الهدف:
التعرّف إلى دور النساء في كربلاء وبعض المواقف الولائية من جهادهن.
تصدير الموضوع:
قال الله تعالى:
﴿وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ
ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾1.
تمهيد
إنّ الإمام الحسين عليه السلام أخذ النساء معه كي يؤدّين أدواراً مهمّة لنصرة
الثورة أو إنّ أدوار النساء كانت ضمن البرنامج التخطيطيّ لقائد الثورة الذي لم يكن
يفكّر بأنه سينُهي المواجهة بعدم مبايعته ليزيد، من ثمّ باستشهاده، بل لا بدّ من
توجيه الأمّة إلى قيم جديدة وتربويّات مطلوبة.
ولم يكن لهذه المهمّة الصعبة من يؤدّيها سوى هؤلاء النساء وعلى رأسهنّ السيدة زينب
عليها السلام. وهذا يشير إلى ثقته الكاملة بأُخته وبأنّ هؤلاء النساء هنّ ممّن
يُعتمَد عليهنّ وهنّ قادرات على أداء التكاليف المطلوبة.
وسيبقى هؤلاء النساء رمزاً للبشريّة جمعاء، وخصوصاً للمرأة التي تبحث في كلّ عصر عن
نماذج يُقتدى بها، وتسير في هداها.
1- الحضور العامّ للمرأة في النزاعات
إنّ وجود المرأة في مناطق النـزاعات غالباً ما يكون عامل تحريك للرأي العامّ وعامل
تعريف بجرائم العدوّ، ولهذا نجد أنّ الإعلام إذا ما أراد أن يظهر بطش الحاكم
وطغيانه فإنّه يعرض صوراً لنساء معذّبات أو مقتولات أو أطفالاً يبكون ويستصرخون
ويصرخون.. هي صورٌ من الممكن أن تهزّ الضمير الاجتماعيّ وتحدث فيه حركة باتّجاه
المطلوب، بمعنى أنّ وجود المرأة في النـزاعات المسلّحة والحروب غالباً ما يكون
عاملاً لكشف وحشيّة العدوّ ومجازره وبشاعته ولنا أن نستعرض في ذاكرتنا ما كان
يُبَثّ من صور عن المعارك التي شهدها القرن المنصرم وبداياته والتي يستعمل فيها
"مونتاجاً" خاصّاً لعرض بكاء الأمّهات وذهول الزوجات وأنين البنات. ولهذا اهتزّت
الكوفة لمّا جاء ركب الحسين عليه السلام وارتجّت لمرأى الأطفال الذين ترتعد
فرائصهم واصفرّت وجوههم، وماجت للحرائر المُخدَّرات اللواتي ارتسم الحزن على
وجوههنّ وبان ثقل الدموع في مآقيهنّ وازداد الآلم حينما جادت عليهنّ الكوفيّات
بالإزر والمقانع وضجّ الناس بالبكاء والعويل حينما أزيح الستار عن القناع الأمويّ،
فهؤلاء لسن سبايا الخوارج والديلم كما قال ابن زياد إنّما هنّ سبايا آل البيت
عليهم السلام!
2- حضور المرأة في كربلاء
إنّ واقعة الطفوف كانت بحاجة إلى حضور المرأة كي تنجح الثورة، وبحاجة إلى حضور
نسائيّ متميّز لا يجزي عنه الرجل أبداً. فمن المعلوم أنّ الإمام لو اصطحب الكثير من
الرجال فلن يقوموا بالدور الذي ستقوم به النساء، وبهذا جاء حمل النساء كدلالة على
تخطيط مستقبليّ للثورة فيما يمكن أن تؤدّيه النساء من أدوار تدور ضمن مصلحة الإسلام
الكبرى والإيمان بمبادئ الإمام في الإصلاح والتغيير، فهو إذاً اجتياز للدائرة
المحدّدة التي تشمل حياة المرأة الخاصّة، ولكنّها لا تلغي شخصيّة المرأة نفسها أو
أهدافها الممتدّة في الحياة أو مسؤوليّاتها العديدة.
وكان الحضور النسائيّ متميّزاً في نساء عرفن بالعلم والمعرفة والبلاغة
والفصاحة
والصبر الجميل إلى غير ذلك، وبذلك نجح الإمام وأنصاره في تضحيته كما نجحت المرأة
"زينب عليها السلام" في التبليغ والإعلام الموجّه، ولم تكن الأدوار التقليديّة
للنساء كالأمومة والزوجيّة عائقاً أمام تحقيق نجاح أوسع ضمن دائرة الأهداف العامّة
بل كانت هذه الأدوار سبباً لإضفاء مزيد من الحزن والتفجّع على ما جرى في الطفوف،
فهؤلاء النساء قدّمنَ الغالي والنفيس بل ضحّين بالولد والأخ والزوج لنصرة الثورة في
زمن تقاعس فيه الأشاوس من الرجال عن نصرة الإمام الذي كانوا يسمعون استغاثته!.
وبهذا تحوّلت الأدوار التقليديّة التي تضجر منها المرأة المعاصرة إلى أدوار رساليّة
ومحطّات انطلاق لرسم هُويّة ثائرة للمرأة المسلمة في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
وكان مجموع هؤلاء النساء إضافة إلى الأطفال يؤلّف قافلة سبايا أهل البيت، الذين
فرّوا بعد مقتل الحسين وهجوم الأعداء على الخيام، ثمّ قبض عليهم وسيقوا في قافلة
السبايا إلى الكوفة ومنها إلى الشام.
وإذا نظرنا إلى خلفيّة أولئك الطاهرات اللاتي جئن إلى أرض المعركة نلاحظ أنّ فيهنّ
الأمّ والجدّة، والأخت والشقيقة، والعمّة والخالة، والابنة والحفيدة، والزوجة، ويجب
التمعّن بأنّ لكلّ منهنّ مهمّة ربّما تختلف تماماً عن مهمّة ألأخرى، ولكنْ يجمعهنّ
الإيمان بأرقى مفاهيمه الإنسانيّة التي جاء بها الإسلام ولخّصها في شخص الإمام
الحسين عليه السلام وأهدافه.
3- مواقف بطوليّة للمرأة في كربلاء
أ- السيدة زينب بنت عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) والمواقف الصُلبة:
المرأة التي أبت إلّا المشاركة في النهضة، تلك الزوجة الوفيّة، وألأمّ الحنون،
والعمّة العطوف، والخالة الرؤوف، والأخت المسؤولة التي كانت قدوة لا للنساء فحسب بل
للرجال أيضاً، أخذت على عاتقها أدواراً مختلفة يصعب على المرء حصرها، ولكن سنشير
إلى جانبٍ منها ألا وهو تفعيل ألأهداف التي من أجلها نهض الإمام الحسين عليه السلام وتكريسها وذلك بعد شهادته
عليه السلام، وإن شئت فقل تكميل ذلك الدور
واستمراريّته فقد وقع على عاتقها، ولا يمكن نسيان هذا الدور الفاعل، ولولا جهودها
لما أثمرت تلك النهضة المباركة بهذا الشكل الذي أثمر، وقد أبت السيدة زينب إلّا أن
تشارك شقيقها الحسين عليه السلام، فقد ذكر المؤرّخون أنّ ابن عباس جاء إلى الحسين
عليه السلام ناصحاً ومودعاً وهو بأرض الحجاز ليثنيه عن السفر إلى العراق، ولكنّه
وجد نفسه أمام إصرار الإمام عليه السلام الذي لا محيص عنه فطلب منه عليه السلام
أن لا يأخذ معه النساء قائلاً: جعلت فداك يا حسين، إن كان لا بدّ من السير إلى
الكوفة فلا تسِرْ بأهلك ونسائك، فسمعته السيدة زينب عليها السلام فانبرت تخاطبه:
يا ابن عباس تشير على سّيدنا وشيخنا أن يخلّفنا ها هنا ويمضي وحده؟ لا والله بل
نحيا معه ونموت معه وهل أبقى الزمان لنا غيره2.
ب- بحرية بنت مسعود الخزرجيّة وتجهيز ابنها للشهادة:
المرأة التي تجهّز ابنها للشهادة، كانت بحرية وهي ممّن حضرن كربلاء مع زوجها جنادة
بن كعب الخزرجيّ فخرج الزوج وقاتل قتال الأبطال بين يدي أبي عبد الله الحسين عليه
السلام، ولما لم تمتلك بحرية وسيلة أخرى للدفاع عن الحقّ المتمثل بالحسين عليه
السلام جاءت إلى ابنها عمر، الذي لم يتجاوز العقد الأول من عمره، فألبسته لامة
الحرب وقلّدته السيف، وتحدّثت معه بأمر القتال بين يدي أبي عبد الله، والنواميس
التي يدافع عنها، وحثّته على ذلك وقالت فيما قالته: أُخرج يا بني وانصر الحسين
عليه السلام وقاتل بين يدي ابن رسول الله فلمّا جهّزته خرج ووقف أمام الحسين
عليه السلام يستأذنه للقتال، فلم يأذن له فأعاد عليه ألاستئذان، فقال الحسين
عليه السلام: "إنّ هذا غلام قتل أبوه في المعركة، ولعلّ أمّه تكره ذلك" فقال عمر:
"يا بن رسول الله إنّ أمّي هي التي أمرتني وقد قلّدتني هذا السيف وألبستني لامة
الحرب" وعندها سمح له الحسين عليه السلام فذهب إلى ميدان القتال وهو ينشد ما
يختلج بقلبه قائلاً من المتقارب:
أميري حسين ونعم الأمير
سرور فؤاد البشير النذير
علي وفاطمة والداه
فهل تعلمون له من نظير
له طلعة مثل شمس الضحى
له غرّة مثل بدر المنير
فقاتل حتّى قتل وقطع رأسه فرمي به إلى جهة الحسين
عليه السلام، فأخذته أمّه وضربت
به رجلا أو رجلين فقتلتهما، وخفّ إليها الحسين عليه السلام فأرجعها إلى الخيمة3.
فمن يا ترى يمتلك قلباً مفعماً بالإيمان والشجاعة!.
ج- دلهم بنت عمرو الكوفيّة والتشجيع على الولاء والقتال:
المرأة التي وضعت زوجها على الطريق، لم يكن زوجها زهير بن القين البجليّ من
الموالين لأهل البيت عليهم السلام بل كان على الخطّ النقيض لخطّ أهل البيت (عليهم
السلام) ولكنّ الطريق جمع بينه وبين الإمام الحسين عليه السلام وهما في طريقهما إلى
الكوفة، وما كانت إلّا ساعة فإذا برسول الحسين عليه السلام على باب خيمة زهير
يقول: إنّ أبا عبد الله بعثني إليك لتأتيه فساد صمت رهيب في مجلس زهير، حيث كان
يكره زهير وقومه مسايرة الحسين عليه السلام وهو في الطريق فكيف بهم ورسول الحسين
يدعوهم للقياه، وفي هذه اللحظة مزّقت دلهم تلك المرأة الحكيمة والمؤمنة، أجواء
الصمت والذهول، والتفتت إلى زوجها مفجّرة بكلماتها بركاناً من الدرن الذي خيّم على
القلوب وقالت: يا زهير أيبعث إليك ابن رسول ألله ثمّ لا تأتيه، سبحان الله، لو
تأتيه فسمعت كلامه، ثمّ انصرفت، فما كان من زهير إلّا أن قرّر الذهاب إلى أبي
عبدالله عليه السلام والاستماع إليه، وفجأة وجد زهير نفسه في مجلس الحسين عليه
السلام حيث حملته رجلاه إليه،
ولمّا حاوره الحسين عليه السلام وبيّن أهداف نهضته،
أنقلب زهير واتّخذ قراراً حاسماً، وصمّم على الالتحاق بركب ريحانة الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم، فعاد إلى قومه مستبشراً قد أسفر وجهه والتفت إلى زوجته ليطلّقها
ويلحقها بأهلها، لا كرهاً بها بل حباً لها، مُوطّناً نفسه على الشهادة، فبشّرها
بقراره الشجاع، والتحاقه بركب الحقّ فقامت إليه زوجته تودّعه باكية لتقول له بكلّ
ثبات: خار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين3. وهكذا ودّع زهير
كلّ متاع الدنيا ليقول للحسين عليه السلام: "والله لو كانت الدنيا لنا باقية
وكنّا مخلّدين إلّا أنّ فراقها في نصرتك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الإقامة
فيها... أما والله لوددت أنّي قتلت ثمّ نشرت ثمّ قتلت حتّى أقتل هكذا ألف قتلة وأنّ
الله يدفع بذاك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك..."، طلّق زهير
زوجته والدنيا، وطلّقت زوجته حلاوة الدنيا وبهجتها وأذعنت لقرار زوجها خوفاً من أن
يتردّد عن الشهادة، فمن يا تُرى كان وراء تحوّل زهير!4.
د- نوار بنت مالك الحضرميّة وإنكار الظلمة:
المرأة التي رفضت بعلها، فقد انتُدِبَ الخوليّ بن يزيد الأصبحيّ ليحمل رأس الحسين
عليه السلام إلى الطاغية عبيد ألله بن زياد، وكان عَجِلاً من
أمره للوصول إلى دار
الإمارة لينال الجائزة إلّا أنّه وصلها متأخّراً حيث خيّم الظلام وأغلقت الكوفة
أبوابها فاضطرّ إلى المضي إلى داره ليستريح ليلته ويعود في الصباح الباكر، ولمّا
دخل بيته سألته زوجته نوار عمّا يخبّئه في التنور، فقال لها بعد حوار طويل: جئتك
بغنى الدهر، هذا رأس الحسين عليه السلام معك في الدار. فقالت: ويلك جاء الناس
بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله، لا والله لا يجمع رأسي ورأسك في بيت أبداً،
ثمّ أضافت قائلة: اِرجع، وأخذت عموداً وأوجعته ضرباً، وقالت: والله ما أنا لك
بزوجة، ولا أنت لي ببعل5.
وهكذا فارقته لتُعلّم الآخرين درساً في التعامل مع الظالمين وإن كان الظالم وليَّ
نعمتهم، وفعلاً ?تّبعتها ضرّتها عيوف الأسديّة حيث هي الأخرى رفضت الخوليّ فبات بلا
مأوى، فمن يا تُرى استنكر فَعلة الظالمين!.
هـ- مارية بنت منقذ العبدي وحماية المجاهدين:
المرأة التي موّلت الثائرين، كانت مارية أرملة استشهد زوجها في معركة الجمل نصرةً
لأمير المؤمنين عليه السلام ومع هذا فقد كانت موالية للحقّ دون أيّ ملل أو تعب،
وكانت تحوز مكانة مرموقة في المجتمع البصريّ وتمتلك أموالاً طائلة، ولما بدأ الصراع
العلويّ الأمويّ وأصبح على أشدّه فتحت بيتها للزعماء الموالين للبيت العلويّ ليكون
نادياً فكرياً يناقش فيه الزعماء قضايا الأمّة، ومركز اتّصال وتواصل لدعم المعارضة،
فقد قال الطبريّ:
"اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يُقال
لها مارية ابنة سعد أو منقذ أيّاماً، وكانت تشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون
فيه"6.