الهدف:
بيان خطورة أمر السلطة والرئاسة وأنّ الإنسان على مفترق السعادة والشقاء.
تصدير الموضوع:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "آفة العلماء حبّ الرياسة"1.
وعنه عليه السلام: "من بذل معروفه استحقَّ الرياسة"2.
مقدّمة:
الرياسة عطب وطلبُها ذنب، ولا أضرَّ بدين المسلم من الشغف بها، وهي من أهمِّ منافذ
الشيطان إلى داخل الإنسان للإستحواذ عليه:
﴿فَوَسْوَسَ
لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا
مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا
لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾3.
وهي عنده من أفضل الوسائل لتزيين عمل المرء ليتخذها ذريعة لسفك الدماء وتدمير
البلاد والإفساد في الأرض، ومنها فهمت الملائكة ما يجري على أبناء آدم بعد أن
أخبرها الله سبحانه تعالى بأنّه سيجعل خليفة في الأرض:
﴿وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾4.
ومقابل ذلك كلّه يمكن القول بأنّ حفظ النظام العامّ للنّاس لا يستقيم من دون سلطة
وخدمتهم لا تتمّ من غير رياسة، وسوقهم نحو طاعة? يفتقر إلى المنصب، وأمام هذا
التناقض بحسب الظاهر يجعل الإنسان في حالة تردّد وشكّ حول مسألة الرئاسة والسلطة.
ففي الحقيقة هذا الأمر يحتاج إلى النظر حول الدافع للوصول إليها، هل يتمّ التعاطي
معها على أنّها وسيلة لتحقيق الأهداف القريبة والمتوسّطة والبعيدة أم هي مطلوبة على
نحو الغاية وأنّها هدف؟
محاور الموضوع
الرئاسة وسيلة أم غاية
إنّ الصراع المستمر والدامي أحياناً بين نهجين منذ آدم عليه السلام وإلى يوم
القيامة هو صراع في جوهره بين الأهداف والغايات كالصراع بين آدم وإبليس وبين
إبراهيم والنمرود وبين موسى وفرعون وما تناسل بينهم وما بعدهم إلى ما شاء الله،
فإبراهيم عليه السلام لديه دور ومهمّة وله منصب وله هدف، والنمرود له رئاسة وسلطة
وأيضاً له هدف، وهكذا بين موسى عليه السلام وفرعون، إلّا أنّ الفارق الجوهريّ بين
النهجين هو أنّ منصب الأنبياء والأولياء هو منصب إلهيّ أعطي لأنبيائه كوسيلة وطريقة
للتوصّل إلى الأهداف الإلهيّة المرسومة لسعادة البشر، وعبّر عن هذه الحقيقة ما جاء
على لسان سليمان عليه السلام:
﴿فَلَمَّا
جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ
مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾5
وعلى الضفّة الأخرى نقرأ
في تاريخ الجبابرة أنّ المنصب بالنسبة لهم هو هدف بحدّ ذاته ويدافعون عنه مسخِّرين
كلّ ما لديهم من قوّة وإمكانات،إذ يقول الله تعالى:
﴿إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً
مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ﴾6
فالسلطة عند فرعون هدف وقد عمل على تسخير كلّ الطاقات والإمكانات للحفاظ عليها
وإزالة كلّ الموانع وقضى على كلّ ما يحتمل كونه مصدر تهديد له ولسلطته.
ومن النماذج أيضاً ما جرى مع ملكة سبأ، حيث يصوّر لنا القرآن الكريم ما كانت عليه
من ملك ورئاسة فيقول:﴿إِنِّي
وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ
عَظِيمٌ﴾7,
وبحسب الظاهر كانَ لها سلطة إداريّة كما أشار إليه القرآن الكريم:
﴿قَالَتْ
يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى
تَشْهَدُونِ﴾8
وكانت أيضاً صاحبة رأي وقدرة على المحاورة. فيقول القرآن:
﴿قَالَتْ
إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ
أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾9.
خلاصة القول: إذا كانَ المرء يسعى حثيثاً للوصول إلى الرئاسة وهي تشكّل بالنسبة
له هدفاً مستقلاًّ برأسه فهذه رياسة فاسدة وقبيحة، وأمّا إنْ كان السعي لحفظ النظام
العامّ وخدمة النّاس ولكي يتمّ التوصّل إلى هذه الأهداف إنّما يكون بوساطة الرئاسة
فحينئذٍ تكون الرئاسة صالحة وممدوحة.
آفات الرياسة
بما أنّ الرياسة أمر ما خطير فلا بأس بالإشارة إلى بعض الآفات المتعلّقة بها.
الأولى: السعي للحصول عليها وطلبها
إنّ مجرّد سعي الإنسان مهرولاً خلف الرياسة أمر مذموم حتّى ولو كانت بنظره مقدّمة
لتحقيق أهداف ممدوحة، وذلك لأنّ من يطلب الرياسة لنفسه لتحقيق تلك الأهداف لا يخلو
من شوائب خطيرة من غرور بنفسه وعجب وعدم الثقة بقدرات الآخرين، وأمّا من طلبها
لذاتها فلا شيء أضرَّ بدينه من هذا.
فقد ورد عن الإمام أبي الحسن عليه السلام وقد ذكر في محضره رجل وأنّه كان يحبّ
الرئاسة، فقال: "ما ذئبان ضاريان في غنم وقد تفرَّقَ رعاؤها بأضرَّ في دين
المسلم من طلب الرياسة"10.
وعن مولانا الإمام الصادق عليه السلام قال: "إيّاكم وهؤلاء الرؤساء الذين
يترأسّون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلّا هلك وأهلَك"11.
الثانية: حُبُّ الرياسة
لو تعلَّق الإنسان بالمنصب وأحبّه وأحبّ أن يحترمه النّاس لمنصبه، وأيضاً لو كان
يغبط الآخرين على ما هم عليه من مناصب فهو عاجز الرأي وليس من أهل الخوف والرهبة
من الله تعالى، وليتبوّأ مقعده من النّار، والمراد من الغبطة هنا بأن يتمنّى ويحبّ
المنصب لنفسه.
لقد حكى لنا القرآن الكريم قصّة قارون الذي أعطاه الله من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء
بالعصبة أولى القوّة. فلمّا خرج على النّاس في زينته فغبطه
أهل الدنيا وقالوا:
﴿فَخَرَجَ
عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا
لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾12
ويدلّ عليه ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام فقال: "إنّ شراركم من أحبّ أن
يوطأ عقِبهُ، إنّه لا بدّ من كذَّاب أو عاجز الرأي"13.
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من أحبّ أن يتمثّل له الرجال قياماً
فليتبوّأ مقعده من النّار"14.
وعن الإمام الصادق عليه السلام "إنَّ حُبَّ الشرف والذكر لا يكونان في قلب
الخائف الراهب"15.
وَطْءُ الأعقاب: مريدو الرياسة صنفان: صنف يحبّ أن توطأ أعقابهم وصنف يحبّ أن يطأ
أعقاب آخرين وكلاهما لا خير فيهما، فالصنف الأوّل قد أشرنا إليهم بأنّهم كذّابون أو
عاجزو الرأي. وأمّا الصنف الثاني فهُم أسوأ حالاً، فعن أبي حمزة الثمالي قال: قال
أبو عبد الله: "إيّاك الرياسة وإيّاك أن تطأ أعقاب الرجال"، قال: قلت جُعلت
فداك، أمّا الرئاسة فقد عرفتها وأمّا أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلّا
ممّا وطئت أعقاب الرجال؟! فقال لي: "ليس حيث تذهب، إيّاك أن تنصب رجلاً دون
الحجّة فتصدّقه في كلّ ما قال"16.
الثالثة: الخضوع للمنصب
ثمّة بعضٌ يخضعون للمقام منذ البدء، فهذا البعض من أولئك الأفراد الذين تحدّثنا
عنهم وثمّة آخرون يخضعون له بعد تبوّئهم كرسي الرئاسة، وفي الحقيقة لا فرق بين
الصنفين طالما أنّ ذلك يكشف عن ضعف نفوسهم وعن عبوديّتهم ورقّهم للمنصب، يقول
الإمام الخمينيّ قدس سره: ثمّة أشخاص يتغيّرون بمجرّد أن يستلموا زعامة قرية بسبب
ضعف نفوسهم، فيخضعون لتأثير ذلك المقام الذي وصلوا إليه17.
وقال: الذي يتأثّر بالمقام ليس بسبب أنّه صاحب منصب، بل من باب أنّه إنسان ضعيف
فيسيطر عليه المنصب ويقوم عندئذٍ باتباعه18.
وما تجدر الإشارة إليه وبحسب رؤية الإمام المقدّس فإنّ الآثار السلبيّة المترتّبة
على الخضوع للسلطة تتجاوز هؤلاء الأشخاص أنفسهم إلى كلّ التفاصيل ذات الصلة بما هو
تحت إدارته.
الرابعة: استغلال المنصب
من الخيانة الكبرى استغلال المنصب بعد تنصيبه كمن استغلّ مقدّرات معيّنة للوصول إلى
المنصب أو استغلّها، وعليه فكلّ من يستغلّ موقعه ومنصبه لمآرب خاصّة ولإشباع أهوائه
ولم يهتمّ بأداء المهمّة فقد أساء لنفسه بحرمانه من الطاعة وخان الأمانة؛ يقول
الإمام الخمينيّ قده: فاحذروا ولا تستغلّوا دماء هؤلاء من أجل الوصول إلى منصب، ولا
تكونوا ولا سمح الله تريدون من الآخرين تقديم دمائهم لتعلوا مناصبكم أنتم19.
الخامسة: الإستعلاء
يقول الله تعالى:
﴿