الهدف:
بيان أهمّيّة التعاطف والمواساة مع أهل الحاجة.
تصدير الموضوع:
شرح هذه الخطبة الشريفة بشكل موجز، ومحاولة استخراج أهمّ المفاهيم التي عرضتها،
والإضاءة على بعض الجوانب الهامّة من مضامينها.
روي أنّه صلوات الله عليه لمّا عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيباً فقال: "رضا
الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفّينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمته..."1.
تمهيد
روي أنّه صلوات الله عليه لمّا عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيباً فقال: "الحمد
لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. خُطّ الموت على ولد آدم مَخطّ
القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي
مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء،
فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً. لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله
رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويُوفّينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه،
وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته، ومُوطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل
معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله"2.
شرح الخطبة
١- الموت
"خُطّ الموت على وُلد آدم، مخطّ القلادة على جيد الفتاة"، في هذه الفقرة نقف عند
مفهومين أساسيّين:
الأول: حتميّة الموت: فالموت كما تشير الآيات والروايات ويشهد به الإنسان أنّه حقّ،
﴿كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾3,
فقد خطّ على ابن
آدم ولا مجال للفرار منه،
فهو يحيط به كما تحيط القلادة بجيد الفتاة ويُطوّقه كما تطوّق القلادة عنقها.
الثاني: لكونه زينة: فكأنّه عليه السلام يقول قدّر الموت وحتّم على ابن آدم أن يكون
زينة له، وهذا كما يقول علماء البلاغة من براعة الاستهلال، حيث قدّم هذا الوصف
تمهيداً لما سيذكره بعد ذلك.
فالموت زينة باعتباره يخلّص الإنسان من أكدار هذه الحياة الدنيا وملوّثاتها، وينقله
إلى عالم الصفاء والبهاء، كما جاء وصف الموت في بعض الروايات أنّه: كنزع ثياب وسخة
ولبس ثياب فاخرة.
٢- روحيّة الاستشهاد
وكأنّ الإمام أراد أن يأتي بما يشبه الدليل على زينة الموت وجماليّته وجاذبيّته،
فقال: "وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف".
فالوله من أعلى درجات الحبّ، التي تشغل صاحبها وتأخذ بمجامع فكره وأحاسيسه نحو
محبوبه، ففيه تعبير عن شدّة الحبّ والتعلّق والاشتياق، وهناك مثل كيعقوب النبيّ في
شوقه وتعلّقه بولده يوسف عليهما السلام، فجمال الموت أنّه يجمعك بمن سلف من الأحباب
فتلتقي الأعزّاء، فهو لقاء، ولقاء جميل مع المحبوب الحقيقيّ والجمال المطلق البهيّ،
ولهذا اختار في آخر الخطبة هذا التعبير قائلاً: موطّناً على لقاء الله نفسه.
وفي اختيار هذا العنوان تحديداً للتعبير عن الانتقال من الدنيا إلى الآخرة دون
التعابير الأخرى سرّ جميل.
فالقرآن الكريم ذكر الموت والقتل والتوفّي والرجوع والمجيء إليه، ولكنْ أشارت بعض
الآيات إلى التعبير عن الانتقال إلى الآخرة بلقاء الله.
وهو معنى عميق في دلالته، حيث يستبطن روحيّة عالية ونظرة عرفانيّة خاصّة ينبغي أن
يتحلّى بها الإنسان الذي يريد الخروج مع الحسين عليه السلام.
إنّه ليس كأيّ موت طبيعيّ تنتهي به هذه الحياة الدنيا، بل هو طلب للقاء خاصّ وحياة
خاصّة،
﴿أَحْيَاء
عِندَ رَبِّهِمْ﴾4, يأتي بعد علاقة خاصّة مع الله يشتري بها
من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة، ثمّ سعي وجهاد ودماء، فلقاء مع
المحبوب، يكون المؤمنون فيه
﴿ فَرِحِينَ
بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾5.
وقد عبّر عن سعادته عليه السلام بهذا اللقاء بقوله يوم عاشوراء: فليرغب المؤمن في
لقاء ربّه، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برما.
كما تزيّن له صلوات الله عليه عندما لطّخ شيبته المقدّسة قائلاً: "هكذا ألقى
الله وألقى جدّي رسول الله وأنا مخضوب بدمي"، السلام على الشيب الخضيب.
٣- الإعلان عن الشهادة ومكانها
"وخير لي مصرع أنا لاقيه":
المصرع اسم مكان، أي مكان القتل والشهادة، وهو يدلّ على أنّ هذا
المكان ممّا اختاره
الله تعالى له، ويدلّ على شرف هذه التربة وقداستها.
ثمّ بيّن مسألة شهادته وقتله وما يجري عليه في تلك الأرض، "كأنّي بأوصالي
تقطّعها عسلان الفلوات"، والعسلان: جمع عاسل وهو الذئب أو خصوص العاديّ منه،
شبّه أعداءه بالذئاب لما فيها من شدّة الغضب وقلّة الترحّم على الفريسة.
"بين النواويس وكربلاء"، النواويس: جمع ناووس، وهو مقبرة النصارى، وقيل: إنها
كانت قرية عظيمة حيث الآن مقبرة الحرّ بن يزيد.
"فيملأن مني أكراشاً جوفاً"، الكرش من الحيوان بمنزلة المعدة من الإنسان،
والجوف بالضمّ جمع أجوف، أي متّسعة وعميقة. يريد أنّهم يملأون بطونهم على وسعها،
كناية عن إمعانهم في قتله وسفك دمه.
"وأجربة سَغْباً"، الأجربة جمع جراب، والسغب بالفتح فالسكون جمع ساغب بمعنى
جائع.
وبذلك يكون قد دلّ على موضع قتله وأعلمهم بشهادته.
٤- حتميّة الشهادة
"لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم"، فقد قدّر الله للإمام الشهادة إن هو اختارها
وسار في طريقها، فقد قال "فإن الله قد شاء أن يراك قتيلاً"6، "وإن لك
في الجنّة درجات لا تنالها إلّا بالشهادة"7.
٥- الرضا بالقضاء
"رضا الله رضانا أهل البيت"، وهذه الجملة تحتمل معنيين كلاهما صحيح:
الأول: إنّنا نرضى أهل البيت إذا رضي الله سبحانه.
والثاني: إنّ الله يرضى لرضانا، فلنيل رضاه سبحانه لا بدّ من تحصيل رضانا،
فيكون على غرار ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصِدّيقة الزهراء
عليها السلام: "إنّ الله يرضى لرضاك ويغضب لغضبك"8.
ومقام الرضا من مقامات المؤمنين حيث علموا بأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء
وهو محيط بكلّ شيء ولكنّه لا يفعل إلّا ما هو أصلح لهم، وإن لم يعلموا وجه الحكمة
أو المصلحة، لذلك لا يعترضون ولا يسخطون، وقد ورد عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه
قال: "إنّ أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عزّ وجلّ"9.
وفي بعض الروايات أنّ سورة الفجر هي سورة للحسين عليه السلام، ولعلّه لما فيها من
قوله سبحانه:
﴿يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَّرْضِيَّةً﴾10, فعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال:
"اقرأوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم، فإنّها سورة للحسين بن علي عليهما السلام،
من قرأها كان مع الحسين عليه السلام يوم القيامة في درجته من الجنّة، إنّ الله عزيز
حكيم"11.
٦- الصبر على البلاء
"نصبر على بلائه"، الصبر يلازم الرضا، فمن رضي بما قضاه الله له لا بدّ من
أن يكون صابراً، فعن أبي حمزة الثُماليّ، عن عليّ بن الحسين عليهما السلام أنّه
قال: "الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه
فيما أحبّ أو كره، لم يقض الله عزّ وجلّ له فيما أحبّ أو كره إلّا ما هو خير له"12.
والصبر على درجات، ومنه الصبر على البلاء، وهو من شروط الإمامة كما قال سبحانه:
﴿وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾13,
ولذا
فهي تتطلّب أعلى درجات الصبر على البلاء والزهد في الدنيا، ففي دعاء الندبة: "اللهمّ لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك، إذ
اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال، بعد أن شرطت
عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة...".
"ويوفّينا أجور الصابرين"، وأقلّ ما ورد فيه قوله سبحانه:
﴿وَاللّهُ
يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾14,
وقوله تعالى:
﴿إِنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾15.
"لن تشذّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمته"، اللحمة: قرابة النسب16،
فهم لن ينفردوا أو يتفرّقوا أو يبتعدوا عنه، "وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ
بهم عينه وينجز بهم وعده"، وحظيرة القدس أي الجنّة أو مطلق عالم الآخرة، والحظيرة
من الحظر بمعنى المنع، وهي في الأصل: موضع يحاط عليه من قصب ونحوه ليأوي إليه
الغنم.
٧- شرط الخروج معه عليه السلام
"من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحل
مصبحاً إن شاء الله"، وفي هذا المقطع الأخير بيّن الإمام شرطاً هاماً من شرائط
الخروج معه، وهو أن يبذل مهجته، والمهجة هي دم القلب، وأن يكون موطناً على لقاء
الله نفسه، ما يعني أن يكون قد تخلّى عن أيّ علاقة تربطه بالدنيا، فعليه أن يترك
كلّ شيء.
وإذا نظرنا إلى الذين وفقوا للخروج معه ونالوا شرف القتل بين يديه، كانوا يتحلّون
بهذه الخصلة، ومن بينهم الحرّ بن يزيد الرياحيّ، وزهير بن القين البجليّ، وغيرهم من
الأصحاب:
فنجد قول زهير بن القين مخاطباً له عليه السلام: ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا
فيه مخلّدين، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها.
وقول هلال بن نافع البجليّ: والله ما كرهنا لقاء ربنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا،
نوالي من والاك ونعادي من عاداك.
وبرير بن خضير: والله يا بن رسول الله لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك
فتقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة17.
وحينما قال لهم: إنّكم تقتلون غداً كلّكم، ولا يفلت منكم رجل، قالوا: الحمد لله
الذي شرّفنا بالقتل معك18.
كما أنّنا إذا لاحظنا من حرم من هذه الفوز وهذه السعادة فقد كان قلبه ما زال
متعلقاً بالدنيا ولم يقطع تلك الرابطة معها، كعبيد الله بن الحرّ الجعفيّ، وقد صرح
للإمام حين دعاه لنصرته بالقول: نفسي لا تسمح بالموت!19.
|