الهدف:
بيان فضيلة التسامح وآثاره مع الإضاءة على بعض ما ورد منها
في سلوك أهل البيت عليهم
السلام.
تصدير الموضوع:
﴿وَالْكَاظِمِينَ
الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ﴾1.
مقدّمة: معنى التسامح:
إنَّ التسامح من الأخلاق التي ندب إليها الإسلام، وقد جاء
مدحها كثيراً في النصوص، وأكدت حسنها الكثير من مواقف
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة من آله ومن أبرز
تلك المواقف موقفه صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل مكّة
يوم الفتح حيث قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"2.
فالتسامح سجيّة وخلق تدفع الإنسان للتجاوز عن إساءات
الآخرين، والصفح عن أخطائهم، والإغضاء عنها، وعدم مقابلة
الإساءة بمثلها، بل باللين والعفو والتساهل وعدم التشدّد
والعنف.
فالتسامح هو شعور إيجابيّ، يفيض رحمة وعطفاً وحناناً...
وممّا جاء في مدح هذا الخُلُق قرآنيّاً قوله تعالى:
﴿وَجَزَاء
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾3.
وقال كذلك:
﴿وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ
اللَّهُ لَكُمْ﴾4
ولأنّ العفو والصفح من مصاديق التسامح فقد جاء في مدح هذه
الخلّة الإنسانيّة عن الإمام عليّ عليه السلام
قوله: "العفو تاج المكارم"5.
محاور
الموضوع
التسامح في القرآن الكريم:
قال تعالى:
﴿وَسَارِعُواْ
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *
الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾6.
هاتان الآيتان جاءتا بعد أن هدّدت الآيات السابقة، العُصاة
وتوعّدتهم بالعذاب والجحيم، وبشّرت الأبرار المطيعين
بالرحمة الإلهيّة، وشوَّقتهم إليها، جاءت مبتدئة لتحثّ على
المسارعة، أي المسابقة للوصول إلى جنّة عرضها السماوات
والأرض، فالآيات تحثّ على المنافسة في ما يوصل إليها وهو
تحصيل المغفرة من الله ثمّ الجنّة.
فكأن التصوير يأتي ليرسم مباراة يتنافس فيها المتنافسون
لنيل الجوائز الموصوفة آنفاً، وهي المغفرة والجنّة الواسعة
سعة السماوات والأرض.
والذين يفوزون بهذا السباق وهذه المباراة هم المتّقون. ثمّ
بيّنت الآيات التي تلت سيماء هؤلاء المتّقين، وهم الحائزون
خمس صفات أوّلها الإنفاق في السرّاء والضرّاء، ثمّ ذكرت
ثلاث
صفات أخرى هي:
1ـ والكاظمين الغيظ: أي الذين لديهم القدرة على
السيطرة على غضبهم مع كونهم ممتلئين بأسباب الغيظ والغضب.
إذ إنّ الكظم هو شدُّ رأس القربة عند ملئها لئلاَّ يتفلّت
منها ماؤها.
2ـ والعافين عن الناس: أي أنّهم يتحلّوْن بالقدرة
على الصفح عمّن ظلمهم، ويتجاوزون عن الإساءة عن من يستحقّ
العفو والصفح.
3ـ والله يحبّ المحسنين: أي أنّهم محسنون, لا
يكتفون بكظم غيظهم، والصفح والعفو عن المسيئ، بل يقابلون
الإساءة بالإحسان، فيحسنون إلى من ظلمهم.
مراحل الرقيّ الأخلاقيّ للتسامح:
بوقفة فيها مزيد تأمّل في هذه الآيات يمكن استنتاج التالي:
إنّ الآيات كأنّها تأتي لبيان سير تكامليّ لخُلُق التسامح
عند المتّقين, بالترقي التالي:
أوّلاً: إنّ كظم الغيظ هو إمساك الإنسان نفسه من
خلال جهادها ومغالبتها لئلّا يخرج منها ما يؤذي النفس
والغير. عندما تكون ممتلئة بما أوقدت تحته نار الغضب. فهو
حالة فيها جهاد
للنفس مع وجود أسباب ومبرّرات الغضب، فهو
حالة من كبح الغضب بسدّ منافذه وإحكامها.
ثانياً: إن كان كظم الغيظ أمرٌ حسن وحسنٌ جدّاً، إلّا
أنّه يبقى ناقصاً ويفترض أن يكون مرحلة لما بعده، فهو لا
يقتلع جذور العداء من قلب من يكظم غيظه، بل قد يؤدّي إلى
مراكمة أسبابه بإضافة تجرّع مرارته، والخطوة الأخرى
المفترضة بعد كظم الغيظ لا بدّ أن يكون "العفو والصفح"
لتنظيف القلب من الغيظ أوّلاً، والحقد ثانياً، والعداوة
ثالثاً, فالعفو والتسامح هو قمعٌ لروح الانتقام والتشفّي.
ثالثاً: للوصول إلى أعلى درجة من الرقيّ والنبل
الأخلاقيّ، وأعلى درجات سلّم التكامل المعنويّ لا بدَّ من
تجاوز مرحلتي كظم الغيظ، والعفو والصفح إلى خلق له خاصيّة
القضاء على
جذور العداء في فؤاد وقلب من أساء إليه، وهي مرحلة مقابلة
الإساءة بالإحسان.
استجلاباً لقلبه واستبدالاً للعداوة والبغضاء بالمحبّة
والإلفة والصداقة ألم يقل تعالى:
﴿ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾7.
فالإحسان عمليّة تطهير لقلب الخصم بعد إعطائه الأمان
بالعفو من أدران العداوة وكلّ ما ينمّيها ويكون مشكّلاً
لدوافع
الأذيّة والإساءة. وبالتالي فالإحسان هو عمليّة
علاج للقلوب وفتحها
على عالم من الصحّة والصلاح.
رابعاً: كاظم الغيظ يعالج نفسه وبالعفو والصفح أيضاً يعالج
نفسه مع الالتفات إلى الآخر، بإشعاره بالأمن وبالتالي فإنّ
همّته الإصلاحيّة تدور حول نفسه، وأمّا من يحسن إلى المسيئ
ويكسب ودّه وحبّه فمن جهة يمنع تكرار الإساءة إليه مستقبلاً،
ولكنّه أيضاً يتجاوز همَّ نفسه إلى حمل مسؤوليّة علاج
الآخرين واستنقاذهم من أمراضهم النفسيّة والقلبيّة
والسلوكيّة.
وهذا الفات إلى صفة من صفات المتّقين، وهي الوعي الأخلاقيّ
والاجتماعيّ.
من آثار التسامح
لقد جاء في كلام أهل البيت عليهم السلام وسلوكهم الكثير
ممّا يحثّ على العفو والتسامح. فمنها بيان آثار العفو في
الدنيا والآخرة نذكر منها:
1ـ طول العمر: فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من كثر
عفوه مدّ في عمره"8.
2ـ العزّة: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "العفو لا
يزيد العبد إلّا عزّاً فاعفوا يعزّكم الله"9.
3ـ الوقاية من سوء الأقدار: عنه صلى الله عليه وآله وسلم:
"تجاوزوا عن عثرات الخاطئين يقيكم الله بذلك سوء
الأقدار"10.
4ـ بقاء المُلك: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "عفو
الملوك بقاء الملك"11.
5ـ النّصر: عن الإمام الرضا عليه السلام: "ما التقت
فئتان قطّ إلّا نُصر أعظمهما عفواً"12.
6ـ النجاة من النّار: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تجاوزوا
عن ذنوب الناس يدفع الله عنكم بذلك عذاب النّار"13.
خاتمة: التسامح في سيرة أهل البيت عليهم السلام:
جاء عن الإمام الصادق عليه السلام
قوله: "إنّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا"14.
وهذه رواية جامعة لبيان مقام خُلُق العفو والتسامح عند أهل
البيت وللمتابع لسيرتهم عليهم السلام أن يجد ما هو أكثر من
ذلك، لا سيّما ما ورد حول قصّة الإمام السجّاد عليه
السلام مع
تلك الجارية التي شجّت رأسه، فقابل ذلك بالتدرّج معها وهي
تتدرّج بذكر الآيات فمنحها كظم الغيظ ثمّ عفا عنها ثمّ
أحسن إليها بإعتاقها.
|