الهدف:
التعرّف إلى جوانب تربويّة من حياة الإمام السجّاد عليه السلام للاقتداء
والتأسّي.
تصدير الموضوع:
قال الفَرَزدق في قصيدته المشهورة واصفاً الإمام زين العابدين عليه السلام:
هَذا الذي تَعرفُ البطحاءُ وطأته
والبيتُ يَعرفُه والحِلُّ والحَرَمُ
هذا ابنُ خَيرِ عبادِ الله كُلِّهمُ
هَذا التَّقيُّ النَّقي الطاهرُ العَلَمُ...
تمهيد
كان لعليّ بن الحسين عليه السلام جلالة عجيبة، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى لشرفه
وسؤدده وعلمه وتألّهه وكمال عقله1. ويتّفق المؤرّخون على أنّ الإمام
عليه السلام
انكبَّ على الشؤون الدينيّة، ورواية الحديث، والتعليم، وأنّه انصرف إلى بثّ العلوم،
وتعليم الناس، وتربية المخلصين، وتخريج العلماء والفقهاء، والإشراف على بناء الكتلة
الشيعية2.
1- قدوة العابدين والساجدين
لقد سطعت عبادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام في حياته لتبرز في ألقابه التي
منها "السجّاد" لكثرة سجوده و"ذوالثفنات" التي برزت على جبهته الشريفة و"زين
العابدين" لعبادته لله و"سيّد العابدين"، وهو اللقب الذي اختاره له جدّه النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم كما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ: كنتُ جالساً عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحسين عليه السلام في حجره وهو يداعبه
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "يا جابر يولد له مولود اسمه عليّ، إذا كان يوم
القيامة نادى منادٍ ليقم سيّد العابدين"3.
وجاء في تسميته بذي الثفنات، أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال: "كان
لأبي في
موضع سجوده آثار ثابتة وكان يقطعها في كلِّ سنة من طول سجوده وكثرته..."4، ويمكن أن
نبيّن بعض مظاهر عبادتهعليه السلام، ومنها:
أ- الخوف من الله تعالى: علّمنا الإمام السجّاد عليه السلام كيف نخاف الله في
حواره مع طاووس اليمانيّ الذي رآه يطوف من وقت العشاء إلى السحر، ونظر طاووس إلى
الإمام عليه السلام فرآه يرمق السماء بطرفه ويقول: "إلهي غارت نجوم سماواتك،
وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه
جدّي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عرصات القيامة"، ثمّ بكى وأطال الدعاء
والبكاء، فدنا منه طاووس وقال له: "ما هذا الجزع والفزع؟! ونحن يلزمنا أن نفعل مثل
هذا، ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ عليه السلام وأمّك فاطمة الزهراء
عليها السلام، وجدّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فالتفت إليه الإمام عليه
السلام وقال: "هيهات يا طاووس! دع عنّي حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله
الجنّة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشيّاً وخلق النار لمن عصاه، ولو كان
سيّداً قرشياً، أما سمعت قوله تعالى:
﴿فَإِذَا
نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾5, والله لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة
تقدّمها من عمل صالح"6.
ب- حاله عند التهيّؤ للصلاة: جاء في مصادر عدة أنه عليه السلام كان إذا توضّأ
للصلاة يصفرّ لونه، وكيف لا تبرز معالم العبادة في ألقابه وهو الذي كان إذا أراد
الوضوء اصفرّ لونه فيقال له: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيجيب عليه السلام:
"أتدرون بين يدي من أقوم!"7.
وكان عليه السلام إذا قام في الصلاة غشي لونه لونٌ آخر وأخذته رعدة بين يدي الله
تعالى لم يعد عندها يلتفت إلى ما حوله، لذا حينما وقع حريق في بيته وهو ساجد فرَّ
مَن في البيت بينما بقي الإمام عليه السلام ساجداً ولمّا سُئَل في ذلك كان جوابه
عليه السلام: "ألهتني عنها النار الكبرى"8.
ج- خشوعه: وعن خشوعه قال أبو عبد الله عليه السلام: "كان أبي يقول: كان
عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة كأنّه ساق شجرة لا يتحرّك منه
شيء إلّا ما حرّكه الريح منه"9.
قال أبو حمزة الثماليّ: رأيت عليّ بن الحسين عليه السلام يصلّي فسقط رداؤه عن أحد
منكبه، قال: فلم يُسوِّه حتّى فرغ من صلاته قال: فسألته
عن ذلك. فقال: "ويحك أتدري
بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلّا ما أقبل عليه منها بقلبه"10. وعن
الإمام الباقر عليه السلام: "كان عليّ بن الحسين يصلّي في اليوم والليلة ألف
ركعة وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة، وكانت له خمسمائة نخلة وكان يصلّي عند كلّ
نخلة ركعتين، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر، وقيامه في صلاته قيام عبد
ذليل بين يدي الملك الجليل، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يصلّي صلاة مودّع
يرى أنه لا يصلّي بعدها أبداً"11.
وقال الزهريّ: "كان عليّ بن الحسين عليه السلام إذا قرأ (ملك يوم الدين) يكرِّرها
حتّى يكاد أن يموت"12.
د- حجه عليه السلام: جاء في حياة الحيوان للدميريّ قال: "إنّه لمّا حجّ
وأراد أن يلبّي أرعد واصفرّ وخرّ مغشياً عليه، فلمّا أفاق سئل عن ذلك، فقال: إنّي
لأخشى أن أقول: لبيك، اللهمّ لبيك، فيقول لي: لا لبيك ولا سعديك، فشجعوه، وقالوا:
لا بدّ من التلبية، فلمّا لبّى غشي عليه حتّى سقط عن راحلته، وكان يصلّي في كلّ يوم
وليلة ألف ركعة، كان كثير الصدقات وكان أكثر صدقته بالليل، وكان يقول: "صدقة الليل
تطفئ غضب الربّ"13.
2- قبس من علمه وتعليمه
كانعليه السلام يشجّع كلّ من يأتي إليه طالباً لعلوم آل محمد، ويقول له: "مرحباً
بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ثمّ يقول: "إنّ طالب العلم إذا خرج من
منزله لم يضع رجليه على رطب ولا يابس من الأرض إلّا سحبت له إلى الأرضين
السابعة"14. ويقول ابن حجر في صواعقه:
"زين العابدين هو الذي خلف أباه علماً وزهداً
وعبادة"15. وقد تمكّن الإمام زين العابدين من بيان معالم فقه أهل البيت
عليهم السلام وإغناء معارفه، حتّى أقرَّ كبار العلماء بأنّه الأفقه من الجميع، قال أبو
حازم: "لم أرَ هاشميّاً أفضل من عليّ بن الحسينعليه السلام وما رأيت أحداً كان
أفقه منه"16، وقال الشافعيّ:
"إنّ عليّ بن الحسين أفقه أهل البيت"17.
ويتّفق المؤرّخون على أنّ الإمام عليه السلام "انكبَّ على الشؤون الدينيّة،
ورواية الحديث، والتعليم، وأنّه انصرف إلى بثّ العلوم، وتعليم الناس، وتربية
المخلصين، وتخريج العلماء والفقهاء، والإشراف على بناء الكتلة الشيعيّة"18، ولكنّه
لم يكن بعيداً عن العمل السياسيّ وإدارة شؤون المجتمع وفق ما تسمح به الظروف
المحيطة آنذاك.
3- تعبيره عن حبّه لله تعالى
مفهوم الحبّ يعبّر عن حالة تعلّق خاصّ بين المرء وكماله، والإنسان يعشق الأشياء
لأنّه يرى فيها سعادته، عن الإمام الباقرعليه السلام: "يا زياد... ويحك، وهل
الدين إلّا الحبّ، ألا ترى إلى قول الله تعالى: "﴿