المحاضرة
الثانية: لا تقاعد في الجهاد |
الهدف:
بيان أنّ التكليف بالجهاد لا يختصّ بسنّ دون سنّ وأنّ
العمل في سبيل الله لا تقاعد منه, والحثّ على العمل لله
والمشاركة الجهاديّة وعدم التعلّل بالأعذار.
تصدير الموضوع:
يقول تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ
كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾1
مقدّمة: مجاهدون متقاعدون:
في التاريخ الإسلاميّ والإنسانيّ نماذج مختلفة ممّن عملوا
في هذه الدنيا ومن المؤمنين وبالأخصّ من المجاهدين، وفي
واقعنا الذي نعيشه أمثلة ونماذج تشبهها, فنرى الكثير من
النّاس المؤمنين الذين يحملون هم الدّين وهموم الأمّة
والنّاس، قضوا أعمارهم في ميادين العمل ولم يتركوا ساحات
العمل والجهاد وقد بلغوا الغاية من العمر ومع ذلك لم
ينسحبوا من ساحات
العمل والجهاد, فيما نرى آخرين على العكس منهم كأنّهم لمّا
بلغوا مبلغ الشيوخ والكهول من العمر وامتلأت الرؤوس شيباً
ودبّ الوهن في المفاصل انسحبوا من ميادين الجهاد والعمل
في سبيل الله معتزلين المجتمع ومكتفين في أحسن أحوالهم
بارتياد المساجد والمشاركة في بعض المناسبات الاجتماعيّة
كالتعازي والوفيات. كأنّهم يقولون إنّنا قد أدّينا ما
علينا وآن لنا أن
نرتاح, ولعلّ الكثيرين منّا يظنّون أنّ هؤلاء قد بلغوا
العذر بذلك.
وهناك صنف في الجهة الأشدّ ظلمة وهم الذين يتنكّرون
لتاريخهم الجهاديّ والإيمانيّ، حتّى قبل زمان المشيب، حيث
إنّه عندما تتاح له فرصة الحصول على بعض الحظوظ من الدنيا
الفانية في مالها وجاهها وعزّها يستقيل وينكبّ على الدنيا
معتبراً أنّه قد قام بما عليه وأعطى الجهاد جزءاً من عمره،
وأعطى الدّين والعقيدة والأمّة ما تيسّر من همّته وحماسه
وحرقته على الدّين
وأهله وجاء الوقت الذي عليه أن يحصل فيه
نصيبه من الدنيا ولا يلتفت إلى غيرها. فهؤلاء ومن قبلهم
يعتبرون أنّهم قد بلغوا سنّ التقاعد في الجهاد والعمل
الإسلاميّ.
محاور
الموضوع
هل للمجاهد تقاعد:
سؤال لا بدّ من الإجابة عليه بداية بالقول: إنّه لا تقاعد
في الجهاد وفي العمل لله, كما لا تقاعد في كلّ واجبات
وتكاليف الإسلام، فما دامت شرائط التكليف موجودة ومحرزة
عند المسلم والمؤمن يبقى مكلّفاً ولا يسقط عنه التكليف,
ولا يخرج الإنسان عن ذلك إلّا بفقد هذه الشرائط وإلّا فإلى
الممات.
نعم هناك بعض الأعمال والتكاليف بطبيعتها لها مراتب ودرجات
قد يقدر المكلف بحسب قوّاه على بعض مراتبها دون البعض
الآخر. ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في
سبيل الله والعمل في الجوانب الاجتماعيّة وحتّى بعض
المستحبّات والواجبات, إذ أحياناً قد تختلف المسألة
باختلاف الكيفيّات فقد يقدر المكلّف على كيفيّة ما دون
كيفيّة أخرى
كالصلاة في بعض أوضاعها جلوساً أو غير ذلك.
وفي الجهاد والعمل لله مطلقاً وفي شتّى الميادين ومع توسّع
دوائر العمل ومناحي الحياة وتشعّبها لن ينعدم الإنسان الذي
يحمل بصدق هم دينه وأمّته أن يجد له موقعاً يناسب قدراته
وكفاءاته ليكون ذلك بمثابة سدّه لثغر من الثغور. فما لم
نكن قادرين بسبب الشيخوخة أو غيرها على مكابدة مشاقّ
الجهاد العسكريّ، فإنّ لنا مواقع في المواجهة الإعلاميّة
والثقافيّة، وفي
تعبئة الطاقات والدعم المعنويّ وتقوية الجبهة الداخليّة من
خلال المتاح من وسائل التواصل الواسعة الإنتشار وبناء على
القاعدة الشرعيّة: "لا يسقط الميسور بالمعسور".
فلا يسقط ميسور العمل والجهاد بمعسوره، وبالتالي فما دام
يمكن للإنسان أن يجد له موقعاً في المواجهة عليه أن لا
يحرم نفسه هذا الشرف بادّعاء الهرم أو العجز لأنّه كما قال
أمير المؤمنين عليه السلام: "العجز آفّة"2.
نعم العجز مرض نفسيّ قبل أن يكون حقيقة، وبمعنى آخر إنّ ما
هو أصعب من الإعاقة الجسديّة هو الإعاقة النفسيّة التي
تدفع الإنسان إلى التعلّل بأيّ الأسباب لتستقيل من
مسؤوليّاتها وتهرب من واجباتها وتحلّل من التزاماتها.
مجاهدون لم يتقاعدوا:
هناك نماذج تشدّ القلب والعين بالصورة الرائعة رسمتها
للأجيال في ميادين الجهاد والقتال، ونقول بحقّ إنّ صفحات
التاريخ قد تشرّفت بالتزيّن بسير هؤلاء الذين باعوا وجودهم
لله في الأماكن التي جعلها الله سوقاً يشتري بها نفوسهم
وأعاروا جماجمهم لله وكانت حياتهم حقّاً وصدقاً وعملاً
وقفاً على دين الله، ومن هذه النماذج:
1- نموذج عمّار بن ياسر:
هو صحابيّ من أوائل المسلمين إسلاماً وقد شهد لإيمانه
العميق رسول الله بأنّه قد ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه،
وعانى في سبيل الله وقدّم التضحيات الجسام، فقد عُذّب
وأبويه من المشركين المكيّين في مطلع الدعوة الإسلاميّة
حتّى شهد وأمام عينيه شهادة أمّه سميّة أوّل شهيدة في
الإسلام, وكذلك شهادة أبيه ياسر الذين بشّرهم رسول الله
بثمرة تحمّلهم ومعاناتهم قائلاً: "صبراً آل ياسر فإنّ
موعدكم الجنّة"3.
ومع كون عمّار تشمله البشارة هذه إلّا أنّه واصل حياته
جهاداً في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وبعده لم يتراجع بل واصل جهاده في أصعب المراحل وأشدّها
بلسانه وكذلك بيده.
وبعد أن بلغ من العمر ما تجاوز الثالثة والتسعين من
السنين، شدّ رحال الجهاد مع أمير المؤمنين قاطعاً الصحارى
والوديان والجبال ليلاقي الفئة الباغية في صفّين وليستشهد
مقاتلاً مع إمام الحقّ ولتكون شهادته بعد جهاده شاهداً
للحقّ وأهل تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: "يا عمّار, تقتلك الفئة الباغية"4.
2- نماذج كربلائيّة:
وفي كربلاء ثمّة مجموعة من النماذج التي لا تقلّ شأناً عن
عمّار من الذين استشهدوا بين يدي الإمام الحسين عليه
السلام ومنهم حبيب بن مظاهر الأسديّ، وعبد الله بن عبد
ربّه الأنصاريّ، ومسلم بن عوسجة الأسديّ... وغيرهم ومن
أبرز هؤلاء أنس بن الحارث الأسديّ الذي كان كعمّار من
البدريّين وقد عاش مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسمع
حديثه، وقد وصفت كتب المقاتل هيئته عند خروجه للحرب: وبرز
رافعاً حاجبيه بالعصابة، شادّاً وسطه بالعمامة، شاهراً
سيفه، وهو يندفع نحو القوم بكلّ صلابة وبصيرة وإيمان,
فلمّا رآه الحسين عليه السلام بكى وقال: "شكر الله لك
يا شيخ" وقاتل حتّى قتل ثمانية عشر رجلاً ثمّ قُتل5.
خاتمة: الدور لا عن العذر:
إنّ على المؤمن أن يكون في حالة حذر من وساوس الشيطان،
وتسويلات النفس الأمّارة الذين يعملان على تثبيطنا عن
الجهاد والعمل لله ويغريان فينا الرغبة في الراحة والدّعة
والسلامة.
فعلينا أن نكون على يقين بأنّ الإنسان في حالة جهاد وعمل
دائم طالما هو في الدنيا, والدنيا هي ظرف ومكان وزمان
العمل لا زمن الراحة والقعود,
﴿يَا
أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ
كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾6.
لكن لا بدّ من الالتفات إلى أمر مهمّ وهو أن لا تأخذنا
الحماسة لندفع بالعمل عشوائيّاً بل علينا أن نعمل إلى
المحافظة على كون أعمالنا وجهودنا تصبّ في الوجهة الصحيحة
والمكان الصحيح وهذا يعني أن نلجأ إلى الجهات الشرعيّة
المخوّلة بهذه الأعمال منعاً من ضياع الجهود والفوضى. لأنّ
العمل المنتج والمثمر هو العمل المنظّم في منظومة الولاية.
وأخيراً ليكن همّ أحدنا أن يبحث عن دوره وموقعه في ساحات
الجهاد والعمل لا أن يكون الهمّ هو البحث عن العذر
للانسحاب والانكفاء.
|
|
|
|