلام من الشعر، أنّه
قال هذين البيتين وهو
صريع مطروح على أرض
كربلاء:
تركتُ الخلق طُرّاً في
هواكا
وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطّعتني في الحبّ
إرباً لما مال الفؤاد إلى سواكا
ومن ثمرات هذا الحبّ وهذه
المجذوبيّة إلى الله
سبحانه أيضاً وصول العارف
إلى مقام التسليم والرضا،
إنّ ازدياد إشراق
نورانيّة وجه الإمام
الحسين عليه السلام يوم
عاشوراء كلّما ازداد قرباً
من لحظة استشهاده علامة
أخرى من علائم هذا الحبّ
الخالد، كما أنّ استعجال
أنصار الإمام عليه السلام
ليلة عاشوراء قدوم الصباح
حتّى يجالدوا الأعداء في
ميدان القتال كاشف عن شوق
الأنصار (قدّس سرّهم) إلى
لقاء الله ورسوله صلى
الله عليه وآله وسلم وإلى
جنّات النعيم، ذلك الشوق
الذي هيمن على قلوبهم إلى
درجة نفاد صبرهم في
انتظار الصباح القادم
بعرائس الشهادة!
كانت ملحمة عاشوراء بكلّ
تفاصيلها، وبكلّ مشاهد
وميادين بطولات أنصاره
وأبنائه وأهل بيته عليه
السلام مظهراً من مظاهر
هذه الجذبة المعنوّية
وهذا الحبّ الخالد، وكانت
شهادة كلّ من الأصحاب
والأهل عند الإمام عليه
السلام "هديّة" يتقرّب
بها إلى المحبوب عزَّ وجلَّ
ويحتسبها عنده من أجل
تحقيق رضاه والوصول إلى
قربه.
ولقد تجلّى هذا المشرب
العرفانيّ والحبّ الإلهيّ
أيضاً في سلوك المجاهدين،
حيث كان جند الإسلام
العارفون وأصحاب القلوب
المتيّمة بالحبّ الإلهيّ
قد قطعوا في ليلة واحدة
طريق السير والسلوك الذي
قد يقطعه غيرهم بالتعبّد
والمجاهدة في مائة عام!
وبتعبير الإمام الخمينيّ
(قدس سره) فإنّ طعم الشهادة في
ذائقة أولياء الله أحلى
من العسل، وكان (قدس
سره) يعتقد
أنّ المجاهدين قد ارتشفوا
جرعة من ذلك الشراب
الطهور- شراب المعرفة
والعشق- فانتشو1،
وكان يعتقد أنّ الشهداء
عشّاق كانت أجنحتهم
هفهافة "فعرجوا معراج
الدم على جياد الشرف
والعزّة، ففازوا بالشهود
والحضور بين يدي عظمة
الحقّ تبارك وتعالى، وفي
مقام جمع الجمع !"2.
وفي صدد الجذبات
الروحانيّة التي لا يمكن
وصفها عند عشّاق الشهادة
من المجاهدين، يقول (قدس)
بقلمه وبيانه الرشيق:
"... لكن بأيّ قلم، وبأيّ
فنّ وبيان يمكن تصوير ذلك
البعد الإلهيّ العرفانيّ،
وذلك الظهور المعنويّ
الربّانيّ الذي يأخذ
بأعنّة الأرواح إليه،
وتلك القلوب التي ذابت في
التجليّات الإلهيّة؟"3.
البلاء والابتلاء
البلاء هو العناء والألم
والمصاعب والمشاغل
المرهقة والمصائب التي
تواجه الإنسان في الحياة
وفي سبيل العقيدة.
والابتلاء هو الوقوع في
هذه المحن والآلام، وثمرة
ذلك نوع من اختبار الخلوص
وطهارة القلب من النوايا
غير السليمة والدوافع غير
الخالصة لله تعالى.
وعدا مفهوم الألم والعناء
والبلوى، التي ينبغي
الاستعاذة بالله تعالى
منها، وأن يسأل الله
العافية منها، وعدا معنى
الاختبار والامتحان الذي
يُشخّص به مستوى إيمان
وانقياد وطاعة العباد،
هناك أيضاً مفهوم عرفانيّ
أعمق لهذه الكلمة، وهو حبّ
الألم والعناء والمصاعب
في سبيل مرضاة الله تعالى،
وتحمّل المحن والشدائد عن
عشق من أجل الفوز بالقرب
الإلهيّ.
وبلاء كهذا من قبل الله
تبارك وتعالى هو لطفٌ
بعباده، وتحمّل هذا
البلاء علامة حبّ العبد
لربّه وعشقه إيّاه، ودليل
صدق إيمانه بالله سبحانه،
وحالٌ كهذه قريبة من
مفهوم "الرضا" و"التسليم"
في البعد العرفانيّ.
وفي روايات كثيرة ورد أنّ
الله تعالى يخصّ أحبّاءه
بالبلاء، وعلى أساس هذه
النظرة، فكلّما اقترب
العبد من ربّه أكثر كلّما
اشتدّ به البلاء.
ومن النّاس من لا يُطيق
البلاء ولا يتحمّله لأنّه
يعبد الله على حرف! أي
يعبد الله ما وافقت هذه
العبادة مصالحه الدنيويّة
وأهواءه النفسيّة، فإنّ
أصابه خيرٌ اطمأنّ به،
وإن محصّ بالبلاء انقلب
على وجهه فخسر الدنيا
والآخرة! يقول الإمام
الحسين عليه السلام
مشيراً إلى أمثال هؤلاء:
"النّاس عبيد الدنيا،
والدّين لعق على ألسنتهم
يحوطونه ما درّت معايشهم،
فإذا محّصوا بالبلاء قلّ
الديّانون"4
!
أمّا المؤمنون العارفون
بالله تعالى فهم ليسوا لا
يهربون من البلاء أو لا
يتذمّرون منه وحسب، بل
يرونه علامة لطف الله بهم،
وسبباً لتطهير أرواحهم
وقلوبهم وتصفية أعمالهم،
ولفضيلته وعظيم ثوابه
تراهم يرحّبون به5.
يقول الإمام الصادق عليه
السلام:"إنّ الله إذا
أحبَّ عبداً غتّه
بالبلاء"6
وورد في الروايات أنّ
هكذا بلاءات هي إمّا هدية
من قبل الله تعالى أو علوّ
درجة عند الله تعالى
لعبده المبتلى، وتتناسب
شدّة الابتلاء تناسباً
طرديّاً مع قوّة الإيمان،
ومن هنا نقرأ أنّ الله
تبارك وتعالى قد ابتلى
الإمام أمير المؤمنين
عليّاً عليه السلام
ببلاءات ومحن خاصّة لم
يبتل بها أحداً غيره من
أوليائه7،
كذلك فإنّ الصبر على
البلاء له أجر الشهيد8.
وفي ضوء هذه النظرة
والعقيدة، نجد سيّد
الشهداء عليه السلام في
آخر لحظات عمره الشريف
يوم عاشوراء، وقد اشتدّ
به البلاء والابتلاء،
يناجي محبوبه تبارك
وتعالى في آخر مناجاة معه
قبل استشهاده، فيصفه
بجميل الصفات، ويحمده
بأفضل محامده فيذكر منها
سبوغ نعمائه وحسن بلائه،
قائلاً: "... سابغ
النعمة، حسن البلاء..."9.
ونجده عليه السلام كذلك
في يوم عاشوراء يوصي أهل
بيته في آخر وداع له معهم
قائلاً: "استعدّوا
للبلاء، واعلموا أنّ الله
حافظكم وحاميكم، وسينجيكم
من شرّ الأعداء، ويجعل
عاقبة أمركم إلى خير،
ويعذّب أعاديكم بأنواع
البلاء، ويعوّضكم الله عن
هذه البليّة أنواع النعم
والكرامة، فلا تشكوا، ولا
تقولوا بألسنتكم
ما ينقص قدركم"10.
إنّ أصحاب الهمم العالية
الذائبين في حبّ الله
تبارك وتعالى يستقبلون
البلاء الإلهيّ مستبشرين
مطمئنّين، محتسبين ما
يُبتلَون به عند الله عزَّ
وجلَّ، منتظرين حسن جزائه
ومثوبته على ذلك.
ذكر الله تعالى
ذكر الله تبارك وتعالى في
جميع مراتبه ومراحله أمرٌ
منشود ومحمود، وقد أكّد
عليه الإسلام كثيراً، وقد
صرّحت آيات قرآنيّة كثيرة
بأهميّة هذا الأمر، منها
مثلاً:
﴿اذْكُرُوا اللهَ
ذِكْرًا كَثِيرًا11﴾
و﴿وَاذْكُرُوا اللهَ
كَثِيرًا﴾12.
وذكر الله في مرتبة
عرفانيّة عالية هو أن
يكون الإنسان دائماً في
ذكر الله تبارك وتعالى
وبلا انقطاع، حيث يرى
الله سبحانه حاضره وناظره
في كلّ آنٍ، فلا يغفل عن
هذا الذكر حتّى في أخصّ
الحالات الخاصّة، ولا
ينسى ربوبيّة الله تعالى
وولايته سواء في الشدائد
والمصائب والضرّاء أو في
النعماء والسرّاء.
إنّ استمرار اتّقاد مصباح
"ذكر الله" في القلب كما
يكون سبباً في الحؤول دون
ارتكاب الذنب، يزيد كذلك
في مقاومة وثبات الإنسان
إزاء المصاعب والمصائب،
ويمنع أيضاً من وقوع
الإنسان في فخّ الغرور
والتباهي، ويمّهد أيضاً
للارتقاء الروحيّ ولتصفية
الأخلاق من الرذائل،
وتطهير القلب من كلّ ما
سوى الله.
وكما للذكر مرتبة لسانيّة،
كذلك له "مرتبة قلبيّة"،
والذكر الكامل هو الذي
يقترن فيه الذكر اللسانيّ
مع الذكر القلبيّ، فكما
ينطق اللسان بأسماء الله
تعالى وصفاته، وبحمده
وتسبيحه، فيجري ذكر اسم
ذلك المحبوب الخالد على
لسان الذاكر على الدوام،
ينبغي كذلك أن يكون قلبه
في نفس الوقت متوجّهاً
للذات الأحديّة
لا يغفل عنها، مستحضراً
معاني ما يجري على لسانه
من الذكر، معتقداً أنّ
الله تعالى هو المعتمد
وهو الملجأ، فلا حول ولا
قوّة إلّا به، وهو السميع
البصير بكلّ قول وعمل وكلّ
شيء.
وهذه الصلاة إنّما
يعنونها القرآن الكريم
بـ"ذكر الله"، ويجعل
الغاية منها "ذكر الله":﴿وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾13
لاشتمالها على الحمد
والشكر والتسبيح، ولأنّها
أيضاً حاوية على التوجّه
القلبيّ إلى المعبود
سبحانه. ولقد كانت
عاشوراء مظهراً جليّاً
لـ"ذكر الله"، نشاهد ذلك
بوضوح في أقوال وأفعال
وحالات الإمام الحسين
عليه السلام وأنصاره (قدّس
سرّهم)، وهذه الصفة
التعبديّة والملكة
الروحيّة لا تتجلّى إلّا
فيمن تربّى في مدرسة
القرآن، حيث لا يغفل أبداً
عن ذكر الله في أيّ حال
من الأحوال.
كان سيّد الشهداء عليه
السلام في أشدّ الحالات
المضطربة والوقائع
المتوتّرة يعيش الهدوء
التامّ والسكينة الغامرة
بـ"ذكر الله"، وكان عليه
السلام يشعّ بهذا
الاطمئنان القلبيّ على
أنصاره وأهل بيته، لقد
كانت خطبه عليه السلام
عامرة بذكر الله وبأسمائه
المباركة، وكانت آلام
استشهاد كلّ من أنصاره،
من أصحابه ومن أهل بيته،
ممّهدة عنده لذكر الله
تعالى.
نقرأ بتأمّل هذه الأمثلة
من سيرته في ميدان كربلاء:
كان عليه السلام يفتتح كلّ
خطبة من خطبه في أصحابه
بالحمد لله وبالثناء عليه،
كما في قوله عليه السلام:"أُثني
على الله أحسن الثناء،
وأحمده على السرّاء
والضرّاء"14.
وفي صبيحة عاشوراء، حين
أحاطت به وبأنصاره جيوش
الأعداء، نراه يلجأ إلى
الله تعالى بذكره في ذلك
الدعاء الرائع الذي
يفتتحه بقوله: "اللّهمّ
أنت ثقتي في كلّ كرب،
وأنت رجائي في كلّ شدّة،
وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل
بي ثقة وعدّة... "15.
ولمّا طلب الإمام عليه
السلام من الأعداء عصر
تاسوعاء أن يمهلوه إلى
يوم العاشر فأمهلوه، أحيا
عليه السلام وأنصاره
الزُّهاد ليلة عاشوراء
إلى الصباح بالصلاة
وتلاوة
القرآن والدعاء والذكر.
في يوم عاشوراء، وفي أشدّ
المصائب المذهلة التي لا
تُطاق، لم يكن الإمام
الحسين عليه السلام غافلاً
حتّى لحظة واحدة عن ذكر
الله تعالى، وكأنّه في
أوج تلك البلايا كان يرى
نفسه في غمار نظرة من
ربّه ملؤها الحنان
والرحمة، فكان لسانه
المقدّس لهجاً على الدوام
بذكر المحبوب جلّ وعلا،
واصلاً قطرة وجوده بالبحر
الإلهيّ، وما يروى من أنّ
الإمام الحسين عليه
السلام في يوم عاشوراء
كان على الدوام وبلا
انقطاع يذكر الله تعالى،
ويقول: "لا حول ولا
قوّة إلّا بالله العلّي
العظيم"16
، شاهد على هذا الارتباط
القلبيّ بين المحبّ
والمحبوب.
كان عليه السلام يستمدّ
الطاقة والقدرة على تحمّل
القبول بأقسى وأفجع وأصعب
المصائب التي لا تطاق ولا
تحتمل من معين "ذكر الله"
منبع الطاقة والصبر،
فحينما رُمي طفله الرضيع
بسهمٍ قاتلٍ ذبحه وهو على
يديه فمضى شهيداً قال
عليه السلام:"هوّن عليَّ
ما نزل بي أنّه بعين
الله"17
!
وتكشف لنا أيضاً مناجاته
الأخيرة مع معبوده تبارك
وتعالى في آخر لحظات
حياته الشريفة- وهي
مناجاة المحبّين- عن دوام
هذه الحالات الروحانيّة
والعرفانيّة عنده عليه
السلام، ولقد نقلت لنا
المصادر التأريخيّة عنه
عليه السلام في آخر لحظات
حياته نجاوى متعدّدة
وبتعابير مختلفة، لكنّ
القدر المشترك بينها أنّه
عليه السلام حينما استشهد
جميع أنصاره قاتل الأعداء
قتال يائسٍ من الحياة،
فلمّا وقع على الأرض
صريعاً مثخناً بالجراح،
توجّه إلى الله عزَّ وجلَّ
بتلك المناجاة التي
افتتحها بذكر عظمة الله
تبارك وتعالى وبحمده، ثمّ
أعلن فيها عن تسليمه
لقضاء الله ورضاه به، وهي
المناجاة التي بدايتها:
"اللهمّ متعالي المكان،
عظيم الجبروت..."18.
إنّ المزج بين الحماسة
والعرفان والجهاد وذكر
الله هو أحد دروس عاشوراء،
وهكذا أيضاً كان الذين
تربّوا على يد إمام
عاشوراء عليه السلام. وقد
كان مسلم بن عقيل عليه
السلام أحد هذه النماذج
الكريمة، فحينما ألقوا
القبض عليه وصعدوا به إلى
أعلى
قصر الإمارة ليقتلوه، كان
لسانه الشريف لهجاً بذكر
الله تعالى وكذلك قلبه
الطاهر، كان يقول: "الحمد
لله على كلّ حال"،
وكان على الدوام يكبّر
الله تعالى، ويسأله
المغفرة، ويصلّي على رسل
الله وملائكته19.
وهكذا كان هاني بن عروة (رضي
الله عنه)، إذ لمّا مضوا
به ليقتلوه بعد مقتل مسلم
بن عقيل عليه السلام، كان
لسانه وقلبه مشغولين بذكر
الله تعالى: "إلى الله
المعاد، اللهمّ إلى رحمتك
ورضوانك"20.
إنّ "الاسترجاع" أحد
شواخص الذكر، يعني أنّ
الإنسان حينما يواجه
المصائب والدواهي يرى
نفسه من الله، ولله،
وراجعاً إلى الله، وبقوله:
"إنّا لله وإنّا إليه
راجعون" يعلن عن خطّ هذا
السير "منه تبارك
وتعالى وإليه"، وهذه
صفة من صفات المؤمنين
الصابرين الذين يزفّ الله
إليهم البشرى بقوله:﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
* الَّذِينَ إِذَا
أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ
قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ
وَإِنَّـا إِلَيْهِ
رَاجِعونَ﴾21.
حينما بلغ الإمام سيّد
الشهداء عليه السلام وهو
في الطريق إلى العراق خبر
مقتل مسلم بن عقيل وهانئ
بن عروة في الكوفة قال
عليه السلام:"إنّا لله
وإنّا إليه راجعون، رحمه
الله"22،
وفي غير هذه المناسبة
أيضاً كان عليه السلام في
طريقه إلى كربلاء كثيراً
ما يذكر الله تعالى
بالاسترجاع.
ومن الجانب الآخر فإنّ
الغفلة عن ذكر الله "نسيان
الله سبحانه" عامل مهّم
في جرّ الإنسان إلى
اجتراح الذنوب والمفاسد
والظلم.
لمّا رأى الإمام الحسين
عليه السلام تألّب جيش
الكوفة على قتاله،
وإصرارهم على قتله، علّل
ذلك باستحواذ الشيطان
عليهم حيث أنساهم ذكر
الله تبارك وتعالى، فممّا
وبخّهم عليه السلام به في
إحدى خطبه صبيحة يوم
عاشوراء قوله:
"لقد استحوذ عليكم
الشيطان فأنساكم ذكر الله
العظيم"23،
وهذا مقتبس من قوله
تعالى
في القرآن الكريم في ذكره
لإحدى صفات حزب الشيطان:
﴿اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ
فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ
أُوْلَئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ﴾24.
وهكذا فإنّ "ذكر الله"
بناءٌ للأخلاق الحميدة،
وسمّو للروح الإنسانيّة،
وهو أيضاً سدٌّ يمنع
تسلّل الشيطان إلى قلعة
القلب، ويحول دون تغلّب
هوى النفس على إرادة
ونيّة وعمل الإنسان.
التضحية في سبيل الله
لا شيء أسمى عند
الموحّدين من استثمار
نعمة الوجود في طريق
اكتساب مرضاة الله تعالى،
وبذل هذه النعمة النفيسة
والتضحية بها في سبيل
الله، إنّ الاستعداد
للتضحية علامة صدق
الإنسان في حبّه لله
تعالى، والله هو المشتري
للأموال والأنفس، ومعطي
الجنّة ثمناً لها.
وأولياء الله تعالى لا
يرون لأنفسهم أيّ شأن أو
قيمة قبال الربّ عزَّ وجلَّ،
ولا يجدون في أنفسهم حرجاً
من التضحية بالمال والنفس
وحتّى بالشرف وماء الوجه
إذا احتاج دين الله إلى
ذلك.
إنّ لهذا الدين من العزّة
والعظمة والقداسة ما يوجب
أن يُضحّى من أجل بقائه
والمحافظة عليه بأشرف
وأعزّ وأطهر النّاس، حتّى
وإنْ استدعى ذلك أن يكون
قربان وأضحية الدفاع عنه
واحداً أو أكثر من حجج
الله على خلقه، وما هذا
الفداء في نظر أهل هذا
الدّين إلّا أداء للحقّ
الإلهيّ.
في العصر الذي كان دين
الله تعالى معرّضاً
للزوال، حيث كانت جهالة
الأمّة وغفلتها الأرضيّة
الممهّدة لاضمحلال هذا
الدين، نهض الإمام الحسين
عليه السلام ليكون
القربان الإلهيّ من أجل
إيقاظ الأمّة واستنقاذها،
نقرأ في زيارة الأربعين:
"وبذل مهجته فيك
ليستنقذ عبادك من الجهالة
وحيرة الضلالة"25.
ونقرأ أيضاً في زيارة
مسلم بن عقيل عليه السلام،
هذا الشهيد العظيم من
شهداء نهضة
الإمام الحسين عليه
السلام:"... وأشهد
أنّك وفيت بعهد الله،
وبذلت نفسك في نصرة حجّة
الله وابن حجّته حتّى
أتاك اليقين..."26.
كما نقرأ أيضاً في زيارة
هاني بن عروة (رضي الله
عنه)، وهو أحد الشهداء
الأفذاذ في نهضة الحسين
عليه السلام:"...
وأشهد أنّك قد بلغت درجة
الشهداء، وجعل روحك مع
أرواح السعداء بما نصحت
لله ولرسوله مجتهداً،
وبذلت نفسك في ذات الله
ومرضاته..."27.
ولقد ضحّى أيضاً أنصار
الإمام الآخرون أجمعهم
بأنفسهم فداءً للدين،
وقرابين في سبيل الله من
أجل إحياء الإسلام،
وتخلّوا عن الحياة الدنيا
من أجل الحقّ فصاروا
خالدين.
إنّ حفظ دين الله يتطلّب
الأضاحي والقرابين، ولقد
كان الإمام الحسين عليه
السلام وأنصاره من أهل
بيته وأصحابه قرابين أهل
البيت عليهم السلام في
هذا السبيل.
لمّا جاءت مولاتنا زينب
عليها السلام إلى مصرع
الحسين عليه السلام،
ووقفت على جسده المقطّع،
وضعت يديها تحته فرفعته
وقالت: "اللّهمّ تقبّل
منّا هذا القربان"28
!
وقد ذكر الإمام الحسين
عليه السلام في تعابير
أخرى أيضاً بـ"الذبيح"،
ذلك لأنّه الإسماعيل الذي
كان قد استشهد في منى
الحقّ وضمن بمقتله حياة
الدين.
إنّ التضحية وتقديم
القرابين في سبيل العقيدة
عند الأمم الأخرى أيضاً
رمز للعزّة والانتصار،
وبلاغ عاشوراء في هذا
الأمر: أنّ الأمّة التي
سارت ولا تزال تسير على
طريق "الحريّة" لا بدّ أن
تقدّم القرابين الكثيرة
على أعتاب الحريّة، وإذا
لم يكن مجتمعٌ ما حاضراً
ومستعدّاً للتضحية
بأعزّائه في سبيل ما هو
الأعزّ (المبدأ والأهداف
والحريّة والاستقلال) فإنَّ
هذا المجتمع لن يرقى من
مهاوي الذلّة إلى ذروة
العزّة.ومن رفعة شأن
القربان ودرجة عظمته
وسمّو منزلته وعلو مكانته
يمكن أن يستنتج أنَّ
الشيء الذي مضى ذلك
القربان فداءً له هو أرفع
شأناً من ذلك القربان
وأعظم
وأسمى منزلة وأعلا مكانة.
ولقد مضى سيّد الشهداء
عليه السلام وأنصاره
العظماء الأفذاذ أضاحي
وقرابين في سبيل الدين
والحقّ، إذن فكون هذا
الدين أكبر أهميّة وأعظم
شأناً من هؤلاء العظماء
القرابين أمرٌ واضح لا
إبهام فيه.
يقول الإمام الخمينيّ (رضوان
الله عليه) في صدد أثر
ودور تضحية الإمام الحسين
عليه السلام من أجل إحياء
دين الله تعالى: "فجّر
سيّد الشهداء عليه السلام
ثورة عاشوراء، وبتضحيته
بدمه ودماء أعزّته أنقذ
الإسلام والعدالة، وأدان
حكم بني أميّة، وهدم
قواعده وأساساته..."29.
"إنّ الإسلام عزيز،
إلى درجة أنّ أبناء رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم ضحّوا بأنفسهم فداءً
للإسلام!"30.
"لقد ضحّى الإمام الحسين
عليه السلام بنفسه وبجميع
أبنائه وذويه، وبعد
شهادته صار الإسلام أقوى
من ذي قبل..."31.
إنّ تصريحات إمام الأمّة
(رضوان الله عليه) كثيرة
في موضوع فداء وتضحية
سيّد الشهداء في سبيل
الله، كان (رضوان الله
عليه) يعتقد أنّ روحيّة
طلب الشهادة والاستعداد
للتضحية التي كانت قد
انتشرت في أوساط جند
الإسلام في إيران
الإسلاميّة إنّما هي ومضة
ونفحة من نفس تلك الروح
العاشورائيّة، يقول (قدس
سره) :
"أُمّتنا الآن قد تعوّدت
على الشهادة والفداء، فهي
لا تخاف من أيّ عدوّ، ولا
من أيّ قوّة، ولا من أيّ
مؤامرة، إنّما يخاف من
الشهادة من ليست الشهادة
مذهبه..."32.
وإمام الأمّة نفسه أيضاً
كان قد تعلّم من ملحمة
كربلاء روحيّة طلب
الشهادة والاستعداد
للتضحية من أجل الدين،
إنّه يقول:
"لقد أعددتُ دمي وروحي
رخيصين من أجل أداء واجب
الحقّ وفريضة الدفاع عن
المسلمين، وإنّي في
انتظار فوزي العظيم
باستشهادي"33.
"إنّي آملُ أن أفوز
بـ"إحدى الحسنيين"، إمّا
تحقيق الهدف وإقامة العدل
والحقّ، أو الشهادة في
سبيل ما هو الحقّ"34.
الرضا والتسليم
الرضا بقضاء الله من
مراتب العرفان والتوحيد
السامية، وهو مؤشّرٌ دالٌّ
على ذروة حبّ العبد وعشقه
لله تبارك وتعالى وفنائه
فيه، كما أنّه علامة
إخلاص العبد وكماله
وتنزّهه عن كلّ دافع سوى
دافع مرضاة المولى وتحقيق
إرادته.
لقد كان أهل البيت عليهم
السلام حيال إرادة الله
تبارك وتعالى وإزاء قدره
وقضائه راضين تمام الرضا،
ويرون هذا كمالاً لهم،
واستناداً إلى هذا "الرضا"
كانوا يتحمّلون بصبر وحبّ
جميع الصعوبات والبلايا
والمصائب، وعلى صعيد
القضايا الاجتماعيّة
كانوا لا يرجّحون أبداً
مرضاة النّاس على مرضاة
الله، فما كان تكليفاً
إلهيّاً عملوا به سواء
رضي النّاس أم سخطوا، إذ
إنّ المهمّ عندهم هو رضا
الله تبارك وتعالى حتّى
وإن انتهى ذلك بهم إلى
غضب النّاس.
وهذه النكتة العرفانيّة
قد تعرّضت لها التعاليم
القرآنيّة والأحاديث
كثيراً، والإمام الحسين
عليه السلام الذي كان قد
سار على طريق الشهادة
ابتغاء مرضاة الله، يرسم
صورة حيّة لانتكاس روحيّة
أهل الكوفة قائلاً: "لا
أفلح قومٌ آثروا مرضاة
أنفسهم على مرضاة الخالق"35،
ويوبّخ الإمام السجّاد
عليه السلام خطيب الطاغية
يزيد الذي كان في خطبته
يمتدح يزيد ويذمّ آل عليّ
عليه السلام، فيصرخ به
قائلاً: "ويلك أيّها
الخاطب! اشتريتَ مرضاة
المخلوق بسخط الخالق،
فتبوّأ مقعدك من النّار"
36!
والشيء الذي هو محلّ
بحثنا ونظرنا هنا هو ذلك
البعد العرفانيّ السامي
لمفهوم "الرضا"، الذي هو
ملاك عمل الموحّدين
الحقيقيّين، والذي يعتبر
من التجلّيات العرفانيّة
لملحمة عاشوراء، لنقرأ
نماذج من مقام "الرضا" في
ثنايا تفاصيل النهضة
الحسينيّة:
حينما التقى الإمام
الحسين عليه السلام
الفرزدق في أحد منازل
الطريق من مكّة المكرّمة
إلى الكوفة، واستعمله عن
حال الكوفة فأخبره
الفرزدق بحقيقة الحال،
قال عليه السلام:
"صدقت، لله الأمر من
قبلُ ومن بعدُ، وكلّ يوم
ربّنا هو في شأن، إنْ نزل
القضاء بما نحبُّ ونرضى
فنحمد الله على نعمائه
وهو المستعان على أداء
الشكر، وإن حال القضاء
دون الرجاء فلم يبعد من
كان الحقُّ نيّتَه
والتقوى سريرته"37.
وكان شعار "رضا الله
رضانا أهل البيت..."38
من كلماته النورانيّة
عليه السلام في خطبته
التي خطبها في مكّة
المكرّمة لمّا عزم على
الخروج منها إلى العراق.
وكان من دعائه عليه
السلام في آخر لحظات
حياته مناجياً ربّه:
"... صبراً على قضائك يا
ربّ لا إله سواك... صبراً
على حكمك يا غياث من لا
غياث له..."39.
وممّا أوصى به عليه
السلام أخته زينب عليها
السلام ليلة عاشوراء قوله:
"يا أخُتاه! تعزّي بعزاء
الله، وارضي بقضاء الله..."40.
ومن دعائه عليه السلام
عند قبر جدّه صلى الله
عليه وآله وسلم قُبيل
سفره من المدينة إلى مكّة:
".. وأنا أسألك يا ذا
الجلال والإكرام بحقّ هذا
القبر ومن فيه إلّا ما
اخترت من أمري هذا ما هو
لك رضىً"41.
ولقد تجلّت هذه المعرفة
العالية والروحيّة
السامية أيضاً في أنصار
الإمام عليه السلام، هذا
مسلم بن عقيل عليه السلام
يخاطب الطاغية ابن زياد
في محاورته الساخنة
معه قائلاً: "الحمدُ
لله على كلّ حال، رضينا
بالله حكماً بيننا وبينكم"42.
ويقول سيّد الشهداء عليه
السلام وهو في الطريق إلى
كربلاء: "إنّي لأرجو
أن يكون خيراً ما أراد
الله بنا، قُتلنا أم
ظفرنا..."43.
إنّ رضا العبد عن الله،
ورضا الله عن العبد ذروة
هذا الكمال، حيث يرضى
الطرفان عن بعضهما، وهذا
من المقامات العرفانيّة
العليا التي يصل إليها
العبد السالك الصادق، وقد
أشار القرآن الكريم إلى
هذا المقام العالي في
أكثر من موضع44، وقد أشارت
متون الزيارات إلى أنّ
شهداء النهضة الحسينيّة
قد تسنّموا ذروة هذا
المقام، ففي زيارة مسلم
بن عقيل عليه السلام مثلاً
نقرأ:
"... أشهد أنّك قد أقمت
الصلاة وآتيت الزكاة
وأمرت بالمعروف ونهيت عن
المنكر وجاهدت في الله حقّ
جهاده، وقُتلت على منهاج
المجاهدين في سبيله حتّى
لقيت الله عزَّ وجلَّ وهو
عنك راضٍ..."45.
ونقرأ في زيارة هاني بن
عروة (رضي الله عنه):
".. وأشهد أنّك قد بلغت
درجة الشهداء، وجعل روحك
مع أرواح السعداء بما
نصحت لله ولرسوله مجتهداً
وبذلت نفسك في ذات الله
ومرضاته، فرحمك الله ورضي
عنك..."46.
فالإنسان الكامل يصل في
سيره إلى الله تبارك
وتعالى مقاماً يكون فيه
رضاه وسخطه رضا وسخط الله
سبحانه، نقرأ في الزيارة
المطلقة السادسة لسيّد
الشهداء عليه السلام هذا
الوصف: "يا من رضاه من
رضا الرحمن، وسخطه من سخط
الرحمن"47.
وهكذا كان أهل بيته عليهم
السلام، فقد كانوا يرون
الوقائع المرّة والمصائب
الشدائد التي تعرّضوا لها
في كربلاء أمراً "جميلاً"،
فهم يحتسبون كلّ ذلك عند
الله تعالى، راجين حسن
ثوابه وجزيل إحسانه، نقرأ
هذه الحقيقة في المحاورة
الساخنة بين زينب الكبرى
عليها السلام وبين عبيد
الله بن زياد في قصر
الإمارة في الكوفة، حيث
كان فيما قال لها شامتاً
ساخراً: "كيف رأيتِ
صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟!
" فردّت عليه قائلة:
"ما رأيتُ إلّا جميلاً،
هؤلاء قوم كتب الله عليهم
القتل فبرزوا إلى مضاجعهم،
وسيجمع الله بينك وبينهم
فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن
الفلج يومئذٍ، ثكلتك
أمُّك يا ابن مرجانة!"48،
فاستشاط اللعين غضباً من
ردّها وجرأتها.
إنّ العمل من أجل مرضاة
الله وبلوغ مرتبة "الرضا"
رأسمال عظيم يجعل وجدان
الإنسان دائماً على سكينة
واطمئنان ورضا، وكذلك
يبعث الأمل والحركة،
ويخلق الدافع القويّ.
يقول الإمام الخمينيّ (قدس
سره) :
"إنّ من يتّبع الحقّ
ويعمل من أجل مرضاة الله
ينبغي أن لا يعبأ بما قيل
أو يقال له، ينبغي أن
ينظر إلى الله تعالى،
ويعمل لله، وليقل النّاس
ما شاءوا أن يقولوا..."49.
ويقول أيضاً في صدد تنامي
القدرة الروحيّة على
تحمّل الصعوبات
والاستشهاد: "الأمّة
التي ثارت من أجل مرضاة
الحقّ تعالى، ونهضت من
أجل مرضاة الحقّ تعالى،
ونهضت من أجل القيم
المعنويّة والإنسانيّة،
ما خوفها من استشهاد
أعزّائها وتضرّر أحبّائها
وتحمّلها المشاكل؟! "50.
الإنسان "الفائز" هو
الإنسان الذي توصله
مساعيه في هذه الحياة
الدنيا إلى "هدف الخلقة"،
والفوز في الفكر الدينيّ
هو أن يوفّق الإنسان من
خلال الاستفادة من نعم
الله ومن عمره في الحصول
على أمله في الآخرة وهو
السعادة الخالدة والجنّة
حيث النعيم الدائم،
فالفوز العظيم هو الوصول
إلى السعادة الأخرويّة،
يقول الإمام عليّ عليه
السلام:"الآخرة فوز
السعداء"51، وهو عليه
السلام القائل حينما ضربه
ابن ملجم بالسيف على رأسه
المقدّس أوائل فجر يوم
التاسع عشر من شهر رمضان:
"فزتُ وربّ الكعبة"،
ذلك لأنّ الشهادة عند
أولياء الله أفضل وأشرف
الفوز.
وكان الإمام الحسين عليه
السلام يرى في نهضته
وقيامه فوزه وفوز أنصاره
العظيم
وسعادتهم الأبديّة، من
هنا كان يتعجّل الوصول
إلى هذا الهدف، فحينما
التقى الطرماح في الطريق
إلى الكوفة، وكان هذا
الرجل يحاول جاهداً منع
الإمام عليه السلام من
الذهاب إلى الكوفة
المضطربة جدّاً، كان ردّ
الإمام عليه السلام:"إنّ
بيني وبين القوم موعداً
أكره أن أُخلفهم، فإنْ
يدفع الله عنّا فقديماً
ما أنعم علينا وكفى وإنْ
يكن ما لا بدّ منه ففوزٌ
وشهادة إنْ شاء الله"52.
وممّا قاله عليه السلام
في ليلة عاشوراء لأنصاره
(قدّس سرّهم):
"... واعلموا أنّ
الدنيا حلوها ومرّها حلمُ،
والانتباه في الآخرة،
والفائز من فاز فيها،
والشقيّ من شقي فيها..."53.
وقول الإمام الحسين عليه
السلام المعروف: "فإنّي
لا أرى الموت إلّا سعادة"
حاكٍ أيضاً عن نظرة
الإمام عليه السلام إلى
مفهوم السعادة وماهيّتها،
حيث كان عليه السلام يرى
تحقّقها في ظلّ الشهادة
في سبيل الله.
هذه العقيدة وهذه الحقيقة
تبعث في قلوب أهل الإيمان
الشوق إلى الآخرة وإلى
الجنّة، وتقلّل من
علائقهم بالدنيا،
فيحلّقون خفافاً كالطيور
الهفهافة في شوقهم إلى
الشهادة، فيتقدّمون
بإقبال المتلهّفين إلى
التضحية بأنفسهم فداءً
للدين والقرآن ووليّ الله،
وإنّ أفضل وأشرف من
تقلّدوا وسام "الفائزون"
بجدارة لا نظير لها هم
شهداء كربلاء.
لمّا وقف الإمام الحسين
عليه السلام على الحرّ بن
يزيد الرياحيّ (رضوان
الله عليه) عندما صرع
أثنى عليه ثناءً عاطراً
خالداً، وامتدحه بأبيات
من الشعر مجّد فيها
إيثاره وصبره ومواساته،
وكان منها هذا البيت:
لقد فاز الأولى نصروا
حسينا ً وفازوا بالهداية
والصلاح54
وفي متون زيارات أبي عبد
الله الحسين عليه السلام
وشهداء كربلاء كثيراً ما
نقرأ عبارات تتحدّث عن
فوزهم وبلوغهم أسمى
أمنياتهم، ونقرأ أيضاً
تمنّي الزائر ودعاءه في
أن لو
كان في ركابهم فقاتل معهم
واستشهد بين يدي أبي عبد
الله الحسين عليه السلام
فنال الفوز العظيم الأبديّ.
نقرأ في زيارة الأربعين
مثلاً: "اللّهمّ إنّي
أشهد أنّه وليّك وابن
وليّك وصفيّك وابن صفيّك،
الفائز بكرامتك، أكرمته
بالشهادة، وحبوته
بالسعادة..."55 ونقرأ في
زيارة أنصاره (قدّس سرّهم):
"فزتم والله فوزاً عظيماً،
يا ليتني كنت معكم فأفوز
فوزاً عظيماً".
"أشهد أنّكم الشهداء
والسعداء وأنّكم الفائزون
في درجات العلى"56.
إنّ عقيدة الزائر في أنّ
شهداء كربلاء القتلى
المضرّجين بدمائهم شهداء
وسعداء وفائزون تسري أيضاً
إلى حياته هو، فتسمو
نظرته إلى الفوز والسعادة
حيث تترفّع عن الانحصار
بالآمال الدنيويّة.
هذا الفهم الأعمق لمعنى
السعادة ومعنى الفوز هو
درسٌ من دروس عاشوراء ومن
بلاغاتها إلى الجميع،
ومؤدّاه أنّ الفلاح
والفوز في ظلّ الجهاد
والتضحية والاستشهاد في
سبيل المذهب والولاية.
الإخلاص
إنّ جوهرة "الإخلاص"
النادرة النفيسة بلاغ آخر
من بلاغات عاشوراء
العرفانيّة، الإخلاص في
النيّة، والإخلاص في
العمل والمشاركة في نهضة
الإمام الحسين عليه
السلام، الإخلاص في
القتال في ميدان كربلاء،
الإخلاص في محبّة شهداء
كربلاء وفي محبّة زيارتهم،
الإخلاص في إقامة العزاء،
وفي البكاء وفي الرثاء
والمديح، والإخلاص في
حضور مجالس العزاء، و...
كلّ ذلك من المظاهر التي
ينبغي النظر والتأمّل
فيها.
إنّ أهمّ عوامل وأسباب
بقاء نهضة عاشوراء حيّة
متجدّدة على مدى القرون
والأعصار هو عامل جوهرة "الإخلاص"
في هذه النهضة المقدّسة.
لقد وعد الله تبارك
وتعالى عباده أن لا يُضيع
عمل المخلصين، وأن يوفيهم
أجورهم الدنيويّة
والأخرويّة كاملة.
إنّ ميادين الجهاد
والقتال كثيرة في التأريخ
البشري عامّة وفي تأريخ
الإسلام خاصّة، لكنّ
السبب الذي خلّد بعض هذه
الميادين هو الإخلاص في
النيّة والعمل لله، أي
الصبغة الإلهيّة التي
تصبغ النيّة والعمل
بلونها.
"صبغة الله" ذات اللون
الذي لا يُمحى كانت ملفتة
للانتباه والنظر في ملحمة
عاشوراء.
لقد كشف الإمام الحسين
عليه السلام في خطبته
المفصّلة التي خطبها قبل
خروجه من المدينة
المنوّرة عن جوهرة "الإخلاص"
هذه في حركته التي غايتها
الإصلاح الدينيّ
والاجتماعيّ قائلاً:
"اللّهمّ إنك تعلم
أنّه لم يكن ما كان منّا
تنافساً في سلطان، ولا
التماساً من فضول الحطام،
ولكن لِنُري المعالم من
دينك، ونظهر الإصلاح في
بلادك، ويأمن المظلومون
من عبادك، ويعمل بفرائضك
وسننك وأحكامك..."57.
ويقول عليه السلام أيضاً
في تصريح آخر للتعريف
بنهضته المقدّسة:
"... وإنّي لم أخرج أشراً
ولا بطراً ولا مفسداً ولا
ظالماً، وإنّما خرجت لطلب
الإصلاح في أمّة جدّي،
أريد أن آمر بالمعروف
وأنهى عن المنكر، وأسير
بسيرة جدّي وأبي عليّ بن
أبي طالب عليه السلام..."58.
كان هذا في وصيّته التي
كتبها لأخيه محمّد بن
الحنفيّة قبل خروجه عليه
السلام من المدينة لينفي
بذلك عن حركته الثوريّة
الدوافع الذاتيّة
والدنيويّة.
ولأنّ دافع الإخلاص كان
هو الذي خلق حركة عاشوراء،
فإنّ أيّ سبب آخر لم
يستطع أن يمنع الإمام
الحسين عليه السلام
وأنصاره من مواصلة الطريق
حتّى بلوغ الشهادة.
وفي هذه الحركة الخالصة
فإنّ غير الخالصين كانوا
قد تساقطوا عنها سواء في
أوّل أمرها أو في أثناء
الطريق إلى كربلاء، ليبقى
الحاضرون ملحمة عاشوراء
مع الحسين عليه السلام
جميعاً نوعاً واحداً من
الخالصين.
المخلصون في النيّة
والمحبّة، منهم من خرج مع
الإمام عليه السلام من
المدينة، ومنهم من التحق
به أثناء الطريق من
المدينة إلى مكّة، ومنهم
من التحق به في مكّة،
وآخرون منهم كانوا قد
التحقوا به في الطريق من
مكّة إلى العراق، ومنهم
من التحق به في كربلاء.
أمّا أولئك الذين كانت
دوافعهم غير إلهيّة، فقد
تخلّوا عن الإمام عليه
السلام إمّا في بدء
الحركة والنهضة فلم
يلتحقوا به، أو رجعوا عنه
أثناء الطريق، أولم
يستجيبوا لدعوته إيّاهم
دعوة خاصّة لنصرة آل الله
متشبثّين بذرايع وأعذار
واهية، فلم يفوزوا بتوفيق
الاستشهاد بين يدي سيّد
الشهداء عليه السلام.
لمّا وصل الركب الحسينيّ
منزل "زبالة" بلغ الإمام
عليه السلام مقتل عبد
الله بن يقطر
(رضوان الله عليه)، وكان
قد بلغه قبل ذلك خبر مقتل
مسلم بن عقيل عليه السلام
وهاني بن عروة (رضوان
الله عليه)، فلمّا أخبر
الإمام عليه السلام من
كان في ركبه بذلك تفرّق
النّاس عنه تفرّقاً،
فأخذوا يميناً وشمالاً!
حتّى بقي في أصحابه الذين
جاءوا معه من المدينة!59
وهرثمة بن أبي مسلم، كان
قد التقى الإمام عليه
السلام في طريق كربلاء،
وكان فيما مضى قد سمع
بمقتل الإمام عليه السلام
من أبيه أمير المؤمنين
عليه السلام، وقد حدّث
الحسين عليه السلام بما
سمعه من أبيه عليه السلام،
فلمّا قال له الحسين عليه
السلام:"معنا أنت أم
علينا" ؟ قال: لا معك
ولا عليك! خلّفتُ صبيةً
أخاف عليهم عبيد الله بن
زياد! وترك الإمام عليه
السلام ولم ينصره
60!
وعبيد الله بن الحرّ
الجعفيّ أيضاً، أرسل
الإمام عليه السلام إليه
رسولاً والتقاه أيضاً في
منزل "قصر بني مقاتل"،
ودعاه دعوة خاصّة لنصرة
الحقّ وأهله، لكنّه لم
يستجب لهذه الدعوة بأعذار
دنيويّة واهية، فحرم من
هذه السعادة61.
والطرّماح بن عديّ أيضاً،
كان قد خطا نحو السعادة
خطوات معدودة لكنّه لم
يوفق إلى النصرة في حينها.
من الممكن في كلّ حركة
دينيّة أو اجتماعيّة أو
سياسيّة خالصة، أن ينضمّ
إليها في بعض مراحل
الطريق غير الخالصين،
فيتلبّسون بأفكارها
وأهدافها وشعاراتها،
ويستظهرون على أوجههم
التأهّل والصبغة الإلهيّة
والإخلاص، لكنّهم وبسبب
بواطنهم غير الخالصة لا
يتمكّنون من مواصلة طريق
ذات الشوكة حتّى النهاية،
فتراهم تلقي بهم أمواج
الأحداث الصعبة في بحر
النهضة المتلاطم إلى
الساحل بعيداً عن مسار
الحركة، فما تنفعهم ولا
تشفع لهم سابقتهم الطويلة
في المقاومة والجهاد.
إنّ التأريخ مملوء
بالتجارب المرّة التي لم
يتمكّن فيها أصحاب
النيّات غير الصالحة وغير
الخالصة من البقاء إلى
النهاية على مسار خطّ
الحقّ.
إنّ الخُلّصَ ممّن التحق
بالإمام الحسين عليه
السلام كشفوا عن خلوصهم
ليلة عاشوراء وفي نهاره
في ميدان كربلاء، وكانوا
أحياناً يعبّرون عن هذا
الخلوص في أقوالهم وفي
رجزهم.
في ميدان كربلاء كان الدم
والسيف والشهادة، لا
الأوسمة والأموال
والامتيازات الاجتماعيّة،
فالمجاهدون الثابتون
الصادقون كانوا يواصلون
جهادهم بقوّة الإخلاص.
لمّا دخل مسلم بن عقيل
عليه السلام الكوفة،
وأقبلت الشيعة تختلف إليه،
وقرأ عليهم كتاب الحسين
عليه السلام وأخذوا يبكون،
قام عابس بن أبي شبيب
الشاكريّ، فحمد الله
وأثنى عليه، وأعرب عن
إخلاصه وصدق نيّته قائلاً:
"أمّا بعدُ، فإنّي لا
أُخبرك عن النّاس، لا
أعلم ما في أنفسهم، وما
أغرّك منهم، والله
أحدّثنّك عمّا أنا موطّن
نفسي عليه، والله
لأجيبنّكم إذا دعوتم،
ولأقاتلنّ معكم عدوّكم،
ولأضربنّ بسيفي دونكم
حتّى ألقى الله، لا أريد
بذلك إلّا ما عند الله"62.
ولقد كان الإمام الحسين
عليه السلام عبداً خالصاً
لله تعالى، ونحن في زيارة
حرمه الشريف- على قول
السيّد ابن طاووس (رضوان
الله عليه) - قبل الخروج
من روضته المقدّسة نسلّم
عليه سلام مودّع فنقول في
جملة ذلك السلام: "...
السلام عليك يا خالصة
الله..."63.
إنّ معسكر الإمام الحسين
عليه السلام لا يقبل إلّا
الخلوص في العمل، أمّا من
يدّعي أنّه حسينيٌّ رياءً
وتظاهراً، ويزعم مع نيّته
غير الخالصة أنّه من صفوة
الخلوص ومن أهل ذلك
المعسكر الخالص، فلا بدّ
أن تكشف الأيّام سريرته
وتفضح عدم خلوصه، شاء ذلك
أم أبى!إذن فدرس عاشوراء
هو أن نخلص الدافع والهدف
لله تعالى في كلّ عمل،
وأن نعلم أنّ الله لا
يضيع العمل الخالص له،
كمثل نهضة عاشوراء التي
ليست لا تبلى ولا تُنسى
فحسب، بل هي تتعاظم
وتتجدّد وتتنامى يوماً
بعد يوم وعاماً بعد عام،
وذلك ببركة "عنصر الخلوص".
القيام لله
الإخلاص في النيّة
والدافع لله تعالى أمر
مطلوب في كلّ عمل، وهو
الذي يمنح القيمة للعمل،
خصوصاً في ميدان النضال
حيث يتعاظم ويشتدّ هوى
النفس وحبّ الذات
والدوافع الماديّة وطلب
الجاه والرئاسة أو الرغبة
في الانتقام، وهنا تتعاظم
وتشتدّ أيضاً الحاجة إلى
عنصر الإخلاص.
إنّ من يقوم لله يكون كلّ
همّه في أداء التكليف وفي
كسب مرضاة الله تعالى،
ولذا فلا يُضعف من إرادته
ولا يفتُّ في عزمه قلّة
الأتباع والأنصار، ولا
يعتريه اليأس والتشاؤم
إذا تعرّض لانكسار ظاهريّ
"القيام لله" توصية
وموعظة إلهيّة، حيث يقول
تعالى:
﴿قُلْ إِنَّمَا
أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ
أَن تَقُومُوا لِلَّهِ
مَثْنَى وَفُرَادَى﴾64.
فهذا الدافع إذا تحققّ في
حركة جهاديّة أو في
مواجهة ما فإنّه يشكّل
ضماناً أكبر لمواصلة
الحركة أو المواجهة حتّى
غاية المقدرة وحتّى نهاية
العمر، والقائم بهذه
الحركة أو المواجهة أيضاً
لا يرى التكليف ساقطاً
عنه ولا يرى المهادنة مع
الباطل حتّى وإن كان وحده
أو في قلّة من العدّة
والعدد.
يقول الإمام الحسين عليه
السلام لأخيه محمّد بن
الحنفيّة الذي تقدّم إليه
بالنصيحة بالخروج إلى
اليمن إذا لم يجد
الاطمئنان في مكّة: "يا
أخي! والله لو لم يكن في
الدنيا ملجأ ولا مأوى لما
بايعتُ يزيد بن معاوية"65.
ويقول عليه السلام في
رفضه الذلّة والتسليم
أمام العدوّ يوم عاشوراء:
"... ألا وإنّي زاحفٌ
بهذه الأسرة على قلّة
العدد وكثرة العدوّ وخذلة
الناصر..."66.
إنّ نصيب أيّ عمل من
البقاء بما لله فيه من
نصيب، وما كان لله خالصاً
فهو باقٍ وقائم ودائم،
ولأنّ نهضة عاشوراء كانت
خالصة "الصبغة الإلهيّة"
فهي أبديّة خالدة ولا
يعتريها الضمور أو
الانكسار، يقول الإمام
الخمينيّ (قدس سره)
:
"لم يكن مقتل سيّد
الشهداء عليه السلام
انكساراً، لأنّ قيامه كان
قياماً لله والقيام لله
لا انكسار له"67.
"كانوا على وعيٍ: أنّنا
جئنا لأداء التكليف
الإلهيّ، جئنا لحفظ
الإسلام"68.
حينما يكون القيام لله
فلن يعتري القائمين لله
إحساس بالهزيمة أو
الخسارة أبداً، والمجاهد
في سبيل الله يرى نفسه
المنتصر في ميدان
المواجهة سواء في حال
الهزيمة أو النصر، يقول
إمام الأمّة (رضوان الله
عليه) في إشراق وجه سيّد
الشهداء عليه السلام
كلّما اقترب من ظهر يوم
عاشوراء ودنا من ساعة
استشهاده: "ذلك لأنّه
عليه السلام كان يرى
الجهاد في سبيل الله، ومن
أجل الله، ولأنّ الجهاد
لله فإنّه عليه السلام لم
يرَ أنّه قد فقد الأعزّة
والأحبّة الذين قد فقدهم،
إنّهم الذخائر لعالم
البقاء"69.
|