المحاضرة الأولى:
حرّية الحرّ دروس وعبر
الهدف: التعرّف على أهمّ
الأسباب التي خلّدت نهضة الإمام الحسين عليه السلام وكتبت
لها الدوام والبقاء دون غيرها من الثورات والحركات.
تصدير الموضوع
عن أبي عبد الله عليه السلام، أنّه قال: "يسلك بالسّعيد
في طريق الأشّقياء حتّى يقول النّاس: ما أشبهه بهم بل هو
منهم ثمّ يتداركه السّعادة، وقد يسلك بالشّقي طريق
السّعداء حتّى يقول النّاس: ما أشبهه بهم، بل هو منهم ثمّ
يتداركه الشّقاء, إنّ
من
كتبه الله سعيداً وإن لم يبق من الدنيا إلّا فواق ناقة1
ختم له بالسّعادة"2.
المقدّمة:
لمّا وقع الحرّ بن يزيد الرّياحيّ على ثرى كربلاء, تقول
الرّواية: احتمله أصحاب الحسينعليه السلام حتّى وضعوه بين
يدي الحسين عليه السلام وبه رمق، فجعل الحسين يمسح وجهه،
ويقول: أنت الحرّ كما سمّتك أمّك، وأنت الحرّ في الدنيا،
وأنت الحرّ في الآخرة3.
إنّه وسام الحرّية الذي أعطاه الإمام الحسينعليه السلام
للحرّ في آخر لحظات حياته التي ختمها بالشّهادة, وأكرمه
بها على قاعدة: "ليس للأحرار جزاء إلّا الإكرام",
كما عن أمير المؤمنين عليه السلام4.
فما هي أهمّ الدّروس والعبر التي تضمّنها موقفه هذا بحيث
تصلح للتأسّي والاقتداء به؟
محاور الموضوع
هناك العديد من الدروس والعبر التي يمكن استفادتها من
موقف الحرّ
يوم العاشر من محرّم نشير إلى أهمّها:
1- تفكّر الحرّ:
لقد أظهر موقف الحرّ الذي اختار فيه اللّحاق بالإمام
الحسين عليه السلام عظمة التفكرّ ودوره في الوصول إلى
الحقيقة والنّجاة من الهلكات, حيث وصل الحرّ إلى ذلك بعد
أن فكّر فيما تكون إليه عاقبة أمره. تقول الرواية: لمّا
رأى الحرّ بن يزيد أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين
عليه السلام قال لعمر بن سعد: أيْ عمر، أَمُقاتل أنت هذا
الرجل؟ قال: إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرّؤوس وتطيح
الأيدي، قال: أَفَمَا لكم فيما عرضه عليكم رضىً؟ قال عمر:
أَمَا لو كان الأمر إليّ لفعلت، ولكن أميرك قد أبى. فأقبل
الحرّ حتّى وقف من النّاس موقفاً، ومعه رجل من قومه يقال
له: قرّة بن قيس، فقال: يا قرّة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال:
لا، قال: فما تريد أن تسقيه؟ قال قرّة: فظننت والله أنّه
يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال، ويكره أن أراه حين يصنع
ذلك، فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق فأسقيه، فاعتزل ذلك
المكان الذي كان فيه، فوالله لو أنّه أطلعني على الذي يريد
لخرجت معه إلى الحسين بن عليّ عليه السلام؟ فأخذ يدنو من
الحسين قليلاً قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا
ابن يزيد، أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه وأخذه مثل الأَفكَل-
وهي الرّعدة- فقال له المهاجر: إنّ
أمرك لمريب،
والله ما رأيت منك في موقفٍ قطّ مثل هذا، ولو قيل لي: من
أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟! فقال له
الحرّ: إنّي والله أخير نفسي بين الجنّة والنّار، فوالله
لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعت وحرِّقت. ثمّ ضرب
فرسه فلحق بالحسينعليه السلام5.
وهذا من ثمار التفكّر الذي ورد فيه: عن أبي عبد الله عليه
السلام، أنّه قال: "تفكّر ساعة خيرٌ من عبادة سنة"6.
2- التضحية بالجاه والمقامات:
إنّ الحرّ بن يزيد هو تميميّ يربوعيّ رياحيّ, قالوا فيه
أنّه: كان شريفاً في قومه جاهليّةً وإسلاماً، وأنّه كان في
الكوفة رئيساً ندبه ابن زياد لمعارضة الحسين عليه السلام،
فخرج في ألف فارس7. ولا
شكّ أنّ مثل هذه الأمور تقيّد الإنسان وتكبّله في مثل هذه
المواقف الحرجة, وتمنعه من سلوك طريق الحقّ أحياناً إذا ما
استسلم لها ولم يمكنه الخلاص منها. إلّا أنّ الحرّ لم
تأسره كلّ هذه العناوين الزّائلة ولم تقيّده رئاسة أو
زعامة أو جاه أو نحوه, وهذا هو معنى الحريّة كما جاء عن
أمير المؤمنين عليه السلام: "من ترك الشّهوات كان
حرّاً"8.
3- عدم
الاكتراث بالمخاوف والتّهديدات:
لقد كانت الأجواء في الكوفة يسودها الخوف من عبيد الله بن
زياد, حيث كان يهدم الدّور ويسجن ويقتل وينفي, ومن الطبيعي
أن يرد مثل هذا الخوف على الإنسان في مثل هذه اللّحظات
المصيريّة فيخاف على عياله أو ماله وأملاكه, أو لا أقل
تزيّن له نفسه الأمّارة بالسّوء ذلك كما صنع عمر بن سعد
حينما ألقى الإمام الحسين عليه السلام عليه الحجّة في طلب
نصرته: فقال عليه السلام له: ويحك أما تتّقي الله الذي
إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟ يا هذا! ذَرْ
هؤلاء القوم وكن معي، فإنّه أقرب لك من الله. فقال له عمر:
أخاف أن تهدم داري! فقال الحسين عليه السلام: أنا أبنيها
لك! فقال عمر: أخاف أن تؤخذ ضيعتي! فقال عليه السلام: أنا
أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز. فقال: لي عيال أخاف
عليهم! فقال: أنا أضمن سلامتهم. ثمّ سكت فلم يجبه عن ذلك،
فانصرف عنه الحسين عليه السلام، وهو يقول: ما لك؟ ذبحك
الله على فراشك سريعاً عاجلاً, ولا غفر لك يوم حشرك ونشرك،
فوالله! إنّي لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلّا يسيراً.
فقال له عمر- مستهزءاً-: يا أبا عبد الله! في الشّعير عوض
عن البرّ! ثمّ رجع عمر إلى معسكره9.
لم يشأ الحرّ
أن يقدّم كلّ هذه الأعذار والحجج الواهية, فتحرّر من كلّ
ما يشغله عن مصيره الحتميّ وعاقبته النّهائيّة, ولم ينكسر
أو يضعف أو يهن أمام كلّ تلك التحدّيات الصعبة وهذا هو
الحرّ كما عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الحرّ
حرّ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت
عليه المصائب لم تكسره وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسراً،
كما كان يوسف الصدّيق الأمين صلوات الله عليه لم يضرر
حرّيته أن استعبد وقهر وأسر"10.
4- نبل الحرّ وأخلاقه:
كان الحرّ يتحلّى بالعديد من الصّفات الأخلاقيّة التي
ساهمت في نجاته وتحوّله, فقد كان نبيلاً صاحب خلق, كما ظهر
ذلك حينما التقى بالإمام عليه السلام وأراد الإمام أن
يصلّي فقال للمؤذّن: "أقم" فأقام الصّلاة فقال
للحرّ: "أتريد أن تصلّي بأصحابك؟" قال: لا، بل
تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين بن عليّ عليه
السلام
11.
فمثل هذا الموقف من الحرّ وهو الخارج ليمنع الحسين عليه
السلام من دخول الكوفة ومعه ألف فارس, لا شكّ أنّه يدل على
عمل أخلاقي رفيع.
وكذلك حينما
قال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد
أمرنا إذا نحن لقيناك، ألّا نفارقك حتّى نقدمك الكوفة على
عبيد الله. فقال له الحسين عليه السلام: "الموت أدنى إليك
من ذلك" ثمّ قال لأصحابه: "قوموا فاركبوا" فركبوا وانتظر
حتّى ركب نساؤهم، فقال لأصحابه: "انصرفوا" فلما
ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال
الحسين عليه السلام للحرّ: "ثكلتك أمّك، ما تريد؟"
فقال له الحرّ: أَمَا لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على
مثل الحال التي أنت عليها، ما تركت ذكر أمّه بالثّكل
كائناً من كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل
إلّا بأحسن ما يقدر عليه..12.
فإنّ هذا الاحترام من الحرّ للصّديقة الزهراءعليها السلام
كان له الأثر الطيّب في حسن عاقبته, وليس من البعيد أن
يكون قول الإمام له بعد ذلك: "أنت الحرّ كما سمّتك أمّك",
فيه نوع تطييب لخاطره بجميل صنعها بعد أن دعا على الحرّ في
موقفه الأوّل بأن تبكيه وتثكل به, والله العالم.
5- توبة الحرّ:
يعلّمنا الحرّ كيف يجب علينا أن نقف مع أنفسنا وخصوصاً في
اللّحظات الحاسمة التي نخيّر فيها أنفسنا بين الجنّة
والنّار, لنرجع فيها إلى الله تعالى ونتوب من ذنوبنا ولا
نختار على الجنّة شيئاً
ولو قطّعنا
وحرّقنا, فـ "ما خيرٌ بخيرٍ بعده النّار, وما شرٌّ
بشرٍّ بعده الجنّة" كما عن أمير المؤمنين عليه السلام13.
ومهما عظمت المعصية فإنّ باب رحمة الله تعالى وعفوه يبقى
مفتوحاً ولا ينبغي أن ييأس الإنسان من رحمة الله تعالى.
وحينما أراد الحرّ التوبة لم يخترع لنفسه طريقاً للتوبة
كما قد يصنع بعضهم, فكان باستطاعته أن يترك القتال ويذهب
إلى أهله وعياله, أو إلى مكان آخر يضمن معه سلامته وبقاءه
حيّاً, ويمنّي نفسه بعد ذلك بالتوبة من خلال العبادة
والصلاة والدعاء والاستغفار ونحو ذلك.. إلّا أنّ عظمة
الحرّ أنّه اختار الطريق الصحيح للتوبة "من أراد الله بدأ
بكم", فجاء إلى الإمام الحسين عليه السلام ليسأله عن
التوبة وعن إصلاح ما أفسده, ولكن بحالةِ المنكسر, قالباً
ترسه, واضعاً يده على رأسه, حياءً من آل الرسول صلى الله
عليه و آله وسلم وهو يقول: أللهمّ إليك أنيب فتب عليّ فقد
أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك، يا ابن رسول الله هل لي
من توبة؟ قال: نعم, تاب الله عليك..
المحاضرة
الثانية:
محمّد المصطفى صلى الله عليه و آله وسلم رحمة للعالمين
الهدف: التعرّف على عظمة نبي الإسلام محمّد صلى
الله عليه و آله وسلم وعلى قبس من سلوكه الشخصيّ للإقتداء
به.
تصدير الموضوع
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لما عُرج برسول الله
صلى الله عليه و آله وسلم انتهى به جبرائيل إلى مكان فخلّى
عنه، فقال له: يا جبرائيل تخلّيني على هذه الحالة؟ فقال:
امض، فوالله لقد وطئت مكاناً ما وطئه بشرٌ، وما مشى فيه
بشر قبلك"14.
ولادته
وتسميته صلى الله عليه و آله وسلم:
تتحدّث جملة من المصادر التاريخيّة والحديثيّة عن وقوع
حوادث عجيبة يوم ولادته صلى الله عليه و آله وسلم مثل:
انطفاء نار فارس، وزلزال أصاب الناس حتّى تهدّمت الكنائس
والبيَع وزال كلّ شيء يُعبد من دون الله عزَّ وجلّ عن
موضعه، وتساقط الأصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها حتّى
عُمّيت على السحرة والكهّان أُمورهم، وطلوع نجوم لم تُر من
قبل هذا. وقد ولد صلى الله عليه و آله وسلم وهو يقول:
"الله أكبر، والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً"15.
وأمّا عن يوم ميلادهصلى الله عليه و آله وسلم، فقد
حدّده أهل بيته عليهم السلام – وهم أدرى بما في البيت-
فقالوا: هو يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأوّل بعد
طلوع الفجر، كما هو المشهور بين الإماميّة، وعند غيرهم
أنّه ولد في يوم الاثنين الثاني عشر من الشهر نفسه.
واشتهر النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بـاسمين: "محمّد"
و"أحمد" وقد ذكرهما القرآن الكريم، وروى المؤرّخون أنّ
جدّه عبد المطلب قد سمّاه محمّداً، وأجاب من سأله عن سبب
التسمية قائلاً:" أردت أن يحمد في السماء والأرض"16.
كما أنّ أُمّه آمنة سمّته قبل جدّه بـ : أحمد. وروي عن
رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أنّه قال: "إنّ
الله خلقني
وعليّاً
من نور واحد، وشقّ لنا اسمين من أسمائه، فذو العرش محمود
وأنا محمّد، والله الأعلى وهذا عليّ"17.
طهارة النسب:
قال الطبرسيّ في تفسير قوله تعالى:
﴿
وَتَقَلُّبَكَ
فِي السَّاجِدِينَ
﴾:
ومعناه وتقلبّك في أصلاب الموحّدين من نبيّ إلى نبيّ حتّى
أخرجك نبيّاً... وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهL
قالا: "في أصلاب النبيّين، نبيّ بعد نبيّ حتّى أخرجه من
صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه السلام"18.
الله تعالى يصف النبيّ محمّداً ونبوّته صلى الله عليه و
آله وسلم:
يمكن الإشارة إلى بعض ما ورد في القرآن الكريم حول شخصيّة
رسول الله، وعظمة نبوّته ورسالته، وموقع النبيّ محمّد في
السماء والأرض:
هدف بعثته ورسالته:
الرحمة بالبشر والتزكية والتربية لهم، قال تعالى:
﴿
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا
مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ..﴾19.
وقال تعالى:
﴿
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ
﴾20.
الأسوة
الحسنة وصاحب الخلق العظيم:
قال الله تعالى:
﴿
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ
﴾21.
﴿
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
﴾22.
سيّد الرسل وأعظمهم وخاتمهم:
قال تعالى:
﴿
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ
وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
﴾23.
وقال النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لعليّ عليه السلام:
"أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ
بعدي".
تخصيصه بالإسراء والمعراج:
﴿
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى...﴾24.
الأمر الإلهيّ بوجوب طاعته واحترامه:
قال تعالى:
﴿
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ
فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
﴾25.
بشارات
الأنبياء برسالة محمّد بن عبدا لله صلى الله عليه و آله
وسلم:
• لقد نصّ القرآن الكريم على بشارة إبراهيم الخليل عليه
السلام برسالة خاتم النبيّين صلى الله عليه و آله وسلم
بأسلوب الدعاء قائلاً- بعد الكلام عن بيت الله الحرام في
مكّة المكرّمة ورفع القواعد من البيت والدعاء بقبول عمله
وعمل إسماعيلعليه السلام:
﴿
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ
﴾26.
• وصرّح القرآن الكريم بأنّ البشارة بنبوّة محمّد صلى الله
عليه و آله وسلم الأمّيّ كانت موجودة في العهدين القديم
(التوراة) والجديد (الإنجيل). قال تعالى:
﴿
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ...
﴾27.
• وقد بشّر به الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام- كما
أخبر القرآن الكريم بذلك وصدّقه علماء أهل الكتاب- وقد
حكاه قوله تعالى:
﴿
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ
أَحْمَدُ
﴾.
ولا مانع من أن يعرف الشخص باسمين ولقبين وكنيتين في عرف
الجزيرة العربيّة وغيرها.
قبس من
سلوكه وصفاته الشخصيّة:
محمّد صلى الله عليه و آله وسلم العبد الذي يخاف ربّه:
عن أبي جعفرعليه السلام قال: "وكان رسول الله صلى الله
عليه و آله وسلم يقوم على أطراف أصابع رجله فأنزل الله
سبحانه وتعالى:
﴿
طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى
﴾28.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: " ما كان شيء أحبّ
إلى رسول الله من أن يظلّ خائفاً جائعاً في الله عزَّ
وجلّ"29. وقد تجلّت
عبوديّته في قوله وسلوكه حتّى قال: قرّة عيني في الصلاة.
وكان ينتظر وقت الصلاة ويشتدُّ شوقه للوقوف بين يدي الله
تعالى.
وكان كثير الدعاء، حتّى قال: "الدعاء مخّ العبادة"30.
وعن أبي جعفر عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله
عليه و آله وسلم عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله،
لِمَ تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما
تأخّر؟ فقال: يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً؟"31.
وفي الخبر عنه عليه السلام: "وإنّ درعه - عند وفاته -
مرهونة عند يهوديّ من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير
استلفها نفقة لأهله"32.
جلوسه
وأكله:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى
الله عليه و آله وسلم يأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد،
ويعلم أنّه عبد"33.
علاقته بأصحابه:
قال تعالى:﴿
حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
﴾. وعن أبي عبد اللهعليه السلام
قال: " كان رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقسّم
لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة"؛
وقال:" ولم يبسط رسول الله رجليه بين أصحابه قطّ، وإن كان
ليصافحه الرّجل فما يترك رسول الله صلى الله عليه و آله
وسلم يده من يده حتّى يكون هو التارك... "34.
الجود والحلم:
قال تعالى:
﴿
لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
﴾35.
وقد روي أنّه: "ما سُئل النبيّ صلى الله عليه و آله
وسلم شيئاً قطّ فقال: لا"، وأنّه عفا عن قريش التي عتت
عن أمر ربّها وحاربته بكلّ ما لديها، وهو في ذروة القدرة
قائلاً لهم: "اللهمّ اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون...
اذهبوا فأنتم الطلقاء".
ورُوي: أنّ
رجلاً كلّم النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فأرعد، فقال:
"هَوّن عليك فإنّي لستُ بملِك إنّما أنا ابن امرأةٍ تأكل
القديد"36.
شجاعته:
قال الله تعالى
﴿
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ
وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى
بِاللَّهِ حَسِيبًا
﴾37.
زهده:
عن النبيّصلى الله عليه و آله وسلم قال: "عرض عليّ ربّي
ليجعل لي بطحاء مكّة ذهباً، قلت: لا يا ربّ ولكن أشبع
يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك, وإذا
شبعت شكرتك وحمدتك"38.
ويذكر المؤرّخون أنّه كان صلى الله عليه و آله وسلم يرقّع
ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبد، ويجلس على
الأرض، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله،
ويصافح الغنيّ والفقير...
المحاضرة
الثالثة:
الاختلاط المحرّم
الهدف: تسليط الضوء على إحدى أكثر الآفات
الاجتماعيّة خطورة على الرجل والمرأة والأسرة، التي هي
آفّة الاختلاط المحرّم، وبيان بعض آثارها. دون التعرّض إلى
وخامة الآثار الفعليّة الحاصلة.
تصدير الموضوع
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس في البدن شيء أقلّ
شكراً من العين، فلا تعطوها سؤلها، فتشغلكم عن ذكر الله
عزَّ وجلَّ"39.
المقدّمة:
يعتبر تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة خارج إطار العلاقة
الزوجيّة من الأمور الهامّة التي نبّهت عليها الشريعة
الإسلاميّة, واعتبرت أنّ ظاهرة الاختلاط المحرّم هي مدعاة
للوقوع في الكثير من المفاسد الأخلاقيّة والسلوكيّة
والاجتماعيّة والتي قد لا يقتصر أثرها المدمّر على الفرد
بل قد يتعدّاه إلى كافّة المجتمع.
محاور الموضوع
تحقيق معنى الاختلاط:
الاختلاط من الخلط، وهو جمع الأجناس المتباينة في ظرف واحد
من الزمان والمكان. والاختلاط من الافتعال، وهو في المصطلح
عبارة عن اجتماع أفراد متعدّدين من الذكور والإناث في مجلس
واحد. منه ما لا إشكال فيه، كاجتماع أفراد الأسرة الواحدة
من المحارم، إخوة وأخوات، وآباء وأبناء، وفروع هؤلاء
جميعاً.
ومنه ما قد ترافقه الكثير من الاشكالات لدى اجتماع أفراد
من غير المحارم في محلّ واحد ومجلس واحد.
الاختلاط والشيطان:
عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أنّه نهى عن محادثة
النساء - يعني غير
ذوات المحارم
- وقال: "لا يخلونّ رجل بامرأة فما من رجل خلا بامرأة
إلّا كان الشيطان ثالثهما"40.
إنّ تجاور الجنسين فلا يؤمن أنْ يحصل نظر كلٍّ من أفراد
الجنسين إلى الآخر دون رعاية أحكام النظر والكلام فيما
يجوز وفيما لا يجوز.
اللوازم المدمّرة للاختلاط:
إنّ طول الوقت الذي يقضيه كلّ من الرجل والمرأة الأجنبيين،
يستلزم تردّد النظر مرات عديدة كلّ منهما إلى الآخر ما قد
يتعدى معه النظر عن الوجهين والكفين ولذا حذرت الأحاديث
المأثورة عن المعصومين عليهم السلام من الآثار التي قد
تكون مدمّرة ومهلكة للرجل وللمرأة وكذلك للأسرة والمجتمع.
عن الإمام الصادقعليه السلام أنّه قال: "النظرة بعد
النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة"41.
ومن لوازم النظر المحرّم:
1- يشغل عن ذكر الله تعالى:
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس في البدن شيء أقل
شكراً من العين، فلا تعطوها سؤلها فتشغلكم عن ذكر الله
عزَّ وجلَّ"42.
2- يبذر
الهوى ويولد الغفلة:
فعن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: "إيّاكم وفضول
النظر، فإنه يبذر الهوى، ويولّد الغفلة"43.
3- عمى القلب عن العاقبة:
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا أبصرت العين
الشهوة عمي القلب عن العاقبة"44.
4- دوام الحسرة:
وعن عليّ عليه السلام: "من أطلق ناظره أتعب حاضره، من
تتابعت لحظاته دامت حسراته"45.
5- مصيدة الشيطان وسهم من سهامه:
فعن أمير المؤمنينعليه السلام: "العيون مصائد الشيطان"46.
وعن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أنّه قال لعليّ عليه
السلام: "يا عليّ لا تتبع النظرة فإنّ الأولى لك
والثانية عليك وآخر النظرة سهم مسموم من سهام إبليس لعنه
الله تعالى"47.
6- العذاب
في النار:
فعن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: "من ملأ عينه
من الحرام، ملأ الله عينه يوم القيامة من النار، إلاّ أن
يتوب"48.
وهذا ما يدعو أهل القرب إلى تمنّي زوال نعمة النظر إذا
كانت تؤدّي إلى زوال نعمة القرب. فعن أمير المؤمنين عليه
السلام: "عمى البصر خير من كثير النظر"49.
وذلك، لأنّ كثرة تركيز النظر يؤدي إلى الشهوة والريبة
واستثارة الغريزة. فعن الإمام الصادق عليه السلام في
وصيّته لابن جندب: "يا ابن جندب، إنّ عيسى بن مريم عليه
السلام قال لأصحابه:... إيّاكم والنظرة، فإنّها تزرع في
القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره
في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه"50.
هوامش |
1- وهو مقدار ما بين
الحلبتين حتّى يمتلأ الضرع.
2- الكافي للكليني ج 1 ص 154.
3- بحار الأنوار للمجلسي ج 45 ص 14.
4- ميزان الحكمة للريشهري ج 1 ص 584.
5- الإرشاد للمفيد ج 2 ص 99.
6- مستدرك الوسائل ج 11 ص 183, عن تفسير العياشي.
7- إبصار العين للسماوي ص 203.
8- ميزان الحكمة للريشهري ج 1 ص 583.
9- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ص 468.
10- ميزان الحكمة للريشهري ج 1 ص 582.
11- الإرشاد للمفيد ج 2 ص 79.
12- الإرشاد للمفيد ج 2 ص 80.
13- نهج البلاغة الحكمة رقم 387.
14- الكافي, ج 1 ح 12.
15- تاريخ اليعقوبي, ج 2 ص 8.
16- السيرة الحلبيّة, ج 1 ص 128.
17- بحار الأنوار, ج 16 ص 97.
18- مجمع البيان في تفسير القرآن، ج19، ص189.
19- سورة الجمعة: آية 2.
20- سورة الأنبياء: 107.
21- سورة الأحزاب: آية 21.
22- سورة القلم:آية 4.
23- سورة الأحزاب: آية 40.
24- سورة الإسراء: آية 1.
25- سورة الأنفال: آية 46.
26- سورة البقرة: آية 129.
27- سورة الأعراف: آية 157.
28- سورة طه: الآيات 1 / 2. الكافي, ج 2 ص 6.
29- روضة الكافي، ج12 ص 188.
30- المحجّة البيضاء, ج2 ص 282.
31- أصول الكافي، ج8، ص 294.
32- بحار الأنوار، ج 16، ص 219.
33- الكافي، ج6، ح3.
34- الكافي، ج2، ح1.
35- سورة التوبة: آية 128.
36- ميزان الحكمة, ج 4 ص 3226.
37- سورة الأحزاب: آية 39.
38- سنن الترمذي، 2 حديث 2377.
39- الخصال، ص629، ح 10.
40- جامع أحاديث الشيعة السيّد البروجرديّ, ج 20 ص 309.
41- من لا يحضره الفقيه, ج 4 ص 18.
42- الخصال ، ص629، ح10.
43- بحار الأنوار ، ج72، ص199.
44- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي، الحكمة 4063.
45- البحار، ج 104، ص38.
46- غرر الحكم، الحكمة رقم 950.
47- شرح الأزهار, ج 4 ص 113.
48- بحار الأنوار، ج 76، ص234.
49- تحف العقول، ص95.
50- تحف العقول، ص305.
|
|
|