المحاضرة الثانية: الإنصاف: فضله وأهميّته

الهدف:
بيان أهميّة الإنصاف وحثّ الناس على ضرورة العمل بهذا الخلق الرفيع لما فيه من صلاح المجتمع.

تصدير الموضوع:

﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ1.


27


المقدّمة
كثيراً ما يؤدّي الاختلاط بين الناس إلى أن يؤثر الإنسان نفسه في الآخرين إلى درجة أنّه يغفل عن حقوقهم بل قد يفرّط بها نتيجة حبّ الاستئثار بالأشياء لنفسه. ومن هنا أكّدت الشريعة الإسلاميّة على ضرورة إنصاف الناس وبذل حقوقهم, واعتبرت هذه الصفة من أمّهات الصفات الأخلاقيّة التي تولّد عزّاً ورفعة ونشراً للمحبّة والعدل في المجتمع.

محاور الموضوع
1- مفهوم الإنصاف:

الإنصاف العدل والتسوية، يقال: القاضي أنصف بين الخصمين إذا عدل وساوى بينهما في المجلس، وفلان أنصف الناس من نفسه إذا رضي لهم ما رضي لنفسه وكره لهم ما كره لها وحكم على نفسه لو كان الحقّ لهم. عن جارود أبي المنذر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "سيّد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتّى لا ترضى بشيء إلّا رضيت لهم مثله, ومؤاساتك الأخ في المال, وذكر الله على كلّ حال, ليس سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر فقط, ولكن إذا ورد عليك شيء أمر الله عزَّ وجلّ به أخذت به, أو إذا ورد عليك


28


شيء نهى الله عزَّ وجلّ عنه تركته"2.

2- أهميّة الإنصاف:

يعتبر الإنصاف من أكمل فضائل العقل, لأنّ العاقل يعلم أنّ من أنصف زاده الله تعالى عزّاً في الدنيا والآخرة وهو في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه.

3- موارد الإنصاف:

الإنصاف في المعاملة: وهو أن لا يأخذ من صاحبه من المنافع إلّا مثل ما يعطيه ولا يناله من المضارّ ما يناله منه. يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ3.

الإنصاف في القصاص: يقول تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ4.


29


الإنصاف في التعامل مع الحقائق والوقائع: قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ5. ويقول في آية أخرى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ6.

الإنصاف في التعامل مع الآخرين: من وصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن مسعود: "يا بن مسعود, أنصف الناس من نفسك، وأنصح الأمّة وارحمهم، فإذا كنت كذلك وغضب الله على أهل بلدة أنت فيها وأراد أن ينزل عليهم العذاب نظر إليك فرحمهم بك، يقول الله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ7"8. وعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "أنصف الناس من نفسك وأهلك وخاصّتك ومن لك فيه هوى، وأعدل في العدوّ والصديق"9.

الإنصاف في الحكم: عن الإمام عليّ عليه السلام- من كتابه للأشتر-: "وشُحَّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك، فإنّ الشحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت أو كرهت... أنصف الله وأنصف


30


الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيّتك، فإنّك إلّا تفعل تظلم,... وتفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون، وتحقّره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثمّ اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكلّ فأعذر إلى الله في تأدية حقّه إليه"10.

4- فضل الإنصاف:

أعظم المثوبة: عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ أعظم المثوبة، مثوبة الإنصاف"11.

يجتلب المحبّة: عن الإمام الجواد عليه السلام: "ثلاث خصال تجتلب بهن المحبّة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدّة والانطواع، والرجوع إلى قلب سليم"12. وعن الإمام عليّ عليه السلام: "الإنصاف يستديم المحبّة"13. وعنه عليه السلام: "بالنصفة يكثر المواصلون". وعنه عليه السلام: "المنصف كثير الأولياء والأودّاء"14.

أعدل الناس: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أعدل الناس من يرضى للناس ما يرضى لنفسه، وكره لهم ما يكره لنفسه، وأعتى


31


الناس من قتل غير قاتله وضرب غير ضاربه"15. وعن الإمام عليّ عليه السلام: "أعدل الناس من أنصف من ظلمه"16.

أفضل الشيم: عن الإمام عليّ عليه السلام: "الإنصاف أفضل الشيم"17. وعنه عليه السلام: "الإنصاف شيمة الأشراف"18.

يؤدّي إلى الجنّة: عن عليّ بن الحسين عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في آخر خطبته: طوبى لمن طاب خلقه وطهرت سجيّته وصلحت سريرته وحسنت علانيته وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله وأنصف الناس من نفسه"19. وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنّة؟ أنفق ولا تخف فقراً، وأفش السلام في العالم، واترك المراء وإن كنت محقّاً، وأنصف الناس من نفسك"20.

5- قصّة وعبرة:

عن عبد الأعلى بن أعين قال: كتب (بعض) أصحابنا يسألون أبا عبد الله عليه السلامعن أشياء وأمروني أن أسأله عن حقّ المسلم على أخيه، فسألته فلم يجبني، فلمّا جئت لأودّعه فقلت:


32


سألتك فلم تجبني؟ فقال: "إنّي أخاف أن تكفروا، إنّ من أشدّ ما افترض الله على خلقه ثلاثاً: إنصاف المرء من نفسه حتّى لا يرضى لأخيه من نفسه إلّا بما يرضى لنفسه منه، ومؤاساة الأخ في المال، وذكر الله على كلّ حال، ليس سبحان الله والحمد الله ولكن عندما حرم الله عليه فيدعه"21.

6- الإنصاف في كربلاء:

"في عصر اليوم التاسع من المحرّم ولمّا تهيّأ العدوّ للحرب والقتال تقدّم زهير وحبيب للكلام معهم ونصيحتهم، وبعد أن تكلّم حبيب مع عزرة بن قيس التفت زهير إلى عزرة محذّراً له من إعانة أهل الضلال على قتل النفوس الزكيّة، فتعجّب عزرة من مواقف زهير في الدفاع عن الإمام الحسين عليه السلام فسأله قائلاً: يا زهير ما كنت عندنا من شيعة هذا البيت.... فقال له زهير: أفلا تستدلّ بموقفي هذا على أنّي منهم، أما والله ما كتبت إليه كتاباً قطّ, ولا أرسلت إليه رسولاً قطّ, ولا وعدته نصرتي قطّ, ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه منه, وعرفت ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم، فرأيت أن أكون في حزبه وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ رسوله"22.


33


هوامش

1- سورة الأنعام الآية 152.
2- أصول الكافي ج 2 ص 144.
3- سورة الأعراف الآية 85.
4- سورة البقرة الآية 178.
5- سورة الأنعام الآية 36.
6- سورة العنكبوت الآية 47.
7- سورة هود الآية 117.
8- مستدرك الوسائل ج 11 ص 310.
9- ميزان الحكمة ج 4 ص 3286.
10- نهج البلاغة, عهد الإمام عليّ عليه السلام لمالك الأشتر.
11- ميزان الحكمة ج 1 ص 350.
12- بحار الأنوار ج 75 ص 82.
13- عيون الحكم والمواعظ ص 44.
14- ميزان الحكمة ج 4 ص 3284.
15- روضة الواعظين ص 465.
16- ميزان الحكمة ج 3 ص 1843.
17- ميزان الحكمة ج 4 ص 3284.
18- ميزان الحكمة ج 4 ص 3284.
19- أصول الكافي ج 2 ص 144.
20- أصول الكافي ج 2 ص 144.
21- أصول الكافي ج 2 ص 170.
22- وقعة الطفّ ص‏194 و195.