المحاضرة السابعة عشرة: الوفاء بالعهد ونقضه

الهدف العام
التعرّف على قيمة الوفاء بالعهد في الدين الإسلامي، والآثار السلبية لنقضه.

المحاور الرئيسة
- قيمة الوفاء بالعهد في القرآن
- لا دين لمن لا عهد له
- وجوب الوفاء بالعهد
- الآثار السلبية لنقض العهد
- أقسام العهد


161


تصدير الموضوع

عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: "ثَلَاثٌ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ عزّ وجلّ لِأَحَدٍ فِيهِنَّ رُخْصَةً: أَدَاءُ الْأَمَانَةِ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ بَرَّيْنِ كَانَا أَوْ فَاجِرَيْنِ"1.

قيمة الوفاء بالعهد في القرآن

يُعدّ الوفاء بالعهد من الفضائل الأخلاقية، وبعكس ذلك يُعدّ نقض العهد من أسوأ الخصال والرذائل الأخلاقية.

ولهذا نقرأ في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية تعابير قوية وشديدة تبين قيمة الوفاء بالعهد وتذمّ الذين ينقضون العهد والميثاق. وإنّ سياق الآيات الشريفة يدل بصراحة على أنّ الوفاء بالعهد والميثاق له منزلة رفيعة ومكانة سامية، فهو أحد علائم الإيمان ويقع في مرتبة التقوى والأمانة، وعلى درجة من الأهمية بحيث إنّ المسلمين وغير المسلمين سيان في ذلك. وأيضاً تدل هذه الآيات على أنّ أحد أهم العوامل والأسباب في شقاء الإنسان وانحطاطه هو نقض العهد وعدم الوفاء به. جاء في حديث أنّ شخصاً سأل الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام قال: "أَخبِرنِي بِجَمِيعِ شَرائعِ الدِّينِ" قال الإمام في جوابه: "قَولُ الحِقِّ وَالحُكمُ بِالعَدلِ وَالوَفـاءُ بِالعَهدِ"2.
 


162


نكتفي بنماذج من الآيات الكريمة بالآتي:
- قال تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ3.

تذكر الآية ستّ صفات هي الإيمان بالله تعالى ويوم القيامة والملائكة والأنبياء والكتب السماوية، ثم تأتي بعدها مسألة الإنفاق في سبيل الله. وتشير أيضاً إلى إقامة الصلاة وأداء الزكاة. وتذكر في الصفة الخامسة من هذه الصفات (الوفاء بالعهد). وهذا التعبير يوضّح أنّ الوفاء بالعهد في دائرة المفاهيم الإسلامية والقرآنية مهمّ إلى درجة أنّه وقع رديفاً للإيمان بالله والصلاة والزكاة.

ـ قال تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ4.

تستعرض الآية صفات المؤمنين الحقيقيين وتفتتح السورة آياتها بالقول ﴿
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ثم تذكر سبع صفات من الصفات المهمّة والأساسية للمؤمنين، وفي الصفة الخامسة والسادسة تقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ.

ـ وحول لزوم الوفاء بالعهد، قال تعالى: ﴿
وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً5. وتخاطب آية أخرى جميع المسلمين وتأمرهم بالوفاء بعهد الله، قال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً 6.
 


163


لا دين لمن لا عهد له
ورد في الروايات تعبيرات مهمّة تشير إلى أنّ جميع معالم الدين وأركانه يتلخص بالوفاء بالعهد بالنسبة إلى الخالق والخلق، وعلى الأقل أنّه أحد الأركان المهمّة للدين، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "لا دِينَ لِمَنْ لا عَهدَ لَهُ"7.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أَصلُ الدِّينِ أَداءُ الأَمـانَةِ وَالوَفَاءُ بِالعُهُودِ"8.

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً: "مـا أَيقَنَ بِاللهِ مَنْ لَم يَرع عُهُودَهُ وَذِمَّتَه"9.

فلا شك أنّ الإيمان الحقيقيّ والاعتقاد بالتوحيد الأفعاليّ في واقع الإنسان وقلبه يعدّ أحد الأسباب المهمة للوفاء بالعهد والالتزام به، لأنّ من ينقض العهد فإنّه يرتكب هذه الخطيئة من موقع الجهل بقدرة الله ورازقيته وبدافع من منفعته العاجلة فينسى ما وعد به الله تعالى على الوفاء بالعهد. ولهذا نقرأ في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "مِنْ دَلائِلِ الإِيمـانِ الْوَفـاءُ بِالْعَهْدِ"10.

وجوب الوفاء بالعهد

روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ كـانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَفِ إِذا وَعَدَ"11.
 


164


ونقرأ في عهد الإمام عليّ عليه السلام المعروف لمالك الأشتر (رضي الله عنه) تأكيد الإمام عليّ عليه السلام على مسألة الوفاء بالعهد في مقابل أيّ إنسان وأيّ طائفة من البشر، حيث قال: "وإنَّ عَقَدتَ بَينَكَ وَبَينَ عَدُوِّكَ أَو أَلبَستَهُ مِنكَ ذِمَّةً فَحُطَّ عَهدَكَ بِالوَفـاءِ وَارعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمـانِةِ، وَاجعَلْ نَفسَكَ جُنَّةً دُونَ مـا أَعطَيتَ فَإِنَّهُ لَيسَ مِنْ فَرائِضِ اللهِ شَيءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيهِ اجتِمـاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهوائِهِم وَتَشَتُّتِ آرائِهِم مِنْ تَعظِيمِ الوَفـاءِ بِالعُهُودِ وَقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ المُشرِكُونَ فِيمـا بَينَهُم دُونَ المُسلِمِينَ لِمَا استَوبَلُوا مِنْ عَواقِبِ الغَدرِ"12.

وجاء في حديث آخر عن الإمام عليه السلام يُشبّه العهد بالطوق المحيط برقبة الإنسان ويقول: "إنَّ العُهُودَ قَلائِدُ فِي الأعنَـاقِ إِلى يَومِ القِيـامَةِ فَمَنْ وَصَلَها وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ نَقضَهـا خَذَلَهُ اللهُ"13.

وورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لا تَعتَمِد عَلى مَودَّة مَنْ لا يوفِي بِعَهدِهِ"14.

وأساساً يمكن القول بأنّ ميزان النجاح الأشخاص في حياتهم الدنيوية يرتبط بمدى التزامهم بعهودهم، فمن كان منهم أكثر وفاءً بعهده فهو أعزّ وأشرف في نظر الناس، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام في حديث آخر: "الوَفـاءُ حِصْنُ السُّؤدَدِ"15.
 


165


ونقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام ما يشير إلى أنّ الوفاء بالعهد هو أحد علائم الصالحين والطاهرين من الناس حيث يقول: "بِحُسْنِ الْوَفـاءِ يُعْرَفُ الاْبْرارُ"16.

الآثار السلبية لنقض العهد

إنّ نقض العهد إذا ساد في أجواء المجتمع البشريّ، فإنّه يفضي إلى سلب الثقة بين أفراد المجتمع ويتلاشى عنصر الاتّحاد والتكاتف فيما بينهم، ولهذا نقرأ في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إِذا نَقَضُوا العَهدَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيهِم عَدُوَّهُم"17.

وفي رواية عن الإمام عليّ أنّه قال: "وَالْخُلْفُ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ النّـاسِ"18.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ الإنسان المؤمن إذا وعد غيره بشيء فإنّه بمنزلة النذر رغم عدم وجوب الكفارة عند عدم الوفاء به، كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: "عِدَةُ الْمُؤْمِنِ أَخـاهُ نَذْرٌ لا كَفّـارَةَ لَهُ فَمَنْ أَخْلَفَ فَبِخُلْفِ اللهِ بَدَءَ وَلَمِقْتِهِ تَعَرَّضَ وَذلك قَوْلُهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ 19"20.
 


166


أقسام العهد
هناك أنواع وأقسام للعهد حيث يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1 العهد مع الله.
2 العهد مع الناس.
3 العهد مع النفس.

أما العهد مع الله تعالى فالكثير من الفقهاء ذكروا في كتبهم الفقهية بحث العهد إلى جانب بحث النذر، وذكروا أنّه لو أراد الشخص أن يعاهد الله على أمر من الاُمور فعليه إجراء صيغة العهد وهي أن يقول مثلا: "عـاهَدْتُ اللهَ أَنَّهُ مَتـى شَفـانِي أَصومُ ثَلاثَةَ أَيّـام أَوْ أَتَصَدَّقُ بِكَذا وَكَذا". وحينئذ يجب عليه الوفاء بعهده هذا ولو إرتكب ما ينقض هذا العهد عليه دفع كفارة، وكفارته على المشهور هي كفارة إفطار يوم من شهر رمضان المبارك.

وأمّا العهد مع الناس فيشمل كل أشكال العقود والمواثيق بين أفراد البشر، وفيما لو تأطرت بقوالب شرعية وعقلائية فالوفاء بها واجب.

أما عهد الإنسان مع نفسه فهو أن يتعاهد الإنسان بأن يلتزم تهذيب النفس وإصلاحها في طريق التكامل الأخلاقيّ والمعنويّ والتحلّي بالصفات الحسنة والأعمال الصالحة، وهذا العهد له دور مؤثّر وبنّاء في سلوك خطّ التهذيب النفسيّ.


167


 

هوامش

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص162، ح15.
2- الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص 113.
3- سورة البقرة، الآية 117.
4- سورة المؤمنون، الآية 8، سورة المعارج، الآية 32.
5- سورة الإسراء، الآية 34.
6- سورة النحل، الآية 91.
7- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج69، ص198، ح26.
8- التميمي الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص 86.
9- المصدر نفسه، ص 253.
10- المصدر نفسه، ص 252.
11- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 364.
12- نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، مصدر سابق، ص442، الرسالة 53.
13- التميمي الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص 252.
14- المصدر نفسه، ص 418.
15- المصدر نفسه، ص 251.
16- المصدر نفسه.
17- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 374.
18- نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، مصدر سابق، ص 444، الرسالة 53 في عهده إلى مالك الأشتر رضي الله عنه-.
19- سورة الصف، الآية 2.
20- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 363.