الهدف:
بيان معنى الاختلاط السلبيّ والحثّ على تجنبه والتحذير من
الاختلاط المقنّع.
تصدير الموضوع:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا يخلو بامرأة رجل، فما
من رجل خلا بامرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما"1.
مقدّمة: الاختلاط معناه وفلسفة التحريم.
من أعظم ابتلاءات الإنسان ذكراً كان أو أنثى مسألة
الاختلاط بين الجنسين خصوصاً في هذا الزمن الذي راجت فيه
المجالس التي يدخل فيها الرجال على النساء والنساء على
الرجال دون وجود ضرورة تقتضي ذلك، بل وصل الأمر في هذا
الزمن إلى درجة أن يصبح الاختلاط والتعاطي المباشر بين
الجنسين هو الأصل والقاعدة، وأمّا التفريق في المجالس فهو
الاستثناء, وربّما وصم بالتحجّر والرجعيّة والتزمّت وما
إلى ذلك من أوصاف، وعليه لا بدّ من بيان أنّ الاختلاط هو
نفس اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد سواء كان هذا
المكان بيتاً أو طريقاً أو محلّاً تجاريّاً أو حتّى لو كان
سوقاً.
فالمعنى اللغويّ يشمل حتّى الاختلاط في أماكن العبادة
ومواسمها كالحجّ والزيارة وغيرهما.
ونفس كون ذلك من مصاديق الاختلاط لا يعني القول بحرمته،
وإذا أردنا البحث في سرّ تحريم الاختلاط سنجد أنّ ذلك يرجع
إلى ما في نفوسنا نحن البشر من ميل نحو الشهوات وضعف أمام
المغريات، حيث علّل تعالى أمره لنساء النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم بعدم الخضوع بالقول إلى
﴿فَيَطْمَعَ
الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾2.
فنحن لا نعرف أنفسنا بالقدر الكافي فضلاً عن معرفة ما تكنّ
النفوس الأخرى, وعلينا أن لا نُدخِل هذه النفوس في
اختبارات وامتحانات لا ندري ما ستكون نتائجها, فالاختلاط
قد يشكّل أرضيّة شديدة الخصوبة لبذر الشهوات واستنبات
الانحرافات الأخلاقيّة والسلوكيّة وحتّى النفسيّة، بما قد
يشكّل نحواً من الاستدراج فالانزلاق في مهاوي الانحراف بعد
أن تكون مراودة مجالس الاختلاط قد ضربت كلّ الكوابح التي
تضبط النفس وشهواتها. فالتحريم للاختلاط في أحد وجوهه
إجراء وقائيّ لحماية الفرد والمجتمع.
محاور
الموضوع
الاختلاط المحرّم:
من أبرز مصاديق الاختلاط المحرّم هو الاختلاط الذي لا ينفكّ
عن لزوم الوقوع في الحرام، أو ما يصل إلى أن يصير خلوة بين
الرجل والمرأة الأجنبيّين بحيث لا يتمكّن الغير من الدخول
عليهما, فمع الخوف من الوقوع في الحرام يجب أن يتركا
المكان، ولا يشترط في الحرام الوقوع في الفاحشة لا سمح
الله بل يكفي لتحريمه وقوع النظر المحرّم وفي الرواية عن
الإمام عليّ عليه السلام: "لا
يخلو بامرأة رجل، فما من رجل خلا بامرأة إلّا كان الشيطان
ثالثهما"3.
حدود الاختلاط وآدابه:
ممّا سبق تبيّن أنّ الاختلاط بنفسه ليس محرّماً بل حرمته
ناجمة عمّا يرافقه ويلزم عنه, ولذا نرى أن الأحكام والآداب
المتعلّقة به تشكّل ضوابط لضمان سلامته وعدم الانزلاق إلى
تلك الآثار المحرّمة، وقبل الدخول في ذكر حدود الاختلاط لا
بدّ من الإشارة إلى أنّه حتّى لو كنّا مضطّرين إليه
لضرورات عمليّة أو علميّة أو اجتماعيّة أو عباديّة أو غير
ذلك علينا أن نحاول قدر الإمكان الاقتصار فيه على أقلّ
القليل منه سواء من حيث الكمّ أو الكيف المشروعين ومن هذه
الحدود والآداب:
1- عدم إطلاق العنان للنظر:
فقد أمرنا الله تعالى بغضّ النظر حيث قال:
﴿قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل
لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾4,
ومعنى الغضّ في اللغة الخفض والنقصان بمعنى أن لا يطلق
الإنسان العنان للنظر بالتحديق والتركيز والتمعّن، ولا بدّ
من الالتفات أنّ الأمر بغضّ البصر ليس فقط للرجال وإنّما
أيضاً للنساء.
2- عدم إظهار الزينة وتزيين الظاهر:
ومن ذلك عدم التبرّج والتزيّن لما هو مكشوف من الجسد وكذلك
عدم إظهار ما خفي من الزينة كما هو الحال في الخلخال, فقد
نهى الله عن أن تضرب المرأة برجلها الأرض ليعلم ما خفي من
زينتها حتّى وإن لم يُر. والزينة قد تكون للعين كما هو
المعروف بالتبرّج وقد يكون للسمع كرنين الخلخال، وقد يكون
للأنف وحاسّة الشمّ كما في مسألة العطور والطيب, ففي
الأوّل روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "...
ونهى أن تتزيّن لغير زوجها فإن فعلت كان حقّاً على الله أن
يحرقها بالنّار"5.
وعن الطيب عن جابر بن يزيد قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن
عليّ الباقر عليهما السلام يقول:
"ولا يجوز لها أن تتطيّب إذا خرجت من بيتها"6.
3- الميوعة في الكلام:
وهو المعبّر عنه في لسان القرآن بالخضوع بالقول حيث قال
تعالى:
﴿يَا
نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ
اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ
الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾7.
والخضوع بالقول قد يكون في الصوت وقد يكون في المضمون وإن
لم يكن فيه ليونة وميوعة في ظاهرة. فعلى المؤمنات أن يكون
حديثهنّ بشكل متّزن لا يتسبّب بافتتان المستمع، وكذلك
عليهنّ أن لا يدخلن في أحاديث مع الأجنبيّ من الرجال بأمور
حسّاسة تثير ذوي النفوس المريضة. ومن ذلك ما نسمع عنه وما
نراه من الأحاديث والنكات الإباحيّة والمزاح الخارج عن
حدود الذوق والأدب والخادش للعفّة، حيث إنّ بعض النساء قد
يسمحن لأنفسهنّ بالدخول في هكذا أجواء لتظهر للآخرين أنّها
"مهضومة" وخفيفة الظلّ، وربّما متحرّرة وغير
تقليديّة بينما في الواقع فإنّ هذا يضرّ بصورتها أمام
النّاس ليظهرها غير رصينة وغير محترمة وقد يغري ذوي النفوس
المريضة بالتجرّؤ على ما هو أبعد وأعظم وأخطر.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من فاكه امرأة
حبسه الله بكلّ كلمة في الدنيا ألف عام"8.
4- عدم اللمس والمصافحة:
وهذان الأمران محرّمان بشكل أكيد فقد ورد في حرمة ذلك على
الرجال قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من
صافح امرأة حراماً جاء يوم القيامة مغلولاً ثمّ يؤمر به
إلى النّار"9،
ومن حرمته على
النساء جاء عن الإمام الباقر عليه السلام: "ولا
يجوز للمرأة أن تصافح غير ذي محرم إلّا من وراء ثوبها"10.
5- تنظيم وضبط المجالس:
ونقصد فيه هو أن لا نقيم مجالس في بيوتنا وأنديتنا في
مناسباتنا وأفراحنا وأتراحنا ومنها الولائم والسهرات
البيتيّة، بحيث يجلس الرجال والنساء والذكور والإناث
بطريقة مختلطة بل لا بدّ من الفصل، ومع الضرورة علينا أن
ننظّم طريقة الجلوس بحيث تضمن الحفاظ على الاحتشام والعفاف
بحيث لا يلزم منها النظر المحرّم أو إتاحة إطلاق العنان
للنظر المتبادل وغير ذلك.
6- رعاية الحجاب التامّ:
وقد ذكر تعالى ذلك بقوله:
﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾,
في إشارة واضحة إلى رعاية كون الحجاب يراعي ستر ما حرم
كشفه، وفي هذا الزمن ثمّة ألبسة يُدّعى بأنّها حجاب ويا
للأسف ليست من الحجاب في شيء، ولو كانت ساترة للبشرة إلّا
أنّها تحكي ما سترته ليتحوّل ما سمّوه حجاباً ليستر الجسد
وزينته إلى زينة بنفسه من حيث الشكل واللون.
خاتمة: الاختلاط المقنّع:
في عصرنا ابتلينا بابتلاء جديد هو وسائل الاتصال الحديثة
التي يسم!ون بعض خدماتها بمواقع التواصل الاجتماعيّ ونحن
لا ننكر بعض الجوانب الإيجابيّة لها، إلّا أنّ بعضنا
يستخدمها بصورة سلبيّة، وفيما نحن فيه، فإنّ بعض
الاستخدامات لهذه الوسائل والوسائط يوقعنا في سلبيّات
الاختلاط أو قلّ في الاختلاط السلبيّ، ليغدو ذلك بحقّ
اختلاطاً مقنّعاً يستطيع البعض أن يقنعه الشيطان أو نفسه
الأمّارة أنّه ليس اختلاطاً، ولكن بحقّ
﴿بَلِ
الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى
مَعَاذِيرَهُ ﴾11.
إنّ التواصل بين رجل وامرأة أجنبيّين والكلام عن أمور
حسّاسة تثير الشهوات وتخرب البيوت وتخدش الحياء, وكذلك
تبادل النكات ذات الطابع المبتذل والإباحيّ, والحديث
بالخصوصيّات الجنسيّة لكلّ منهما أليس نفس ما نظرت إليه
عين الشرع المقدّس عندما حرّمت الاختلاط, فلنتقي الله
ولنذكّر أنفسنا دائماً بالرقابة الإلهيّة ولنسأل أنفسنا هل
نستطيع أن نبرّر لله أوّلاً هذه التصرّفات لننجو من
المسائلة والمعاتبة وربّما المعاقبة.
وأختم بهذه الرواية قال أبو بصير: كنت أقرئ امرأة كنت
أعلّمها القرآن فمازحتها بشيء، فقدمت على أبي جعفر عليه
السلام فقال لي: "أي شيء قلت
للمرأة؟" فغطيّت وجهي فقال عليه السلام: "لا تعودنّ
إليها"12.