الهدف:
التنبيه على مرض النفاق الاجتماعيّ، وآثاره والتحذير منه،
وضرورة علاجه.
تصدير الموضوع:
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "للمنافق
ثلاث علامات يخالف لسانه قلبه، وقلبه فعله، وعلانيته
سريرته"1.
مقدّمة: معنى
النفاق:
النفاق في اللغة مشتقّ من النفق، وهو الطريق النافذ في
الأرض والمحفور في الأرض للاستتار أو للهرب. وله مفهومان.
خاصّ وعامّ, فأمّا المفهوم الخاصّ: فهو صفة لأولئك الذين
يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر, وبشكل أخصّ هم فئة ظهروا
في زمن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وفي المدينة
المنوّرة بالذّات، وقد تحدّث الله عنهم في كتابه وأشار إلى
عظيم خَطَرهم، وأمر بمواجهتهم وقتالهم، فهؤلاء كانوا جماعة
في أصلها معادية للإسلام وللنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
وكان الواقع السائد قبل الإسلام وقبل الهجرة يلائم مصالحهم،
وكانوا في حقيقة أمرهم عندما كان عود الإسلام طريّاً من
المعادين والمحاربين تارة بالقوّة المسلّحة، وأخرى بالقوّة
الاقتصاديّة، وأخرى بالسخرية والاستهزاء، وربّما بالتضليل
الاجتماعيّ، ولكن عندما بدأت تلوح علائم انتصار الإسلام
وهيمنته وقوّته، أظهروا الاستسلام ظاهريّاً وتحوّلوا
باطنيّاً وسرّياً إلى معارضة سرّية تعمل من داخل مجتمع
المسلمين إلى إسقاط الإسلام، ومجتمع المسلمين، وتعمل على
ترصّد حركة المسلمين ومدّ الأعداء بها، فالمنافق يظهر شيئاً
ويضمر ضدّه، ولذا فالمنافقون أخطر الأعداء، بل هم العدوّ
الحقيقيّ كما عبَّر القرآن الكريم
﴿هُمُ
الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾2 وللنفاق مفهوم آخر عامّ
يشمل كلّ حالة لها هذه الميّزات،
وقد جاء هذا التعميم لمفهوم النفاق على لسان النبيّ الأعظم
صلى الله عليه وآله وسلم حيث ورد عنه قوله: "من خالفت
سريرته علانيته، فهو منافق كائناً من كان"3.
محاور الموضوع
النفاق الاجتماعيّ:
ومن مصاديق النفاق ما يصحّ أن نسمّيه النفاق الاجتماعيّ
فعن الإمام عليّ عليه السلام: "ما أقبح بالإنسان أن
يكون ذا وجهين"4.
فالمقصود من النفاق الاجتماعيّ هو النفاق في العلاقات بين
أبناء المجتمع، حيث يمكن تقسيمه إلى نوعين:
1ـ النفاق العمليّ: وهو المُعبّر عنه بذي الوجهين،
حيث يقابل الآخرين بطلاقة وجه وبشاشة تُظهر سروره بهم،
وإذا راحوا عن مجلسه أو مكان لقائه وأَمِنَ منهم، عَبَس
واكفهرَّ، وربّما عضَّ على الشفاه أو الأنامل غيظاً
وحَنَقاً، عن الإمام الباقر
عليه السلام: "بئس العبد همزة لمزة يقبل بوجه ويدبر
بآخر"5.
2ـ النفاق القوليّ: وهو المعبّر عنه في الروايات بذي
اللسانين وهو الذي يقول في محضر الشخص الكلام الجميل ويطري
ويتأهّل به، فإذا صار خلواً منه أطلق لسانه ذئباً يرعى في
لحم أخيه، ينهشه غيبة وبهتاناً وربّما شتمه وذمّه، وهتك
ستره، ونمَّ عليه ليوغر صدور الآخرين عليه.
وعن ذلك قال الإمام الباقر عليه السلام: "بئس العبد عبد
يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً، ويأكله غائباً،
إن أُعطي حَسَده، وإن ابتُلي خذله"6.
وإذا رجعنا إلى واقعنا الحالي نجد كثيراً من مصاديق أهل
النفاق الاجتماعيّ الذين يُظهرون المحبّة، ويُبطنون،
البغضاء، ويَلبسون ثوب الناصح، ويضمرون الغشّ، والخديعة
والخيانة.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "ثلاثة
لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ
أليم:... ورجل استقبلك بودّ صدره فيواري وقلبه ممتلئ غشّاً"7.
النفاق حالة مرضيّة
من جملة ما وصف به الله تعالى المنافقين قوله عن صفتهم:
﴿فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً﴾8.
فهذه الآية اعتبرت أنّ النفاق نوع من المرض، لأنَّ حقيقته
هو ازدواجيّة الشخصيّة، فالإنسان السالم له وجهٌ واحد، وفي
ذاته انسجام تامّ بين الباطن والظاهر، وبين الروح والجسد،
لأنَّ كلاًّ منها يُكمل أحدها الآخر، وأمّا النفاق فهو
حالة من التضادّ بين المحتوى الداخليّ، والمظهر والسلوك
الخارجيّ، ولذا فهذا المرض الخطير له ظواهر يفرزها من
الأعمال، والأقوال، والسلوك الفرديّ والاجتماعيّ.
فمن أعراض هذه الآفة:
1ـ التلوّن والتذبذب، وعدم الثبات، فهو مع كلّ شخص بصورةٍ
ولونٍ يناسبه.
2ـ المكر والخِداع، والخيانة، والتملّق.
3ـ التعالي والتكبّر على الناس واستحقار الناس باعتبارهم
بُلهاء وسُفهاء.
4ـ الأنانيّة وعبادة الذات، فلا يخطر ببالهم إلّا مصالحهم.
5ـ الاغتياب والنميمة، والحسد والخذلان لأصدقائه، إذ كلّ
ما يقدّمه للآخرين لا يتجاوز لسانه إلى جيبه فضلاً عن نفسه.
6ـ الانتهازية وتحيّن الفرص.
عاقبة النفاق الاجتماعيّ
إنّ مرض النفاق بشكل عامّ، والنفاق الاجتماعيّ بشكل
خاصّ
خطير جدّاً بآثاره ونتائجه في الدنيا والآخرة.
فلو تمادَى الإنسان المنافق في غيِّه وضلاله، سوف يصل إلى
حدّ فقدانه القدرة على تشخيص واقعه. أمِنَ الصالحين هو أم
من الفاسدين المُفسدين، ذلك لانقلاب الموازين عنده وهيمنة
المرض عليه، إذ تتراءى للمنافق أعماله الافساديّة أعمالاً
إصلاحيّة، وهو على صواب والآخرون على خطأ، والحكمة والحنكة
هي فيما يقول ويفعل، والآخرون أهل سفاهة وبلاهة، وبالتالي
فهو في عمق مشكلته يلجأ نتيجة إصابته بهذا المرض إلى خداع
نفسه، ويعمد ليتخلّص من وخز الضمير وتأنيبه، إلى خِداع
نفسه وضميره ووجدانه، وشيئاً فشيئاً بالتدريج يصبح المنافق
مقتنعاً بأنّ ما يقوم به ليس انحرافاً ولا عملاً سيّئاً،
بل على عكس ذلك من الصفات، وهذا سيؤدّي أخيراً إلى شلّ
الضمير وإسكات صوته, وهنا غاية السوء حيث يُصبح النفاق
حقيقةً النفس وواقعها وصورتها الباطنيّة.
ومن كان واقعه في الدنيا هكذا كيف ستكون صورته وواقعه في
الآخرة؟
أمّا صاحب النفاق العمليّ فقد رُوي عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: "ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم
القيامة وله وجهان من نار"9.
وصاحب النفاق القوليّ يقول عنه صلى الله عليه وآله وسلم:
"من كان ذا لسانين، جعل الله له لسانين من نار"10.
فالمنافق في الدنيا إذا عرفه الناس يَسقط من أعينهم، ويفقد
كرامته، ويطردونه من مجالسهم، وفي الآخرة يحشر مشوّه
الخِلقة بلسانين من نار، ويُعذّب مع المنافقين والشياطين.
خاتمة: لا بدَّ من العلاج:
لأنَّ مكائد النفس والشيطان خفيّة، ولأنّ الأمراض تتسللّ
إليها خلسة، وفي غفلة منّا، فلربّما يُصبح الإنسان أحياناً
كما يقول الإمام الخمينيّ قدس سره "بإشارة من إشاراته،
أو بغمز وتعريض يَصدر منه في غير موضعه من ذوي الوجهين،
وقد يكون الإنسان مُبتلى بهذه الرذيلة حتّى نهاية عمره وهو
يتصوّر نفسه سليمة طاهرة"11.
ولذا فإنَّ العلاج كما يصفه قدس سره هو:
1ـ علميّاً: التفكّر في مفاسد هذه المُوبقة وآثارها،
ونتائجها الدنيويّة والأخرويّة.
2ـ عمليّاً: لا بدَّ من مراقبة الإنسان لحركاته وسكناته،
وأن يجعل أعماله وأقواله منسجمة ومتوافقة، ويعمل على
المُطابقة بين
القلب واللسان والوجه، ويبتعد عن كلّ مظاهر
الخداع. وإذا مَالت نفسُه إلى شيءٍ من ذلك، فليُخالف
رغباتها ويعمل بعكسها، وعلينا مع كلّ ذلك أن لا ننسى أنّ
التوفيق والنجاح دائماً بيد الله تعالى ولذا فلا بدَّ من
الطلب من الله عبر الدعاء أن يوفّقنا في معالجة أنفسنا،
موقنين بأنّه تعالى برحمته اللامتناهيّة يمدُّ لنا يدَ
العون لإنقاذنا ومعاونتنا في خطواتنا العلاجيّة.
|