الهدف:
التعرّف إلى أثر نداء الإمام الحسين عليه السلام في الثبات والنصرة في عاشوراء.
تصدير الموضوع:
روي عن الإمام الحسين عليه السلام: "فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من
أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً"1.
تمهيد
إنّ الأُمة التي تجزع من الموت لا تحوج الطغاة والجبابرة إلى جهد كبير لتطويعها،
وترويضها، وتعبيدها لإرادتهم وسلطانهم، فتتحوّل حياتها إلى نوع من التبعيّة
والانقياد للطاغوت، وبالتدرّج يفقدون الوعي والفطرة ومقوّمات الحياة الكريمة، وهذه
صورة من الحياة. والأُمّة التي تمتلك القدرة على تحدّي الموت ولا تجزع منه، وتملك
القدرة على تجاوز الموت لا يمكن ترويضها وتذليلها لإرادة الطغاة والجبابرة، ولا
يمكن مصادرة إرادتها ومقاومتها.
1- أثر نداء الإمام الحسين عليه السلام في تثبيت الأصحاب
إنّ عاشوراء حدث متميّز من بين الأحداث الكبيرة في التاريخ من ناحية النظرة إلى
الموت والاعتقاد به وبما يترتّب عليه، فقد أعلن الإمام الحسين عليه السلام عند
مغادرته الحجاز إلى العراق: أنّه سوف يلقى مصرعه في هذه الرحلة كما قال عليه
السلام: "وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفَلوات بين
النواويس وكربلاء"2.
ونعى نفسه إلى الناس، وطلب منهم أن يبذلوا مهجهم في هذا السبيل، ويوطّنوا معه
أنفسهم للقاء الله: "من كان باذلاً فينا مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه
فليرحل معنا"3.
وبدأ خطابه هذا بتقديم صورة زاهية جميلة للموت، تمهيداً لهذه الدعوة، فقال عليه
السلام: "خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة"4.
وعلى امتداد الطريق إلى كربلاء كان الإمام الحسين عليه السلام يصارح الناس ويصارح
أصحابه أنّهم سائرون إلى الموت الذي لا بدّ منه، ولم يكن يشكّ في ذلك لدى أصحاب
الحسين عليه السلام، وكانوا على يقين من هذا الأمر، ما بعده يقين.
وكان عذر منَ يتخلّف عن نصرة الحسين عليه السلام - إلى الحسين عليه السلام -: أنّ
نفسه لا تطيب بالموت، وإذا كان الجزع من الموت يضعف الإنسان فهو لا محالة يفقده
القدرة على اتّخاذ الموقف العمليّ في القضايا الصعبة، وإن كان قلبه مع الحقّ.
وقيمة الإنسان في ساحة المواجهة والصراع ليس في النيّة وعقد القلب فقط، إنّما في
الموقف، وقد كان كثير من المسلمين في عصر الإمام الحسين عليه السلام لا يرتضون
أعمال يزيد، وبني أميّة عامّة، ويكرهونهم أشدّ الكره ويمقتون حكومة الطلقاء في
الشام، ولكنّ الإمام الحسين عليه السلام حوّل هذه الكراهية وهذا الرفض إلى موقف
عمليّ، وهذه هي قيمة عمل الإمام الحسين عليه السلام.
فإنّ الموقف هو التجسيد العمليّ للرأي والانتماء، وإخراج الرأي، والانتماء،
والولاء، والبراءة من داخل النفس إلى ساحة المواجهة والصراع.
إذاً، فالرفض والكراهية التي يضمرها الإنسان في نفسه لا يغيّر شيئاً من واقع الحياة
السياسيّة والاجتماعيّة، ولا يحرّك الناس، وإنّما الموقف هو الذي يحرّك الناس،
ويحدث التغيير السياسيّ والاجتماعيّ.
2- سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم
وهذا هو المفهوم الذي يطرحه الإمام الحسين عليه السلام على جند ابن زياد في كربلاء
يوم عاشوراء: "سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم"5.
إنّ هذا السيف الذي يذكره الإمام هو القوّة والسلطان. والإسلام هو الذي أعطاهم هذا
السلطان. لقد كان العرب أُمّة ضعيفة معزولة في الصحراء، فجاءهم رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم بالإسلام من عند الله، فأقام منهم قوّة كبيرة على وجه الأرض، لتفتح
مشارق الأرض ومغاربها، وتسقط عروش الطغاة والجبابرة، وتحرّر الشعوب المستضعفة،
وتطلق عباد الله من عقال الأسر والاستضعاف والعبوديّة، وتوجّههم من عبوديّة الإنسان
إلى عبوديّة الواحد القهّار. لقد قلّدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه
القوّة في أيمانهم.
وقد كانت هذه القوة الهائلة المعجزة من صنائع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بفضل الله تعالى في هذه الأُمّة.
وهذا هو المقصود بهذه الكلمة الدقيقة المعبّرة عن عمق المأساة (سيفاً لنا في
أيمانكم)، وكان حريّاً بهم أن يسلّوا هذا السيف في وجه أعداء الله ورسوله وأعداء
الناس، فوضع الناس هذا السيف في أهل بيت رسول
الله وخلفائه، وكان حريّاً بهم أن
يوظّفوا هذا السيف لقتال أئمة الظلم والشرك، في حكومة الطلقاء في الشام، فوظّف
الناس هذا السيف لقتال أئمة التوحيد، والعدل، وفي نصرة أئمّة الشرك والجور.
وهذا هو التشخيص الدقيق الذي قدّمه الفرزدق عن أهل الكوفة عندما سأله الإمام الحسين
عليه السلام عمّا وراءه فقال: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"6، فإنّ أهل الكوفة
كانوا في الأغلب علويّين، وقلوب العلويّين كانت مع الحسين، ولكنّ سيوفهم انقلبت
عليه عليه السلام، وكثير من الذين خرجوا في جيش ابن زياد لقتال الإمام الحسين،
كانوا يحبّون الحسين عليه السلام، وكانوا من الذين كتبوا إليه يطلبون منه أن
يأتيهم.
وإذا غابت عن الفرزدق مرحلة التخاذل في نصرة العدو والدفاع عنه فإنّ القرآن يسجّلها
بوضوح:
﴿ثُمَّ
كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾7.
ومن مصاديق الآية الكريمة أن يحمل الإنسان المؤمن السيف على الله ورسوله وأوليائه،
ويقاتلهم في الدفاع عن الطاغوت، فإذا فعل ذلك فإنّ الله تعالى يسلب عنه التصديق
والإيمان والوعي والرأي، فيكذّب بآيات الله، وإذا كذّب بآيات الله ورسوله
وأوليائه... عاداهم وأبغضهم، فهذا هو التخاذل الكامل في ثلاث مراحل.
ثبات الأصحاب وتلبية النداء
جمع الإمام الحسين عليه السلام أصحابه قرب المساء. قال علي بن الحسين زينُ العابدين
عليه السلام: "فدنوتَ منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول
لأصحابه: أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء.
... أما بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ
ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً. ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا
من هؤلاء، ألا وإنّي قد أَذِنْتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم مني ذمام.
هذا الليل قد غشيكم فاتّخِذوه جملاً"8.
فقد أجاز الإمام الحسين عليه السلام أصحابه، وأعطاهم الرخصة بالذهاب ليلة العاشر من
المحرّم، كما أنّه طلب منهم أن يأخذوا أهل بيته معهم، فكان جوابهم خير دليلٍ على
ثباتهم وولائهم المطلق للإمام عليه السلام، فقد خاطبهم عليه السلام قائلاً: "إنّ
هؤلاء يريدونني دونكم، ولو قتلوني لم يُقبِلوا إليكم، فالنجاة النجاة، وأنتم في
حلّ، فإنّكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلكم". فقالوا: لا نخذلك، ولا نختار
العيش بعدك9.
وخير شاهد ودليل على هذه الميزة والصفة، ما حصل ليلة العاشر من
محرّم، مع حبيب بن
مظاهر وباقي الأصحاب أمام مخيّم عقيلة الهاشميين السيدة زينب عليها السلام، حيث
نادى حبيب أصحابه، عندما علِم من نافع بن هلال بأنّ السيدة زينب عليها السلام وباقي
النساء في حال وجلٍ ورعب: يا أصحاب الحميّة، وليوث الكريهة، هذا نافع بن هلال
يخبرني الساعة بكذا وكذا، فأخبروني عن نيّاتكم. فجرَّدوا صوارمهم، ورموا عمائمهم،
وقالوا: أما والله يا بن مظاهر، لئن زحف القوم إلينا لنحصدنّ رؤوسهم، ولنلحقهم
بأشياخهم، ولنحفظنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عترته وذريته.فقال لهم
حبيب: معي معي.
فقام يخبط الأرض بهم، وهم يعْدُون خلفه، حتّى وقف بين أطناب الخيم، ونادى: السلام
عليكم يا ساداتنا، السلام عليكم يا معشر حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلّا في رقاب من يبتغي السوء فيكم، وهذه
أسنّة غلمانكم آلوا أن لا يركزوها إلّا في صدور من يفرّق بين ناديكم"10.
1- الإمام الحسين عليه السلام يشهد لأصحابه بالثبات
ويكفي في الدلالة على هذه الميزة ما قاله الإمام الحسين عليه السلام لأخته الحوراء
زينب عليها السلام، التي سألته قائلةً: "يا بن أمّي، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟
فإنّي أخاف أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة"،
فبكى الحسين عليه السلام، وقال:
"أما والله لقد بلوتهم، فما رأيت فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة
دوني استئناس الطفل بلبن أمّه"11.
2- التجسيد العملي للثبات في مواقف الأصحاب
لقد أثبت أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء صدقهم من خلال دمائهم وأرواحهم
التي رخصت أمام إمام زمانهم، وتشهد لهم تلك البقعة التي ارتوت من دمائهم:
أ- موقف مسلم بن عوسجة:
قام إليه مسلم بن عوسجة، فقال: "أنخلي عنك، ولَمَّا نُعذِرْ إلى الله سبحانه في
أداء حقِّك؟! أَمَا والله حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه
في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة. والله، لا نُخْلِيْكَ
حتّى يعلمَ الله أنْ قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك. والله،
لو علمت أنّي أُقتل ثمّ أحيا ثمّ أُحرق ثمّ أحيا ثمّ أذرّى، يُفعل ذلك بي سبعين
مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة! ثمّ
هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا"12.
إنّ عبارة "ولَمَّا نُعذِرْ إلى الله سبحانه في أداء حقِّك" فيها دلالة واضحة على
إيمان مسلم بن عوسجة، واعتقاده بالسلسلة الهرميّة للولاية. فهو، بتعبيره
هذا، يدلّ
على معرفته التامّة بأنّ طاعة الوليّ هي طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم،
ثمّ يجسّد هذه المعرفة والوعي بالتسليم المطلق عندما يصوّر فرضيّة قتله وحرقه وأنّه
لو فعلوا هذا به سبعين مرّة لمَا فارق الحسين عليه السلام.
ب- موقف زهير بن القين:
قام زهير بن القين البجليّ رحمة الله عليه فقال: "والله، لوددتُ أنّي قُتِلت ثمّ
نُشِرت ثمّ قُتِلت، حتّى أقتل هكذا ألفَ مرّة، وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن
نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك"13.
ج- موقف القاسم:
القاسم بن الحسن المجتبى بن أمير المؤمنين عليهم السلام، غلام لم يبلغ الحلم، كان
على علمٍ بشهادته يوم العاشر من المحرّم، وجوابه لعمّه ليلة العاشر يدلّ على الوعي
والإدراك والولاء المطلق، عندما سأله أبو عبد الله عليه السلام عن طعم الموت:
قال له القاسم بن الحسن: وأنا فيمن يقتل؟
فأشفق عليه، فقال له: "يا بنيّ، كيف الموت عندك؟!".
قال: يا عمّ، أحلى من العسل.
فقال: "إي والله، فداك عمّك! إنّك لأحد من يقتل من الرجال معي، بعد أن تبلو ببلاء
عظيم، وابني عبد الله"14.