الهدف:
بيان أهمّيّة امتلاك المجاهد للوعي والبصيرة.
تصدير الموضوع:
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله كتبَ القتل على قومٍ والموت على
آخرين... فطوبَى للمجاهدين في سبيلِه والمقتولين في طاعتِه"1.
مقدّمة:
أهمّيّة الوعي والبصيرة: من وجهة نظر الإسلام يجب على المجاهد المسلم إضافةً إلى
التأهيل والخبرة العسكريّة والصفات المعنويّة والأخلاقيّة اللازمة، أن يتمتّع
ببصيرة صائبة تمكّنه من اتخاذ القرارات الصائبة، والتعامل مع أمور الجهاد والحياة
بحكمة ورويّة. عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في خطبة يبيّن فيها حال المجاهدين
الأوائل زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حملوا بصائرهم على أسيافهم
ودانوا لربّهم بأمر واعظهم"2.
وفيما يلي أهمّ مظاهر البصيرة والوعي المطلوبة عند المجاهدين:
الإيمان بالله تعالى سرّ القوّة والثبات
إنّ المجاهدَ الذي ينظر إلى هذا العالم بعين مخلوقٍ يعترف ويُقرّ بوجود الخالقٍ، لا
يربط ظهور العالم بلطفه وفيضه فحسب، بل يعتبر أنّ ديمومة الوجود والحياة مرتبطة به
تعالى في امتداد الزمن لحظة بلحظة أيضاً، لأنّه الخالق ولا يوجد منبع للقدرة
والكمال في العالم سواه، ولا معتمَد غيرُهُ، وهو الذي وصفَ نفسه بأنّه ناصرُ
المؤمنين والمجاهدين في سبيله، وفي آنٍ هو عدوُّ الظالمين ...إلخ.
وبناءً على هذه العقيدة لا يسعى هذا المجاهد وراء الأهداف الماديّة
الرخيصة، ولا
يحول شيء من مغريات الدنيا دون عشق الوصال إلى المحبوب، وتكون تطلّعاته دوماً
منحصرة في سبيل الله تعالى:
﴿الَّذِينَ
آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ
الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾3.
ومثل هذا المجاهد قد رضي بقضاء الله وقدره لأنّه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين،
وأمله الوحيد في مصاعب الحرب وشدائدها هو الله الذي كتب على نفسه الرحمة، وعليه
يتوكّل وهو نعم المولى ونعم النصير، فلا يستمدّ العون من غيره، ويعتقد أنّ كل ما
يظهر في ساحة الوجود ليس سوى إرادة المولى تبارك وتعالى:
﴿قُل
لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾4.
وعليه فإنّ بصيرة هؤلاء المجاهدين قد أوصلتهم إلى مرحلة لا يُبتلون معها بالغرور
والعجب والمفاسد الأخلاقيّة، لأنّهم يرون كلَّ الأسباب والمسبّبات في العالم تحت
نظر الحقّ وسلطته، ويعتقدون بأنّ جميع الأمور هي بيد? تعالى، وأنّهم ليسوا سوى
وسائط قبلها الله برحمته، فإن هزموا العدوّ في الحرب، كانوا مجرّد عباد منفّذين
لإرادته:
﴿فَلَمْ
تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ
اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾5.
النظرة الصحيحة إلى الموت والشهادة
إنّ المجاهد المؤمن الذي ينظر إلى هذا العالم وعالم الآخرة في ضوء العقيدة
الإلهيّة، ويرى أنّ الموت ما هو إلّا جسر العبور من الدّار المحدودة الفانية إلى
دار رحمة الله الخالدة، فهو ليس فقط لا يخشى الموت، وإنّما يسرع إلى استقباله إذا ما
تتطلّب الواجب منه ذلك.
إنّ المجاهدين المؤمنين بخطّ الشهادة قد أعدّوا أنفسهم لأيّ نوع من أنواع الموت
الذي قُدِّرَ لهم، وعلى رضاً من أنفسهم، وعشقهم أن يكون خروجهم من هذا العالم عن
طريق الشهادة، وأن تختم حياتهم في هذا العالم بهذا الشرف العظيم. والإمام عليّ عليه
السلام نفسه كان يَعدُّ الأيّام شوقاً إلى هذه الأمنية، حيث يقول: "إنّ أكرمَ
الموتِ القتلُ، والذي نفسُ ابن أبي طالب بيده لألفُ ضربة بالسيف أهونُ عليَّ من
ميتة على الفراش في غير طاعة الله"6.
وفي آخر عهده لمالك الأشتر، يتمنّى من الله لنفسهِ ولصاحبه الوفيّ أن يرزقهما الشهادة
في سبيله، فيقول: "وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قُدرته على إعطاء كلّ
رغبة... وأن يختمَ لي ولك بالسعادة والشهادة"7.
وإنّ التسابق إلى الشهادة بين جُندِ صدر الإسلام المضحّين، وكذلك بين أصحاب الإمام
الحسين عليه السلام، ومجاهدي الإسلام خلال الحرب
المفروضة على الجمهوريّة
الإسلاميّة المباركة، كان ناشئاً من إدراك هذه الحقيقة، التي استلهموها من آيات
القرآن الكريم وسيرة المعصومين عليهم السلام، حيث كانوا يعلمون أنَّ الشَّهادة هي
أفضلُ أنواع الموت بين يدي الله تبارك وتعالى.
إنّ أفضل صورة على الإطلاق تبيّن حقيقة نظرة المؤمن إلى الشَّهادة، هو حديث السيّدة
زينب الكبرى عليها السلام في مجلس ابن زياد لعنه الله، عندما سألها قائلاً: كيف
رأيتِ فعلَ الله بأخيك وأهل بيتك؟ فأجابته: "ما رأيت إلّا جميلاً"8.
ومعنى كلمتها المباركة هو: أنّ شهادة جميع الشهداء في كربلاء، وسبيَ النساء
والأطفال، وكلّ مشاهد المأساة هي جميعاً من وجهة نظر السيّدة زينب عليها السلام،
أمورٌ جميلة لأنّها من أروع آيات التضحية والفداء والإيثار على أعتاب الرضا
الإلهيّ، ويجب على كلّ مؤمن تصادفُه أن يستقبلها ويتقبّلها بصدر واسع، ويراها حسنة
وجميلة.
عدم الخوف من قوّة العدوّ
إنّ قوّة العدوّ المادّيّة وعديده وعدّته من العوامل التي قد تقود أحياناً إلى
الرهبة والخوف، والمؤدّي أحياناً إلى الهزيمة والفشل، وهذا ما يحاول العدوّ تحقيقه
والوصول إليه في دعايته الإعلاميّة وحربه النفسيّة ضدّ المجاهدين.
ولكن عندما نعود إلى تاريخ الإسلام نجد بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
والمسلمين الأوائل نجد بأنّهم قد غيّروا المعادلة المذكورة، بوعيهم وبصيرتهم وصبرهم
وتحمّلهم، فلو رجعنا إلى عديد جيش الإسلام الأوّل في معاركه، فسنجد أنّ التوازن
العدديّ مفقود: ففي معركة بدر كان عدد جيش المسلمين 313 رجلاً مقابل 950 مشركاً على
سبيل المثال، ولكن الأمر كان:
﴿يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ
يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ﴾9.
وفي معركة الخندق كان المشركون على بعض التقديرات أكثر من عشرة آلاف مقاتل،
والمسلمون لم يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف10.
لكن المسلمين الأوائل لم يهابوا كثرة الأعداء ولم يخشوا قوّتهم على الإطلاق، بل
زادهم الأمر بأساً وتوكّلاً على الله:
﴿الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾11.
معرفة حقيقة النصر
في قوله تعالى:
﴿