الهدف:
بيان أنّ الكذب مُسقط للمرء عند الله تعالى وعند النّاس وعند نفسه.
تصدير الموضوع:
التعريف بقيمة الشباب المؤمن ودوره في المجتمع، وكيفيّة المحافظة عليه من الفساد
والانحراف.
يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:
﴿قُلْ
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا
*
الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعًا﴾1.
تمهيد
إنّ للعمر قيمةً لا تُقدَّر بثمن على الإطلاق، فالعمر يتصرّم مع مرور الأيّام،
وينبغي للإنسان المؤمن أن يستغلّ هذا الوقت المتاح له في الدنيا، كي ينعم بنعيم
الآخرة، فيمرّ الإنسان بمرحلة الطفولة التي يقضي عمره فيها باللعب والمرح، ثمّ تأتي
عليه مرحلة الشباب وهي مرحلة الجِدّ والعمل والنشاط والعطاء، ثمّ تأتي عليه مرحلة
الشيخوخة، وهي مرحلة الهرم والعجز عن أداء الأمور بجميع حدودها، فمرحلة الشباب هي
المرحلة الأساسيّة والوحيدة التي يتمكّن فيها الإنسان من العطاء والنشاط، فينبغي أن
تستغلّ هذه بشكل كبير، وهذا ما دعا إليه الدين الحنيف في منظومته الفكريّة
والثقافيّة.
1- معنى الشباب سبيل العطاء والبذل
فُسِّرت "الفتوّة" في الثقافة الدينيّة، بشكل من أشكال البذل والعطاء، الإحسان
للآخرين، البشاشة، العفاف وصون النفس، تجنّب أذيّة الآخرين، والابتعاد عن الدناءة
والحقارة، روي عن أبي قتادة القُميّ، قال: كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام إذ
تذاكروا عنده الفتوّة، فقال: "كلا، إنّما الفتوّة طعام موضوع، ونائل مبذول، وبشر
مقبول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف، وأمّا تلك فشطارة وفسوق"2.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "نظام الفتوّة احتمال عثرات الإخوان، وحسن تعهّد
الجيران"3.
وقد أطلق القرآن الكريم على الشباب الموحِّدين الذين فرّوا في عهد دقيانوس من الظلم
والشرك ولجأوا إلى الغار (أصحاب الكهف) عبارة "فتية"
(أهل مروءة وشهامة).
2- أهمّيّة مرحلة الشباب
يعتبر الإسلام أنّ مرحلة الشباب هي من المراحل المهمّة والحسّاسة في حياة الإنسان
المؤمن، ولذا اعتبر بحسب القرآن الكريم مرحلة القوة والثبات في مقابل مراحل الضعف
في حياة الإنسان، قال تعالى:
﴿اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ
جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ
الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾4.
فمرحلة الشباب مرحلة القوّة والشجاعة والثبات التي تقع بين مرحلة الطفولة وهي مرحلة
ضعف، ومرحلة الشيخوخة وهي مرحلة ضعف أيضاً، ولا يمكن أن نفهم هذه المرحلة إلّا
بضرورة التركيز فيها وتنميتها وتهذيبها، بل حفظها من الانحراف على غير الطريق الذي
رسمه الله سبحانه وتعالى، وهذا كله يكشف عن أهمّيّة مرحلة الشباب وخطورتها في حياة
الإنسان المؤمن.
ومن جهة أخرى أنّ الروايات أكّدت وبشكل قويّ هذه المرحلة، حيث اعتبرتها المرحلة
التي يجب على الإنسان أن يغتنمها بالخير والعمل الصالح، وترك المفاسد والمحرّمات،
فقد جاء في وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذرّ أنّه قال: "شبابك قبل
هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"5.
وكذلك من جهة ثانية اعتبرتها المرحلة الوحيدة التي يسأل عنها الإنسان، ويحاسب عليها
بشكل تفصيليّ، وهذا كلّه يكشف عن خطورة هذه المرحلة وحساسيّتها في حياة الإنسان
الشاب المؤمن، وهذا ما حدثت به رقيّة حفيدة الإمام الكاظم
عليه السلام عن أبيها عن
الإمام الكاظم عليه السلام عن آبائه عليهم السلام: قال: "قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: لا تزول قدَمَا عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما
أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت"6.
3- الاستفادة القصوى سبيل النجاة
أشار القرآن المجيد في سورة النحل إلى ضرورة الاستفادة القصوى من العمر، وأنّ العمر
يضيع من يدي الإنسان بسرعة، بل قد تصل فيه المرحلة إلى الخسارة الكبرى، قال تعالى:
﴿ وَاللّهُ
خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ
إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ
لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾7.
والأرذل اسم تفضيل من الرذالة وهى الرداءة والرذل الدون والرديء والمراد بأرذل
العمر بقرينة قوله لكي لا يعلم سنّ الشيخوخة والهرم التي فيها انحطاط قُوى الشعور
والإدراك وهى تختلف باختلاف الأمزجة وتبتدئ على الأغلب من الخمس والسبعين8. ولذا
فقد ورد في بعض الروايات أنّ من جاوز السبعين حيّاً فهو "أسير الله في الأرض"9.
فالآية تريد القول بأنّ هذه القدرة والقوة اللتين عندكم لو لم تكونا على سبيل
"العارية" لما أُخِذتا منكم بهذه البساطة. اعلموا أنّ فوقكم قدرة أخرى قادرة على
كلّ شيء، فقبل أن تصلوا إلى تلك المرحلة خلِّصوا أنفسكم، وقبل أن يتحوّل هذا النشاط
والجمال إلى موت وذبول. اجمعوا الورد من هذا الروض، وتزوّدوا بالزاد من هذه الدنيا
لطريق الآخرة البعيد، لأنّه لم يمكنكم أداء أيّ عمل ذي قيمة في وقت الشيب والضعف
والمرض10. ولذا فإنّ من ضمن ما أوصى به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذرّ
أنّه قال: "شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك،
وحياتك قبل موتك"11.
4- أين نُفني أعمارنا؟
أهمّ ما في الدِّين هو أنّه يعطينا، حتّى في أشدّ الظروف والأوضاع الصعبة،
الطمأنينة وهدوء النفس والاستقرار والسكينة والأمل والرجاء. ولا يوجد شيء في هذا
الوجود يمكنه أن يمنح الإنسان هذا المستوى في مواجهة المشاكل والصعوبات والمآسي
والأحزان غير الدين.
يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿الَّذِينَ
آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾12.
أيّاً تكن المأساة
والأحزان والمعاناة الّتي تعيشها بسبب ظروف شخصيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو
أمنيّة أو تهديدات أو جوع أو فقر، وغير ذلك.. عندما تلجأ إلى الله سبحانه وتعالى،
عندما تذكر الله سبحانه وتعالى وتعود إلى الله عزّ وجلّ، عندما تجلس بين يدي الله
سبحانه وتعالى لمناجاته ولدعائه، يمكنك أن تشكو له كلّ آلامك ومعاناتك وصعوباتك
وأحزانك ومآسيك. وهنا، أنت لا تتكلّم مع فقير مثلك، حين تقول له أنا فقير، فيجيبك:
أنا فقير مثلك،.. أنت لا تشكو إلى مثيل لك ولا حتّى إلى قادر أو غنيّ محدود القدرة
ومحدود الغنى، أنت تشكو إلى الله سبحانه وتعالى، وتتحدّث مع الله سبحانه وتعالى،
وتلجأ إلى الله سبحانه وتعالى الغنيّ القادر العالم الّذي يعلم ما في أنفسنا، وهو
أقرب إلينا من حبل الوريد، والقادر الكريم، لأنّه يوجد قادر من الممكن ألّا يساعدك،
والغنيّ الجواد، لأنّه ممكن أن يكون هناك غنيّ ولا يمدّ لك يد العون.
يقول تعالى:
﴿وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾13.
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: لا تعجزوا عن الدعاء، فإنّه لم يهلك مع
الدعاء أحد. وليسأل أحدكم ربّه، حتّى يسأله شسعَ نعله إذا انقطع. واسألوا الله من
فضله فإنّه يحبّ أن يُسأل. وما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رَحِم
إلّا أعطاه الله تعالى بها إحدى ثلاث: "إمّا أن يعجّل له دعوته، وإمّا أن
يدّخرها له في الآخرة، وإمّا أن يكفّ عنه من الشرّ مثلها، قالوا: يا رسول الله إذن
نكثر، قال: الله أكثر"14.
أنت تتكلّم مع من بيده ملكوت السماوات والأرض، تناجيه وتلجأ إليه. هذا اللجوء إلى
الله سبحانه وتعالى، أُولى نتائجه السريعة الهدوء والطمأنينة والسكينة. مهما فتّشتم
في علم النفس التربويّ والاجتماعيّ ولدى أطبّاء النفس وغيرهم فلن تجدوا هذا العلاج
عند أحد، ولكنّكم ستجدون العلاج عند محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم
وفي آيات الله الّتي أنزلت على قلبه الشريف، وفي الآيات الكريمة:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا
لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾15، كيف نواجه هذا النقص وهذا البلاء وهذه المحنة في الأموال، في الأنفس، في
الثروات؟!
"إنّا لله" ليست مجرّد كلمة تقال، "إنّا لله" تعني نحن مُلك له، ونحن عبيده،
نواصينا بيده، يفعل بنا ما يشاء. "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" فعندما نكون عبيداً
له، نرضى بما يرضاه لنا، نرضى ونهدأ ونطلب منه أن يُعيننا، وأن يدفع عنّا البلاء،
وأن يرفع عنّا الامتحان، وأن يُعطينا الصبر والثبات والنجاح والنصر والعزّة. "وإنّا
إليه راجعون" عبارة تقول لنا إنّ هذه الحياة الّتي نعيشها هي حياة محدودة،
وبالتالي، لا تستحقّ أن تضيّع آخرتك من أجل بعض المحن وبعض الصعوبات وبعض الأحزان
في الدنيا، فترتكب المعاصي والذنوب وتفرّ من الشيطان.
وروي أنّ الإمام الرضا عليه السلام قال:
16
نعى نفسي إلى نفسي المشيب وعند الشيب يتّعظ اللبيب
فقد ولّى الشباب إلى مداه فلست أرى مواضعه يؤب
سأبكيه وأندبه طويلاً وأدعوه إليّ عسى يُجيب
فإن يكن الشباب مضى حبيباً فإنّ الشيب أيضاً لي حبيب
سأصحبه بتقوى الله حتّى
يفرق بيننا الأجل القريب.
5- الدواء في بيوت الله
يقول تعالى:
﴿يَا
بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ
تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾17، المساجد،
هذه المؤسّسات العباديّة الإيمانيّة التربويّة هي شفاء للناس وهي حاجة روحيّة
ونفسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة، هي حاجة جهاديّة وسياسيّة
وأمنيّة أيض، في بيوت
الله عزّ وجلّ، نقرأ القرآن ونستمع إلى الوعظ والإرشاد ونتعرّف إلى حقائق الوجود،
فنفهم معنى الدنيا ومعنى الآخرة، ومعنى الامتحان ومعنى البلاء، ومعنى الصبر ومعنى
تحمّل المسؤوليّة. في بيوت الله عزّ وجلّ، نشحذ الهمم والعزائم والإرادات، في بيوت
الله عزّ وجلّ، نحمل روح الإنسانيّة ونجسِّدها ونعمِّقها في أرواحنا وفي أنفسنا. في
بيوت الله عزّ وجلّ، نداوي قلوبنا وجروح أنفسنا الّتي تُصيبها السهام من كلّ حدب
وصوب، وبالدرجة الأولى نحصل على هذا الهدوء وعلى هذه الطمأنينة. في الدِّين وفي
بيوت الله يتحصّل لنا الأمل.
نعم، الدين والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن هي القادرة على أن تمنح
هذا الأمل. الإمام الخمينيّ قدس سره قبل خمسين سنة أو ستين سنة، كان يقول للشاه:
"كلّما عمّرنا في قرية أو في مدينة مسجداً يمكنكم أن تقلّلوا عدد المخافر وعدد
الدرك وعدد قوى الأمن"، لماذا؟ لأنّه عندما يتربّى الناس على التديّن، سيشكّل ذلك
حاجزاً ورادعاً ذاتيّاً عن القتل، والسرقة، والغشّ، والظلم، والتجسّس على الآخرين،
وإيذاء الآخرين.
المسؤوليّة في هذه المرحلة الصعبة والخطرة هي أن نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، أن
نتمسّك بديننا وثقافتنا وقيمنا، أن نثق بالله سبحانه وتعالى، أن نعرف أنّ أمامنا
آمالاً كبيرة نحن قادرون على تحقيقها، أن نستعين بثقافتنا وتعاليمنا وقيمنا لنكون
من أصحاب الأنفس المطمئنة الواثقة الشجاعة المريدة العازمة. ونحن قادرون على تجاوز
كلّ هذه
الأخطار إذا تحمّلنا المسؤوليّة وكنّا أصحاب الوعي وأصحاب الأمل، وكنّا
أوّلاً وآخراً من اللاجئين إلى الله، مستعيذين به في مواجهة الشيطان، مستعينين به
على مواجهة التحدّيات، قال تعالى:
﴿فَفِرُّوا
إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾18.
شباب عاشوراء عطاء حتّى الشهادة
لقد قدّم الشباب في عاشوراء دوراً رائداً في بيان المعنى الحقيقيّ للشباب المسلم
المقاوم، وقد حفلت أحداث عاشوراء بالعديد من الشباب المجاهدين الشهداء، فهذا عليّ
الأكبر، وذاك القاسم بن الإمام الحسن عليه السلام الذي خرج مقاتلاً بين يدي الإمام
الحسين عليه السلام، وكان شابّاً في مقتبل العمر، جميل المنظر، وجهه شقة قمر، قدّم
نفسه في سبيل الله19.
وذاك عمر بن جنادة الأنصاري، الذي قتل أبوه في المعركة وكانت أمّه حاضرة في
المعركة، فقالت له أمّه: اخرج يا بني وقاتل بين يدي ابن رسول الله! فخرج فقال
الحسين: هذا شاب قتل أبوه ولعلّ أمّه تكره خروجه فقال الشاب: أمّي أمرتني بذلك،
فبرز وهو يقول:20
أميري حسين ونعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير
عليّ وفاطمة والداه فهل تعلمون له من نظير؟
له طلعة مثل شمس الضحى له غرّة مثل بدر منير
فهذه مواقف بطوليّة للشباب يوم عاشوراء، فالشابّ العاشورائيّ هو الذي يقضي ليله
ونهاره في سبيل الله، ويقدّم دمه في سبيل الله، فتكون حياته لله، ووقته لله،
ودراسته لله، وعمله لله، وحياته لله، أي وجوده كلّه لله سبحانه وتعالى.
|