المحاضرة الأولى:
الحوراء زينب عليها السلام بعد كربلاء إلى الشهادة
الهدف: التعرّف إلى
مواقف السيّدة زينب عليها السلام بعد كربلاء وقيادتها
للثورة على الطغاة والظالمين.
تصدير الموضوع
ممّا قالته العقيلة في توبيخ يزيد: ".. فَكِدْ كَيْدَكَ،
وَاسْعَ سَعْيَكَ، ونَاصِبْ جَهْدَكَ، فَوَاللهِ لاَ
تَمْحُو ذِكْرَنَا، ولاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلاَ تُدْركُ
أَمَدَنَا، وَلاَ تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا..."1.
المقدّمة:
من أعظم بطولات الحوراء زينب عليها السلام أنّ واقعة السبي
والأسر لم تفرض عليها التكيّف مع الواقع كيفما كان, ولم
يدفعها الخوف من إيثار السلامة والدّعة على المواجهة
والتحدّي, ولم يمنعها انكسار السيف في كربلاء من مواجهة
الانحراف بل بقي صوتها العالي شاهد صدق في محكمة التاريخ,
على عظم الجريمة التي جرت في كربلاء, وعظيم المواجهة التي
واجهت بها قوى الظلام قائلة: فوالله لا تمحو ذكرنا, ولا
تميت وحينا ولا تدرك أمدنا.
محاور الموضوع
العقيلة زينب في سطور:
ولدت السيّدة زينبعليها السلام، في الخامس من جمادى
الأولى، في السنة الخامسة -أو السادسة- للهجرة, وقيل في
غرّة شعبان في السنة السادسة. وتكنّى بأمّ كلثوم، وأمّ
الحسن، وتلّقب: بالصدّيقة الصغرى، والعقيلة، وعقيلة بني
هاشم، وعقيلة الطالبيّين.
عفّتها عليها السلام:
حدّث يحيى المازنيّ قال: كنت في جوار أمير المؤمنين في
المدينة مدّة مديدة، وبالقرب من البيت
الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا
سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول
الله صلى الله عليه و آله وسلم تخرج ليلاً والحسن عن
يمينها والحسين عن شمالها وأمير المؤمنين عليه السلام
أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين
عليه السلام فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن عليه السلام
مرّة عن ذلك فقال عليه السلام: أخشى أن ينظر أحد إلى شخص
أختك زينب2.
عبادة زينبعليها السلام:
كانت تقضي عامّة لياليها بالتهجّد وتلاوة القرآن، قالت
فاطمة بنت الحسينعليها السلام: وأمّا عمّتي زينب فإنّها لم
تزل قائمة في تلك الليلة - أي العاشرة من المحرّم- في
محرابها، تستغيث إلى ربّها، فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا
رنّة. وفي رواية: أنّ الحسين عليه السلام لمّا ودّع أخته
زينب وداعه الأخير قال لها: يا أختاه لا تنسيني في نافلة
الليل...3.
إيثارها عليها السلام:
وروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال:
"إنّ عمّتي زينب كانت تؤدّي صلواتها من الفرائض والنوافل
عند سير القوم
بنا من الكوفة إلى الشام من قيام،
وفي بعض المنازل كانت تصلّي من جلوس فسألتها عن سبب ذلك
فقالت: أصلّي من جلوس لشدّة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال،
لأنّها كانت تقسّم ما يصيبها من الطعام على الأطفال لأنّ
القوم كانوا يدفعون لكلّ واحد منّا رغيفاً واحداً من الخبز
في اليوم والليلة"4.
2- القيادة الزينبيّة للثورة:
تحرَّك موكب سبايا أهل البيت عليهم السلام من كربلاء
المقدّسة نحو مدينة الكوفة وهو يقطع الصحاري، في الحادي
عشر من المحرّم سنة 61 هـ، وقد حمل جيش عمر بن سعد السبايا
على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء، وساقوهم كما
يساق سبي الترك والروم في أشدّ المصائب، وتتقدّمهم الرؤوس
على الرماح، حتّى دخل الركب الكوفة في اليوم الثاني عشر من
المحرَّم سنة 61 هـ، واقتسمت القبائل الرؤوس بينها...5.
عظمة الصبر وتحمّل المصيبة في عين الله: حينما حدثت
الفاجعة الكبرى بمقتل أخيها الحسين عليه السلام خرجت
السيّدة زينب تعدو نحو ساحة المعركة، تبحث عن جسد أخيها
الحسين بين القتلى غير عابئة بالأعداء المدجّجين بالسلاح،
فلمّا وقفت على جثمان أخيها الحسين وضعت يدها تحت جسده
الطاهر
المقطّع ورفعته نحو السماء وهي تدعو
الله قائلة "اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان"6.
ويلكم يا أهل الكوفة: لمّا دخل موكب السبايا الكوفة، توجّه
نحو قصر الإمارة، مُخترقاً جموع أهل الكوفة المحتشدين في
الشوارع وهم يبكون لما حلَّ بالبيت النبويّ الكريم، قال
بشير بن خزيم الأسدي: ونظرت إلى زينب بنت عليّ يومئذٍ، ولم
أر خفرة والله أنطق منها، كأنّها تفرع من لسان أمير
المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وقد أومأت إلى
الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثمّ
قالت: " الْحَمْدُ للهِ، وَالصَّلاَةُ عَلىَ جَدِّي
مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الأَخْيَارِ,
أمّا بَعْدُ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، يَا أَهْلَ الْخَتْلِ
والْغَدْرِ، أَتَبْكُونَ؟! فَلَا رَقَأَتِ الدَّمْعَةُ،
ولَا هَدَأَتِ الرَّنَّةُ، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ
الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
أَنْكَاثاً، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً
بَيْنَكُمْ...َأتَبْكُونَ وَتَنْتَحِبُونَ؟! إِيْ وَاللهِ
فَابْكُوا كَثِيراً، واضْحَكُوا قَلِيلاً، فَلَقَدْ
ذَهَبْتُمْ بِعَارِهَا وَشَناَرِهَا...وَيْلَكُمْ يَا
أَهلَ الْكُوفَةِ، أَتَدْرُونَ أَيَّ كَبِدٍ لِرَسُولِ
اللهِ فَرَيْتُم؟! وَأيَّ كَرِيمَةٍ لَهُ أبْرَزتُمْ؟!
وَأَيَّ دَم لَهُ سَفَكْتُمْ؟! وَأّيَّ حُرْمَةٍ لَهُ
انتَهَكْتُمْ؟! لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا صَلعَاءَ عَنْقَاءَ
سَوْدَاءَ فَقُمَاءَ...أَفَعَجِبْتُمْ أَنْ مَطَرَتِ
السَّمَاءُ دَماً، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزىَ
وَأَنْتُمْ لاَ تُنْصَرُونَ.."7.
وخلاصة ما أرادت إيصاله إليهم:
إيضاح الصورة للرأي العامّ وإثارتهم على الأمويّين، وإظهار
المصيبة الكبرى التي داهمت العالم الإسلاميّ بقتل ريحانة
رسول الله صلى الله عليه و آله وسلموتحميل الكوفيّين
مسؤوليّة هذه الجريمة النكراء.
شجاعة عليّ وثبات الحسين في مواجهة ابن زياد: لمّا
سأل ابن مرجانة عنها، فقال: مَن هذه التي انحازت ناحية
ومعها نساؤها؟ أعرضت عنه احتقاراً واستهانة به، وكرّر
السؤال فلم تجبه، فأجابته إحدى السيّدات: هذه زينب بنت
فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم. فقال لها:
الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأبطل أحدوثتكم.
فأجابته عليها السلام بشجاعة أبيها محتقرة له قائلة:
"الحمْدُ للهِ الَّذي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ،
وَطَهَّرَنَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، إِنَّمَا
يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَاجِرُ، وَهُوَ
غَيْرُنَا يَا بْنَ مَرْجَانَة"8.
ما رأيت إلّا جميلاً: وكذلك عندما خاطبها مستهزئاً:
كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ فأجابته حفيدة الرسول بكلمات
الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة: "ما رَأَيْتُ إِلّا
جَمِيلاً، هؤُلاَءَ قَوْم كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ
الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمعُ
اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ،
فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلَجُ يَومَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ
يا بْنَ مَرْجَانَةَ.."9.
الدفاع
عن الإمام والإمامة: وأدار ابن مرجانة بصره في بقيّة
الأسرى من أهل البيت فوقع بصره على الإمام زين العابدين،
وقد أنهكته العلّة فسأله: مَن أنت؟ فقال عليه السلام: عليّ
بن الحسين.. - بعد حوار مع الإمام - فالتفت إلى بعض
جلّاديه فقال له: خذ هذا الغلام واضرب عنقه, فانبرت
العقيلة بشجاعة لا يرهبها سلطان، فاحتضنت ابن أخيها، وقالت
لابن مرجانة: " يَا بْنَ زِيَادٍ, إِنَّكَ لَمْ تُبْقِ
مِنّا أَحَداً، فَإنْ كنت عَزَمْتَ عَلى قَتْلِهِ
فَاقْتُلْني مَعَهُ.."10.
وبهر الطاغية وانخذل، وقال متعجّباً: دعوه لها، عجباً
للرحم ودَّت أن تقتل معه.
أَمِنَ العدل يا ابن الطلقاء: (المواجهة مع رأس الظلم):
لمّا وصلت قافلة السبايا إلى مجلس الطاغية يزيد بن معاوية
في الشام...، أظهر الطاغية فرحته الكبرى بإبادته لعترة
رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وأخذ يهزّ أعطافه
جذلان وراح يترنّم بالأبيات التي مطلعها:
لَيْتَ
أَشْيَاخِي
بِبَدرٍ شهدوا |
جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِـنْ
وَقْعِ الأَسَلْ |
ولمّا سمعت العقيلة هذه الأبيات ألقت خطبتها الشهيرة
بفصاحة وشجاعة أبيها عليّ عليه السلام وقد ضمّنتها أعنّف
المواقف لفرعون عصره يزيد وممّا قالته عليها السلام: "الْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
وَصَلَّى اللهُ عَلىَ مُحَمّدَ
وآلِهِ أَجْمَعِيَن، صَدَقَ اللهُ كَذَلكَ يَقُولُ:
﴿
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن
كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا
يَسْتَهْزِؤُون
﴾11..
وَلَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ الدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَكَ،
إِنِّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ، وَأَسْتَعْظِمُ
تَقْرِيعَكَ، وَأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيخَكَ، لَكِنِ
الْعُيُونُ عَبْرىَ، وَالصُّدَورُ حَرّىَ.أَلاَ فَالعَجَبُ
كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اللهِ النُّجبَاءِ
بِحِزْبِ الشَّيْطَانِ الطُّلَقَاء.
أَمِنَ الْعَدْلِ يَا بْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ
حَرَائِرَكَ وَإمَاءَكَ وَسوقَكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ
سَبَايَا؟! قدْ هَتَكْتَ سُتورَهُنَّ، وَأَبْدَيْتَ
وُجُوهَهُنَّ، تَحْدُو بِهِنَّ الأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدِ
إلى بلدٍ،.. وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ
وَالبَعِيدُ..
أَللهُمَّ خُذْ بِحَقِّنَا، وَانتَقِمْ مِمَّنْ ظَلَمَنَا،
وَاحْلُلْ غَضَبَكَ بِمَنْ سَفَكَ دِمَاءَنَا وَقَتَلَ
حُمَاتَنَا. فَوَاللهِ مَا فَرَيْتَ إِلاَّ جِلْدَكَ، وَلا
حَزَزْتَ إِلاَّ لَحْمَكَ، وَلَتَرِدَنَّ عَلى رَسُولِ
اللهِ صلى الله عليه و آله وسلم بِمَا تَحَمَّلْتَ مِنْ
سَفْكِ دِمَاءِ ذُرّيَّتِهِ، وَانْتَهكْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ
فِي عِتْرَتِهِ وَلُحْمَتِهِ..12.
المحاضرة الثانية:
الصدق فعل المتقين
الهدف: إظهار مكانة الصدق من الشخصيّة الإيمانيّة،
وكونه تجسيداً لحقيقة انطباق الاعتقاد.
تصدير الموضوع
عن أمير المؤمنينعليه السلام: "الإيمان أنْ تؤثر الصدق
حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك"13.
المقدّمة:
من الخصال التي فُطر الإنسان عليها وعلى حبّها، ومن
الشمائل التي تزيّن صاحبها وتعبّر عن علوّ همّته وسموّ
مروءته، الصدق فهي معشوقة القلوب وممدوحة العقول، لأنّها
تعبّر عن صفاء السريرة، ونقاوة الباطن؛ وهي زينة اللسان،
لأنّها مرآة الفؤاد، وقد قال العلّامة المجلسيّ رحمه الله:
"الصدق هو القول المطابق للواقع، ويطلق أيضاً على مطابقة
العمل للقول والاعتقاد، وعلى فعل الجوارح والقلب،
المطابقين للقوانين الشرعيّة والموازين العقليّة. ومنه
الصّدّيق، وهو مَنْ حصل له ملكة الصدق في جميع الأمور، ولا
يصدر منه خلاف المطلوب عقلاً ونقلاً، كما صرّح به المحقّق
الطوسيّ في أوصاف الأشراف"14.
محاور الموضوع
الصدق دعامة الإيمان:
وهو أحد دعائم الإيمان السبع، التي تتكوّن منها شخصيّة
المؤمن، والتي بها تتجسّد حقيقة الإيمان.
فعن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ الله عزَّ وجلَّ وضع
الإيمان على سبعة أسهم: على البرّ، والصدق، واليقين،
والرضا، والوفاء،
والعلم والحلم. ثمّ قسّم ذلك بين
الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم، فهو كامل"15.
وهو علامة الإيمان:
ففي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام: "لا تغترّوا
بصلاتهم ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربّما لهج بالصلاة والصوم
حتّى لو تركه استوحش, ولكن، اختبروهم عند صدق الحديث وأداء
الأمانة"16.
الصدق قربٌ من رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم:
ومعنى ذلك الحظوة عنده صلى الله عليه و آله وسلم والمكانة
والاهتمام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم
يسمّى قبل أن يبعثه الله تعالى بالصادق الأمين, وبمقدار
استحواذ الصدق على شخصيّة المؤمن، بمقدار ما يكون قرباً من
صفات رسول اللهصلى الله عليه و آله وسلم وهذا ما يقرّبه
منه صلى الله عليه و آله وسلم:
عن زيد بن عليّ بن الحسين عن آبائه عليهم السلام عن رسول
اللهصلى الله عليه و آله وسلم: "إنّ أقربكم منّي غداً
وأوجبكم عليّ شفاعة، أصدقكم للحديث، وأدّاكم للأمانة،
وأحسنكم خُلقاً، وأقربكم من الناس"17.
وعن أبي كَهْمَس قال: قلت لأبي عبد اللهعليه السلام: عبد
الله بن أبي يعفور (أحد أصحابه) يُقرئك السلام.
قال: عليك وعليه السلام, إذا أتيت عبد
الله، فاقرأه السلام، وقل له: إنّ جعفر بن محمّد يقول لك:
"انظر ما بلغ به عليّ عليه السلام عند رسول الله صلى
الله عليه و آله وسلم، فالزمه, فإنّ عليّاً عليه السلام
إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول الله صلى الله عليه و آله
وسلم بصدق الحديث وأداء الأمانة"18.
الصدق مروءة:
إنّ الصدق والتزامه والثبات عليه وتحمّل كلفته يشكّل
امتحاناً لإيمان الإنسان، فإنّ الصدّق تعبير عن استقامة
صاحبه، وعن إيثاره للفضيلة، لا سيّما إذا كان في الصدق
مجانبة للمصلحة, فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "قدر
الرجل على قدر همّته، وصدقه على قدر مروءته، وشجاعته على
قدر أنفته، وعفّته على قدر غيرته"19.
وقال عليه السلام: "الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك،
على الكذب حيث ينفعك، وأنْ لا يكون في حديثك فضلٌ عن عملك،
وأنْ تتقي الله في حديث غيرك"20.
وهذا- إضافة إلى تعبيره عن المروءة-، إنّما يعبّر انطباق
الأقوال على الأفعال، والدقّة في تناول ونقل أحاديث
الآخرين. وهذا من أوثق مصاديق ونماذج الصدق، التي تجعل
صاحبها من أهل
القرب والوثاقة.
الصدق منجاة لصاحبه:
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "جانبوا الكذب، فإنّه
مجانب للإيمان، الصادق على شفا منجاة وكرامة، والكاذب على
شفا مهواة ومهانة"21.
وقال أبو الحوراء السعديّ ربيعة بن شيبان: قلت للحسن بن
عليّعليهما السلام: ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه و
آله وسلم؟ قال: حفظت منه: "دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك، فإنّ الصدق طمأنينة، والكذب ريبة"22.
وكفانا اعتباراً من عاقبة الصدق، وأنّها خلاصة الخير
والمنفعة عند الله، وإنْ كان فيه أحياناً ضرر بحسب الظاهر،
قوله تعالى:
﴿
يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ
صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
﴾23.
وفي رواية عن رسول اللهصلى الله عليه و آله وسلم أنّه قال:
"عليكم بالصدق، فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ
يهدي إلى الجنّة, وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتّى
يُكتب عند الله صدّيقاً. وإيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي
إلى الفجور، وإنّ الفجور
يهدي النّار, وما زال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى
يُكتب عند الله كذّاباً"24.
الصدق وصيّة العقل:
إنّ العقول السويّة تدعو إلى الصدق، وإلى الأخذ بأمر الله
تعالى ووصيّته. قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ
وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ
﴾25.
وقال تعالى:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
﴾26.
المحاضرة الثالثة:
انتظار الفرج مفهومه وحقيقته
الهدف: التعريف بواجبات المؤمن تجاه الإمام
المهديّعجل الله فرجه الشريف في زمن الغيبة وكيفيّة
الإنتظار.
تصدير الموضوع
عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّه سأل النبيّ صلى الله
عليه و آله وسلم هل ينتفع الشيعة بالقائمعليه السلام في
غيبته؟
فقالصلى الله عليه و آله وسلم: "إي والذي بعثني
بالنبوّة إنّهم لينتفعون به، ويستضيئون بنور ولايته في
غيبته، كانتفاع الناس بالشمس، وإن جلّلها السحاب"27.
المقدّمة:
الانتظار الذي اعتبرته الروايات من أفضل العبادات, هو
الانتظار الذي يدفع صاحبه للعمل والتمهيد والشوق لتعجيل
الفرج بكلّ ما يقدر عليه ويعدّ العدّة بقدر المستطاع,
والثبات على إمامته والمضيّ في مشروعه من أوجب الواجبات
التي ينبغي الالتزام بها مهما علت التضحيات.
محاور الموضوع
1- وجود الإمام أمان لأهل الأرض:
الإمام المهديّعجل الله فرجه الشريف الذي شبّهه رسول الله
صلى الله عليه و آله وسلم: بالشمس من وراء السحاب، هو الذي
بوجوده يتنّعم البشر، وتنتظم حياتهم، وتتفجّر منه الخيرات
والبركات والألطاف الخفيّة والفيوضات المعنويّة إلى الناس،
وكلّ ذلك من فضل الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه و
آله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام، ولهذا تطابق
أفعاله الحكمة والمصلحة، وقد أكَّدت الروايات على أنّه:
"لو خَلَت الأرض طرفة عين من حجّة لساخت بأهلها"28.
وورد عن رسول اللهصلى الله عليه و آله وسلم أنّه قال: "
النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت أتاهم ما يوعدون،...
وأهل بيتي أمان لأمّتي، فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما
يوعدون"29.
وفي عدّة روايات عنهصلى الله عليه و
آله وسلم: "أهل بيتي أمان لأهل الأرض..."30.
وقد ورد في رسالة الإمام المهديّعجل الله فرجه الشريف إلى
إسحاق بن يعقوب: "... وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ
النجوم أمان لأهل السماء..."31.
يمّثل الاعتقاد بالإمام المهديّعجل الله فرجه الشريف عنوان
الأمل في حياة المسلمين، والمستضعفين، لارتباط قضيّة
المهدويّة بمستقبل الحياة الإنسانيّة، من خلال إقامة دولة
الحقّ على امتداد العالم، حيث يسود العدل، ويأخذ كلّ ذي
حقّ حقّه.
معنى الانتظار:
الانتظار يعني الاستعداد التامّ والشامل للأفراد والمجتمع
وكلّ الأمّة، ومن مختلف الجوانب العقائديّة والروحيّة،
والعلميّة، والعسكريّة والسياسيّة وغيرها ممّا تحتاجه
الدولة والأمّة.
ولهذا نجد بأنّ الروايات قد وصفت الانتظار بالعبادة،
والمنتظرين بالمجاهدين والشهداء بين يدي رسول اللهصلى الله
عليه و آله وسلم.
عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: "أفضل أعمال
أمّتي انتظار الفرج من الله عزَّ وجلّ"32.
وفي رواية: "أفضل العبادة انتظار
الفرج"33.
2 - منزلة المنتظرين:
سأل رجل الإمام الصادق عليه السلام: ما تقول فيمن مات على
هذا الأمر منتظراً له؟
قالعليه السلام: "هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه"
ثمّ سكت هنيئة ثمّ قال: "هو كمن كان مع رسول اللهصلى الله
عليه و آله وسلم"34.
وفي روايات أخرى عن الإمام الصادقعليه السلام أنّه:
"بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله"35.
أو "كمن قارع مع رسول اللهصلى الله عليه و آله وسلم".
أو "بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول اللهصلى الله عليه و
آله وسلم".
أو "بمنزلة من استشهد مع رسول اللهصلى الله عليه و آله
وسلم"36.
3 - كيف نربّي أنفسنا على الانتظار؟
إنّ المنزلة الرفيعة والخاصّة للمنتظرين في الأخبار
والروايات ترتبط بالوظيفة الملقاة على عاتقهم والتكاليف
الواجبة عليهم تجاه الرسالة والمجتمع والأمّة؛ لناحية
التمهيد، وحفظ الدّين، والدفاع عن الأعراض والأموال
والكرامات والأوطان. وهي
أ - الصبر والتضحية عند البلاء:
"الصبر من الإيمان، بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب
الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان"37
و"لا إيمان لمن لا صبر له"38,
كما ورد في الأخبار والروايات العديدة، التي اعتبرت الصبر
ركناً ركيناً من الإيمان، وذلك لصلته الوثيقة بالعقيدة
والدّين، وفق مقتضيات الشريعة في مختلف الظروف، ولهذا كان
الصبر على النوازل والمكاره وشظف العيش، وفقدان الأعزّة،
والأحبّة، والبيوت والأملاك... وغيرها ممّا يصيب الناس
ويتعرّض له المؤمنون, يرتبط بالإيمان، ومستوى تحمّل الناس
للآلام والبلاءات التي تقع عليهم، فلا تزلزل ولا ارتداد،
ولا قنوط بل مزيداً من الشعور بالحاجة إلى الله، وعناداً
في الحقّ، دفاعاً عن عقيدتهم وكرامتهم مهما غلت التضحيات.
قال تعالى:
﴿
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم
مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعونَ
﴾39.
فالمؤمن عند المصيبة والبلاء، لا يحزن ولا يهن، ولا يضعف،
بل على العكس يصبر، وينتصر، ويرضى بقضاء الله وقدره،
ويزداد ثباتاً وإيماناً، قال الله
تعالى:
﴿
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ
﴾40.
وورد في الرواية عن الإمام الصادق أنّه قال: "لو يعلم
المؤمن ما له من الأجر على المصائب لتمنّى أنّه قرّض
بالمقاريض"41.
"المؤمن أصلب من الجبل، الجبل يستقلّ منه والمؤمن لا
يستقلّ من دينه شيء"42.
ب - الاستعداد الشامل:
إنّ انتظار مصلح عالميّ كالإمام المهديّ يتطلّب تربية
تنسجم في مبادئها ومعاييرها مع هذه العالميّة والشموليّة،
لأنّ أكثر ما يحتاجه هذا التحوّل إلى بناء العناصر
الإنسانيّة التي يجب أن تتصف بأمور:
• قوّة الإيمان والعقيدة.
• المستوى الفكريّ والعلميّ الكبيرين.
• الاستعداد النفسيّ والروحيّ للتضحية.
• الاستعداد الجهاديّ والعسكريّ والسياسيّ.
• إصلاح وبناء المجتمع، وتماسكه وتآلفه
وإحياء روح الجماعة في مختلف المجالات.
الطاعة والتسليم:
عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال: "إنّ للقائم
منّا غيبتين، إحداهما أطول من الأخرى،... فلا يثبت عليه
إلّا من قوي يقينه، وصحّت معرفته, ولم يجد في نفسه حرجاً
ممّا قضيناه, وسلّم لنا أهل البيت"43.
ويلازم الثبات على الإمامة الطاعة للإمام عليه السلام
ولنائبه في عصر الغيبة الوليّ الفقيه الذي يتمتّع بصلاحيّة
إدارة شؤون البلاد والعباد، وحفظ ورعاية المصالح العليا
للإسلام والمسلمين تمهيداً لقدومه الشريف، ولا بدّ لهذه
الولاية والطاعة من الارتباط الفكريّ لناحية الاعتقاد
والعمليّ لناحية الممارسة الوثيق بالوليّ.
|