الهدف:
بيان أثر الشهادة في استنزال النصر، وفضل الشهداء في
استنزاله.
تصدير الموضوع:
﴿مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن
يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾1.
مقدّمة: النّصرُ من عند الله
بمقتضى الإيمان بأنّ الله تعالى هو المؤثّر الوحيد في عالم
الوجود، ولا يؤثّر شيء إلّا بإذنه وإرادته، سواء تعلّق
ذلك بالماديّات أو المعنويّات، والنصر في ميادين الجهادين
الأكبر كما الأصغر لا يتحقّق إلّا بإذنه تعالى وقد قرَّر
تعالى هذه القاعدة بقوله:
﴿وَمَا
النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾2.
فالنصر حصراً بيد الله تعالى عنده. وهذا لا يعني أنْ لا
عِبرة بالأسباب الظاهريّة، بل تعني أنّه تعالى هو مسببُ كلّ
سبب وهو مع كلّ سبب سبب.
ولذا أمرنا الله تعالى أن نأخذ بالأسباب المُفضية إلى
تحقيق النصر والغلبة من خلال إعداد ما أمكن إعداده من خطط
وتدّرب وتجهيز وتهيئة نفسيّة ومعنويّة، فقال عزَّ وجلَّ:
﴿وَأَعِدُّواْ
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾3.
فالتفريطَ بأسباب القوّة إهدار لفرصة النصر والغلبة والفتح،
فإنّ كان النصر من عند الله فعلينا أن نُوجِد الأسباب التي
تستنزله.
بين النصر
والهزيمة:
النصر نصران. وكلاهما من عند الله نصر بالأسباب وآخر إلهيّ
وهو الذي تحدّث عنه الله بقوله:
﴿وَكَانَ
حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾4.
وكلاهما من عند الله تعالى.
وبالمقابل فإنَّ الهزيمة التي يتعرّض لها المؤمنون أحياناً
ستكون مرحليّة جَرياً على السنّة الإلهيّة في التاريخ التي
قرّرها تعالى بقوله:
﴿وَتِلْكَ
الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾5.
تكون الحكمة الإلهيّة اقتَضَتها لالفات المؤمنين إلى أنّه
عليهم أن لا يظنّوا أنّ كونهم على الحقّ هو السبب التامّ
لغلبتهم، فقد يكون هناك خلل ما وهو خطيرٌ جدّاً، كمخالفة
القيادة كما حصل في أُحُد، أو لأجل التمحيص
﴿وَلِيُمَحِّصَ
اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾6.
أو أنّها استدراج الكافرين إلى الهزيمة النهائيّة
﴿وَيَمْحَقَ
الْكَافِرِينَ﴾
أو لإكساب المؤمنين صفاتٍ وأخلاقاً وكمالات، أو إظهارها
حيث لا يمكن ظهورها إلّا بالهزيمة المرحليّة ومكابدة
آلامها.
﴿أَمْ
حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ﴾7.
فنظام الامتحان والتمحيص قد يقتضي أحياناً جريان الأمور
على خلاف المأمول.
مواصفات النصر الإلهيّ:
وإذا أردنا أن نميّز بين النصر الإلهيّ وغيره، يمكن ذكر
بعض هذه المواصفات:
1- المنصور إلهيّاً لا يُغلب:
وهذا معناه أنّ الذي يكون مُحقِّقاً لأسباب النصر الإلهيّ،
يكون منتصراً دائماً في كلّ ميادين الجهاد والقتال وهذا ما
أرشدت إليه الآية التالية:
﴿إِن
يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾8.
2- النصر الإلهيّ مع التثبيت:
وهو ما نصّت عليه الآية الكريمة:
﴿إِن
تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾9.
فكم من منتصر في التاريخ حقّق الغلبة العسكريّة، لكن ما
لبث أن زال ملكه وسلطانه، حيث لم يتجاوز نصره الجنبة
العسكريّة، وقد آلت الأمور إلى عدوِّه الذي غلبه أو غيره.
فانهزمت مبادؤه وأخلاقه وثقافته، أمام ثقافة وأخلاق ومبادىء
غريمه. ويكفي شاهداً على ذلك ما حصل في كربلاء ونهضة
الإمام الحسين عليه السلام حيث كانت الغلبة عسكريّاً
للطاغية، وأمّا الذي خُلّدت مبادؤه، وانتصر فكره، وهيمنت
أخلاقه وشعاراته، فهو الحسين عليه السلام. فكم من نصر في
الظاهر كان هزيمة في الباطن، وكم من نصر آنيٍّ كان مقدّمةٍ
لهزيمة ماحقة.
3- المدد الغيبيّ:
وهو أهمّ ما يميّز النصر الإلهيّ، وهو قد يحصل بالأسباب
المنظورة كالتوفيق في الوسائل المُفضية إلى إيجاد القوّة
والقدرة القتاليّة المُوصلة إلى النصر، أو الظروف النفسيّة
والمعنويّة المساعدة على الانتصار لجهة المؤيّدين،
والهزيمة لجهة المخذولين، ووضع الخطط والتكتيكات القتاليّة
إضافة إلى إنزال الملائكة.
وقد ذكر القرآن الكريم مجموعة منها لأجل الأمن النفسيّ.
منها المطر لتثبيت الأقدام في المواجهة، ومنها تقليل أو
تكثير العدوّ في أعين المؤمنين، أو العكس. قال تعالى في
ذلك:
﴿فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾10.
﴿وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ
وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾11.
﴿إِذْ
يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ
فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ﴾12.
خاتمة: الشهادة تستنّزل النصر
إنّ أهمّ عنصر وصفة من صفات النّصر الإلهيّ، هو كونه
مؤيِّداً من الله بالمدد، والتوفيق الإلهيّين. في قبال
النصر الآخر الذي يصحّ لنا تسميته بالنصر المأذون، من الله.
وبالتالي فإنَّ لهذا التأييد والتوفيق والمدد، أموراً
تستدعيه، وتكون سبباً لاستنزاله، منها الإيمان، وكون
القضيّة التي يقاتل لأجلها مشروعة بحيث يصدق عليها عنوان
نصرة الله تعالى، ولتحقيق الشرط فلا بدَّ من خلفية
عقائديّة حقّة، وكون الأهداف إلهيّة، والوسائل مشروعة,
ولعلّ كلّ ذلك متضمّن في قوله تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾13.
وقد كشف أمير المؤمنين عليه السلام عن سرّ الأسرار وركن
الأركان في استنزال النصر الإلهيّ حيث جاء عنه عليه السلام
في نهج البلاغة: "... فلمّا
رأى الله صِدقنا أنزل بعدّونا الكبت، وأنزل علينا النّصر
حتّى استقرّ الإسلام مُلقياً جرانه، ومتبوِّئاً أوطانه"14.
فالصدق الذي يعني بالدرجة الأولى الثبات في ميادين
الجهاد،
وتحمّل مشاقّه وآلامه وتَبعاته ونتائجه ما يشهد بِصدق
الانتماء إلى هذا الدّين، فالاستعداد للتضحية والفداء هو
أبرز مظاهر الصدق العقائديّ والعاطفيّ. ولا تجد كبذل
النفوس واسترخاص الدماء أمراً يُنبئ عن هذا الصدق.
ولذا كانت الشهادة بهذا المعنى أهمّ مُثبّت للصدقيّة
والثبات، وأفضل وسيلة لاستنزال المدد الغيبيّ، والنصر
الإلهيّ من جهة الشهداء الذين أَقدموا على الموت راغبين
مشتاقين لم تُرهبهم بوارق السيوف، ومن جهة من يبقى بعدهم
ويتحمّل ألم فقدهم، ويرى تقطّع أوصالهم ومع ذلك يتّبع
خطاهم، ويَقفوا أثرهم، لينالَ مقامهم ومنزلتهم ويلحق بهم.
وقد يكون كلام الإمام عليّ عليه السلام ترجمة لقوله تعالى:
﴿مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن
يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾15.
ثمّ يقول بعدها:
﴿لِيَجْزِيَ
اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾...
والجزاء لهؤلاء الصادقين المقسومين إلى قسمين قسم مات أو
قُتل في سبيل الله على الصدق، وقسم حيّ باقٍ على الصدق لم
يبدّل جزاؤهم هو:
﴿وَرَدَّ
اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا
خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ
اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾16.
عن عليّ عليه السلام: "فينا نزلت
﴿رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾
فأنا - والله - المنتظر وما بدّلت تبديلاً، ومنّا رجالٌ قد
استُشهدوا من قبل كحمزة سيّد الشهداء"17.
ولنا أن نأمل ونستبشر تطبيقاً لأمره تعالى
﴿فَاسْتَبْشِرُواْ
بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ﴾18
ونستبشر مع الشهداء القادة السيّد عبّاس والشيخ راغب
والحاجّ عماد وكذلك شهداء الدفاع المقدّس (رضوان الله
عليهم) الذين يستبشرون لمن خلفهم فيَروْن
﴿لاَ
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
لنا أن نستبشر بنصرٍ حاسم وحتميّ، ولذا كانت شهادة القادة
بشرى النصر.
|