الهدف:
بيان معنى التواضع وبركاته وآثاره وأفضل أنواعه والحثّ على
تحصيله.
تصدير الموضوع:
عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام: "التواضع نعمة
لا يُحسد عليها"1.
مقدّمة: معنى التواضع:
إنَّ التواضع هو صفة ضدّ الكِبر هذه الصفة الممقوتة
المحقورة، وحقيقة معناه "هو انكسارٌ للنفس يمنعها من أن
يُرى لذاّتها مزيّة على الغير، وتلزمه أفعال وأقوال موجبة
لاستعظام الغير وإكرامه، والمواظبة عليها أقوى معالجة
لإزالة الكبر"2.
فهو صفة نفسانيّة نابعة من معرفة الإنسان لنفسه من ضعفها،
إلى فقرها، إلى عجزها وذُلِّها أمام عظمة الله، ومقارنة
بالأولياء والصفوة من العباد، وكذلك أمام سعة الكون وعظمته
فأين الإنسان من الأرض التي عليها، وأين الأرض من المجرّة،
وأين المجرّة من الكون في سعته وعظمته وعجائب خلقته. قد
جاء عن الإمام عليّ عليه السلام: "حسب المرء... من
تواضعه معرفته بقدره"3.
محاور
الموضوع
التواضع في القرآن:
إنّ أحد أهمّ الصفات الأخلاقيّة التي يأمر تعالى نبيَّه
صلى الله عليه وآله وسلم أن يتحلّى بها هي التواضع، فمرّة
يقول له:
﴿وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾4 وأخرى ينهاه عن التلبّس
بما هو من آثار ضدّ التواضع و
﴿وَلاَ
تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ
وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾5.
وكذلك ما ورد في سورة لقمان من وصاياه لولده.
ومن أبدع ما ورد في القرآن حول التواضع ما ذكره تعالى من
صفات عبادٍ خاصّين نسبهم إلى اسمٍ من أسماء الجمال فكانوا
بتسمية القرآن عباد الرحمن، حيث وصفهم قائلاً:
﴿وَعِبَادُ
الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾6.
ففي سورة الفرقان ذكر الله تعالى اثنتي عشرة صفة من صفات
عباد الرحمن بعضها يتعلّق بالجانب العقائديّ، وبعضها
أخلاقيّ، ومنها ما هو اجتماعيّ، ومنها ما يتعلّق بالفرد،
ومنها ما يتعلّق بالجماعة7، لكن المُلفت أنّ أوّل صفة
ذكرها هي التواضع ونفي الكبر والغرور والتعالي، وحيث إنّ
الملكات الأخلاقيّة تظهر على صفحة النفس من خلال الأفعال
والأقوال فإنَّ من أبرز مظاهر الكِبرْ هو المشي بتبختر
وخيلاء، وكذلك من
أبرز مظاهر التواضع هو المشي الذي عبّر
عنه
﴿يَمْشُونَ
عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ بمعنى المشي الهادئ الناعم، فهؤلاء
المؤمنون العلامة الأولى لعبوديّتهم للرحمن هو التواضع
المملوءة به نفوسهم حتّى انعكس على ظواهرهم من خلال طريقة
مشيهم. وممّا لا شكّ فيه أنّه ليس المقصود بالكلام الوارد
في الآية هو طريقة المشي فليست مقصودة بذاتها، بل هي باب
ووسيلة لمعرفة المضمون النفسيّ للإنسان والحالة الخُلُقية
من جهة، والحالة الروحيّة من جهة أخرى، فكأنَّ الآية جاءت
لتقول إنّ عباد الرحمن أناس نفذ التواضع والخشوع إلى
أرواحهم وقلوبهم فانعكس على طريقة مشيهم.
حدود التواضع:
إنَّ للتواضع علاماتٍ وحدوداً فالتواضع حقيقة هو صفة بين
صفتين، وهو حالة وسط بين حالين، الأولى هي الكبر، والثانية
هي الذلّ، فكما أنّ الكبر هو حالة إفراط وهو مرفوض وممقوت،
وكذلك التفريط الذي هو الذلّ ممقوت ومرفوض، بل لم يأذن
المولى للمؤمن أن يذلّ نفسه، فالمطلوب هو العدل، وهو
المنزلة الوسط بين المنزلتين وهو التواضع أي أن
يعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه.
فقد نهت الروايات عن التواضع لمجموعة من الناس منهم.
1ـ الغني: عن الإمام عليّ عليه السلام: "من أتى غنيّاً
فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه"8.
2ـ الحكّام والمخالفون في الدّين: عن الإمام الصادق عليه
السلام: "أيّما مؤمن خضع لصاحب سلطان أو من يخالفه على
دينه طلباً لما في يديه، أخمله الله ومَقَته عليه ووَكَله
إليه، فإن هو غلب على شيء من دنياه وصار في يده منه شيء
نزع الله البركة منه، ولم يؤجره على شيء ينفقه في حجّ ولا
عمرة ولا عتق"9.
3ـ المتكبّر: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا
رأيتم المتواضعين من أمّتي فتواضعوا لهم، وإذا رأيتم
المتكبّرين فتكبّروا عليهم، فإنَّ ذلك لهم مذلّة وصَغَار"10.
وللتواضع حدودٌ في الكيفيّة وهي:
1ـ عدم الإفراط: بمعنى عدم المبالغة فيه وفي المظاهر، بحيث
يصل إلى درجة إهانة النفس وإذلالها. وقد الفتت إليها
الرواية التالية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"طوبى لمن تواضع لله تعالى في غير منقصه، وأذلّ نفسَه في
غير مسكنة"11.
2ـ عامِل كما تُحب أن تُعامل: عن الإمام عليّ بن موسى
الرضا عليه السلام لمّا سُئل عن
حدِّ التواضع قال: "أن تُعطي الناس من نفسك ما تحبّ أن
يعطوك مثله"12.
نتائج التواضع وآثاره:
إنَّ للتواضع آثاراً ونتائج كثيرة على المستويات كافّة،
الفرديّة والاجتماعيّة على مستوى الأبعاد النفسيّة وكذلك
في دَاريْ الدنيا والآخرة، وقد ذكرت الروايات ذلك فمنها:
1ـ محبّة النّاس: عن الإمام عليّ عليه السلام: "ثمرة
التواضع المحبّة، ثمرة الكِبرْ المسبّة"13.
2ـ منع العدوان: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"تواضعوا حتّى لا يبغى أحدٌ على أحد"14.
3ـ الذكر الحسن والسُّمعة الحسنة: عن الإمام عليّ عليه
السلام: "التواضع ينشر الفضيلة، التكبّر يُظهر الرذيلة"15.
4ـ المهابة: عن الإمام عليّ عليه السلام: "التواضع
يكسوك المهابة"16.
5ـ تيسير الأمور: عنه عليه السلام: "بخفض الجَناح تنتظم
الأمور"17.
6ـ التحصّن من إبليس: عنه عليه السلام: "اتَخِذوا
التواضع مسلحة بينكم وبين عدوّكم إبليس وجنوده، فإنّ له من
كلّ أمّة جنوداً وأعواناً"18.
7ـ النشاط في العبادة: عن الإمام عليّ عليه السلام: "من
تواضع قلبه لله، لم يسأم بدنه من طاعة الله"19.
8ـ الحكمة: عن الإمام الكاظم عليه السلام: "إنَّ الزرع
ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تَعمر في
قلب المتواضع ولا تَعمر في قلب المتكبّر الجبّار، لأنّ
الله جعل
التواضع آلة العقل، وجعل التكبّر من آلة الجهل"20.
9ـ علوِّ المقام والدرجة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: "إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة"21.
أفضل التواضع:
من خلال ما سبق يتبيّن أنّ التواضع أشبه بمزرعة تَنبت بها
مكرُمات النفوس، وباب إلى سموِّ مقاماتها، فهي أرض يُستنبت
فيها الخضوع والخشية والحياء، وقد ذكر صاحب جامع السعادات:
أنّ هذه الخِلال لا تأتي إلّا من التواضع، بل إنَّ تمام
النعمة هي بالتحلّي إضافة إلى كلّ المزايا بإضافة التواضع
إليها, وقد قال الإمام عليّ عليه السلامعن ذلك: "بالتواضع
تتمّ النّعمة"22.
والتواضع شرط في قبول العبادة فقد رُوي أنّ الله أوحى إلى
موسى عليه السلام: "إنّما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي
ولم يتعاظم على خلقي..."23.
وهو إصطفاءٌ من الله إلى من يحبّه فعن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: "أربع لا يُعطيهن الله إلّا من يُحبُه،
الصمت... والتواضع"24.
خاتمة: التشيّع تواضع:
تَواضَعْ تكَنْ من شيعة عليّ عليه السلام:
عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام
أنّه قال:
"ورد على أمير المؤمنين عليه السلام
أخوان له مؤمنان: أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما
وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين يديهما، ثمّ أمر بطعام
فأُحضر فأكلا معه، ثمّ جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل
لييبّس وجاء ليصبَّ على يد الرجل، فوثب أمير المؤمنين عليه
السلام وأخذ الإبريق ليصبَّ على
يد الرجل، فتمرّغ الرجل في التراب وقال: يا أمير المؤمنين!
الله يراني وأنت تصبّ على يدي؟ قال عليه السلام: "اقعد
واغسل, فإنّ الله عزَّ وجلَّ
يراك وأخوك الذي لا يتميّز
منك، ولا يتفضلّ عليك يخدمك، يريد بذلك في خدمته في الجنّة
مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب ذلك في مماليكه
فيها". فقعد الرجل فقال له عليّ عليه السلام: أقسمت
عليك بعظم حقيّ الذي عرفته، وبجلّته وتواضعك لله، حتّى
جازاك عنه بأن ندبني لما شرّفك به من خدمتي لك، لَمَا غسلت
مُطمئناً كما كنت تَغسل لو كان الصابّ عليك قنبر، ففعل
الرجل ذلك، فلمّا فرغ ناول الإبريق محمّد بن الحنفيّة وقال:
يا بنيّ, لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده،
ولكنّ الله عزَّ وجلَّ يأبى أن يُسوّي بين ابن وأبيه إذا
جمعهما مكان، لكن قد صبّ الأبُ على الأبِ فليصبَّ الابن
على الابن، فصبّ محمّد بن الحنفيّة على الابن". ثمّ قال
الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام: "فمن اتبع عليّاً
عليه السلام على ذلك فهو الشيعيّ حقّاً"25.